وضع داكن
28-03-2024
Logo
العقيدة الإسلامية - الدرس : 03 - التسيير والتخيير - عقيدة الجبر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين , مع الدرس الثالث من دروس العقيدة في رمضان .

الإنسان مسير ومخير في نفس الوقت :

من أخطر موضوعات العقيدة أيها الأخوة ؛ موضوع التسيير والتخيير , فالإنسان حينما يتوهَّم أنه مسير تشلُّ طاقاته ، ويجمد في مكانه ، وينتظر مصيره ، وما من عقيدةٌ أخطر في آثارها السلبية على حياة المسلم من عقيدة الجبر ، أن الإنسان كالريشة في مهبِّ الريح ، ليس له أي اختيار ، تحرِّكه الأقدار ، وله مصيرٌ محتوم مرسومٌ قبل وجوده ، هذه العقيدة لها آثار سلبية في حياة المسلم إلى درجة أن المسلم يصبح جثةٌ هامدة ، يشل ، مع أن الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾

[ سورة الأنعام ]

عقيدة الجبر لا وجود لها ، ولا أصل لها ، بل هي من أخطر العقائد التي شاعت بين المسلمين في عصور التأخُّر ، حتى انتهت بهم إلى الشلل .
الإنسان مخيَّر ، والدليل :

﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾

في الآية الكريمة من سورة الكهف :

﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً ﴾

وفي قوله تعالى في سورة البقرة :

﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾

وقوله تعالى :

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ ﴾

[ سورة البقرة الآية : 286 ]

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾

[ سورة الإنسان الآية : 3 ]

لمجرَّد أن الله أمرك ، أو نهاك ، فأنت مخيَّر ، ينبغي أن تعلم علم اليقين أنه لا يليق بالله عزَّ وجل ، ويستحيل في حقِّه أن ينزل علينا كلاماً لا معنى له ، حينما أمرنا ، أو نهانا .
لو أن الإنسان مسيَّر كلياً ، فالأمر ليس له معنى ، وكنت أضرب هذا المثل المشهور :
لو بنينا جدارين على عرض إنسانٍ بالضبط ، بحيث إذا سار بين الجدارين لامس الجدار الأيمن كتفه الأيمن ، والجدار الأيسر كتفه الأيسر، وقلنا له اتجه نحو اليمين ، هذا الكلام ليس له معنى ،فلا يوجد لديه أي مسافة ولو مليمتراً ليتحرَّك فيها ، مسيَّر بممر على عرض جسمه تماماً ، وقلنا له اتجه نحو اليمين ، فهذا الكلام ليس له أي معنى .
لو أننا آمنا أن الإنسان مسيَّر كلياً , أقول : كلياً ، فالإنسان مسيَّر، ولكن مسيَّر في جانب ومخيَّر في جانب , لو أننا آمنا أن الإنسان مسيَّر كلياً ، لكانت الأوامر والنواهي لا معنى لها إطلاقاً ، وهذا لا يليق بالله عزَّ وجل أن يقول كلاماً لا معنى له ، هذا يترفَّع عنه إنسان ، فكيف بالواحد الديّان ؟
الإنسان مسيَّر ومخيَّر في الوقت نفسه ، إلا أن الحقيقة الكبرى أن تسييره لصالحه ، عبَّر عن هذه الحقيقة الإمام الغزالي فقال :
ليس في الإمكان أبدع مما كان .
أنت مسيَّر , ليس لك خيارٌ في مولدك ، ولا في أبيك وأمك ، ولا في مكان ولادتك ، ولا في زمان ولادتك ، ولا في قدراتك التي أودعها الله فيك ، ولا في البيئة التي وجدّت فيها , هذا كلّه من التسيير، ولكن يجب أن تعلم علم اليقين ، وهذا ما تؤكِّده النصوص الأخرى ، أن المكان الذي ولدت فيه ، والزمان الذي ولدت فيه ، وأن الأبوين الذين كنت من نسلهما ، وأن البيئة التي احتضنتك هي أفضل ظروف من أجل إيمانك ، بيدك الخير المطلق ، هذا هو التسيير .
الآن الله عزَّ وجل كلَّفك أن تؤمن به ، كلَّفك أن تؤمن برسله ، كلَّفك أن تؤمن بكتبه ، كلَّفك أن تؤمن بالقدر خيره وشرّه من الله تعالى .
كلَّفك أن تؤمن , أعطاك مقوِّمات التكليف ، أعطاك عقلاً ، وخلق كوناً ، أعطاك فطرةً ,
فكلَّفك أن تؤمن ، وكلَّفك أن تقيم أمر الله , أعطاك شرعاً نزَّله على نبيّه ، كتاباً وسنةً .
أنت الآن مخيَّر ، مخيَّر في دائرة التكليف ، أما في خلقك ، ومكان ولادتك ، وزمان ولادتك والداك ، ظروفك ، إمكاناتك ، شكلك ، طاقاتك ، هذا أنت فيه مسيّر ، إلا أن هذا التسيير لصالحك ليس في الإمكان , ولا نقول : ليس في إمكان الله , بل : ليس في إمكانك أبدع مما أعطاك .
الآن كلَّفك بالإيمان ، وكلَّفك بالطاعة ، كلَّفك بالعلم ، وكلَّفك بالعمل , الآن أنت مخيَّر فيما كلِّفت , توجد دائرة أنت فيها مسيَّر ، والدائرة الأخرى أنت فيها مخيَّر ، لذلك كلُّ الأوامر والنواهي أنت فيها مخيَّر .

التسيير نحو المعالجة , تأديب وتكريم :

هناك تسيير آخر , بعد أن تختار الخير أو الشر ، الطاعة أو المعصية ، الاستقامة أو الانحراف ، العدل أو الحيف , الظلم ، اخترت .
ومثال مصغَّر على ذلك :
أنت تاجر بإمكانك أن تستقيم في المعاملة ، وبالإمكان أن تغُشَّ الناس ، لو أنَّك اخترت أن تغُشَّ الناس ، وأن تحصِّل أموالاً طائلة من طريقٍ غير مشروع ، وأنت متمكِّن , أي أن البضاعة مطلوبة ، والذين يشترونها ليسوا على علمٍ دقيق بمصدرها ، ولا خصائصها ، فقد قمت بتزوير بعض الوثائق , وأوهمت الناس أن هذه البضاعة من المصدر الفلاني ، وبيعت .

فقد حدثني أخ : يأتون بقطع لبعض الأجهزة من أدنى المستويات ، يضعون عليها لصاقة تشير إلى أرقى الماركات ، و اللصاقة محكمة ، صار في التقليد إتقاناً كبيراً ، وتباع هذه القطع على أنها من أرقى مصدر , فلو أن إنسان اختار الغش ، اختار أن يحصِّل ربح حرام .
فالآن , يوجد تسيير ثاني , إذا أراد ربُّك إنفاذ أمرٍ أخذ من كلِّ ذي لبٍ لبَّه ، الآن الله يستدرجك إلى شيء لا يرضيك .
فأنت مسيَّر قبل أن تكلَّف ، ومسيَّر بعد أن كلِّفت ، ومسيَّر للمعالجة ، أو لدفع الثمن ، فإذا الإنسان استقام يسيَّر لصالحه ، وإذا كان غير مستقيم يسيَّر لتأديبه ، فأنت بين الإكرام والتأديب بعد أن كلِّفت ، وبعد أن خيِّرت ، جاء دور المعالجة ، والمعالجة تكريم ، أو تأديب ، فإذا أراد ربُّك إنفاذ أمرٍ أخذ من كلِّ ذي لبٍ لبَّه ، فبعد أن تختار شيئاً ما لوقتٍ قصير تفقد كل خبراتك ، وتتخذ قرار في منتهى الحمق ، فالإنسان أحياناً يدمِّر نفسه لأنه اختار الإساءة ، الله يعالج .
هناك نقطة بالغة الأهمية وهي , لو كان لديك شركة ، وأعلنت لحاجتك لموظفين ، وجاء موظَّف ، بالإمكان أن تمتحنه لفترة شهرين ، فإن لم يكن في المستوى اللائق طردّته ، لو كان هذا الموظف ابنك وغلط ، ماذا تفعل ؟ هل تسجل هذه الغلطة عليه ؟ أم أنك تنصحه ، وتبيَّن له الصواب ؟ فالرحمة تقتضي التربية ، فالله عزَّ وجل كان من الممكن , فهو خلقنا ، وأعطانا حرية اختيار ، أنزل الكتب ، بعث الأنبياء ، نصب الآيات ، أعطاك عقل وفطرة ، وانتهى الأمر ، ويوم القيامة يحاسبك , لكن هذا الشيء بعيد عن الرحمة ، أما الرحمة يعالجك أولاً بأوّل ، كل ما وجد خطأ وجدت المعالجة ، مع كل خطأ له معالجة ، مع كل انحراف هناك تقويم ، مع كل شطت هناك تصحيح ، الرحمة تقتضي التربية ، لذلك أنت مخيَّر ، وفي نفس الوقت مسيَّر , مسيَّر للمعالجة ، وكم من إنسان ، بل إن معظم المؤمنين ساقهم الله إلى الدين عن طريق تربيةٍ حكيمة ، لولا التربية الحكيمة ما ساقهم إلى الدين ، وهذا معنى قول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( أدبني ربّي ))

نحن نؤدَّب دائماً ، يتكلَّم كلمة غير صحيحة ، يقف موقف غير صحيح يأتيه العقاب ودرجة عالية جداً في الإيمان أن تفهم على الله , أحياناً يأتي تأديب ، إن ربطته مع ذنبٍ اقترفته فهذه حالة عالية جداً في الإيمان ، أنت دائماً تراقب الله عزَّ وجل ، أنه لماذا فعل هذا ؟
ما من عثرةٍ ، ولا اختلاج عرقٍ ، ولا خدش عودٍ إلا بما قدَّمت أيديكم ، وما يعفو الله أكبر .
لعل أحدكم يقول , فماذا نفعل بالآيات التي تقول :

﴿ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾

[ سورة إبراهيم الآية : 4 ]

لك أن تفهم فاعل يشاء يعود على الإنسان ، من شاء الضلالة يضلّه الله ، ومن شاء الهدى يهديه الله .
ولك أن تفهم أن بعض الأفعال لو فتحنا معاجم اللغة ، ما معنى قوله تعالى : أضلَّه ؟ فطبعاً الفهم الأولي الساذج أن الله عزَّ وجل خلق فيه الضلال , لا ، وجده ضالاً ، عاشرت هذه القبيلة فما أجبنتهم ، أي ما وجدّتهم جبناء .

﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا ﴾

[ سورة الكهف الآية : 28 ]

قد نتوهَّم لضعفنا في اللغة أن فعل أفعل ، وزن أفعل ، أو صيغة أفعل ، أو وزن أغفل أي خلق فيه الغفلة , فليس كذلك أبداً , أغفل أي وجده غافلاً .

﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً ﴾

[ سورة الكهف ]

لو أنك وجدت آيةً يشمُّ منها أن الله خلق الإنسان ضالاً ، العلماء قالوا : هذا الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري , احفظوا هذه القاعدة ، الضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري ، يؤكِّد هذا قوله تعالى :

﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾

[ سورة الصف الآية : 5 ]

يتوضَّح هذا بمثل , طالب جامعي لم يقدِّم الامتحان ، ولم يداوم ولا محاضرة ، جاءه إنذار من إدارة الجامعة بوجوب الدوام ، وتقديم الامتحان ، لم يُعر بالاً لهذا الإنذار , إنذار ثاني ، وإنذار ثالث , ثم صدر قرار بترقية قيده ، هذا القرار تجسيد لرغبته ، حينما امتنع عن الحضور للامتحان ، وامتنع عن الدوام ، وجاءه الإنذار تلو الإنذار ، وأصرَّ على موقفه ، جاء القرار تجسيداً لرغبته بالانسحاب من الجامعة ، فلو قال هذا الطالب : هم طردوني , أنت لم تداوم ، ولم تدرس ، ولم تقدِّم الامتحان ، ولم تستجب للإنذار الأول ، والثاني ، والثالث ، هذا القرار هو اختيارك ، هذا معنى قول الله عزَّ وجل :

﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾

فإذا قرأت آياتٍ كثيرة يشمُّ منها رائحة الجبر ، فاعلم أن هذا هو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري , يجب أن تعلم علم اليقين أنَّك مخيَّر ، مخيَّر في جانب ، ومسيَّر في جانبٍ آخر ، أنت مخيَّر فيما كلِّفت ، ومسيَّر فيما لا تستطيع ردَّه , كل واحد منا له بيئة ، له إمكانات ، له شكل معيَّن ، له طاقات ، له ظروف أحاطت به .
وأحياناً تسلب إرادته إلى وقتٍ قصير ، يشتري صفقة يفلِّس من خلالها ، يكون هذا تسيير ، وأحياناً بصفقة أخرى يصبح أغنى الأغنياء ، هذا تسيير ، فالله عزَّ وجل يسيِّر الإنسان ، يسيِّره لدفع ثمن اختياره ، يسيِّره لمعالجته ، يسيِّره لمكافأته ، يسيِّره لتأديبه .

الإنسان والعلاقة الكامنة بأنه مخير:

أيها الأخوة ؛ جيء برجل إلى سيدنا عمر لعلَّه شارب خمر ، فقال : أقيموا عليه الحد , قال : والله يا أمير المؤمنين إن الله قدَّر علي ذلك , أي ليس لي ذنب في فعل ذلك , والعجيب العجيب أن كل الناس يُعزرون ذنوبهم إلى الله , يقول لك : هكذا الله يريد ، هذا ترتيب سيدك ، كل أخطاؤه يفسِّرها بهذا التفسير ، حتى هناك كلمات هي كفر ، كأن يقول : حتى شارب الخمر الله قدَّر عليهم ذلك ، أو يقول : طاسات معدودة في أماكن محدودة ، لا تعترض تنطرد ، حتى لو رأى إنسان عاصي يقول : هكذا الله قدَّر عليه ، ليس له ذنب ، ولكن الله قدَّر عليه شرب الخمر , هذا الكلام كله خلاف القرآن ، هذا كلام يجب أن يركل بالأقدام .
فقال : أقيموا عليه الحد , فقال : والله يا أمير المؤمنين إن الله قدَّر علي ذلك , فقال: أقيموا عليه الحد مرتين , مرةً لأنه شرب الخمر، ومرةً لأنه افترى على الله , وقال له : ويحك يا هذا إنَّ قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار .
أنت مخيَّر ، لو ألغينا الاختيار ألغينا حقيقة الإنسان ، لو ألغينا الاختيار ألغينا التكليف ، لو ألغينا الاختيار ألغينا حمل الأمانة ، لو ألغينا الاختيار ألغينا الثواب , والعقاب , والجنة , والنار .
لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب ، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب ، إنَّ الله أمر عباده تقريراً ، ونهاهم تحذيراً ، وكلَّف يسيراً ، ولم يكلِّف عسيراً ، وأعطى على القليل كثيراً ، ولم يعص مغلوباً ، ولم يطع مكرهاً .

القيمة الحقيقية لكلمة مخير :

الشيء الدقيق :

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾

[ سورة السجدة الآية : 13 ]

أي أنتم يا عبادي إذا توهَّمتم أنَّكم مجبورون على معاصيكم أنتم واهمون ، لو أردت أن أجبركم على شيءٍ ما ، لما أجبرتك إلا على الطاعة والهدى ، إذا كان من الممكن , وهذا ليس موجوداً , أن يجبرك الله على شيءٍ ما ، وأن يلغي اختيارك ، يلغي تكليفك ، يلغي هويَّتك ، إذا كان من الممكن أن يجبرك الله على شيءٍ ما ، ما أجبرك إلا على الهدى ، لكنَّ الهدى الذي تجبر عليه لا يسعدك إطلاقاً ، ولا قيمة له إطلاقاً .
أي رئيس جامعة ، أو أي عميد كلية من الكليات بإمكانه أن يوزِّع أوراقاً على الطلاّب عليها إجابة كاملة ، ومطبوعة ، وما على الطالب إلا أن يكتب اسمه ورقمه فقط ، والعلامة التامة مائة ، فالنتيجة أن كل الطلاب ناجحين بمرتبة الشرف الأولى ، مائة على مائة ، فهل هذا النجاح القسري له قيمة ؟ إطلاقاً ليس له قيمة , لا عند الناس ، ولا عند الناجحين ، ولا عند إدارة الجامعة .
لو أن الله ألغى اختيارنا ، وألغى هويّتنا ، وألغى التكليف ، وألغى الأمانة ، وأجبرنا على كل شيء ، لما أجبرنا إلا على الهدى فقط .

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾

ولكن هذا الهدى الذي يأتيك قسراً لا قيمة له إطلاقاً ، ولا يسعدك ، ولا يرقى بك .
فمثل بسيط , لو شخص معه كيساً من الفاكهة , موظَّف بسيط له مدير عام بدائرته وهو موظف كبير , فهذا الموظَّف الصغير قدَّم هذا الكيس من الفاكهة إليه لهذا الموظَّف الكبير ، يظل شهراً وجهه مبيضاً لأنه قدَّم له هدية ، مثلاً .
لو أن هذا الكبير أشهر على هذا الموظف الصغير سلاحه وقال له : أعطني هذا الكيس . فقدَّمه له , في الحالتان قدمه له , في الحالة الثانية هذا العمل ليس له قيمة إطلاقاً .
يوجد شيء اسمه تثمين العمل ، فالعمل لا يثمَّن من دون اختيار ، ليس له قيمةً أبداً ، فكل شيء فيه قهر ، وجبر ، فقد قيمته .

﴿ وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾

[ سورة السجدة الآية : 13 ]

قال الله تعالى :

﴿ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ﴾

[ سورة الرعد الآية : 31 ]

﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾

[ سورة النحل الآية : 93 ]


معنى ذلك أنه ألغى اختياركم ، معناها ألغى هويتكم ، فأنت المخلوق الأول ، أساس سعادتك أن تأتي الله طائعاً ، أن تأتي الله بمبادرةٍ منك ، أما إن كان هناك قهراً و جبراً فالدين بذلك انتهى لذلك: 

﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ﴾ 

[ سورة البقرة الآية : 256 ]

كثير كانت هناك حالات من الصحابة الكرام دُعوا إلى الإيمان ، وفي ظرف معيَّن رفضوا فلما أصبحوا مخيَّرين آمنوا .
عقيدة الجبر من أخطر العقائد في الدين ، وأخطر شيء فيها آثارها السلبية ، فالإنسان يشل حينما يتوهَّم , والإنسان إن عمل عملاً طيباً يقول : أنا عملت ، وفعلت .
أما أعماله السيئة يقول : هكذا الله قدَّر علي , فهذا الإنسان غير موضوعي ، وغير منصف ففي الأشياء الإيجابية يدعي فعلها ، ويعزوها إلى ذاته ، وفي الأشياء السلبية يعزوها إلى الله عزَّ وجل ، هذا الشيء غير صحيح ، فأنت مسؤول : 

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ 

[ سورة الحجر ]

أنت مسؤول مسؤولية كاملة .

والحمد لله رب العالمين

بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا ، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وأرضى عنا ، وصلّى الله على سيدنا محمد النبي الأمّي ، وعلى آله وصحبه وسلَّم 

تحميل النص

إخفاء الصور