وضع داكن
29-03-2024
Logo
أمثال القرآن الكريم - الدرس : 18 - مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين, وعلى صحابته الغر الميامين؛ أمناء دعوته, وقادة ألويته, وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.

الله سبحانه وتعالى أودع في البشر حبّ المال:

أيها الأخوة الكرام, لا زلنا في آيات الأمثال, والآية اليوم:

﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾

[سورة البقرة الآية:261]

أيها الأخوة الكرام, الله سبحانه وتعالى أودع في البشر حب المال:

﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً﴾

[سورة الفجر الآية:20]

وما أودع الله في الناس حب المال إلا ليرتقوا بإنفاق المال إلى أعلى درجات الجنة؛ لأن الإنسان يتقرب إلى الله عز وجل بإنفاق شيء يحبه, فإن لم يكن يحبه لا يعد هذا الشيء سبباً لارتقاء الإنسان إلى الله, ولأن الله أودع فينا حب المال:

﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً﴾

[سورة الفجر الآية:20]

أولاً: هذا المال مادة الشهوات, قوام الحياة, قيام حياة الإنسان بالمال, فإذا أنفق منه شيئاً, ينفق شيئاً من أسباب وجوده, من أسباب مقومات حياته؛ فكلما كان الشيء لصيقاً بوجود الإنسان, ولصيقاً بحاجاته, كان إنفاقه سبباً لرقي الإنسان إلى الله.

الإنفاق بالمعنى الواسع:


المؤمن وصفه الله في القرآن الكريم في أول آية في سورة البقرة:

﴿الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾

[سورة البقرة الآية:1-3]

الإنفاق بالمعنى الواسع أن تنفق أي شيء منحك الله إياه, وهذا المعنى واسع جداً, فقد يمنح الله لعبد مكانة في المجتمع, هذه المكانة يمكن أن تنفق منها, إذا كان هناك إنسان ضعيف, مظلوم, وتوسطت أنت عند من ظلمه, والذي ظلمه يهابك, ولك مكانة عنده, أنت أنفقت جاهك في سبيل الله, والذي يملك منصباً رفيعاً, بمجرد قلم يحق حقاً ويبطل باطلاً. فإذا استخدم هذه السلطة التي منحه الله إياها؛ لإحقاق الحق وإبطال الباطل, وخدمة الضعيف والمظلوم, يرقى بهذا المنصب عند الله.
أولاً: الإنفاق واسع جداً؛ يمكن أن تنفق من وقتك, يمكن أن تنفق من خبرتك.


إنفاق المال شيء مهم جداً لأن المال مادة كل الحاجات:


أنا أذكر أن عدداً ليس بالقليل من أطباء كبار, من هذا البلد الطيب, كلهم يحمل أعلى الشهادات من العالم الغربي, اجتمعوا والله في هذا المسجد, واتفقوا أن يقوم كل واحد منهم برحلة إلى المحافظات, ويجمع الأطباء الذين هم من اختصاصه, ولم يتح لهم السفر إلى الغرب للدراسة, يعطونهم كل خبراتهم, هذا عمل عظيم. الطبيب المؤمن يقدم خبراته, والمعلومات الدقيقة التي بحوزته إلى كل من حوله.
أي ممكن أن تنفق من علمك, من وقتك, من جاهك, من مالك, لكن حينما تأتي كلمة الإنفاق في القرآن الكريم فيظن الناس بلا تردد أنه إنفاق المال, والحقيقة إنفاق المال شيء مهم جداً, لأن المال مادة كل الحاجات.
أحياناً تجتهد أنت, ترسل لهذا الفقير طعاماً, قد يكون عنده هذا الطعام, بحاجة إلى مال, ليشتري الثياب.
بالمناسبة المنفق لزكاة ماله في رمضان ينبغي أن ينفق مالاً, أو عيناً, بحسب مصلحة الفقير؛ فالفقير الذي لا يُحسن تدبير أمره نعطيه حاجاته على العيد, أما الإنسان المتمكن الحكيم فنعطيه المال.
على كلٍّ أحياناً يكون القيّم على الأسرة سفيهاً, الحل الأمثل لهذه الأسرة الفقيرة أن نعطيها الطعام والشراب, هذا الطعام والشراب يصل في النهاية إلى بطون هذه الأسرة الجائعة.

وسائل الإنفاق لا تعد ولا تحصى:

 

إذاً: الآية الكريمة:

﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ﴾

[سورة البقرة الآية:261]

وكلمة أموالهم جاءت جمعاً, لأن كل أنواع الأموال قابلة للإنفاق.
مثلاً: أنت عندك بيت زائد, لست بحاجة إليه, وهناك طلاب علم أجانب, مضطرون للسكنى في بيت, وأجّرتهم هذا البيت, بأجر معقول أو رخيص, أنت شريكهم في الأجر, تأجير البيت لطالب علم بسعر معتدل يطيقه هذا إنفاق.
أحياناً تخفيض السعر في البيع والشراء، قد يأتي مثلاً إنسان فقير جداً, لكنه مؤمن, وكرامته في أعلى مستوى, هذا الإنسان لا يقبل أن يأخذ منك صدقة.
والله حدثني أخ -تاجر أقمشة-, قال لي: أحياناً يأتي إنسان فقير جداً, يعلم حاله تماماً, وعنده قائمة مشتريات من الأقمشة على العيد, قال لي: أنا أبيعه القماش بسعر مخفض جداً, دون أن يشعر, هو لم يشعر اشترى ودفع ثمن البضاعة, قال لي: والله أخذت نصف الثمن, هو حافظ على كرامته بأعلى مستوى, وأخذ ثمن البضاعة, لكنه قدم له نصف الثمن هدية, دون أن يشعر, لكن الله يعلم, وسائل الإنفاق لا تعد ولا تحصى.
مرة أخ كريم عنده فتاة حافظة لكتاب الله, آلمه كثيراً أنه كلما جاء خاطب لا يعود مرة ثانية, وهو حريص على تزويجها, قال لي -هو تاجر أبنية-: كتبت لها بيتاً صغيراً, مع هذا البيت صار طريق الزواج سهلاً جداً, فانتبه إلى نقطة كم بنت حافظة لكتاب الله, مستقيمة, محجبة, لكن تأخر زواجها؟ فأنشأ بناء – عبارة عن بيوت صغيرة- وكتب: هذه الأبنية لفتيات مؤمنات, طاهرات, حافظات لكتاب الله, فسبحان الله! بعد حين أخبرني أن كل هؤلاء الفتيات تزوجن, صار هناك عرض خاص, لأن أبواب العمل الصالح لا تعد ولا تحصى.
وهناك إنسان حدثني: أنشأ بناءين كبيرين, في البناء عشرون بيتاً, البيت مساحته تقدر بستين متراً, قال لي: أنا أؤجر هذه البيوت بمبلغ يقدر بألفي ليرة فقط في الشهر لطلاب العلم, طالب علم متزوج, لا يوجد عنده بيت, طبعاً الأجرة من عشرين لعشرة, عشرون بدمشق في الشهر, وبالريف عشرة آلاف, هو احتسب ثمانية عند الله, احتسبها صدقة, أي أبواب العمل الصالح لا تعد ولا تحصى.
أنت حينما تفكر أن تتقرب إلى الله بخدمة عباده, فأنت مؤمن ورب الكعبة.
أحياناً من الإنفاق الجديد: طالب متفوق جداً, لكنه فقير, هذا يجب أن يدرس على حساب المحسنين, فالمحسن يرسل طالباً يعود بعد خمس سنوات عالماً نفع الأمة, إنفاق المال على طلاب العلم المتفوقين في الدراسات العليا, هذا من أفضل أنواع الإنفاق, أنت هيأت للأمة علماء, اختاروهم طبعاً من المؤمنين, المستقيمين, من ذوي الاتجاه الإسلامي القوي.

حجم الإنسان عند الله بحجم عمله الصالح:


العبرة أن أبواب العمل الصالح لا تعد ولا تحصى؛ لكن ينبغي أن أوضح: إن الإنسان حينما يستقيم, يحقق السلامة فقط؛ مالك حلال, أنت لست معرضاً لإتلاف المال, اخترت زوجة صالحة, لست معرضاً للشقاء الزوجي, ربيت أولادك تربية صالحة, لست معرضاً لعقوق الأولاد, فالاستقامة تحقق السلامة, لكن الرقي إلى الله يحتاج إلى عطاء, إلى بذل، لذلك حجمك عند الله بحجم عملك الصالح.
أحياناً الإنسان تستهلكه الحياة؛ استيقظنا في غير رمضان, تناولنا طعام الإفطار, ذهبنا إلى العمل, عدنا الساعة الثانية ظهراً, تناولنا طعام الغداء, نمنا بعد الظهر قليلاً, عندنا مساء سهرة حضرناها, يوماً, تلو يوم, تلو يوم, يمضي العمر, وفجأة يفاجأ الإنسان أن أجله قد اقترب, الحياة يمكن أن تستهلك الناس جميعاً, لكن صدقوا ولا أبالغ المؤمن في ذهنه هدف كبير أن يتقرب إلى الله بالعمل الصالح, لذلك الإنسان حينما يستيقظ يتساءل: ماذا أعمل هذا اليوم عملاً صالحاً أتقرب به إلى الله؟

