وضع داكن
28-03-2024
Logo
قراءات قرآنية - الدرس : 25 - من سورة البقرة والكهف ومريم - قصة الخضر مع سيدنا موسى وقصة صاحبي الجنة والتودد من الله عز وجل.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

تعلق أفعال الله بصالح المؤمن في الآخرة :

 أيها الأخوة ؛ أمر الله التكليفي واضح وضوح الشمس وهو الأمر والنهي في الكتاب والسنة ، لكن لله أفعالاً ؛ يعطي ويمنع ، ويرفع ويخفض ، ويعز ويذل ، وتأتي جائحة ، ويهلك الزرع ، وتزلزل الأرض ، وتطوف الأنهار ، وتأتي الصواعق ، وتنشب الحروب الأهلية ، وتجتاح بلاداً أخرى ، وهناك المشردون ، والمفقودون ، والقتلى ، وما إلى ذلك ، وهناك سنوات مطيرة ، وسنوات عجفاء ، وهناك رزق وفير ، ورزق قليل ، وهناك ثمار يانعة ، وطائف يطوف على المزروعات ، فيصيبها بالصقيع ، وينهي الغلال كلها ، هذه أفعال الله .
 النقطة الدقيقة جداً أن أفعال الله متعلقة بصالح المؤمن في الآخرة . والإنسان لقصر نظره يرى دنياه فقط ؛ فيرى الفقر مصيبة ، ويرى احتراق محله مصيبة ، ويرى عدم إنجابه الأولاد مصيبة ، فالإنسان إذا عرف أن لله حكماً ، لو كشفت لذاب الإنسان كالشمعة محبة لله ، هذا يكون يوم القيامة ، لكن ربنا عز وجل علمنا بقصة قصيرة حكماً كثيرة ؛ فحينما جاء الخضر -عليه السلام- وقتل الغلام ، وخرق السفينة ، والحقيقة بالمنطق غير مقبول ذلك .
 إنسان يركب إنساناً مجاناً ، ويأتي هذا الراكب الذي أُحسن إليه فيخرق السفينة ، شيء غير مقبول ؛ لا عقلاً ، ولا منطقاً ، ولا ذوقاً ، ولا شرعاً أساساً .
 فربنا عز وجل ذكر لك قصة الخضر مع سيدنا موسى ، لتكون هذه القصة دليلاً لك على كل أفعال الله . والآية التي تتمم هذه الآية :

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾

[سورة البقرة:216]

 العقل البشري قاصر عن أن يفهم حكمة الله ، المخلوق الحادث لا يستطيع أن يستوعب حكمة الله الأزلية ، الأبدية ، القديمة ، هذا الشيء فوق طاقة البشر ، لكن إذا رأيت أن لهذا الكون إلهاً عظيماً ، وأن هذا الكون أكبر شهادة على عظمة الله ، وأن هذه الأفعال أفعاله ، هذا خلقه ، فينبغي أن تكون أفعاله مشابهة لخلقه في الحكمة ، والرحمة ، والعدالة ، فإذا أيقنت أن هذا الكون عظيم ، وأن وراءه خالق عظيم ، هذا الذي تراه عينك أفعال الله عز وجل ، وهذه الأفعال : وعسى أن تكرهوا منها شيئاً وهو خير لكم .

 

قصة الخضر مع سيدنا موسى ينبغي أن تبقى للإنسان على مدى الأيام دليلاً :

 قصة الخضر عليه السلام ، سيدنا موسى آتاه الله الأمر التكليفي ؛ افعل ولا تفعل، وسيدنا الخضر آتاه الله الأمر التكويني ، فهذا الخلاف الذي ظهر بين سيدنا الخضر وسيدنا موسى خلاف بين أمر الله وفعله . سنأتي بمثل بسيط يوضح القصة : في أي مدرسة ، يوجد نظام داخلي ، الطالب ينجح للخامس ، أحياناً المعلم إذا وجد طالباً مهملاً ينزله إلى الصف الرابع بإجراء مؤقت ، حتى يهزه ، أما هذا فخلاف النظام الداخلي ، لكن هذا المعلم بحكمة بالغة أراد أن يدفع هذا الطالب للدراسة ، فأنزله لصف أدنى ، وخلاف النظام ، لكن الإجراء آتى ثماره يانعة ، الطالب رُضّ رضاً نفسياً شديداً ، فانطلق للدراسة .
فأحياناً أفعال الله قد لا تستطيع أن تفهمها من خلال أمره ، تجد إنساناً ملتزماً فقيراً ، وإنساناً هاجر وشقي والمال يحار فيه . يا ربي ما هذه الحكمة ؟ هو أساساً لا بد من أن تستسلم.
 إذاً : أول درس بليغ من قصة سيدنا موسى والخضر أن الخضر -عليه السلام- آتاه الله حكمة الأمر التكويني ، وسيدنا موسى آتاه الله الأمر التكليفي ، فبعد أن وضح الأمر لسيدنا موسى ، اتفقوا ، وحلت المشكلة ، هذه قصة ينبغي أن تبقى لنا على مدى الأيام دليلاً؛ كلما انزعجت من شيء ، قل : كخرق السفينة ، خرقت فنجت من المصادرة :

﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً﴾

[سورة البقرة:216]

 والنبي قال :

(( عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن . إن أصابته سراء شكر وكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، وليس ذلك لغير المؤمن ))

[أحمد في مسنده عن صهيب ]

 رجل كل حياته مريض ، قال لي : مرة عاتبت ربي : يا ربي ، أنا طوال عمري مريض ، لا يوجد يوم سررت فيه ، قال : فوقع في قلبه أن يا عبدي لولا هذا المرض لما كنت بهذا الحال ، لأن الله عليم ، يعرف كل إنسان من أين يأتيه ؟ هذا يأتيه من مرض ، هذا يأتيه من ابن ، هذا يأتيه من زوجة ، هذا يأتيه من فقر ، هذا من غنى ، أي ليس في الإمكان أبدع مما كان .
 هذه قصة بليغة جداً ، يجب أن تقيس عليها آلاف القصص ، وكل شيء أزعجك في حياتك ، تذكر قصة سيدنا الخضر ، خرق السفينة فنجت من المصادرة ، أما سيدنا علي رضي الله عنه فيقول : " والله لو كشف الغطاء ، ما ازددت يقيناً برحمة الله ، وعدالته ، وحكمته قبل كشف الغطاء " ليقيني بعد كشف الغطاء .
 صحابي ثان قال : " والله لو علمت أن غداً أجلي ، ما قدرت أن أزيد في عملي " العدَّاد مغلق على الآخر ، يركض سريعاً . لو علمت أن غداً أجلي ، ما قدرت أن أزيد في عملي. هكذا كان الصحابة .

 

الاعتراف لله بالفضل و رفض الكبر و الاستعلاء :

 النقطة الثانية : قصة صاحبي الجنة ، الذي قال :

﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾

[سورة الكهف:34]

 أنا ألح دائماً على أن قصص القرآن الكريم ليست قصصاً ، إنما هي قوانين وقواعد، وهذه القصة لولا أنها تمثل نماذج متكررة إلى نهاية الحياة لما أصبحت قرآناً يتلى .
 كلما كنت أنت بنعمة أخطأت ، وقلت : أنا لولا حكمتي البالغة ، لولا خبراتي المتراكمة ، لولا أنني يقظ ، لولا أنني كذا و كذا لما كنت بهذا الحال ، أشركت ولم تدر :

﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً﴾

[سورة الكهف:34]

 فلذلك ممكن أن يقلب الله عز وجل الموازين . أنا أذكر قصة قريبة لي ، امرأة عندها ولد في بطنها ، وولد على يديها ، وولد يمشي على الأرض ، ثلاثة أولاد ذكور ، لها ضرة عقيم ، ففي ساعة من ساعات الكبر والاستعلاء ، أرادت أن تقول لها : هذا طفل في بطني ، وطفل على يدي ، وطفل أمامي ، وأنت محرومة من الأولاد ، بكلام قاس ، واستعلاء ، لم يمض أشهر حتى مات أولادها الثلاثة ، وأنجبت ضرتها خمسة أولاد ذكور . هذه تتكرر كثيراً .
 صاحب أكبر محل حلويات بلبنان ، كان يصدر يومياً للسعودية طائرة حلويات ، يومياً طائرة شحن ، أي له في لبنان سبعون فرعاً ، دخل إلى معمله ، عجن المعمول لم يعجبه ، أمسك العجينة ، وضعها على الأرض ، وعركها برجليه بحذائه ، قال له العامل : سيدي هذا لا يجوز!؟ قال له : الناس تأكل من تحت قدمي ، مضى أربعون يوماً ، قطعت رجلاه من ركبتيه ، والآن مقيم في لندن .
 هذه قصص تتكرر؛ لا تقل : أنا ، لا تقل : بيتي ، لا تقل : اختصاصي .
 إنسان يحمل دكتوراه بالفيزياء والكيمياء ، وصل إلى منصب معاون وزير ، في أعلى درجة من درجات القوة ، والمنعة ، والجاه ، والعظمة ، والغنى ، فقد بصره ، زاره صديق لي ، قال له : والله يا دكتور فلان أتمنى أن أجلس على الرصيف أتكفف الناس ، وليس على كتفي إلا هذا المعطف ، وأن يرد لي بصري .
 ابق متواضعاً ، تكلم بأدب ، إذا كنت بنعمة : يا ربي لك الحمد ، عندك ولد صالح: يا رب هذا فضل منك ، أنا أب مثالي ، أنا تربيتي حازمة ، لولا ما كنت منتبهاً له ما كان هكذا؛ هناك أذكى منك ، وأشطر منك ، وهناك علماء كبار ، أولادهم أشقياء ، لا تقل ابنك جيد ، لأنك أنت ربيته ، قل : يا ربي هذه هبة منك ، فكلما كنت عبداً لله متواضعاً ، اعترفت لله بالفضل ، الله يرفعك ، وكلما قلت : أنا ؛ مرة تقول : ذكائي ، مرة علمي ، مرة اختصاصي ، مرة أنا ابن فلان ، مرة أنا جدي فلان ، الله عز وجل يؤدبك . إذاً : صاحبا الجنتين هذه قصتهما .

 

المؤمن في الدنيا بطور المعالجة و التشجيع :

 الشيء الثالث :

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾

[سورة مريم:96]

 من أيام قليلة فرحنا بحرف السين :

﴿سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ﴾

[سورة التوبة:71]

 والآية اليوم :

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾

[سورة مريم:96]

 المودة بالتعريف الدقيق : سلوك أساسه الحب .
 أحياناً يتودد الله لك ، وهو الغني ، وهو الإله العظيم ، ومع ذلك يتودد إليك ، أحياناً يرزقك ، أحياناً يرفع شأنك ، أحياناً الناس يحبونك ، أحياناً يلقي محبتك في قلوب الناس ، لكن أحياناً أنت تجد نفسك متضايقاً ، محروماً ، دخلك قليل ، الله قال : الآن أنت في طور المعالجة، تحملنا قليلاً :

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾

[سورة مريم:96]

 أحياناً الإنسان إذا أُعطي أكثر ما يستحق يبرك ، لا يعمل ، كلنا الآن والصديقون وكبار المؤمنين ، عندنا اندفاع إلى الله عجيب ، لكن إذا وجدنا دلالاً زائداً نرتاح ، فربنا عز وجل لحكمة بالغة لا يطمعنا ، فأنت الآن في طور المعالجة ونشجعك ، لكن المستقبل لك :

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً﴾

[سورة مريم:96]

ورود جهنم غير دخولها :

 موضوع جهنم :

﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾

[ سورة مريم: 71 ]

 في سورة مريم هذه من أجل أن يكون هناك طمأنينة ، الورود غير الدخول ، دخول النار شيء وورودها شيء آخر .
 مرة كنا بمعرض حيوانات بطهران ، وهناك جناح خاص للأفاعي والثعابين ، أي غرفة فيها أكبر ثعبان ، لكن لها جداراً من البلور سميكاً ، والثعبان حي يتحرك ، هل تستطيع أن تقترب منه أكثر من عشرة سنتمترات ؟ هو أمامك يتحرك ، ويتمطى ، ويتخطى ، ويلتف في أغصان ، فأنت مطمئن ، هذا البلور السميك حجاب بينك وبينه ، أنت لم تدخل إلى عنده ، فقط اطلعت عليه ؛ فورود النار غير دخولها .
 يستطيع المؤمن يوم القيامة أن ينظر إلى أهل النار دون أن يدخلها ، ودون أن يتأثر بوهجها إطلاقاً ، إلا أنه لماذا يرى هذه الرؤية ؟ لتتضاعف سعادته ، أي انظر يا عبدي لولا أنك عرفتني في الدنيا ، لولا أنك أطعتني ، لولا أنك اتصلت بي ، لولا أنك التزمت ما أمرت به و ابتعدت عما نهيت عنه ، لما كان هنا مكانك .
 أي إذا اتفق شريكان ، اقترح الأول على الثاني صفقة تهريب ، قال له الثاني : لا ، أنا لا أدخل معك ، فعندما لم يرض الثاني فكا الشركة ، المقترح اشترى الصفقة ، وضبط ، وأخذ إلى السجن ، ذهب صديقه ليزوره ، هو من الخارج ، تتضاعف سعادته بهذا القرار الحكيم ، لو وافق معه لجلس في الداخل معه .
 فأنت ورود النار غير دخولها ، أولاً : لترى عدالة الله ؛ أن الإنسان بالدنيا كل أسماء الله الحسنى ظاهرة في الكون ، إلا اسم العدل ، لأن هناك ظلماً ظاهرياً ؛ هناك فقير و غني ، مقهور و ظالم ، والإنسان قد يموت ويبقى الظالم ظالماً ، والمقهور مقهوراً ، فمن أجل أن يتحقق لك اسم العدل يوم القيامة ، لك أن تطل على النار دون أن تدخلها ، فترى مصير الظالمين ، وترى المكان الذي كان من الممكن أن تكون فيه لو لم تكن مع الله ، هذا معنى واردها:

 

﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً﴾

 

[سورة مريم:71]

الأدب مع الله عز وجل :

 أما في سورة طه فهناك نقطة دقيقة جداً ، هذه النقطة :

﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾

[سورة طه:16]

 أي إياك ، ثم إياك ، ثم إياك أن تصغي إلى من يتبع هواه ، هذا إنسان جاهل ، وأعمى ، وشقي ، فأنت ليس لك حق أن تستنصح إنساناً يتبع هواه :

﴿فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى﴾

[سورة طه:16]

 معه ، هناك آيات تشابهها :

﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾

[سورة الكهف:28]

 هناك آية ثالثة :

﴿وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾

[سورة لقمان:15]

 إذاً : هذا الدين قضية خطيرة جداً .

((دينك دينك إنه لحمك ودمك ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا ، إن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم))

[ العلل لابن أبي حاتم ]

 في الدين لا يوجد مجاملة ، أحياناً الإنسان يتملق الآخرين ، يطمئن عليهم ، أحد الشيوخ قال : إن أحد تلاميذنا توفي ، فدفناه ، جاء الملكان فسألوه : من ربك ؟ جاءتهم رفسة أطاحت بهم خمسمئة متر ، فسمع : أمثل هذا يُسأل ؟ هذا لأنه كان تلميذنا ، هذا كله خلط بخلط .
 سيدنا رسول الله قال :

((استغفروا لأخيكم فإنه الآن يسأل))

[أبو داود عن عثمان بن عفان]

 فالإنسان عليه أن يكون أديباً مع الله عز وجل .

((دينك دينك إنه لحمك ودمك ، خذ عن الذين استقاموا ولا تأخذ عن الذين مالوا ، إن هذا العلم دين ، فانظروا عمن تأخذون دينكم))

[ العلل لابن أبي حاتم ]

على الإنسان أن يكون بخدمة الحق لا بخدمة مصالحه فقط :

 آخر نقطة : لا أعتقد أن شخصاً يقرأ الآية لا يحس برعشة ، الله خاطب سيدنا موسى ، قال له :

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾

[سورة طه:41]

 أي أنت لك عمل لله ؟ أحياناً يكون كل عملك في النهار لمصالحك ؛ تجارة ، وصناعة ، وزراعة ، ومشاريع ، وسفر ، وعقد صفقة ، وقبض ، ودفع ، ومطالبة ، وحسابات ، ليس لك عمل لوجه الله خالص لا تبتغي منه شيئاً ؟ أي هل أنت في حاجة الله ؟
 سيدنا عثمان ، النبي قال له : اللهم إنه في حاجتك وحاجة رسوله . هذه عن عثمان، إذا الواحد من أخواننا الكرام المؤمنين ، الصادقين ، ليس له عمل خالص لله ، يا ترى أنت لك دعوة لله عز وجل ؟ بذهنك أن تهدي أناساً إلى الله عز وجل ؟ هل لك صديق تأنس منه الخير ؟ تدله على الله ؟ تزوره ؟ تواده ؟ تخدمه ؟ تعطيه شريطاً أحياناً ؟ تقرضه أحياناً حتى تؤلف قلبه ؟ ليس لك مسعى أبداً لخدمة الخلق ؟ ليس لك مسعى أبداً لإرشادهم إلى الله عز وجل؟ سيدنا موسى طبعاً :

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾

[سورة طه:41]

 أي أنت ملك لي ، فالمؤمن الصادق ، قال له : يا سيدي كم الزكاة ؟ -شخص سأل أحد العارفين بالله - قال له : يا بني عندنا أم عندكم ؟ قال له : وما عندنا و ما عندكم ؟ قال له : يا بني عندكم اثنان ونصف بالمئة ، أما عندنا فالعبد وماله لسيده .
 العبد ليس له شيء أبداً ، كله لله ، فهؤلاء الصادقون ، السابقون ، أولئك المقربون؛ وقته كله ، طاقته كلها ، ملكاته ، طلاقة لسانه ، قراءاته ، مطالعاته ، أوقاته كلها لله ، يأكل، ويشرب ، ويتزوج ، ويعمل ، لكن كله لله ، فهذا الإنسان لما يصل لهذه الدرجة ، لم يعد له حظ نفس إطلاقاً ، لذلك مهما لقي من الناس ضغطاً ، أو لؤماً ، أو جحوداً ، لا يبالي ، هو يرضي الله عز وجل :

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾

[سورة طه:41]

 إذا أحد أخواننا الكرام ليس له عمل خالص لله بالدار الآخرة ، لا يبتغي منه لا مالاً، ولا سمعة ، ولا جاهاً ، إلا أن يقول : يا ربي هل أنت راض عني ؟ هذا المؤمن الصادق . قال له :

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾

[سورة طه:41]

 والإنسان عندما يكون عمله لله عز وجل ، الله يسعده سعادة العقل لا يتصورها ، في الدنيا قبل الآخرة ، حتى إنه قيل : لما سيدنا رسول الله قال : " أبو بكر في الجنة " هناك من فسرها تفسيراً عميقاً : هو الآن في الجنة ، في جنة في الدنيا ، جنة القرب .
 ماذا قال أحد العارفين بالله ؟ قال : في الدنيا جنة ، من لم يدخلها لن يدخل جنة الآخرة .
 ماذا قال هذا العارف بالله ؟ قال : ماذا يفعل أعدائي بي ؟ بستاني في صدري ؛ إن أبعدوني فإبعادي سياحة ، وإن قتلوني فقتلي شهادة ، وإن حبسوني فحبسي خلوة ، فماذا يستطيع أن يفعل أعدائي بي ؟
 قال أحد العارفين أيضاً : مساكين أهل الدنيا ، جاؤوا إلى الدنيا وخرجوا منها ، ولم يذوقوا أطيب ما فيها ؛ إنه القرب من الله عز وجل .
 فعلى الإنسان ألا يسعى لمصالحه فقط ؛ عليه أن يكون في مصلحة الحق ، يكون جندياً للحق ، يكون بخدمة الخلق ، يكون بالدعوة إلى الله ، يربي أولاده ، يربي أخواته ، يعمل درساً لأخواته البنات ، يعاون الناس ، يخوفهم ، ما من إنسان له عمل صالح إلا و يرقى به عند الله .
 مرة شخص توفي رحمه الله هو خادم مسجد ، لكن عجيب هذا المسجد مستحيل أن يكون هناك أي بيت أنظف منه ، تدخل إلى دورات المياه ، الرخام نظيف ، المنظفات ، ومات -مسكين- بالروماتيزم . مرة قلت له : أنت ترهق نفسك أكثر مما يجب .
 أحياناً شخص يرتدي بدلة كحلي ، يصلي ، يصبح عليها بقعاً بيضاء من الغبرة ، أما هذا الجامع فكالبيت تماماً ، كله بالمكانس الكهربائية نظيف ، البلور يلمع ، المغاسل نظيفة ، أرقى من بيت ، هو يعمل لوحده ، قال لي : ألم يقل الله : أن طهرا بيتي ؟
 كل هذه الأعمال التي عملها انطلق فيها من أن هذا بيت الله ، أنا أطهره حتى يقبلني الله ، وأنا أظن به ظناً حسناً ، مات صالحاً ، مات ميتة طيبة جداً ، فالإنسان يحتاج إلى عمل ؛ يخدم مسجداً ، يدل على الله ، ينشر الحق ، يخدم إنساناً ، يعاون يتيماً ، يبر أرملة ، لابد لك من عمل صالح ترقى به ، وأرقى عمل صالح أن تدعو إلى الله ، وأن تكون قدوة لغيرك:

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾

[سورة طه:41]

 فعلى الإنسان ألا يدور كثيراً حول مصالحه .
 قال : هم في مساجدهم والله في حوائجهم ، وعبدي كن لي كما أريد ، أكن لك كما تريد ، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك ، أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد ، كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور