وضع داكن
25-04-2024
Logo
شرح مختصر للأحاديث - الدرس : 205 - خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم…..
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

شهادة النبي e بخيرية القرون الثلاثة الأولى

 أيها الإخوة الكرام، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَكُونُ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ يَشْهَدُونَ وَلَا يُسْتَشْهَدُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلَا يَفُونَ، وَيَظْهَرُ فِيهِمْ السِّمَنُ ))

[متفق عليه ]

 بادئ ذي بدء، أيها الإخوة، شهد النبي صلى الله عليه وسلم لقرنه بالخيرية، وشهد بالقرن الذي يليه بالخيرية، وبالقرن الذي يلي القرن الذي يليه، ثلاثة قرون شهد لهم النبي بالخيرية، قد يقول قائل: نحن في أعلى درجة من الوسائل والمواصلات، والاتصالات والأثاث، فالحقيقة أن الخيرية هنا لا علاقة لها بالدنيا، إنسان خيّر، أي إنسان عرف الله وطبق منهجه، وسعد بهذا التطبيق في الدنيا والآخرة، لو أننا أردنا مقياس الدنيا خير القرون هذا القرن، العالم كله سطح مكتب، اتصالات، وسائل رفاه، مركبات، طائرات، يخوت سفن، الدنيا كلها فتنة الآن.

 

معنى الخيرية

 

 إن الخيرية لا تعني خيرية الدنيا، ومتاع الدنيا، ومال الدنيا، وجمال الدنيا، ولكن الخيرية تعني أن هؤلاء الذين عاصروا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا من خيرة البشر ، وأنهم ربّوا جيلاً أيضاً على شاكلتهم، وهذا الجيل ربى جيلاً آخر على شاكلته.
إذاً:

(( خَيْرُكُمْ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ))

 هذا الكلام له معنى وأبعاد كثيرة، ولا تستطيع أن تفهم القرآن بخلاف ما فهمه الصحابة الكرام، فالمقياس ما جاء في الكتاب والسنة، وبفهم القرون الثلاثة الأولى، مع أنه لا يستطع أحد الآن أن يلغي آية، لكن يحتال على الآية بتأويلها على غير ما أراد الله، فالضابط لهذا الموضوع أن القرآن يجب أن نتخذه منهجاً، وكذلك سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن لا بفهمنا، ولا بتأويلنا ولا بأهوائنا، ولا بمصالحنا، ولكن بفهم الرعيل الأول والثاني والثالث، لذلك عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ، وَيُسْمَعُ مِمَّنْ يَسْمَعُ مِنْكُمْ ))

 

[ رواه أحمد في مسنده وأبو داود والحاكم في المستدرك]

 الحق صافٍ.

 

(( سيكون من بعدي خلفاء ، ومن بعد الخلفاء أمراء، ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة، ثم يخرج رجل من أهل بيتي يملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، ثم يؤمر القحطاني

 

(( فو الذي بعثني بالحق ما هو دونه ))

[ رواه الطبراني عن قيس بن جابر الصدفي عن أبيه عن جده ]

(( سيكون من بعدي خلفاء ))

 يتبعون نهج النبي صلى الله عليه وسلم،

(( ومن بعد الخلفاء أمراء ))

 ، باتّباعٍ أقلّ، لكن نظامهم عادل،

(( ومن بعد الأمراء ملوك، ومن بعد الملوك جبابرة ))

 ، من خلفاء، إلى أمراء، إلى ملوك، إلى جبابرة، الملوك ملكوا البلاد والعباد، لكنهم لم يسفكوا الدماء، بينما الجبابرة ملكوا البلاد والعباد، لكنهم سفكوا الدماء، بينما الأمراء التزامهم أقلّ من الخلفاء، لكنهم أقاموا العدل بين الناس، أما الخلفاء فهم على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
 إذاً أنت حينما تقول: الخيرية فلا تعني بها المساكن الفارهة، والمركبات السريعة، ووسائل الاتصالات، والمال الوفير، والجمال الكثير، نعني بالخيرية أن هذا الإنسان خلق في الدنيا من أجل أن يسعد في الجنة، فإذا عرف ربه في الدنيا، واستقام على أمره، وتقرب إليهم بالأعمال الصالحة صار مؤهلاً أن يسعد في الآخرة، فالخيرية إذاً تعني ذلك.
 مرةً قرأت أكثر من ثلاثين حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل السكنى بالشام، بدأت الدرس، ثم جاءني خاطر، أن ثمة أزمة مواصلات، وأزمة سكن، وأزمة أعمال، وبطالة مقنعة، وارتفاع أسعار، ودخل الموظف قليل جداً لا يكفي حاجته، كيف أوفق بين فضل السكنى بالشام وهذا الواقع ؟ ثم أردت أن أوضح الفكرة على الشكل التالي:
 جامعتنا بناء قديم مبني من عام 1930، مقاعد من خشب، بلا تكييف، مرواح فقط، والتدفئة ضعيفة، وسبورة، لكن هذا البناء القديم ماذا يُخرّج ؟ أطباء، مهندسين، محامين، لكن لو أن ملهى بأعلى درجة من جمال البناء، سمعت عن ملهى بلبنان صالته الأساسية كلفتْ 30 مليون دولار، رخام، وثريات، وما شاكل ذلك، طيب هذا الملهى ماذا يُخرج ؟ فسقة، وزناة، فيه قمار أيضاً، ومنتحرون.

 

هو الداء الذي لا برء منه  وليس لذنب صاحبه اغتفار
تشاد له المنازل شاهقات  وفي تشييد ساحتها الـدمار
نصيب النازلين بها سهاد  وإفلاس فيأس فانتــحار
* * *

 إنسان في مكان القمار بأمريكة، دخل إلى هذا البهو، ولعب القمار فخسر كل ما يملك، عاد إلى البيت، وأطلق النار على زوجته وأولاده الأربعة، فأرداهم قتلى جميعاً، وقال: ليغفر الله لي.
فهذا البناء الضخم الجميل الرائع ماذا يُخرج ؟ منتحرين، وقتلة، ومفلسين، هذا بناء المتواضع بناء الجامعة، بناء قديم لا تهوية فيه، ولا تكييف، ولا جمال، ولا حاجات رائعة، ماذا يُخرج ؟ أطباء، ومحامين، ومهندسين.
إذاً الخيرية لا تعني هذا الذي نراه على شبكية العين، الرفاه، والأناقة، والجمال والتزيينات، الخيرية تعني أن تعامل إنسان صادق، إنسان أمين، إنسان عفيف، إنسان صاحب رسالة، إنسان له هدف في الحياة، فنحن قدوتنا الصحابة الكرام.
 إخوانا الكرام، مهما وجدت إنسانًا يعيش في حالة رفاه جداً، وكان لئيمًا، وكان بخيلا، وكان قاسيًا، وكان محتالا، تحتقره على غناه، لو دخلت بيتًا ثمنه مئة مليون، وكان صاحبه تاجر مخدرات هل تحترمه ؟ هو يفتخر بهذا البيت، يقول لك مساحته 750 مترًا، من طابقين، له إطلالة جميلة جداً، لكن لأنه جمع المال على حساب صحة الشباب، وتماسك الشباب وانهيار الأسر، تحتقره، فنحن ينبغي ألا نعجب بشيء فخم، لكنه مبني على مخالفة للشريعة، هذا الفرق بين المؤمن وغير المؤمن، المؤمن يحترم موظفًا دخله محدود شريف، مستقيم، إيمانه كبير، يعطي ولا يأخذ، وبين إنسان غارق في المال، لكنه من حرام وإنفاقه في حرام.
 حينما تقول: خيرية لا تقصد الخيرية المادية، النمو الاقتصادي، هذا النمو الاقتصادي مع أنه ضروري، لكنه أصبح صنماً يعبد من دون الله، أن ننمي وارداتنا على حساب أخلاقنا، فنشجع السياحة، السياحة تحتج إلى بغاء وزنا، فأنا حينما أسعى للنمو الاقتصادي، ولا أهتم بأخلاق الأمة، ولا لمبادئها فلا أكون خيّراً.
إذاً أنا أريد في هذا اللقاء الطيب أن أبين أن الخيرة عند الله لا تعني الغنى، ولا تعني المساكن الجميلة، والمركبات الفارهة، والطعام الطيب، والأماكن المترفة، بل تعني مجتمعاً متماسكاً تحكمه القيم.
شاعر من الشعراء هجا رئيس قبيلة، قال له:

 

 

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فأنك أنت الطاعم الكاسي
* * *

 فسيدنا عمر أدخله السجن، هذا يعد أهجى بيت قالته العرب، هو الآن شعار كل إنسان، يقولون: ما دام دخلك وافرًا، وأنت ـ مكيف ـ بالتعبير العامي، وكل شيء موفر لك، فالأمر أنه ( فخّار يكسر بعضه ) .

 

 

دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فأنك أنت الطاعم الكاسي
* * *

 

مقاييس الخيرية

 الخيرية لها مقاييس، لها مقاييس قرآنية، مثلاً:

﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾

( سورة آل عمران الآية: 110 )

 الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيمان بالله

علة هذه الخيرية:

﴿ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾

( سورة آل عمران الآية: 110 )

 هذه الخيرية، أما إذا عم النفاق، وتلوَّن الإنسان مئة لون، وقام بخلاف ما يعتقد فهي حالة اسمها انفصام شخصية، إذْ كل إنسان له موقف معلن، سليم، فيه نفاق، موقف حقيقي، فيه تجرؤ، وفيه نقمة، فالازدواجية بالشخصية والنفاق العام والرياء، وأكل المال الحرام، مع أن الحياة جداً، انظر إلى البيوت الفخمة، إلى المركبات شيء بأعلى من الجمال، لكن من حيث القذارة فهو في أدنى درجة من القذارة.
 مرة زرت رجلاً، له عمل لا يرضي الله عز وجل، فقال لي: أنا عملي اسمه باللغة الإنكليزية ـ العمل القذر ـ صعب أن أصف لكم مكتبه، والعزل عن طريق الخشب الذي له عروق جميلة جداً، والفرش من أعلى أنواع السجاد، والمكتب الفخم مع التكييف، وقال لي: أنا عملي اسمه ـ العمل القذر ـ، في اليوم التالي اضطررت أن أصلح مركبتي، وكان يوم شتاء ومطر، ولم أجد مكانا أوقف فيه مركبتي، فأوقفتها في الطريق، انبطح صاحب المحل تحتها، في الطين، والوحل، وكان يرتدي ثيابًا أصلها زرقاء، فلم يرَ لونها من الشحم والزيت والوحل، وفك قطعة، وأصلحها إصلاحًا تامًا بإتقان، وأخذ أجرة متواضعة معتدلة، فأنا قلت: والله هذا عمله نظيف، أما على الشبكية فالعمل النظيف ذاك المكتب الفخم النفاق، العمل القذر ذاك الوحل، أما هي في مقياس السماء ذاك العمل هو القذر، وهذا العمل هو النظيف، فإذا كان للواحد عمل شريف، ودخل شريف، وهو منضبط فلا مشكلة أبدا، وهذه من نعم الله الكبرى ؛ أن يبنى عملك على خير الناس وعلى نفعهم.
 مرة كنت في افتتاح مسجد، وكان إلى جانبي مدير أوقاف الريف، قلت له: اشكر الله، هو يستفهم فقط، قال لي: على ماذا ؟ ما المناسبة ؟ قلت له: لإنك تفتتح مسجداً، وتعيّن خطيباً وإماماً، أما غيرك، وقد تكون مرتبته أعلى منك فيفتتح ملهى ويعيّن راقصة، أيهما أفضل ؟
 لذلك أيها الإخوة، الخيرية بمقياس خالق الناس أن تكون مؤمناً فقط، وأن تكون مستقيماً، وأن تكون مطبقاً لمنهج الله، وأن تكون ثابتاً على عقيدتك، لا تلين لا أمام سبائك الذهب اللامعة، ولا أمام سياط الجلادين اللاذعة، الخيرية أن تصح عقيدتك، وأن يستقيم عملك، وأن تزداد أعمالك الصالحة المقربة من الله عز وجل، هذا هو الخير.
لذلك عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

(( كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لَا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ ))

 

[ رواه الترمذي]

 وقال عليه الصلاة والسلام:

 

(( ألا يا رب نفس طاعمة ناعمة في الدنيا، جائعة عارية يوم القيامة. ألا يا رب نفس جائعة عارية في الدنيا، طاعمة ناعمة يوم القيامة. ألا يا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا يا رب مهين لنفسه وهو لها مكرم ))

 

[ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن أبي البجير ]

 نحن في دار عمل، والآخرة دار جزاء، نحن في دار تكليف والآخرة دار تشريف، نحن في دار تسابق والآخرة دار مكافئات، فالبطولة أن تعمل للآخرة.
عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

 

(( الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ، وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ ))

 

[ رواه أبو داود عن عوف بن مالك ]

إخفاء الصور