وضع داكن
29-03-2024
Logo
قراءات قرآنية - الدرس : 05 - من سورة آل عمران - الاعتصام .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين .

سرّ الرقي عند الله وسرّ دخول الجنة أن ينفق الإنسان مما يحب :

 أيها الأخوة ؛ في الآيات التي قرئت البارحة ، بعض الآيات ذات أهمية كبيرة جداً ، فالله سبحانه وتعالى يقول :

﴿لَنْ﴾

 قبل أن نتابع الآية ؛ لن : تفيد تأبيد النفي ، لم : تفيد نفي الماضي ، ولما : تفيد نفي الحاضر ، ولن : تفيد نفي المستقبل ، أو تأبيد النفي . قال تعالى :

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾

[سورة آل عمران: 92]

 أي من السذاجة ، والغباء ، والجهل الفاضح أن تتصور أن جنة عرضها السموات والأرض ، تنالها بثمن بخس :

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾

[سورة آل عمران: 92]

 فإذا كان المال مما تحبه ، فلن تنال البر حتى تنفق المال ، وقتك ضيق جداً ، لن تنال البر حتى تنفق من وقتك وقتاً لمعرفة الله ، ووقتاً لطلب العلم ، ووقتاً لخدمة الخلق ، ووقتاً للدعوة إلى الله ، وإذا كانت مكانتك عالية جداً ، ورأيت مظلوماً ، وبإمكانك أن تنصفه ، لن تنال البر حتى تنفق من جاهك الذي متعك الله به .
 فهذه الآية تبين أن سرّ الرقي عند الله عز وجل ، وسرّ دخول الجنة أن تنفق مما تحب ، الشيء الذي تحبه ينبغي أن تنفقه في سبيل الله ، كي ترقى ، والتكليف سمي تكليفاً لأنه ذو كلفة ، والتكليف يتناقض مع الطبع ، ويتوافق مع الفطرة ، يتناقض مع الطبع ، الطبع أقرب إلى المادة ، الطبع يتجه نحو النوم ، والتكليف نحو الاستيقاظ ، الطبع نحو أخذ المال ، والتكليف نحو إنفاق المال ، الطبع إطلاق البصر ، والتكليف غض البصر :

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾

[سورة آل عمران: 92]

 إذا لم توطن نفسك أن تضبط الشهوات ، وأن تضبط الميول ، وأن تفعل ما يرضي الله ، ولو خالفت هواك ، فلن تصل إلى شيء ، لن تنالوا البر من الله - العطاء - أي مطلق العطاء ، البر الجنة ، توفيق الله في الدنيا ، الاتصال بالله :

﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾

[سورة آل عمران: 92]

 هذه حقيقة ، حقيقة على شكل قانون ، لن : تفيد تأبيد النفي .

 

الله عز وجل يحبّ المؤمنين متعاونين و متفاهمين :

 الحقيقة الثانية : أن أعداء الدين منذ أن ولد الإنسان حتى نهاية الدوران ، لهم سياسة ثابتة ، وهي إيقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ، ففي عهد النبي عليه الصلاة والسلام اليهود في المدينة ، حينما رأوا الأوس والخزرج قد توافقوا ، وتحاببوا ، وائتلفوا ، وتناسوا ما بينهم من عداوات سابقة ، وأصبحوا أخوة كراماً ، اعتصموا بحبل الله جميعاً ، هذا الوئام والوفاق آلمهم أشدّ الألم ، فأرسلوا أحد غلمانهم ، ليذكر الأوس بقصيدة قالها بعض الخزرج في ذمهم في الجاهلية ، هذه القصيدة تليت عليهم ، أخذت بعضهم الحمية ، وكانوا حديثي عهد بالإسلام ، فتلاسن القوم ، تماسك القوم ، سلوا سيوفهم ، كادت تقع فتنة بين الأوس والخزرج ، بسبب هذه القصيدة التي ألقيت على مسامعهم ، بدافع من أحد يهود المدينة ، فقام النبي عليه الصلاة والسلام وقال :

((أتفعلون هذا وأنا بين أظهركم؟))

 وعنفهم أشدّ التعنيف ، لكن آيات كريمة نزلت في هذه الحادثة :

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾

[سورة آل عمران:100]

 دقة الآية أن الله وصف العداوة بين المؤمنين كفراً :

﴿يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ﴾

[سورة آل عمران:100]

 مرة ثانية :

﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾

﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾

  أي كيف تختصمون ؟ فالإنسان قبل أن يخاصم مؤمناً ، قبل أن يفرق المؤمنين ، قبل أن يجعل المؤمنين شيعاً وأحزاباً ، قبل أن ينتمي إلى مجموعة صغيرة ، ويكفر البقية ، قبل أن ينتقص من قيمة المؤمنين الآخرين ، قبل أن يطعن بإيمان المؤمنين ، قبل أن يفرق جماعة المؤمنين ، قبل أن يفعل هذا ، ليقرأ هذه الآية :

﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾

[سورة آل عمران:101]

 الله جل جلاله لا يرضيه إلا أن نكون متحدين ، متعاونين ، متفاهمين .

(( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ ، والمُتجالِسينَ فيَّ ، والمُتزاورينَ فيَّ ، والمتباذلينَ فيَّ ، المتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نُور ، يغبِطهم النبيُّون والشهداءُ ))

[الترمذي ومالك عن معاذ بن جبل]

 أي أنت كن أداة توفيق ، أداة جمع ، عليك أن تلم الشمل ، أن ترأب الصدع ، أن تقرب وجهات النظر ، أن تزيل هذا الجفاء بين المؤمنين ، أما إذا عمقت الخلاف ، وآثرت العداوة والبغضاء ، فأنت تفعل شيئاً سماه الله في القرآن الكريم كفراً :

﴿وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ﴾

[سورة آل عمران:101]

التمسك بالأصول و البحث عن القواسم المشتركة دائماً :

 إلا أن هذا اللقاء ؛ لقاء المؤمنين ، تعاون المؤمنين ، يحتاج إلى سبب ، أما بلا سبب فليس له معنى . قال تعالى :

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً﴾

[سورة آل عمران:103]

 القرآن واحد ، الدين واحد ، النبي واحد ، السنة واحدة ، الأهداف واحدة ، الوسائل واحدة ، ما دام هناك شيء يوحد بيننا ، هذا الذي ينبغي أن نتمسك به ، لذلك ينبغي أن نبحث عن القواسم المشتركة دائماً لا على الخلافيات .
 أي أنت بإمكانك أن تدعو إلى الله خمسين عاماً ، وأنت في المتفق عليه لا في المختلف عليه ، أليس في هذا الدين جذع واحد جامع ؟ ابق في هذا الجذع الواحد الجامع الموحد ، هذا هو القاسم المشترك ، وإياك أن تصل إلى الخلافيات ، كما قال الشافعي : " نتعاون فيما اتفقنا ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا ".
 أن تختلف وجهات النظر ، هذا شيء مقبول ، وشيء طبيعي ، وشيء صحي في الأمور الفرعية ، أما الأصول فهي واحدة :

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾

[سورة آل عمران:103]

الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون على علم :

 الآن : هناك أمر قطعي الدلالة . يقول الله عز وجل :

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾

[سورة آل عمران:104]

 اللام : لام الأمر ، أما من فتفيد التبعيض ، أي الإنسان إذا دعا إلى الله ، ينبغي أن يدعو على علم ، لأن العوام - كما قال الغزالي - لأن ترتكب الكبائر ، أهون عند الله من أن تقول على الله ما لا تعلم .
 الدعوة إلى الله من غير علم خطيرة جداً ، لأن الدعوة إلى الله بناء للنفوس ، فإذا بنيت النفوس بناء غير صحيح ، شوهت النفوس ، فلذلك : الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون على علم ، إذا الإنسان لا يحسن الدعوة إلى الله ، ليتقن عمله الذي أقامه الله به ، وليخلص أداء هذا العمل ، وليقصد به خدمة المسلمين ، وليدع الدعوة إلى الله لأهلها ، لأن هنا من للتبعيض ، لم يقل : وادع إلى الله جميعاً . قال :

﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾

[سورة آل عمران:104]

قانون الخوف :

 النقطة الدقيقة جداً : قانون الخوف ، الخوف شيء مدمر ، الإنسان عندما يخاف من شيء مدمر ، هذا الخوف هو الذي يدمر سعادة الإنسان ، أي قد يكون إنسان ينعم بأعلى درجة من المال ، والغنى ، والجاه ، لكن في قلبه خوفاً ، هذا الخوف يفسد عليه سعادته ، انتهى، أنت من خوف الفقر في فقر ، وأنت من خوف المرض في مرض ، وتوقع المصيبة مصيبة أكبر منها ، إذا أردت القانون ، قانون الخوف في القرآن الكريم ، اسمع الآية :

﴿سَنُلْقِي﴾

  الخوف : شيء يخلقه الله ، يخلق :

﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ ﴾

  السبب ، القانون :

 

﴿بِمَا أَشْرَكُوا﴾

[سورة آل عمران:151]

 الباء : باء السببية ، أي كل إنسان أشرك بالله ، عقاب له على شركه يلقي الله في قلبه الخوف :

﴿سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾

 فالإنسان يطمئن بقدر توحيده ، ويخاف بقدر شركه ، يطمئن إذا وحد . الله عز وجل قال :

﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ﴾

[سورة الشعراء:213]

 أنت مطمئن بقدر توحيدك ، وأنت خائف بقدر شركك ، قانون .
 والحقيقة أدق الآيات في كتاب الله هي الآيات التي تأخذ شكل القانون .

 

قانون الانفضاض و الالتفاف :

 هناك قانون ثالث ؛ الباء أحياناً لها أكثر من عشرة معان ، من أبرز معانيها : السببية ، أي بتأخرك عن الدوام ، خصمت لك هذا الراتب ، أي سبب خصمي هذا الراتب تأخرك عن هذا الدوام :

﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ﴾

[سورة النساء:160]

 الباء : باء السبب . الله عز وجل يقول :

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾

 لينك ، ولطفك ، ومودتك ، وتبشيرك لا تنفيرك ، التيسير لا التعسير ، التواضع ، كل صفات النبي الكاملة ترِد في هذه الآية ، إلى رحمة استقرت في قلب النبي :

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾

 إذاً بعد أن لنت لهم ، أقبلوا عليك ، وهفت قلوبهم إليك ، وأحبوك ، واجتمعوا حولك ، ونفذوا أمرك، وفدوك بمهجهم ، لأنك لنت لهم ، لأن في قلبك رحمة استقرت في قلبك ، العكس :

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً ﴾

 لو أن هذه الرحمة انعدمت في قلبك ، لكنت فظاً غليظ القلب ، وحينما تكون فظاً غليظ القلب ، ينفض الناس من حولك ، قانون ثان ، اتصال بالله ، رحمة ، لين ، اجتماع القلوب حولك ، انقطاع عن الله ، قسوة ، فظاظة ، نفور الناس منك ، فإذا أردت أن تهفو القلوب إليك فاتصل بالله ، كي تستقر الرحمة في قلبك ، كي تكون ليناً ، عندئذ يجتمع الناس حولك :

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾

[سورة آل عمران:159]

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور