وضع داكن
29-03-2024
Logo
شرح مختصر للأحاديث - الدرس : 175 - قواعد الدعوة إلى الله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام، حديث اليوم عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((... وَمَنْ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))

[ رَوَاهُ البُخَارِيُّ ].

و

(( الْآنُكُ ))

 هو الرصاص المذاب.

 

قواعد الدعوة إلى الله

 

القاعدة الاولى: الإحسان قبل البيان

 بادئ ذي بدء: لن تستطيع أن تفتح العقول ببيانك قبل أن تفتح القلوب بإحسانك، وأيّ مجال في الدعوة إلى الله يحتاج إلى الإحسان قبل البيان، وإلى القدوة قبل الدعوة، لأن الله سبحانه وتعالى يقول:

 

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33)﴾

 

( سورة فصلت ).

 معنى ذلك أن الدعوة إلى الله، وأن العمل الصالح كلاهما شرط لازم غير كافٍ، فلا بد من أن يقترن الإحسان مع الدعوة إلى الله، كذلك حينما قال الله عز وجل:

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾

 

( سورة فصلت الآية: 30 )

 الإيمان بالله، ما لم ترافقه استقامة فلا قيمة له إطلاقاً، إذاً: الإيمان بالله يحتاج إلى استقامة، والدعوة إلى الله تحتاج إلى عمل صالح، وما لم تفتح القلوب بإحسانك فلن تستطيع أن تفتح العقول ببيانك، إذاً كقاعدة أساسية من قواعد الدعوة: الإحسان قبل البيان.
 بالمناسبة، على مستوى الأسرة، كل أب محترم بحسب التقاليد والعادات، وبحسب مبادئ الدين، ولكن ليس كل أب محبوباً، فالأب غير المحبوب لا يستطيع أن يوجه أولاده إلى الحق، فهم يكرهون بخله، يكرهون قسوته، يكرهون تعنيفه الشديد أمام الآخرين، يكرهون إساءته لزوجته، وهي أمّهم، فإذا دعاهم إلى الصلاة أو إلى طاعة الله أبوا، فكل أب يحترم بحسب التقاليد والعادات، ولكن ما كل أب يُحَب.
ما لم تكن محبوباً فلن تستطيع أن تؤثر في الآخرين، كقاعدة أساسية من قواعد الدعوة الإحسان قبل البيان.

 

القاعدة الثانية: القدوة قبل الدعوة

 لن تستطيع أن تنطق بكلمة إذا علم الذي تدعوه إلى الله أنك لا تطبقها، فإن لم تطبق ما لا تقول فهناك مشكلتان كبيرتان، الأولى: يقال لك: إن كان هذا المنهج الذي تدعو إليه لا يمكن أن يطبق فنحن لسنا بحاجة إليه، وإذا كان هذا المنهج الذي تدعو إليه لست قدوةً لنا في تطبيقه فأنت لست مؤهلاً أن تنطق أمامنا بالحق، فما لم يكن الداعية قدوة لنا فيما يقول لا يستطيع أن يؤثر التأثير البالغ.
فلذلك:

 

 

((... وَمَنْ اسْتَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَوْمٍ وَهُمْ لَهُ كَارِهُونَ، أَوْ يَفِرُّونَ مِنْهُ صُبَّ فِي أُذُنِهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))

 ينبغي إذا تكلمت، أو إلى استمعت ألا تكون مكروهاً في المجتمع، وبعض المسلمين يلجأ إلى القسوة، حتى في أمره بالمعروف، وفي نهيه عن المنكر، فإذا أمرت بمعروف فليكن أمرك بمعروف، وإذا نهيت عن منكر فليكن نهيك بمعروف.

 

 

(( علموا، ولا تعنفوا، فإن المعلم خير من المعنف ))

 

[ أخرجه الحارث ابن عدي في الكامل والبيهقي في شعب الإيمان عن أبي هريرة ]

(( يا داود، ذكر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جُبِلتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهَا، وبغض من أساء إليها ))

[رواه أبو نعيم في الحلية وابن حبان عن ابن مسعود ]

فهذا الذي يسلك طريقاً قاسياً في توجيه الآخرين، إنْ من أقرباءه، أو من جيرانه، أو من أصدقائه، أو ممن حوله يمشي في طريق مسدود.
 وأقول لكم أيها الإخوة، إن عشرات التصرفات الذكية، والحكيمة، والمخلصة يمكن أن تشد الإنسان إلى الدين، لكن كلمة قاسية واحدة يمكن أن تصرفه عنها، لذلك عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ:

(( حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ: مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا، وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا، كَأَنَّهَا تَعْنِي قَصِيرَةً، فَقَالَ: لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ الْبَحْرِ لَمُزِجَ ))

[الترمذي]

 إذاً: كقاعدة ثانية من قواعد الدعوة القدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان.

 

القاعدة الثالثة: التربية لا التعرية

 هذا الذي ينصح الناس أمام الناس، أمام الملأ، يصغره، يحجمه، يحرجه، يحمّر وجهه، ليس حكيماً، إذا كنت مخلصاً في الدعوة إلى الله فلتكن هذه النصيحة بينك وبينه، وفرق كبير بين الفضيحة والنصيحة، النصيحة تكون بينك وبين الذي تنصحه، أما الفضيحة فهي التشهير.

 

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)﴾

 

( سورة النور ).

 هذا الذي يحب أن يفضح الإنسان، أن يشهر به، هذا ليس مؤمناً، بل إن وعيد الله عز وجل على مستوى،

﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ﴾

 لو أنك تمنيت أن تفضح إنساناً فربما في هذه الآية بالذات تحاسب على نيتك قبل أن تفعل شيئاً، لأن المؤمن له عند الله شأن كبير، وفضيحته وإذلاله عمل خطير، لذلك حينما قال الله عز وجل:

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ﴾

 

( سورة النور الآية: 11 )

 فقد يتوهم الإنسان أن الذي وقع لا حساب على من أوقعه، الآية الأولى تعني التوحيد، بينما الآية التي بعدها تعني أن التوحيد لا يعفي من المسؤولية، قال تعالى:

 

﴿ تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)﴾

 

( سورة النور )

 فأنت حينما تسيء إلى إنسان ما، لولا أن الله سمح لك أن تسيء لهذا الإنسان لما أمكنك أن تسيء إليه، لأن الله حكيم، ولعله استخدمك كأداة معالجة، ولكن أنت لا تعلم ذلك، فأنت محاسب على هذا الخرق الذي فعلته مع أخيك.
إذاً: القدوة قبل الدعوة، والإحسان قبل البيان، والتربية لا التعرية.
عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( إِنَّ الرِّفْقَ لَا يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ ))

 

[ رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنهما ]

 عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ:

 

(( اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ، فَقَالَ: يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، قُلْتُ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ: قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ ))

 

[ رواه مسلم]

 بل إن الذي يعلو صياحه في البيت ربما جرحت عدالته، إن الذي يقسو على أهله، ويعلو صياحه في البيت ربما جرحت عدالته، وكلما كان الأب وقوراً وهادئًا وحليماً شاع الحلم والوقار والهدوء في البيت، وكلما كان الأب عنيفاً بطاشاً شاع العنف والبطش في البيت، فالأب قدوة، ويتعلم الابن من أبيه بالقدوة ما لم يتعلمه باللسان، وقد قيل: الناس يتعلمون يعيونهم لا بآذانهم.
 أيها الإخوة الكرام، أرجو الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا الصواب، سواء أجلست في مجلس، ومن حولك يكرهونك، وسواء تكلمت، ومن يستمع إليك يكرهك، فأنت عندئذٍ لن تستطيع أن تفتح القلوب، ولن تفتح القلوب إلا بالإحسان، ولن تستطيع أن تفتح العقول ببيانك قبل أن تفتحها بإحسانك.

إخفاء الصور