وضع داكن
26-04-2024
Logo
شرح مختصر للأحاديث - الدرس : 176 - لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا....
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين
أيها الأخوة الكرام، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( لَا تَقَاطَعُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ))

 الحقيقة في الحديث ملمح دقيق، وهو أن الله عز وجل إذا نهى عبداً عن شيء لا يملكه ما المعنى في ذلك ؟ مثلاً:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)﴾

 

( سورة آل عمران )

 الموت بيدي ؟ الموت ليس بيدي، لا الناهية، قال علماء التفسير: إذا نهاك الله عن شيء لا تملكه إنما يدعوك إلى الاستعداد له، يعني لا يأتينكم الموت إلا وأنتم مسلمون، والإسلام حقيقة الدين كله، الأديان كلها التي جاءت من السماء تلتقي بحقيقة واحدة إلى الله عز وجل، والذي يلفت النظر أنه ما من نبي ورد ذكره في القرآن على الإطلاق إلا وقد وصفه الله بأنه مسلم، فالإسلام تتسع معانيه لتشمل كل عبد خضع لله عز وجل، كان خضوعه خالصاً، وكانت محبته خالصة، وكان استسلامه خالصاً، قياساً على هذا التمهيد،

﴿ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾

، والموت ليس بيدي يا رب، أي اجهدوا ألا يأتينكم الموت إلا وأنتم مسلمون، لكن بربكم أنا أقترح مثلاً:
 في شركة قيمة البطاقة إلى أوروبا مثلاً 500 ألف ليرة، نصف مليون ليرة، وإذا تأخرت عن موعد إقلاع الطائرة تضيع عليك البطاقة كلياً، متى الوقت ؟ قيل لك: ليس محدداً، نأتيك نحن، من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الساعة الثامنة مساء، إن لم تكن في البيت فلا ننتظر أبداً، والبطاقة 500 ألف، وإذا لم تسافر ضاع المبلغ عليك، هذه الحالة المعقدة الصعبة ماذا ينبغي أن تفعل ؟ أن تقف وراء الباب من الساعة الثامنة صباحاً، وحتى الثامنة مساء، حتى إذا جاؤوا فجأة كنت جاهزًا أنت وحقيبتك .
هذا معنى الآية، ما دام الموت لا نعرف متى يأتي، وليس بإمكاننا أن نرده، إذاً ينبغي أن نساعد له بالتوبة النصوح، أن نستعد له بطلب العلم، أن نستعد له بالأعمال الصالحة، بإنفاق المال، بتربية الأولاد، بخدمة الخلق.
أيها الإخوة، الآن قياساً على هذه المقدمة:

(( لا تَقَاطَعُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا ))

 الإنسان يبغض من دون إرادة، لو أتيت بمستوى مائل، وجئت بكأس ماء وصببته، ينزل الماء، لو قلت له: بربك أيها الماء اصعد، لا يصعد، وقلت له: بربك انزل، فينزل، فلا أمري في الصعود يستجاب له، ولا أمري له بالنزول له معنى، هناك قوانين، كقانون الجاذبية، أنا أقول لكم أيضاً: هناك قوانين بالحياة النفسية.

 

(( يا داود، ذكر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جُبِلتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا وبغض من أساء إليها ))

 

[رواه أبو نعيم في الحلية وابن حبان عن ابن مسعود ]

 لو أنك أسأت لا تقل لأحد أحبني: لن يحبك، ولو أحسنت لا تقل لواحد أحبني: سوف يحبك.

 

(( يا داود، ذكر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جُبِلتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا وبغض من أساء إليها ))

 العلماء شرّحوا الحديث قالوا:

 

(( لا تَقَاطَعُوا ))

 لا تفعلوا أسباب القطيعة،

(( وَلاَ تَدَابَرُوا ))

 لا تفعلوا أسباب التدابر،

(( وَلاَ تَبَاغَضُوا ))

 لا تفعلوا أسباب التباغض،

(( وَلاَ تَحَاسدُوا ))

لا تفعلوا أسباب التحاسد،

(( وكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً ))

 حينما يفكر الإنسان أن يستعلي على أخيه، أن يظهر ما عنده، ماذا فعل قارون ؟ خرج على قومه بزينته.

 

﴿ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ﴾

 

( سورة القصص الآية: 81 )

الآن كم من إنسان إن زرت بيته يصف لك مساحة البيت، وأناقة البيت، وقيمة الأثاث.
 والله دخلت مرة بيتاً في أحد أرقى أحياء دمشق، فما إن جلست حتى قال لي صاحب البيت: هذا البيت مساحته 400 متر، قلت له: الله يحفظك، بارك الله فيك، قال لي: هذه قطع الأثاث مستوردة من إيطالية، شيء جميل، هنيئاً لك بها، قال لي: هذا البلاط أيضاً مستورد مشحونًا جوًّا، قلت له: والله شيء جميل ! ما ترك مساحة، ما ترك إطلالة، ما ترك شرفات، ما ترك أثاثًا، ما ترك بلاطًا، فضجرت من كلامه، قلت له: ما قولك في بيت بأحد أفقر أحياء دمشق تحت الأرض، اتجاهه شمالي، على العظم، عوض عن الأبواب قطع من القماش، مكشوف، وعندك ثمانية أولاد في هذا البيت، قال لي: أعوذ بالله، قلت له: هل يوازن هذا البيت بذاك البيت ؟ ما قولك في رئيس أركان، وعندك عشرون سيارة، وخمس مكيفات، وجندي في الجبهة في أيام الشتاء، في حفرة نصفها ماء ؟ ما قولك بطبيب جراح له في كل عملية 450 ألف ليرة ، وممرض يعمل في المستشفى لتنظيف المرضى ؟ ما قولك بأستاذ بالجامعة، أستاذ ذو كرسي، رئيس قسم عنده ساعتا دوام، والناس كلهم يعظمونه، ومعلم بقرية يحمل أكله ويمشي، هو المدير والأستاذ والآذن ؟ ما قولك برئيس غرفة التجارة، كل صفقة بالملايين، وبائع صحون في الحميدية، كلما رأى شرطيًا يهرب منه ؟ وازنت بين رئيس غرفة تجارة وبائع متجول، بين طبيب جراح قلب وممرض، بين رئيس أركان وجندي، بين بيت في أرقى أحياء دمشق، قال لي: ماذا تعني بهذا الكلام، قلت له أعني قوله تعالى:

﴿ انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21)﴾

( سورة الإسراء ).

 قلت له: درجات الدنيا لا تعني شيئا، وقد تعني العكس، فقد أعطى اللهُ الملك لمن لا يحب، أعطى المال لمن لا يحب، وأعطى المال لمن يحب، والملك لمن يحب، إذاً ليس الملك ولا المال أحد أسباب التقييم، وأساساً العالم من خلال حركة الحياة استنبط قيمًا اعتمدها بالترجيح بين خلقه، قيمة المال، الغني معظم في كل المجتمعات، وقيمة القوة، هذه التي خانت زوجها، وكان مرجحاً أن تكون ملكة بريطانية، قالت: أنا زنيت 12 مرة، في مؤتمر صحفي بث على 11 محطة فضائية، مع فلان، ومع فلان، ولأنها قوية منا فما عبأ أحد بجريمتها، فالقوي معظم محترم على كل أخطائه وحماقاته، والغني معظم ومحترم على كل أخطائه وحماقاته أحد والوسيم تتجه الأنظار إليه، والذكي تتجه الأنظار إليه، هذه قيم أهل الأرض، لم يعتمدها الله عز وجل.

 

(( رب أشعث أغبر ذي طمرين، تنبو عنه أعين الناس، لو أقسم على الله لأبره ))

 

[الحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة ]

 القرآن اعتمد قيمتين، اعتمد قيمة العلم، وقيمة العمل، العلم والعمل، قال تعالى:

 

﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)﴾

 

( سورة المجادلة )

 وقال تعالى:

 

﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا﴾

 

( سورة الأنعام الآية: 132 )

 ما لم نعتمد هاتين القيمتين في مجتمعاتنا فنحن على غير الطريق الصحيح، ولن نتقدم، لأن النبي عليه الصلاة والسلام يبين أن قيمة المرء ما يحسنه، بينما في آخر الزمان تعد قيمة المرء متاعه، يستمد مكانته من مركبته، من مساحة بيته، من نوع ثيابه فقط، وهو لئيم منحط، بيّض أمواله الذي جمعها من الاتجار بالمخدرات، ما دام غنيًّا فهو محترم عند الناس، وما لم نعتمد قيم القرآن فلن نتقدم، ولن ننتصر على أعدائنا، فالإنسان قيمته بعلمه، وقيمته بعمله.
إذاً، المعنى هنا: لا تعمل مع أخيك عملاً تدعوه إلى أن يقطعك، بتكبر، بغيبة، لا تعمل مع أخيك عملاً تدفعه إلى ألاّ يسلم عليك،

(( لا تَقَاطَعُوا ))

 كأن:

(( لا تَقَاطَعُوا ))

 إلغاء الزيارة، أما:

(( وَلاَ تَدَابَرُوا ))

 فإلغاء السلام، يدير وجهه،

(( لا تَقَاطَعُوا ))

إلغاء الزيارة كلياً، لو رأيته صدفة تصرف عنه وجهك،

(( وَلاَ تَبَاغَضُوا ))

  لا تغتبه، فإن اغتبته تغضبه، ويبغضك، قال أحدهم لصاحبه: لقد اغتبتني، قال له: ومن أنت حتى أغتابك ؟ لو كنت مغتاباً أحداً لاغتبت أبي وأمي، لأنهما أولى بحسناتي منك.
وقد قال بعضهم: " لو كشف للمظلوم يوم القيامة ما له عند الله لظن عليه الظالم أن يظلمه ".
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَإِنَّهُ لَيْسَ دُونَهَا حِجَابٌ ))

 

[ رواه أحمد في مسنده وأبو يعلى في مسنده والضياء عن أنس ]

(( لا تَقَاطَعُوا ))

 يعني لا تفعلوا أسباب القطيعة،

(( وَلاَ تَدَابَرُوا ))

 لا تفعلوا أسباب التدابر،

(( وَلاَ تَبَاغَضُوا ))

 لا تفعلوا أسباب التباغض،

(( وَلاَ تَحَاسدُوا ))

لا تفعلوا أسباب التحاسد،

(( وكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً ))

 طبعاً الحسد مستثنى، لو أنك حسدت أخاك في أمر الآخرة، هذا سماه العلماء غبطة، وليس حسداً، أما إذا حسدته في الدنيا فهذا هو الحسد، لكن الحسد على ثلاثة مستويات، نعود بالله منها كلها.

 

مستويات الحسد

 المستوى الأول: أن تتمنى أن تزول النعمة عن أخيك، وأن تصل إليك، هذا أول مستوى.
 الثاني: المستوى الأخطر، أن تتمنى أن تزول النعمة عن أحيك دون أن تصل إليك.
الثالث: أن تسعى بتقرير أن تزيل النعمة عن أخيك، هذا إجرام.
 لكن الحسد في الدين غبطة، لك أخ درس القرآن، حفظ القرآن، دعا إلى الله، حصل العلم، فإذا حسدته فقد غبطتَه، والغبطة مقبولة.
مرة أخيرة:

 

 

(( لا تَقَاطَعُوا، وَلاَ تَدَابَرُوا، وَلاَ تَبَاغَضُوا، وَلاَ تَحَاسدُوا، وكُونُوا عِبَادَ الله إخْوَاناً، وَلاَ يَحِلّ لِلْمُسْلِم أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلاَثٍ ))

 قال الإمام مالك في شرح هذا الحديث: " ولا أحسب التدابر إلا الإعراض عن المسلم يدبر عنه بوجهه "، هذا هو المعنى.

 

إخفاء الصور