وضع داكن
03-05-2025
Logo
الدرس : 1 - سورة الفاتحة - تفسير الأيات 1-2 كيفية الحمد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين. 
أيُّها الإخوة المؤمنون: نحن بدأنا تفسير كتاب الله من سورة لقمان، ولم نختم بعدُ كتاب الله سبحانه وتعالى، ونرجو الله سبحانه وتعالى أن يُمدّنا جميعاً بقوةٍ منه، كي نُتابع فهْمَ كتاب الله وتطبيقه والأخذَ به. 

القرآنُ الكريم جُمع في الفاتحة: 


سوف أُفسِّر إن شاء الله تعالى سورةَ الفاتحة، لأنَّ سورة الفاتحة كما قال عليه الصلاة والسلام:

(( كنا خلفَ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في صلاةِ الفجرِ فقرأَ رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فثَقُلَتْ عليهِ القِرَاءةُ فلما فَرَغَ قال لعلكم تقرؤونَ خلْفَ إمامِكُم قلنَا نَعَمْ هذا يا رسولَ اللهِ قال لا تفعَلُوا إلا بفاتِحَةِ الكتابِ فإنه لا صلاةَ لمن لم يقرَأْ بِهَا ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

وسمَّاها النبي عليه الصلاة والسلام أساس القرآن، وسمَّاها أُم القرآن، وسمَّاها فاتحة الكتاب، ولها عشرة أسماء، وقد جُمِع القرآنُ كله في الفاتحة، فلهذه الأسباب كلِّها، رأيت من المناسب أن أُفسِّر سورة الفاتحة، بعد السور القصيرة الأخيرة، التي خُتم بها القرآن الكريم.
أولاً: ربنا سبحانه وتعالى يقول: 

﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)﴾

[ سورة النحل ]

أجمع العلماء على أنَّ كلمة أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ليست آية، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ما كان يقرأ القرآن الكريم، إلا ويتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم، امتثالاً لقوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) .
العلماء قالوا: مندوبٌ أن نقرأها في غير الصلاة، وواجبٌ أن نقرأها في الصلاة، واجبٌ أن نتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم في الصلاة، ولكن سراً، تقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جَدُّك ولا إله غيرك، سراً، ثم تتعوَّذ بالله من الشيطان الرجيم سراً. 

النبي عليه الصلاة والسلام كان دائماً يتعوَّذ بالله ولاسيما في السورتين الأخيرتين: 


وأمّا البسملة فالأكثرون على أنها تُقرأ جهراً، وأبو حنيفة رضي الله عنه، يرى أن تُقرأ أيضاً سراً، الإمام أبو حنيفة يبدأ القراءة بقوله: الحمد لله رب العالمين، لكن الأكثرين على قراءة البسملة جهراً، أمّا التعوُّذ فالأكثرون على أنه يُقرأ سراً. 

(( استَبَّ رجُلانِ عندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحنُ عندَه جلوسٌ وأحدُهما يسُبُّ صاحبَه مغضَبًا قد احمَرَّ وجهُه فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إنِّي لَأعلَمُ كلمةً لو قالها لذهَب عنه ما يجِدُ: أعوذُ باللهِ مِن الشَّيطانِ الرَّجيمِ، فقالوا للرَّجُلِ: ألا تسمَعُ ما يقولُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: إنِّي لَسْتُ بمجنونٍ ))

[ أخرجه البخاري ومسلم ]

وإذا سافر عليه الصلاة والسلام، وأدركه الليل في الأرض كان يقول: 

(( كان رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم إذا سافر فأقبل الليل قال يا أرض ربي وربك الله أعوذ بًالله من شرك وشر ما فيك وشر ما خلق فيك ومن شر ما يدب عليك وأعوذ بًالله من أسد وأسود ومن الحية والعقرب ومن ساكن البلد ومن والد وما ولد ))

[ أخرجه أحمد والنسائي وابن خزيمة ]

فالنبي عليه الصلاة والسلام دائماً يتعوَّذ بالله، ولاسيما السورتين الأخيرتين: 

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)﴾

[ سورة الفلق ]

وأيضاً: 

﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)﴾

[ سورة الناس ]

وأعوذُ بالله من الشيطان الرجيم.

الأسماء الحسنى كلها جُمعت في كلمة "الله":


قال بعضهم: العوذ هو الالتجاء لقويٍ كي تتقي به الشر، وأمّا اللوذُ بمعنى لاذ به، الالتجاء بقويٍّ من أجل أن يجلب لك الخير، عاذَ به، ولاذَ به، عاذَ اتقاء الشر، ولاذَ طلباً للخير، فربنا سبحانه وتعالى يأمرنا أن نستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
  وأمّا كلمة الله جلَّ جلاله، فهي اسم الله الأعظم، الجامع للأسماء الحُسنى كلها، وهي عَلَمٌ على الذات، وأكبر أسماء الله اسم الله الأعظم، يجمع كل أسمائه، أعوذ بالله، يعني أعوذ بالله الرحيم، أعوذ بالله الحكيم، أعوذ بالله اللطيف، أعوذ بالله القوي، أعوذ بالله الغني، أعوذ بالله العادل، أعوذ بالله الفرد، الصمد، الواحد، الأحد، القهار، الجبار، أعوذ بالله الودود، إذا قلت: الله، فإنَّ الأسماء الحُسنى كلها جُمِعت في كلمة الله.
ربنا عزَّ وجل، لو قال: أعوذ بالرحيم، والأمر يحتاج إلى قوةٍ، هذه الاستعاذة لا تصح، أمّا أعوذ بالله، إن كنت تخاف شيئاً قوياً عُذ بالله فهو القوي، وإن كنت بحاجةٍ إلى رحمةٍ عُذ بالله فهو الرحيم، وإن كنت بحاجةٍ إلى إمدادٍ عُذ بالله فهو رب العالمين، وإن كنت بحاجةٍ إلى لطفٍ عُذ بالله فهو اللطيف الخبير، وإن كنت بحاجةٍ إلى علمٍ عُذ بالله فهو العليم الخبير، فكلمة أعوذ بالله، يعني أنا ألتجئ إلى الذات الكاملة، التي جمعت الأسماء الحُسنى كلها. 

﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(180)﴾

[ سورة الأعراف ]


الله سبحانه وتعالى حينما خلقنا رسم لنا منهجاً:


أمّا الشيطان، لِمَ سُمِّيَ الشيطان شيطاناً؟ لأنه شَطَنَ، بمعنى ابتعد وخرج عن طريق الحق، الله سبحانه وتعالى حينما خلقنا رسم لنا منهجاً

﴿ قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ (123)﴾

[ سورة طه ]

﴿ قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30)﴾

[ سورة فصلت ]


ما دمت على المنهج الإلهي فلا تخف ولا تحزن:


ما دمت على المنهج الإلهي، لا تخف ولا تحزن. 

﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)﴾

[ سورة المائدة ]

إذا اتبعت رضوان الله سبحانه وتعالى، يهديك بمنهجه إلى سُبل السلام، سلامٌ في بيتك، سلامٌ في صحتك، سلامٌ في أولادك، سلامٌ في تجارتك، سلامٌ في عملك، سلامٌ في ماضيك، سلامٌ في حاضرك، سلامٌ في مستقبلك، سلامٌ في خريف عمرك (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ)

الشيطان هو ذلك المخلوق الذي خرج عن المنهج القويم الذي رسمه الله لعباده المؤمنين:


فلمّا الإنسان يُطبِّق المنهج الإلهي، يعني مثلاً: آلة ثمينة جداً، معها تعليمات دقيقة من خبراء الشركة، إذا اتبعتَ التعليمات، فإن هذه الآلة تخدمك إلى أمدٍ طويلٍ طويل، وإذا خالفت هذه التعليمات، فسوف تُصاب الآلة بالعطَب، وتخسرها، وتخسر ثمنها، إذاً مَن الشيطان؟ ذلك المخلوق الذي خرج عن المنهج القويم، الذي رسمه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، لذلك قال الله تعالى: 

﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً(9)﴾

[ سورة الإسراء ]

مَن منّا لا يُحب أن يعيش حياةً سعيدة فيها سلام، فيها رضا، فيها طمأنينة، فيها ثقة بالله، مَن منّا لا يُحب أن ينجو من الخوف، أن ينجو من القلق، أن ينجو من القهر، أن ينجو من الألم (يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ) .

كل مخلوق خرج عن المنهج الإلهي فهو شيطان:


إذاً الشيطان ذلك المخلوق الذي خرج عن المنهج الإلهي، وكل مخلوقٍ خرج عن المنهج الإلهي هو شيطان، وهناك شياطين الإنس، وهناك شياطين الجن. 

﴿ إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76)﴾

[ سورة القصص ]

يعني خرج عن طريقتهم الصحيحة. 

﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)﴾

[ سورة طه ]

طغى أي خرج، بغى أي خرج، فالطغيان خروجٌ عن طريق الحق، البغيُ خروجٌ عن طريق الحق، الشَطَن خروجٌ عن طريق الحق، الفسق خروجٌ عن طريق الحق، قال الله سبحانه وتعالى: 

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(1)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1)﴾

[ سورة الكهف ]

يُحمَد الله مرتين، مرةً على خلق السماوات والأرض، ومرةً على هذا المنهج القويم الذي أنزله على أنبيائه. 

ما دمت في طاعة الله فأنت في ظلّ الله وذمته:


مُلخَّص الكلام أنَّ لله في الأرض منهجاً، لله في الأرض قرآناً، لله في الأرض شرعاً، ما دمت ضمن الشرع فأنت في سلام، في حياتك الدنيا، ويوم تقوم الساعة، ويوم تقوم القيامة، وأنت في جنَّات عدنٍ خالداً فيها إلى أبد الآبدين، ما دمت وفق هذا المنهج، فإذا خرجت عنه تدفع الثمن، ما دمت في طاعة الله فأنت في ظل الله، فإذا خرجت عن طاعته خرجت من ظله، تحمَّل إذاً المتاعب.
 جاء أعرابيٌ النبي عليه الصلاة والسلام فقال: 

(( قُلْتُ: يا رسولَ اللهِ قُلْ لي قولًا لا أسأَلُ عنه أحَدًا بعدَكَ قال: قُلْ : آمَنْتُ باللهِ ثمَّ استقِمْ  ))

[ أخرجه مسلم والترمذي ]

قضيةٌ واضحةٌ كالشمس، إمّا أن تُطبِّق التعليمات، وإمّا أن تستعد للبلاء، فقل أعوذُ بالله من الشيطان، هذا المخلوق الذي طغى، الذي غوى، الذي بغى، الذي شَطنَ بمعنى ابتعدَ، وبعضهم قال: الشيطان من شاطَ، بمعنى احترق، احترق بنار البُعد، شقيَ بالبُعد، وقد قال عليه الصلاة والسلام: 

(( أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خطب الناسَ يومَ فتحِ مكةَ فقال يا أيها الناسُ إنَّ اللهَ قد أذهبَ عنكم عبيةَ الجاهليةِ وتعاظُمَها بآبائها فالناسُ رجلانِ رجلٌ بَرٌّ تقيٌّ كريمٌ على اللهِ وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على اللهِ والناسُ بنو آدمَ وخلقَ اللهُ آدمَ من الترابِ قال اللهُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ))

[ أخرجه الترمذي وابن حبان ]

أي لو أنَّ في الأرض إنساناً واحداً، كان بعيداً عن الله وهو سعيد، لكان هذا الدين باطلاً، ولو أنَّ إنساناً واحداً كان متصلاً بالله وهو شقي، لكان هذا الدين باطلاً. 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)﴾

[ سورة طه ]

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل ]


آيات في كتاب الله تَعِدُ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بالتعويض الجزيل:


أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم، الرجيم أي البعيد، والأصح من كلمة البعيد، المُبعَد لأنه خرج عن طريق الحق، وشَطنَ ابتعد فاحترق فأُبعِد، الشيطان يعدكم الفقر، الشيطان يخوفكم، الشيطان يأمركم بالفحشاء من طريق الأمر بالفحشاء، يُغريك بالمعاصي، يُزين لك المعاصي، يعدك بالفقر، إذا أنفقت مالك تبقى فقيراً، ثماني آياتٍ في كتاب الله، تَعِدُ الذين ينفقون أموالهم بالتعويض الجزيل: 

﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(245)﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)﴾

[ سورة سبأ ]

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ ۗ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَىٰ وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[  سورة النساء ]


الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم في الصلاة واجبة:


إذاً: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) إذا قرأته خارج الصلاة فهذا مندوب، أمّا إذا قرأته في الصلاة فهذا واجب، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يعوذُ بالله من كل شيء، من دارٍ يدخلها، من دابةٍ يركبها، كان إذا ركب دابةً يقول: 

(( إِذَا أَفَادَ أَحَدُكُمُ امْرَأَةً، أَوْ خَادِمًا، أَوْ دَابَّةً، فَلْيَأْخُذْ بِنَاصِيَتِهَا، وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ! إِنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِهَا وَخَيْرِ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ مَا جُبِلَتْ عَلَيْهِ ))

[ أخرجه أبو داوود وابن ماجه ]

الاستعاذة بالله من دابةٍ، من بيتٍ، من عملٍ لا يُرضي الله عزَّ وجل، من رفقاء السوء، من نزهةٍ قد تكون فيها النهاية الوبيلة.
الإنسان المؤمن من علامة إيمانه، أنه دائماً يتعوُّذ بالله من الشيطان الرجيم من أنْ يُضله، أو أن يُغريه، أو أن يُفسده، أو أن يفتنه، أو أن يحمله على معصية، أو أن يوسوس له، أو أن يُبعده عن أهل الحق، أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم. 
وأمّا كلمة:

﴿ بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ (1)﴾

[ سورة الفاتحة ]

فلها حديثٌ طويل، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النمل: 

﴿ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)﴾

[ سورة النمل ]

النبي عليه الصلاة والسلام من سُنَّته المُطهَّرة، أنه كان يبدأ كل أفعاله ببسم الله الرحمن الرحيم، ونحن نرى على مقدمة، الكتب بسم الله الرحمن الرحيم، وفي أكثر المجالات، بسم الله الرحمن الرحيم، وأصبحت تقليداً، قد يكون الكتاب يتحدث عن نظرية داروين، ويبدأ ببسم الله الرحمن الرحيم، البسملة خلاف المضمون.
الموضوع في (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أنَّ هذه الباء حرف جر، بسم أي (بِسْمِ اللَّهِ) وأسماء الله كلها حُسنى، (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) كأن الكلام ناقص، هناك فعلٌ يتعلق بهذه الباء، يعني أبدأ عملي بسم الله، آكل بسم الله، أؤلف هذا الكتاب بسم الله، أُصدر هذا الحُكم كقاضي بسم الله، فما معنى بسم الله؟ 

هناك معنيان للبسملة:


إذا أردت أن تأكل وقلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هناك معنيانٍ لهذه البسملة:
المعنى الأول: أنَّ هذا الطعام الذي تأكله إنما هو من نعمِ الله عزَّ وجل، فكُل هذا الطعام بسم الرزاق، كل هذا الطعام بسم المُغني، بسم المُقيت، بسم المُجيب، بسم الواهب، بسم اللطيف، يعني بسم الله، الله كما قلت قبل قليل: اسمٌ جامعٌ للأسماء الحُسنى، فإذا قلت: بسم الله، بحسب الموضوع، إذا أكلت مثلاً وقلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يعني هل فكرت بأنَّ هذا الذي تأكله من صنع الله؟ 

﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)﴾

[ سورة يس ]

إذا شربت كأس ماء وقلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هل فكرت في أنَّ هذا الماء أصله شمسٌ سُلِّطت على بحارٍ شاسعة، فتبخَّر ماؤها، وتقطَّر ماؤها، وأصبح بُخاراً عالقاً في الجو، اجتمع سُحباً وساقته الرياح إلى أرضٍ عطشى، أنزله الله ماءً ثجاجاً، أنبت به الزرع والزيتون، أودَعه في الجبال، فجَّره ينابيع، أساله أنهاراً، الشمس ساهمت في هذا الكأس، والمجرات، والأنواء، والمُناخ، والرياح، والحرارة، والبرودة، والجبال، فإذا قلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) أي هل فكرت بسم الرزاق، بسم المُعطي، بسم الواهب، بسم الغني، يعني أشرب الكأس (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
المعنى الثاني: أنَّ لله في خلقه سُنَّةً في شرب الماء، فإذا قلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فلا ينبغي أن تشرب الماء خلاف السُنَّة، أن تشربه مصَّاً، ولا تعبُّه عبَّاً، أن تشربه على ثلاث مراحل، أن تشربه وتحمد الله عزَّ وجل، أن تُبعِد الإناء عن فيك، ألا تتنفس في الإناء، هذه سُنَّة النبي المُطهَّرة، نهانا عن التنفس في الإناء، والآن ثبت أن هناك أمراضاً، تنتقل عدواها عن طريق الزفير، الذي يختلط بالماء المشروب، فقال عليه الصلاة والسلام: 

(( أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ نَهى عن النَّفخِ في الشَّرابِ فقالَ رجلٌ القذاةُ أراها في الإناءِ فقالَ أَهرقْها فقالَ فإنِّي لا أروَى من نفسٍ واحدٍ قالَ فأبنِ القدَحَ إذًا عن فيكَ  ))

[ أخرجه الترمذي وأحمد ]

بين الشربتين أَبِنْ القدح عن فيك، لئلا يختلط النَفَسُ بالماء، وكان عليه الصلاة والسلام قال: 

(( مصوا الماء مصَّاً ولا تعبّوه عبَّاً، فإن الكُباد من العب  ))

[ رواه ابن السني والبيهقي عن عائشة رضي الله عنها ]

مرض الكبد يأتي من عبّ الماء، وكان عليه الصلاة والسلام إذا شرب حمد الله، فكل هذا من سُنَّته المُطهَّرة، فإذا قلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) لها معنيان:
الأول: هل فكرت في هذه النِعم؟
والثاني: هل أنت مُطبِّقٌ سُنَّة رسول الله في شرب الماء؟ هذا في الشُرب. 

على الإنسان أن يحمد الله ويشكره على نعمه في كل حركاته وسكناته:


في الطعام: 

﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)﴾

[ سورة الأعراف ]

كلوا واشكروا له: 

(( مَن أكلَ فشبِع و شرِب فرَوِيَ، فقال: الحمدُ للهِ الَّذي أطعمَني فأشبعَني، وسقاني فأروَاني، خرجَ من ذنوبِه كيومِ ولدته أمُّهُ ))

[ الألباني السلسلة الضعيفة ]

(( إنَّ اللَّهَ ليَرضى مِن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيها ))

[ صحيح مسلم ]

ليرضى عن العبد، يعني إذا أكل الإنسان وقال: الحمد لله، فإذا قلت: بسم الله، تعني أنْ فَكِّر في هذه النِعم، وطبِّق أمر الله في الطعام، وإذا دخلت البيت وقلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قال الله عزَّ وجل: 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا ۖ وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ ۚ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19)﴾

[ سورة النساء ]

هذا أمر الله، إذا قلت: بسم الله، وفتحت باب المنزل، الحمد لله الذي آواني، وكم مِمَن لا مأوى له، هل شعرت أن هذه نِعمة، نِعمة المأوى كبيرةٌ جداً؟ كم مِمَن لا مأوى له؟ في أكثر دول شرقي آسيا، ينام الناس على الأرصفة، يتخذون بيوتاً قوارب في الأنهار، في بعض الدول الفقيرة، أن تشاهد الآلاف ينامون هُم وزوجاتهم وأولادهم على الرصيف، منظرٌ مألوفٌ جداً، فإذا كنت في بيتٍ، وفتحت باب البيت وقلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) معنى ذلك: الحمد لله الذي آواني، وكم مِمَن لا مأوى له.

بسم الله تجعلك على بصيرة من الأمر:


هل رأيت نعمة الله عزَّ وجل؟ إذا فتحت الماء لتتوضأ، وقلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) هل عرفت أن هذه نعمةٌ لا تُقدَّر بثمن، نعمة الماء داخل المنزل، الآن إذا دخلت إلى البيت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يعني: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) .
إذا قُدَّت سيارتك وقلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إلى أين أنت ذاهب؟ هل أنت ذاهبٌ إلى مكانٍ لا يُرضي الله عزَّ جل، تناقُض بين البسملة وبين هذا المكان، هل تشكر الله على نعمة المركَب؟ هل تُسخِّرها لعباد الله؟ هل تُعين بها الضعيف؟ هل تُنقذ بها المريض؟ القضية واسعة جداً، النبي عليه الصلاة والسلام، قال: 

(( عن أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كُلُّ كَلَامٍ أَوْ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُفْتَحُ بِذِكْرِ اللهِ فَهُوَ أَبْتَرُ  ))

[ رواه الإمام أحمد في المسند ]

يعني مقطوع الخير، ألَّفت كتاباً، هل تذكُر في الكتاب شيئاً باطلاً، بسم الله، هل هدفك من هذا التأليف خالصٌ لوجه الله، أم تبتغي به السُمعة والرفعة، بسم الله. 

العلماء حاروا في الفرق بين الرحمن والرحيم:


فهذه البسملة تضعك أمام شيئين:
 تُذكِّرك بنعم الله عزَّ وجل، وأنَّ هذا من نعمة الله، وتُذكِّرك بأمر الله في هذا الموضوع، في الطعام، في الشراب، في دخول المنزل، في الخروج إلى السوق، النبي الكريم كان إذا دخل السوق يقول:

(( كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذا خرج إلى السوقِ قال: بسمِ اللهِ، اللهمَّ إِنَّي أسألُكَ مِنْ خيرِ هذِهِ السوقِ، وخيرِ ما فيها، وأعوذُ بكَ من شرِّها وشرِّ ما فيها، اللهمَّ إِنَّي أعوذُ بكَ أنْ أُصيبَ فيها يمينًا فاجِرَةً، أوْ صفْقَةً خاسِرَةً ))

[ أخرجه الطبراني والحاكم وابن السني ]

 يقول لك البائع: الله وكيلك بعتُك برأسمالها، وهو يكذب، لقد باع دِينَه كله بكلمةٍ واحدة.
  إذا جمع الإنسان مالاً من حرام، فإنَّ الله عزَّ وجل يُريه أنَّ هذه الصفقة فيها ربحٌ وفير فيشتريها، فيكون إفلاسه عن طريقها، هذا الذي جمعه من حرام، أذهبه الله في صفقةٍ خاسرة، فإذا دخل الإنسان إلى السوق فهناك بسملة، إذا دخل بيته هناك بسملة، إذا ركِبَ مركبُه هناك بسملة، إذا شرب الماء، إذا تناول الطعام، حتى إذا التقى مع أهله هناك بسملة، لئلا تأتيك ذريةٌ سيئة، بسم الله، فهذه الباء تعني اَلتَجئُ بسم الله، أشرب بسم الله، آكل بسم الله، أتزوج بسم الله، أدخل إلى بيتي بسم الله، دائماً هذه البسملة تُذكِّرك بأسماء الله الحُسنى، وتُذكِّرك بأوامره المثلى (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .
الحقيقة العلماء حاروا في الفرق بين الرحمن والرحيم.
قال بعضهم: الرحمن بخلقه جميعاً، والرحيم بالمؤمنين.
وقال بعضهم: الرحمن بجلائل النعم، والرحيم بدقائقها.
وقال بعضهم: الرحمن في الأولى، والرحيم في الآخرة.
وقال بعضهم: الرحمن في ذاته، والرحيم في أفعاله.
وهذا من أوجه التفسيرات، لأنك قد تلتقي بطبيبٍ يرى مريضاً فيُسرع إلى إنقاذه أمام ملأٍ من الناس، إنقاذُ هذا المريض يُكسِب الطبيب سُمعةً طيبة، فنقول: هذا العمل رحيم، لكن الطبيب لا ينطوي على رحمةٍ في قلبه، لكنه فعَلَ هذا ابتغاء السُمعة، فهو رحيمٌ، لكنه لم ينطلق في عمله من رحمةٍ في قلبه. 

الرحمة الشيء الذي يرتاح له الإنسان فالله سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا:


فهناك فرقٌ بين الرحمن والرحيم، الرحمن في ذاته، والرحيم في أفعاله، ذاتُه رحيمة، وأفعاله رحيمة، الرحمن الرحيم، والرحمة شيءٌ يبعث الراحةَ في النفس، فالمطر من رحمته، تهطل الأمطار، تمتلئ الينابيع، ينبُت النبات، تُثمِر الأشجار، نأكل، ترخص الأسعار، فهذا من رحمته، والأبناء من رحمته، يملأُ سكون البيت، ويبعثُ الأُنس في البيت، وإذا كبر الابن يُعين والديه، فالابن رحمةٌ من الله.

﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)﴾

[ سورة الأنبياء ]

وهبنا له، فالرحمة كل شيءٍ يرتاح له الإنسان، فأن تعمل هذه الأجهزة عملاً منتظماً، فهو من رحمة الله، وأن تأكل طعاماً مغذيِّاً لذيذاً فهو من رحمة الله، وأن تشرب ماءً عذباً فراتاً فهو من رحمة الله، وأن تسكن إلى زوجةٍ، تُطيعك إذا أمرتها، وتسرُّك إذا نظرت إليها، وتحفظك إذا غبت عنها، فهو من رحمة الله، وأن ترى طفلاً كالملاك يتحرك في البيت، فهو من رحمة الله، وإن كان لك عملٌ يدرُّ عليك دخلاً فهو من رحمة الله، وإذا ذهبت إلى بستانٍ فمتَّعت النظر بجماله فهو من رحمة الله، وإذا هبَّت نسماتٌ لطيفةٌ عَطَّلت عمل المكيفات، فهو من رحمة الله، وإذا كان الدفء فهو من رحمة الله، فالرحمة الشيء الذي يرتاح له الإنسان، فالله سبحانه وتعالى خلقنا ليرحمنا.

﴿ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(119)﴾

[ سورة هود ]

ليرحمنا في الدنيا، ويرحمنا في الآخرة، أمّا أن يقول الإنسان: سبحان الله، خلقنا الله ليعذبنا، هذا كلام الشيطان، ما خُلقت يا أخي للعذاب، بل خُلقت للرحمة، كي يُسعدك في الدنيا والآخرة.

الله تعالى خلقنا ليرحمنا هذا هو الهدف الإلهي الكبير:


حتى في الدنيا إذا آمنت بالله يُمتِّعك إلى حين، ويؤتي كل ذي فضلٍ فضله، حتى الدنيا فيها سعادة، وفيها سرور، لمن أطاع الله عزَّ وجل: 

﴿ مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)﴾

[ سورة النساء ]

خَلَقَنا ليرحمنا هذا هو الهدف الإلهي الكبير، ولكن العذاب الذي يُعذبنا الله به من صنع أيدينا، من معاصينا، من ضلالنا، من انحرافنا، من طُغياننا، مِن بُعْدِنا، من تقصيرنا، حتى الهمُّ يهتم له الإنسان من تقصيره 

(( إذا قَصَّرَ العبدُ في العملِ ابتلاهُ اللهُ بالهَمِّ ))

[  الألباني السلسلة الضعيفة ]

بعضهم قال: هذه البسملة ينبغي أن تدور مع الإنسان في كل نواحي حياته، وفي كل نشاطاته، إذا قام ليتوضأ، إذا دخل البيت، إذا قام ليأكل، إذا قام ليشرب، قمت لتأكل فقلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) النبي أمرنا بالوضوء قبل الطعام، ووضوء الطعام ليس وضوءاً كاملاً، غسل اليدين والفم فقط. 

((  برَكةُ الطَّعامِ الوضوءُ قبله، والوضوءُ بعده ))

[ أخرجه أبو داوود والترمذي وأحمد ]

أجمع العلماء على أن وضوء الطعام غير وضوء الصلاة، وضوء الطعام غسل اليدين والفم، كنت في الطريق، غبار، صافحت إنساناً، أمسكت بحذائك، يعني هذه اليد أمسكت بأشياءٍ كثيرة، بركة الطعام الوضوء قبله، فلو قمت إلى الطعام وقلت: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) قف، اذهب واغسل يديك وفمك، هذا معنى (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) .

تسمية الفاتحة بعدة أسماء:


﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)﴾

[ سورة الفاتحة ]

الآن نبدأ بالفاتحة، الفاتحة سمَّاها النبي عليه الصلاة والسلام الصلاة، لقوله: (لا صلاةَ لمن لم يقرَأْ بِهَا)
وفي الحديث القدسي:

((  إن اللهَ تعالى يقولُ: قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفينِ، نصفُها لي ونصفُها لعبدي ولعبدي ما سألَ، فإذا قالَ:{الحمدُ للهِ ربِّ العالمين } قالَ اللهُ: حمِدني عبدي، وإذا قالَ: {الرَّحمنِ الرَّحيمِ } قالَ اللهُ: أثنى عليَّ عبدي، وإذا قالَ:{مالكِ يومِ الدينِ } قال اللهُ عز وجل: مجّدني عبدي، وفي روايةٍ فوَّضَ إليَّ عبدي، وإذا قالَ:{إياكَ نعبدُ وإياكَ نستعينُ } قال: فهذه الآيةُ بيني وبين عبدي نصفينِ ولعبدي ما سألَ، فإذا قالَ:{اهدنا الصراطَ المستقيمَ صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضالينَ} قال : فهؤلاءِ لعبدي ولعبدي ما سألَ ))

[ صحيح مسلم ]

فالفاتحة سُمّيَّت الصلاة.
شيءٌ آخر: سُمّيَّت الفاتحة سورة الحمد، لأنها مُصدَّرةٌ بالحمد لله رب العالمين، وسُمّيَّت فاتحة الكتاب لأنَّ القرآن الكريم افتتح بها، وسُمّيَّت أُم الكتاب، وأُم الشيء أصله، ربنا عزَّ وجل قال: 

﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ۗ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7)﴾

[ سورة آل عمران  ]

ففي الفاتحة آياتٌ مُحكمات، وقد سمَّاها النبي عليه الصلاة والسلام أُم الكتاب، وسُمّيَّت أُم القرآن، فقد قال عليه الصلاة والسلام: 

(( الحمدُ للَّهِ ربِّ العالمينَ أمُّ القرآنِ، وأمُّ الْكتابِ، والسَّبعُ المثاني  ))

[ أخرجه البخاري وأحمد والدرامي ]

وسُمّيَّت الشفاء، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: 

(( فاتحةُ الكتابِ شفاءٌ مِن كلِّ داءٍ ))

[ الألباني ضعيف الجامع ]

وسُمّيَّت الأساس، أساس الكتاب القرآن، يعني أساس الكتُب السماوية القرآن، وأساس القرآن الفاتحة، وسُمّيَّت الوافية، وسُمّيَّت الكافية، فقد قال عليه الصلاة والسلام: 

(( أمُّ القرآنِ عوضٌ عن غيرِها وليس غيرُها منها عوضٌ ))

[ أخرجه الحاكم والثعلبي ]

وقد ورد في تفسير القرطبي: " إن جميع القرآن فيها " .
وقد رويَ عن الحسن البصري رحمه الله: "جُمِع القرآن في الفاتحة، وجُمِعت الفاتحة بإيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" .
هذه السورة الكريمة مُصدَّرةٌ بقوله تعالى: (ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
النبي عليه الصلاة والسلام قال كما قلت قبل قليل: (إنَّ اللَّهَ ليَرضى مِن العبدِ أن يأكُلَ الأَكلَةَ فيحمَدَهُ عليها ويشرَبَ الشَّربَةَ فيحمَدَهُ علَيها)

الحمد على النعمة أفضل من النعمة نفسها:


وسأتلو عليكم حديثاً شريفاً، يبعث في أنفسكم الطمأنينة هو: 

(( الحمدُ على النعمةِ أمانٌ لزوالِها ))

[ الألباني السلسلة الضعيفة ]

أيَّةُ نعمةٍ تحمد الله عليها لن تزول، ولن تضيع، ولن تَقِلّ (الحمدُ على النعمةِ أمانٌ لزوالِها) وهناك حديثٌ دقيقٌ جداً، يقول عليه الصلاة والسلام:

(( ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً فقال الحمدُ للهِ إلا كان الذي أعطاهُ أفضلَ مما أخذ ))

[ أخرجه ابن ماجه والطبراني والبيهقي ]

كيف؟
يعني إذا أعطاك الله نعمة الصحة، وكنت شديداً عتيداً قوياً نشيطاً كالحصان، لا بُدَّ من سنواتٍ تمضي وتمضي حتى يأتي الأجل، ويموت الإنسان، فأين هذه النعمة؟ زالت، لكنك إذا حمدت الله عليها، وارتقتْ نفسُك وسَمَتْ، سعدت بحمدك إلى الأبد، إذاً الحمد على النعمة، (ما أنعم اللهُ على عبدٍ نعمةً فقال الحمدُ للهِ إلا كان الذي أعطاهُ أفضلَ مما أخذ) .
لو أنك وهِبتَ زوجةً صالحة، فأعانتك على متاعب الحياة، وحصَّنتك، وسكنت إليها، لا بُدَّ من ساعةٍ تفارقها، أو تفارقك، إمّا أن تفارقها أولاً، وإمّا أن تفارقك أولاً، لكنك إذا حمدت الله على نعمة الزوجة الصالحة، فإنّ هذا الحمد تسعَدُ به إلى أبد الآبدين.
لذلك الشعبي قال: لقيَ شُريحاً القاضي، فقال: يا شُريح كيف حالك في بيتك؟ قال: منذ عشرين سنةً لم أجد ما يُنغِّص حياتي، أو يُعكِّر صفائي، قال: وكيف ذلك؟ قال: خطبتُ امرأةً من أسرةٍ صالحة، فلمّا خلوت بها، صلّيت ركعتين.

أرحم الخلق بالخلق النبي عليه الصلاة والسلام:


سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أرحم الخلق بالخلق، لو جمعت رحمة أمهات الأرض منذ آدم إلى يوم القيامة لا تعادل رحمة النبي بأمته، قال تعالى: 

﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)﴾

[ سورة التوبة ]

((  أرْأَف أمتي بأمتي أبو بكرٍ، وأشدُّهم في دينِ اللهِ عُمرَ، وأصدقُهم حياءً عثمانُ، وأقضاهم عليٌّ، وأفرضُهم زيدُ بنُ ثابتٍ، وأقرؤهم أُبَيُّ، وأعلمُهم بالحلالِ والحرامِ معاذُ بنُ جبلٍ، ألا وإنَّ لكلِّ أمةٍ أمينًا، وأمينُ هذه الأمةِ أبو عبيدةَ بنُ الجرَّاحِ ))

[ أخرجه أبو يعلى والبيهقي ]

أمّا أرحم الخلق بالخلق، النبي عليه الصلاة والسلام، يعني أرحم بك من نفسك، ومع ذلك قال الله عزَّ وجل: 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)﴾

[ سورة آل عمران ]


الرحمة كلها من الله والنبي عليه الصلاة والسلام أوتي طرفاً منها:


(فَبِمَا رَحْمَةٍ) نكرة، ربنا عزَّ وجل قال: 

﴿ وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً(58)﴾

[ سورة الكهف ]

ما الفرق بين "رحمةٍ" المُنكَّرة، و"الرحمة" المُعرَّفة؟ قال هذه الرحمة الثانية، هذه ليست أل التعريف، إنما للاستغراق، يعني الرحمة كلها من الله، والنبي عليه الصلاة والسلام أوتي طرفاً منها. 
الآن الحمد كله لله، ذكرت قصةً قبل شهرٍ أو أكثر، أنَّ الحَجَّاج أمر بضرب أعناق عشرة رجال، فأذَّن المغرب، وبقي رجُلٌ لم تُضرَب عنقه، فقال لأحد وزرائه: خذه إلى بيتك وائتِ به غداً، هذا الرجُل في الطريق قال له: والله لم أخرج على طاعة الأمير، وما آذيتُ أحداً من المسلمين، فهل تأذن لي أن أذهب لأهلي، فأوصي قبل أن أموت، وأرى أولادي، وأكتب وصيتي، فضحك هذا الوزير وقال: أَوَ مجنونٌ أنا؟! فقال: عهدٌ لله إن أطلقتني لأعودَنَّ إلى بيتك الفجر، فما زال هذا الرجُل يُقنعه حتى سمح له، فلمّا سمح له شعر بضيقٍ لا يُحتمل، قال: نمتُ أطول ليلةٍ في حياتي، لأنه سيموت مكانه غداً، ما إن أذَّن الفجر حتى طُرق الباب، وجاء هذا الرجُل الذي عاهده على أن يعود، جاء ليموت، فلمّا كان الغد، ذهب به إلى الحجَّاج فقال له: سأُنبئُك بما حصل البارحة، فلمّا أنبأه قال له الحجاج: أتُحب أن أهبه لك، قال: نعم، قال: إذاً هو لك، يعني ما دام عنده هذا الوفاء عَفَوْنا عنه، فلمّا خرج الرجُل قال له: يا هذا اذهب لوجهك، فهذا الذي عُفيَ عنه لم يتكلم، ولم ينظر إليه، ولم يشكُر، ولم يقُل كلمة، إلا أنه توجه إلى السماء، وقال: الحمد لله.
هذا الذي سعى بإطلاق سراحه، وتخليصه من الموت المُحتَّم، تألم، لو أنه شكرني، قال: ثم جاءه بعد ثلاثة أيام وقال: أحمدُك على عملك، ولكنك حين قلت لي: اذهب لوجهك، كرهت أن أحمَد مع الله أحداً.

الحمد لله رب العالمين أساس معرفة العبد بربه:


الإنسان أحياناً يلوح له شبح مصيبة، كأن يُصاب بورم لم يعرف أهو خبيث أم غير خبيث؟ أجرى تحليلاً، فإذا هو ورم طبيعي، أول شيء قُل: الحمد لله رب العالمين، ولا تحمَد مع الله أحداً.
هناك التهاب في السحايا على وشك الوفاة مع الابن الأصغر، فنجا منها بأعجوبة، لا تقُل: واللهِ الطبيب فهمان، قال لي: اجرِ تحليلاً في وقتٍ مُبكِّر، قُل: الحمد لله رب العالمين، فلذلك الحمد لله رب العالمين، أساس معرفة العبد بربه، هناك حديث دقيق جداً، يقول عليه الصلاة والسلام: 

(( الحَمدُ رأسُ الشُّكرِ، ما شكرَ اللَّهَ عبدٌ لا يحمَدُهُ ))

[ أخرجه البيهقي والبغوي والخطابي ]

قال بعضهم: الحمد حالةٌ نفسية، والشكر سلوك، فليس هناك سلوك شاكر إلا على أساس حالة حمد، فإذا لم يكن عند الإنسان حالة حمد فسلوكه باطل، نفاق، مُداهنة (الحَمدُ رأسُ الشُّكرِ، ما شكرَ اللَّهَ عبدٌ لا يحمَدُهُ) فالحمد أولاً والشكر ثانياً. 

﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)﴾

[ سورة سبأ ]

الشكر عمل (اعْمَلُوا آلَ داود شُكْراً) أمّا الحمد فهو حالةٌ نفسية، أحياناً يقدِّم لك إنسان خدمة، تشعر أنك مُمتَن من أعماقك منه، تُعبِّر عن الامتنان أحياناً بخدمة، أحياناً بكلمةٍ طيبة، أحياناً بقولك جزاك الله عني كل خير، لكن هذا الكلام أو هذه الخدمة، أساسها حالةٌ نفسيةٌ شعَرتَ بها، هذا هو الحمد.

نعمة الرضا أكمل نعمة:


أنت في الصلاة تُصلّي الفرض، الفروض فقط في اليوم سبعة عشر ركعة، ومثلها سُنَن، يعني تقول: الحمد لله في الصلاة حوالي أربعين مرة، هل أنت في مستوى هذه الآية؟ يعني راضِ عن الله عزَّ وجل، راضِ عن صحتك، عن دخلك، عن ضيقك، عن عملك، راضٍ وأنت من أصحاب الدخل المحدود، أم ترى نفسك دائماً أنك محروم، إذا كان دخل الرجُل محدوداً مثلاً، يقضي عمره كله غير راضٍ، يقول لك: بائع فلافل دخله خمسة آلاف بالشهر، وأنا حائز على شهادة ليسانس، ودخلي فقط ألف ومئتان بالشهر تقريباً، فهو دائماً غير راضٍ، أمّا إذا كان مؤمناً وقال: الحمد لله رب العالمين، فليس عنده حرمان أبداً.
نعمة الهدى أكبر نعمة، لو جاءك مئة مليون في الشهر، على ضلال، إلى جهنم، المؤمن بكلمة الحمد لله رب العالمين، راضٍ عن الله عزَّ وجل.
كان الإمام الشافعي ماشياً فاذا برجُلٍ يسبقه يُناجي ربّه ويقول: " يا رب هل أنت راضٍ عنّي؟ فقال الشافعي: يا رجُل وهل أنت راضٍ عن الله حتى يرضى عنك؟" أنت راضٍ عن الله عزَّ وجل؟ هل تقول الحمد لله من أعماقك؟ من أعماق أعماقك؟ أراضٍ أنت وليس عندك إلا بنات فقط، وليس عندك ولا ذَكَر، فهل أنت راضٍ؟ هل رأيت حكمة الله عزَّ وجل أنه يُحبك على هذا، ليس عندك أولاد إطلاقاً، عقيم، راضِ عن الله عزَّ وجل، عندك زوجة سيئة راضِ بها؟ هل ترى أن الله شاءت حكمته أن تكون كذلك؟ لك عمل دخله محدود، هناك مرض عضال مزمن، دائماً تُعاني من بعض الأمراض، هل تقول الحمد لله رب العالمين؟ هذه البطولة.

لَيـسَ مـنْ يَقطعُ طُـرقاً بَطـلاً             إنمـا مـنْ يتَّقِـي اللهَ البَطَـلْ

[ ابن الوردي ]

***

  الحمد لله في السراء والضراء ، في الغنى والفقر ، في القوة والضعف ، في إقبال الدنيا وإدبارها، في الرفعة والضعة، في العز والذل، الحمد لله على كل حال، الحمد لله الذي لا يُحمد على مكروهٍ سواه، المكروه نعمة، لكنه نعمةٌ باطنة.

الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نحمده وألا نحمد أحداً معه:


الله سبحانه وتعالى أمرنا أن نَحمَده ، وأمرنا ألا نحمَد أحداً معه، كيف؟ 

﴿ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)﴾

[ سورة النجم ]

  مثلاً تحاضر محاضراتٍ كثيرة عن زيد وعبيد، لا يستحق الحمد إلا الله، أمّا الإنسان الله أعلم، سيدنا الصدّيق قال: " ذلك علمي به، فإن بدَّل وغيَّر فلا أعلم الغيب" ، عندما اختار سيدنا عُمر، لم يقُل ليس مثله أحد، قال: ذلك علمي به فإن بدَّل وغيَّر فلا أعلم الغيب، الله قال: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) .

(( أنَّ أُمَّ العَلَاءِ -امْرَأَةً مِن نِسَائِهِمْ- قدْ بَايَعَتِ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أَخْبَرَتْهُ أنَّ عُثْمَانَ بنَ مَظْعُونٍ طَارَ له سَهْمُهُ في السُّكْنَى حِينَ أَقْرَعَتِ الأنْصَارُ سُكْنَى المُهَاجِرِينَ، قالَتْ أُمُّ العَلَاءِ: فَسَكَنَ عِنْدَنَا عُثْمَانُ بنُ مَظْعُونٍ، فَاشْتَكَى، فَمَرَّضْنَاهُ، حتَّى إذَا تُوُفِّيَ وجَعَلْنَاهُ في ثِيَابِهِ، دَخَلَ عَلَيْنَا رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، فَشَهَادَتي عَلَيْكَ: لقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ، فَقالَ لي النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وما يُدْرِيكِ أنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ؟ فَقُلتُ: لا أَدْرِي بأَبِي أَنْتَ وأُمِّي يا رَسولَ اللَّهِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أَمَّا عُثْمَانُ فقَدْ جَاءَهُ -واللَّهِ- اليَقِينُ، وإنِّي لَأَرْجُو له الخَيْرَ، واللَّهِ ما أَدْرِي وأَنَا رَسولُ اللَّهِ ما يُفْعَلُ به، قالَتْ: فَوَاللَّهِ لا أُزَكِّي أَحَدًا بَعْدَهُ أَبَدًا، وأَحْزَنَنِي ذلكَ، قالَتْ: فَنِمْتُ، فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْنًا تَجْرِي، فَجِئْتُ إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخْبَرْتُهُ، فَقالَ: ذَلكِ عَمَلُهُ. ))

[ صحيح البخاري ]

نحن بشر، هل تعلمين الغيب؟ قولي أرجو الله أن يكرمه، فلا تُزكّوا على الله أحداً.

الحمد أنواع وقد جُمع كل هذا في الفاتحة :


  لذلك الحمد لله وحده، أمّا البشر (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) ، كانوا قديماً إذا كلفوا إنساناً ليُزكي إنساناً آخر لزواجٍ أو لشهادةٍ، يكتب: أعلَم منه الصلاح والتُقى والله أعلم، معنى والله أعلَم، قد يكون غير ذلك، قد يكون منافقاً، والله أعلم، فالإنسان ليس مُكلَّفاً أن يُقيِّم الآخرين، وليس أهلاً لذلك، ولا يملِك الأداة الصحيحة، وقال عليه الصلاة والسلام: 

(( أنَّ رجُلًا مدَح رجُلًا عندَ ابنِ عمرَ فجعَل ابنُ عمرَ يرفَعُ التُّرابَ نحوَه وقال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: إذا رأَيْتُم المدَّاحينَ فاحثُوا في وجوهِهم التُّرابَ ))

[ أخرجه أحمد والبيهقي والطبراني ]

(( إنّ الله يَغْضَبُ إِذا مُدِحَ الفاسِقُ فِي الأرض  ))

[ الألباني ضعيف الجامع ]

  مثلاً إنسان يشرب الخمر، تقول عنه: أكابر، أخلاقه عالية، لبق جداً، ما معنى قولك لبق جداً؟! أيُّ لباقةٍ هذه على شرب الخمر؟ وعلى ترك الصلاة؟ فهذا الذي يقوله الناس عن بعض الناس، على شربهم للخمر، وعلى تركهم للصلاة، وعلى أكلهم للرِبا، أنّ أخلاقه عالية، لبق، مُهذَّب، هذا كلامٌ باطل (إنّ الله يَغْضَبُ إِذا مُدِحَ الفاسِقُ) .
العلماء قالوا: هناك حمدٌ لذات الله، وهناك حمدٌ له لنعمةٍ سبقت منه، وهناك حمدٌ له لنعمةٍ ترجوها منه، وهناك حمدٌ له خوفاً منه، وقد جُمِع كل هذا في الفاتحة.
الحمد لله لذاته، أحياناً إنسان تحمده من دون أن يُصيبك من خيره شيء، وقف موقفاً أخلاقياً أمامك من شخصٍ آخر، هذا الموقف الأخلاقي تحمَده عليه، مع أنك لست معنياً بهذا الموقف، وقد يُنعِم عليك فتحمده، (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لذاته، (رَبِّ الْعَالَمِينَ) لنعمه، (ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ) لما نطمع من رحمته، (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) خوفاً منه.

الحمد في بادئ الأمر إنشاء وفي نهاية الأمر واقع ثابت:


  بعضهم قال: ربنا عزَّ وجل بدأ قرآنه الكريم بالحمد لله رب العالمين، وآخر كلمة يقولها الناس وهم يدخلون الجنَّة: 

﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)﴾

[ سورة يونس ]

أي أَمَرنا أن نُنشئ الحمد، وفي نهاية الحياة كان الحمدُ واقعاً، أحياناً يقول لك أحد الناس: اشكرني، يعاملك معاملة سوء، أي شُكرٍ هذا؟! أساء لك المُعاملة، لكن ربنا عزَّ وجل أمرك أن تحمَده وبعد أن اتصلت به، وسعدت بقربه تحمَده، تحمده على نعمه التي وقعت، إذاً الحمد في بادئ الأمر إنشاء، وفي نهاية الأمر واقعٌ ثابت.
شيءٌ آخر، الحمد لله على أنه أوجدنا، والحمد لله على أنه بثَّ فينا الروح، والحمد لله على أنه أمدَّنا بالطعام والشراب وكل ما نحتاج، والحمد لله على أنه قوَّمنا، الأمراض والهموم والمتاعب والأحزان، هذه كلها ألفاظٌ خفية من أجل التقويم، هناك نعمة الإيجاد، الخَلق، ونعمة الإمداد، الرزق، ونعمة الحياة الروحية، الهدى، ونعمة التقويم.
نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الهدى، ونعمة التقويم أربعُ نعمٍ كُبرى.

الله سبحانه وتعالى شعر بعجزنا عن حمده فعلَّمنا كيف نحمده:


هناك شيءٌ آخر، الحمد لله على ما أعطى، أن تعرف أنَّ هذه النعمة من الله عزَّ وجل، من تعريف الحمد: أن تعرف مَن أعطاك، وأن ترضى بما أعطاك، وألا تعصي الله فيما أعطاك، هذا من معاني الحمد.
آخر شيء في الحمد، مع أنَّ هذه الآية تنقضي الأيام، ولا ينقضي شرحها، ولكنّ أخذُ القليل خيرٌ من ترك الكثير، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) .
يعني نعمة الهُدى تُعادل نعمة الخَلق، والحمد لله الذي له ما في السماوات والأرض، لو كان لغيره! الإنسان لئيم، الأمر له، لو كان لغيره لمُنع الناس القطر، ولكن الله سبحانه وتعالى يُعلِّمنا أن نحمده.

﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ ۚ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1)﴾

[ سورة سبأ ]

(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) قالوا: جمعت نعمة الهُدى، ونعمة الإمداد، وأكبر نعمةٍ هي أنَّ الله سبحانه وتعالى علَّمنا كيف نحمده.

(( قال موسى عليه السلام: يا رب كيف يستطيع آدم أن يؤدي شكر ما صنعته اليه؟ خلقته بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسكنته جنتك، وأمرت الملائكة فسجدوا له، فقال يا موسى علم أن ذلك مني فحمدني فكان ذلك شكراً لما صنعته له. ))

[  الحكيم عن الحسن مرسلاً ]

نحمد الله بطريقةٍ علَّمنا إياها الله سبحانه وتعالى، شعر بعجزنا عن حمده، فعلَّمنا كيف نحمده.

الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين:


كلمة الحمد لله يقولها الناس في اليوم آلاف المرات، تقول له كيف حالك؟ فيقول لك الحمد لله، وربما يكون ملحداً، لكن إذا وقفت على معانيها تماماً، تذوب محبةً لله على كل شيء، وإذا كان فهمك عميقاً جداً، تحمده على المصيبة: 

(( إنَّ عِظمَ الجزاءِ مع عِظمِ البلاءِ، وإنَّ اللهَ إذا أحبَّ قومًا ابتَلاهم، فمَن رَضي فله الرِّضَى، ومَن سخِط فله السَّخطُ ))

[ أخرجه الترمذي وابن ماجه ]

مصيبة مزعجة، ولعلمك برحمة الله وحكمته، ولطفه، وحرصه على هدايتك، وحرصه على إسعادك، ففي أثناء المصيبة تقول: الحمد لله رب العالمين، على هذه المصيبة، إنها عنايةٌ من الله، أحياناً يقسو المُعلِّم على تلميذه كي يكون الأول في الصف، فإذا صار الأول يحمده على قسوته لا على جوائزه، كذلك إذا عرفت الله حقَّ المعرفة، تحمده على المصائب، قال سيدنا علي كرَّم الله وجهه: "الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين" .
أعلى درجة في اليقين برحمة الله أن ترضى بمكروه القضاء، القضاء الذي لا تحبه، الرضا بمكروه القضاء أرفع درجات اليقين، والحمد كله معرفة، علامة إنك تعرفه، أنك تحمده، تعرفه فتحمده، لا تعرفه لا تحمده.

الملف مدقق

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

نص الزوار

نص الدعاة

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور