وضع داكن
25-04-2024
Logo
ومضات من تفسير القرآن الكريم - الدرس : 9 - من سور التحريم وهود وآل عمران والنور ، كيف علمنا النبي بأفعاله.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد الله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الإنسان مسؤول مسؤولية شخصية عن إيمانه و عمله و طاعته :

 أيها الأخوة الكرام؛ مع بداية الدرس التاسع من دروس التفسير في رمضان، ربنا جلّ جلاله يعلمنا بكلامه، ويعلمنا بأفعاله، ويعلمنا بخلقه، فإن تأملت في خلق السموات والأرض عرفته، وإن نظرت إلى أفعاله عرفته، وإن قرأت كلامه عرفته.
 اليوم نتحدث عن أفعاله، ربنا عز وجل يقول:

﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ ﴾

[سورة التحريم:10]

 هذه الآية تبين أن الإنسان مسؤول وحده عن إيمانه، ولا ينفعه أن يكون أقرب إنسان إلى النبي، هل من إنسان أقرب إلى إنسان من زوجة إلى زوجها؟ أي أقرب العلاقات، وأشدّ العلاقات علاقة الزوجين، اندماج كامل، ومع ذلك زوجة نبي كانت كافرة، لن يشفع لها أن زوجها نبي، قال تعالى:

﴿ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئاً﴾

[سورة التحريم:10]

 هذه حالة، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام:
 يا فاطمة بنت محمد، يا عباس عم رسول الله، أنقذا نفسيكما من النار أنا لا أغني عنكما من الله شيء.
 بالمقابل امرأة صدّيقة، أو أربع نساء كملت في الأرض؛ السيدة آسيا كانت زوجة فرعون، وما أدراك ما فرعون بجبروته، وطغيانه، وقهره، وكفره، ما استطاع أن يغير شيئاً في زوجته، ماذا نفهم من هذا؟ أن المرأة مسؤولة مسؤولية شخصية عن إيمانها، ولا يعفيها من المسؤولية أن زوجها يحملها على معصية، الآن معظم النساء غير المنضبطات إن سألتهن تقول: هكذا يريد زوجي، هذا كلام مردود، مهما كان الزوج كافراً لن يكون كفرعون، ومع ذلك قال تعالى:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾

[سورة التحريم:11]

 لا المرأة معذورة أن تطيع زوجها في معصية، ولا النبي الكريم يمنع عذاب زوجته الكافرة.
 شيء ثان؛ نبي كسيدنا نوح، نبي كريم ابنه كافر، قال تعالى:

﴿ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾

[سورة هود : 42-43 ]

 إذاً الإنسان مسؤول مسؤولية شخصية عن إيمانه، وعن عمله، وعن طاعته، ولا يعفيه من هذه المسؤولية أن يكون أقرب إنسان إلى أقدس إنسان، لو أنك استطعت أن تنتزع من فم النبي وهو الصادق المصدوق، وهو المعصوم، والذي يوحى إليه فتوى لصالحك ولم تكن محقاً لن تنجو من عذاب الله.
 أيها الأخوة؛ هذا ينقلنا، السيدة عائشة اتهمت في شرفها، وهي أطهر زوجة على وجه الأرض، وزوجها النبي، ولحكمة بالغة بالغة تأخر الوحي أربعين يوماً في رواية، وثلاثين يوماً في رواية ثانية، تأخر عن إنزال براءتها، ما معنى ذلك؟ أن المرأة المستقيمة الطاهرة العفيفة هي عند الله على ما هي عليه، ولو أن الناس تطاولوا عليها، هي إذاً أسوة لكل امرأة شريفة طاهرة كاد لها الكائدون، و تآمر عليها المتآمرون، الله جلّ جلاله هو الحق و لا بد من إظهار الحق.

 

أفعال الله و أقواله و خلقه كلها تعليم :

 يبدو أن المرأة المظلومة في سمعتها قدوتها السيدة عائشة، و أن الأب الذي يتألم لانحراف ابنه و لم يقصر في توجيهه قدوته سيدنا نوح، و أن الزوجة الطاهرة المستقيمة التي لها زوج فاجر قدوتها آسيا، و أن الزوج الكريم الذي له زوجة لا ترضي الله قدوته سيدنا نوح، و سيدنا لوط، و الله جعل نبياً كريماً يدخل السجن، قد يكون بالسجن إنسان مظلوم، فأن يكون نبي كريم في السجن فهذا جبر لخاطر كل المساجين البريئين، نبي كريم دخل السجن، و إذا إنسان لا يوجد عنده أولاد عقيم نبي كريم كان عقيماً، تجد نبياً كان عقيماً، نبي كان ملكاً، نبي كان راعي غنم، غنى و فقر، صحة و مرض، سيدنا أيوب كان مريضاً، لكن لا كما يقول المفسرون نقلاً عن الإسرائيليات: لا ينبغي أن يكون مرض النبي منفراً، يوجد صحة و يوجد مرض، يوجد ملك و يوجد ضعف، يوجد زوجة سيئة، و يوجد زوج سيئ، و يوجد ابن سيئ، و يوجد إنسانة متهمة بشرفها و هي بريئة، الله جلّ جلاله في هذه القصص يعلمنا لا بكلامه بل بأفعاله، أفعاله تعليم، و أقواله تعليم، و خلقه تعليم، فالآيات الكريمة قوله تعالى:

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾

[سورة التحريم:11]

مشيئة الله هي الحكيمة :

 شيء آخر؛ امرأة عمران قال تعالى:

﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾

[سورة آل عمران : 35-36]

 كل طموحها أن يأتيها غلام تهبه إلى بيوت الله عز وجل، جاءتها بنت، أحياناً أنت ترى الخير في الوظيفة، أو في التجارة، أو في السفر، أو في الإقامة، أنت تريد وغيرك يريد، والله يفعل ما يريد، مشيئة الله هي الحكيمة، جاءتها بنت اسمها مريم كانت أماً لنبي كريم سيدنا عيسى، لذلك قالوا: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، سيدنا موسى ذهب ليقتبس قبساً من نار، فكلمه الله عز وجل، أحياناً لقاء عابر يكون سبب هدايتك، أحياناً تجبر على سفر، في هذا السفر سبب هدايتك، أحياناً تجبر على وظيفة، إنسانة متفلتة كما سمعت أجبرت على تدريس مادة ليست مختصةً فيها، قرأت أمام الطالبات آيات الحجاب وهي غير محجبة فاستحيت من الله، فبكت بكاءً شديداً، ثم كانت توبتها من خلال هذا الإجبار على تدريس مادة ليست من اختصاصها.
 كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، ابن آدم كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، كن لي كما أريد ولا تعلمني بما يصلحك، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد.

 

الفرق بين التوحيد و المسؤولية :

 ربنا عز وجل يعلمنا من خلال أفعاله، هؤلاء كلهم قدوة، اتهمت في شرفها وحديث الإفك، مرة ذكرت في تفسير سورة يوجد اثنتا عشرة حالة كان من الممكن ألا يكون هذا الحديث، لو أنهم حينما حملوا الهودج شعروا أنه خفيف وليس فيه السيدة عائشة بحثوا عنها فوجدوها التغى الإفك كله، لو أنها لم تفقد عقدها لن تبحث عنه ولكانت إلى جانب هودجها الحديث انتهى، لو أن هذا المتأخر لم يتأخر الحديث انتهى، لو أنه سبقها دون أن يتأخر عنها الحديث انتهى، يوجد عشر حالات أو أكثر ممكن أن يلغى حديث الإفك، لكن الله شاءه قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾

[سورة النور: 11 ]

 وإذا كان هذا من أمر الله ليس معنى هذا أن الذين تولوا كبره معفون من العذاب، والذي تولى كبره له عذاب شديد، فالتوحيد لا يلغي المسؤولية، أي طبيب أخطأ وقال: هذا ترتيب الله للمريض، هذا لا يعفيه من المسؤولية أمام الله عز وجل، التوحيد شيء والمسؤولية شيء آخر، فالوحي تأخر أربعين يوماً لماذا؟ ليعلم الناس جميعاً أن الوحي ليس شيئاً بيد النبي، ليس من عنده، لو كان من عنده بعد دقيقة صاغ آية وأنهى الأمر، لكن الوحي مستقل عن النبي لا يملك جلباً له، ولا دفعاً له.
 إذاً نحن لو تأملنا أفعال الله عز وجل مثلاً الأنبياء ضعاف، جاؤوا ضعافاً، أي إنسان يتهم بأنه مجنون، يتهم بأنه كاهن، يتهم بأنه ساحر، يتطاول عليه، ينكل بأصحابه على مرأى منه، ولا يفعل شيئاً، لماذا جعله الله ضعيفاً؟ لو جعله الله ملكاً فجاء بهذه الدعوة لخضع له كل الناس خوفاً من قوته، أراد الله أن يكون الذين آمنوا به قد آمنوا إيماناً حراً منزهاً عن كل ضغط، وعن كل طمع، لذلك النبي الكريم ما معه شيء يعطيه، ولا معه قوة يخوف الناس بها، ضعيف، قوته بالحق الذي جاء به، وهذه حكمة بالغة.

 

النبي الكريم قدوة لكل البشر في أفعاله :

 النبي ذاق الهجرة، الهجرة شيء صعب، إنسان مستقر في بيت، ومستقر في عمل، له معارف، وله أصدقاء، كلامه نافذ، وحوله أتباع، فجأةً يخرج إلى بلد لا يعرفه إطلاقاً، النبي ذاق موت الولد، النبي ذاق تطليق البنات، طلقت بنتاه، النبي ذاق الفقر وذاق الغنى، بالفقر كان صابراً، هل عندكم شيء؟ قالوا: لا، قال: فإني صائم، ذاق الغنى أعطاه وادياً من غنم، قال: لمن هذا الوادي؟ قال: هو لك، قال: أتهزأ بي؟ قال: لا والله هو لك، قال: أشهد أنك رسول الله، النبي ذاق النصر ما تغطرس، ولا تكبر، ولا تجبر، دخل مكة مطأطئ الرأس متواضعاً لله، شاكراً له على هذا النصر، وأذاقه القهر فقال: ربي إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لولا أن النبي ذاق كل شيء، أو لولا أن النبي ذاق كل سلبيات الحياة لما كان قدوةً لنا، لو أنه ما ذاق الفقر، وأمر الفقراء بالصبر، ما قبلوا منه هذا الأمر، وقالوا: لم تذق أنت الفقر لو ذقته لعذرتنا، لكن ذاق الفقر وذاق الغنى، الغنى ما حمله على التساهل في أمر الله، وذاق النصر، وذاق القهر، وذاق المرض، وذاق الخوف، قال: خفت وما خاف أحد مثلي، وأوذيت وما أوذي أحد مثلي، وذاق ألم الهجرة، شخص وصف له مكة بأيام الربيع فبكى النبي قال له: يا أصيل لا تشوقنا، البلد محببة، ترك بلده إلى بلد آخر، ذاق موت الولد، وذاق تطليق البنات، كل شيء ذاقه، لذلك قال تعالى:

﴿ آلَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً ﴾

[سورة الأحزاب: 21 ]

مهمة النبي مهمتان؛ التبليغ و الأسوة :

 أنا الذي أراه أن للنبي مهمتين؛ مهمة التبليغ ومهمة الأسوة، مهمة الأسوة و القدوة أكبر بكثير من مهمة التبليغ، بمعنى أي إنسان طليق اللسان يبلغك، و لكن ليس كل إنسان في مستوى دعوته، فالنبي عليه الصلاة و السلام ما أمر الناس بشيء إلا كان أول سابق له، و لا نهى الناس عن شيء إلا كان أول تارك له، فالذي جعل أصحابه يتعلقون به أنهم رأوا قرآناً يمشي، القرآن كون ناطق، و الكون قرآن صامت، و النبي قرآن يمشي، رأوا الفضائل مجسدة بشخصه، رأوا صدقه و أمانته و عفافه، رأوا كل شيء فيه، لذلك الآن نحن لسنا بحاجة إلى معلومات نظرية، عندنا فيض لا ينتهي، لسنا بحاجة إلى مؤلفات، لسنا بحاجة إلى مظاهر إسلامية صارخة، عندنا منها كل شيء، نحن بحاجة إلى إنسان مؤمن نراه بعيننا، متحرك أمامنا، كماله صارخ، صدقه، أمانته، عفافه، وفاؤه، هذا الذي نحن بحاجة له، ربنا عز وجل علمنا بأفعاله، أفعاله غير أقواله، لا توجد امرأة تقول: أنا هكذا يريد زوجي، انتهت العملية، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، تلقيت مرة اتصالاً هاتفياً تقول امرأة: إن زوجها يريد أن تذهب معه إلى البحر، و أن تسبح معه أمام زملائه بثياب البحر، و إن لم تفعل طلقها، قلت لها ببساطة: ليطلقك، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، طبعاً لم يطلقها.
 الإنسان عندما يقف موقفاً حازماً و جازماً و قوياً هذا دليل امرأة فرعون، فرعون الذي قتل أبناء بني إسرائيل، و استحيا نساءهم، ما استطاع أن يغير زوجته، فالإنسان علاقته بالله عز وجل، لا يوجد إنسان ينفع إنساناً، قال تعالى:

﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلَا رَشَداً ﴾

[سورة الجن: 21 ]

 الذي ينفع هو الله عز وجل، إذاً الله عز وجل يعلمنا بأفعاله غير كلامه.

 

تحميل النص

إخفاء الصور