 

(( من أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة ))

 

[ الترمذي عن أنس]

المؤمن ينفق المال للتقرب إلى الله عز وجل:

لذلك ورد في الأثر:

((أن أوحى ربك إلى الدنيا أنه من خدمني فاخدميه, ومن خدمك فاستخدميه))

والله هناك قصص فيها مآس؛ أي عاش حياة ملؤها التقشف, وكان يخزن هذا المال, بعد حين جاء أجله, وقد ترك ثروة طائلة، حرم نفسه منها في حياته, ليأخذها الورثة, وينفقونها على شهواتهم, أحياناً هناك حمق شديد بالإنسان.

لذلك: المؤمن عنده حكمة بالغة في إنفاق المال؛ ينفق المال لتحقيق حاجاته الأساسية, وينفق المال للتقرب إلى ربه.
ولا يوجد كلمة أروع من تلك الكلمة التي قالها صحابي جليل, قال: "حبذا المال أصون به عرضي, وأتقرب به إلى ربي".
وكان هذا الصحابي الجليل قد حدد هدفين أساسيين للمال؛ (أصون به عرضي) أي عندك أولاد, إن اشتريت لهم حاجاتهم, ربطتهم بك, عندك بنت تزوجت, أعطيتها بعض المال, اقتربت منك." حبذا المال أصون به عرضي, وأتقرب به إلى ربي.
عد هذا القول منهجاً لإنفاق المال؛ إما أن تصون عرضك, أو أن تتقرب إلى ربك.

 

الآية التالية أصل في إنفاق المال:

 

لذلك الآية الكريمة:

﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ﴾

[سورة البقرة الآية:261]

سبعة بمئة:

﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾

[سورة البقرة الآية:261]

قد يكون سبعة بألف.أنا أذكر مرة كنت في الغوطة, أمسكت تقريباً حبة قمح, أنبتت خمساً وثلاثين سبلة, عددت حبات سبلة واحدة, إذا هي خمسون حبة, خمسون ضرب خمس و ثلاثين كان الناتج ألفاً و سبعمئة و خمسين حبة؛ أحياناً الكيس يعطي عشرة أكياس, أحياناً يعطي خمسين كيساً, فالله عز وجل:

﴿يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾

[سورة البقرة الآية:261]

﴿كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ﴾

[سورة البقرة الآية:261]

لكن قد يكون ألفاً:

﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾

[سورة البقرة الآية:261]

هذه الآية أيها الأخوة أصلٌ في إنفاق المال, أيها المنفق اعتقد يقيناً أن كل شيء تنفقه الله عز وجل يخلفه عليك, وأن كل شيء تنفقه يعلمه الله.

أيّ شيء ينفقه الإنسان يعلمه الله عز وجل و يضاعفه له أضعافاً مضاعفة:

مرة أب حدثني أراد أن يشجع ابنه على إنفاق المال, أعطاه مئة ليرة, قال له: أعطها لهذا الفقير, أحب أن يدربه على الإنفاق, وقال له: الله عز وجل يعطي الإنسان إذا أنفق عشرة أضعاف, هو طفل صغير, أعطاه مئة ليرة للفقير, قال له: أين الألف بابا؟ طول بالك, هو تصور أنه يجب أن يأخذها فوراً, أقسم لي بالله, يمشي في الطريق مع ابنه, فالتقى بصديق له, سلم عليه, يبدو الصديق استلطف هذا الطفل؛ حمله, وقبله, وأعطاه ألف ليرة, قال لي: سبحان الله! تعلم هذا الطفل درساً لن ينساه, أنفق مئة ليرة, بعد وقت قليل جاء إنسان قدم له ألف ليرة.
فاعلم يقيناً أن كل شيء تنفقه فضلاً عن التقرب إلى الله به يعلمه الله:

﴿يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾

[سورة البقرة الآية:261]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور