وضع داكن
16-04-2024
Logo
ومضات من تفسير القرآن الكريم - الدرس : 5 - من سورة الكهف - الآية 79 ، حكمة أفعال سيدنا الخضر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

الاستسلام لأمر الله عز وجل و أفعاله :

 أيها الأخوة الكرام؛ الله سبحانه وتعالى معه حكمة الأمر التكويني، له أمر ونهي، وله أفعال، أفعاله حكيمة ورحيمة، أفعاله يصعب أن نعرف كل فعلٍ، أن نكشف في كل فعلٍ حكمته، ولكن ينبغي أن نستسلم، فربنا عز وجل في هذه السورة الكريمة وفي هذه القصة بين سيدنا موسى وسيدنا الخضر بيّن أن الشيء الذي يبدو لك غير مقبول، غير معقول، بعيد عن الرحمة.
 صاحب سفينة صالح، أركب سيدنا الخضر وسيدنا موسى في السفينة، سيدنا الخضر خرق السفينة، بلا سبب، بلا مبرر، ردّ على إحسانه بالإساءة، هذا خلاف الأمر التكليفي، سيدنا موسى معه الأمر التكليفي، الله عز وجل قال:

﴿ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ ﴾

[ سورة الرحمن: 60]

 فما تحمل، خُرقت حدود الله عز وجل، فاعترض عليه، قال:

﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾

[ سورة الكهف: 79]

 حينما خرقها عابها، فلما عابها نجت من المصادرة، انظر إلى هذا الفعل ظاهره غير مقبول، غير محمول، غير أخلاقي، لكن الحقيقة بهذا الخرق نجت السفينة من المصادرة.
 ثلاث قصص، بناء الجدر، وقتل الغلام، وخرق السفينة، الأعمال الثلاثة بعيدة عن المنطق، بعيدة عن منهج الله عز وجل، بعيدة عن القبول، لا تحتمل، لما جاء التفسير أصبحت مقبولة، أصبحت معقولة، أصبحت وفق منهج الله، فربنا عز وجل لا نستطيع نحن أن نكشف حكمة كل فعل من أفعاله، سهل جداً أن نفهم كلامه، أو أن نعي شرعه، أو أن نحفظ أمره ونهيه، أما أن نستطيع أن نفسر كل تصرفاته، فهناك حالة واحدة يمكننا من خلالها أن نفسر كل هذه التصرفات أن يكون لنا علم كعلمه، وهذا مستحيل، إذاً لا بد من أن نستسلم، هذه القصص الثلاث مؤداها أن تستسلم لله عز وجل، انظر، خرق السفينة لصالح أصحاب السفينة، وقتل الغلام لصالح الغلام ولأبويه، وبناء الجدار لأصحاب الكنز الذي تحتهما، الأعمال الثلاثة لا تقبل، ولا تعقل، ولا تحتمل.
 إذاً قس على هذا كل شيء تراه في الحياة الدنيا لم تره معقولاً، لم تره مقبولاً، غفلت عن حكمته، لن تستطيع أن تعرف حكمة كل أمر إلا إذا كان لك علم كعلم الله، وهذا مستحيل.

 

بالعقل البشري نصل إلى الله و لكن لا نحيط به :

 أخواننا الكرام؛ هذا ينقلنا إلى شيء، العقل البشري مهما كان متفوقاً لن يستطيع أن يحيط بالله عز وجل، بالعقل البشري تصل إلى الله، لكن لا تحيط به، بمعنى أن هذا العقل عاجز عن إدراك حكمة الله في كل أفعاله، إلا أن كتاب الله عز وجل من خلال عقلك تستطيع أن تثبت أن هذا كلام الله، فإذا أثبت أنه كلام الله الله عز وجل أخبرك:

﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾

[ سورة النساء: 77]

﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾

[ سورة النساء:124]

 ولا:

﴿ قِطْمِيرٍ ﴾

[ سورة فاطر: 13]

 الفتيل خيط بين فلقتي نواة التمرة، خيط رفيع، ما قيمته؟ هل له قيمة؟ يسعّر؟ يقترض؟ الفتيل هو خيط بين فلقتي النواة، والنقير أحد رؤوسها المؤنفة، كالإبرة، النقير، والقطمير غشاء رقيق، وهذه الثلاثة لا قيمة لها إطلاقاً، قال الله عز وجل:

﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾

[ سورة النساء: 77]

﴿ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾

[ سورة النساء:124]

﴿ قِطْمِيرٍ ﴾

[ سورة فاطر: 13]

﴿ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ﴾

[ سورة غافر : 17]

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾

[ سورة العنكبوت: 40]

 هذه التأكيدات من الله عز وجل ألا تكفي؟ أنا أربأ بالأخوة الكرام أن يسلكوا مسالك وعرة، هذا الكون يدل على حكمة الله، وعلى علمه، وعلى كماله، وعلى رحمته، وهذا القرآن كلامه، وهذا الذي جاء بالقرآن نبيه، هناك أشياء ثلاثة عقلك قادر على أن يثبتها مئة في المئة، أما عقلك فلا يستطيع أن يفهم حكمة المجاعات في العالم، حكمة الحروب، حكمة الأمراض، هناك أفعال لله عز وجل نحن نستسلم لحكمته، وعدله، ولطفه، أما تفسيرات تفصيلية فلا نملك أن نفسرها، ربنا عز وجل وضع بين أيدينا ثلاث حوادث، لا تقبل، ولا تعقل، ولا تحتمل، فلما جاء التفسير أصبحت مقبولة، معقولة، ومحتملة، أي العلم حرف، والتكرار ألف، فأنت قس كل شيء لا تراه مقبولاً على هذه القصص.

 

الحكمة من القصص في القرآن أن تكون نبراساً لنا في حياتنا :

 ليس معنى هذا أن سيدنا الخضر أعلم من سيدنا موسى، ولكن اختصاص هذا غير اختصاص هذا، الاختصاص لا يعني التفوق، سيدنا الخضر مختص بمعرفة حكمة أفعال الله عز وجل، سيدنا موسى مختص بعلم الشريعة، بالأمر التكليفي، الأمر التكليفي تناقض في الظاهر مع الأمر التكويني، فلما جاء التفسير تطابق الأمر التكليفي مع الأمر التكويني، وأصبحت هذه القصة نبراساً لنا، حتى الإنسان في كل وقت، وفي كل زمان، يجب أن تعلموا علم اليقين أنه لا يعقل أن تكون القصة في القرآن الكريم من أجل أن نقرأها، وأن نستمتع بها، هذا دون مستوى كلام الله، كلام الله أكبر من ذلك، هذه القصة من أجل أن نستنبط منها حقيقة تكون نبراساً لنا في حياتنا، لا يوجد شخص من أخواننا الكرام إلا عنده أسئلة، يعرف شخصاً صالحاً لكنه فقير، صالحاً لكنه مريض، صالحاً جداً أصيب بمرض خبيث، ما حكمة ذلك؟ كل سؤال قفز إلى ذهنك اعرضه على هذه القصص الثلاث، ترتاح نفسك، لأن حسن الظن بالله ثمن الجنة.

(( يا داود ذكر عبادي بإحساني إليهم، فإن النفوس جبلت على حبّ من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها))

[ ورد في الأثر ]

 أنت لن تستطيع أن تقبل على الله إلا إذا رأيت كماله.
 أنا مرة- سأذكر لكم هذه القصة فقط توضيحاً لهذه الحقيقة- رجل استوقفني في أحد أسواق دمشق، وحدثني عن رجل خرج من بيته ليكسب قوت أولاده، فتح دكانه كان هناك مشاجرة بين اثنين في أحد الأسواق، سمع إطلاق رصاص فمدّ رأسه فإذا برصاصة تصيبه في النخاع الشوكي، ويصاب بالشلل فوراً، ماذا قال لي هذا الأخ؟ قال لي: أنت تخطب في جامع النابلسي؟ قلت له: نعم، قال: فسر ذلك؟ ماذا فعل هذا؟ نزل من بيته ليكسب رزق أولاده فما ذنبه حتى يصاب بالشلل؟ قلت: والله لا أدري، وليس من الممكن أن أدري، هذه أفعال الله عز وجل، له حكمة، أنا أعرف الحكمة العامة، أن كل أفعاله رحمة، وحكمة، وعدل، ولطف، أما تفسير هذا فلا أعلم، شاءت حكمة الله أن يلتقي بي أخ كريم يسكن في أحد أحياء دمشق، ويذكر لي قصة عرضاً، هو لا يدري ماذا حصل معي، قال لي: لنا جار معه مال لأولاد أخيه الأيتام، وقد اغتصب هذا المال منهم، ورفض أن يؤديه لهم، ماذا يفعلون؟ شكوه إلى أحد علماء دمشق توفي رحمه الله، فجمع العم مع أولاد الأخ، وصار يقنع العم بأداء ما عليه لأولاد أخيه، رفض العم أشدّ الرفض، انزعج الشيخ فالتفت إلى أولاد الأخ وقال: يا بني هذا عمكم لا يليق بكم أن تشتكوا على عمكم في القضاء- المبلغ ضخم، المبلغ يساوي ثمن بيت، وهم بلا بيت- هذا لا يليق بكم، ولكنكم اشكوه إلى الله، فقال لي هذا الأخ: في اليوم التالي له محل في أحد أسواق دمشق نزل ليفتح محله، فسمع إطلاق رصاص فمدّ رأسه فجاءت رصاصة فأردته مشلولاً، هو نفسه الذي حدثني عنه التاجر.
 العرض الأولي غير واضح، فعلاً إنسان بريء خرج من بيته ليفتح دكانه حتى يؤمن رزقاً لأولاده، عمل شريف، وعمل نبيل، وعمل مشروع، ما ذنبه أن يصاب بالشلل؟ لأنه مدّ رأسه ليرى ماذا يحدث، كل شيء بقدر، لكل شيء حقيقة:

((لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه ))

[أخرجه البزار عن أبي الدرداء]

حسن الظن بالله ثمن الجنة :

 هذه القصة قصة الخضر وسيدنا موسى يجب أن تكون نبراساً لنا، إياكم أن تظنوا أنها قصة نقرؤها للمتعة، نقرؤها كي نستنبط منها حقيقة خطيرة، هي أن الشيء الذي لم تدركه، وغاب عن ذهنك، وجهلت حكمته، ولم تعرف مبرره، ولا مسوغه، ولا هدفه، ولا باعثه، ينبغي أن تستسلم لله عز وجل، وأن تقيسه على هذه القصص، وهناك حوادث والله لا تنتهي، لكن المشكلة أقولها لكم، كل واحد منا بحكم علاقاته، أعماله، مطلع على قصتين، ثلاث، أربع، خمس، القصة من أول فصل لآخر فصل، حكمة ما بعدها حكمة، عدل ما بعده عدل، رحمة ما بعدها رحمة.
 قصة أذكرها كثيراً أخ من أخواننا الآن غائب، له أب اشترى مع عمته بيتاً، هذا البيت اشتروه قبل عشرين سنة بمئتي ألف، صار ثمنه عشرين مليوناً، الأخ دفع نصف البيت عداً ونقداً، لكنه باسم أخته لأنها جمعية تعاونية، الأخت عندما رأت أن البيت أصبح بعشرين مليوناً قالت لأخيها: تأخذ مليون وتخرج؟ ليس لك في البيت شيء، توسل إليها، رجاها، هو دافع نصف ثمن البيت، عنده أربعة عشر ولد، أين يذهب بهم؟ موظف دخله محدود، القصة طويلة، أنا اطلعت عليها فقرة فقرة بحكم الأخ الذي بلغني في النهاية أن عمته استطاعت أن تخرج أخاها من البيت، والأولاد شردوا بين أسرتين، والأغراض بالمستودعات، شيء مأساوي، هذه العمة بعد حين، بعد أن تملكت البيت أصيبت بمرض خبيث، فجاء ابن أخيها وقال لي: عمتي أصيبت بمرض عضال، التي أخرجتنا من البيت وشردتنا، واغتصبت نصف ثمن البيت، قلت له: خير إن شاء الله، وأنا بذهني أن هذا الأمر قد يمتد سنتين، يفاجئني بعد ثلاثين يوماً بأن عمته قد ماتت، وذهبت بنفسي لإلقاء كلمة في البيت في المزة إكراماً لابن أخيها، البيت فخم جداً وكبير، من وريثها الوحيد؟ أخوها وأولاد أخيها، عادوا إلى البيت، خذ آخر فصل، امرأة مسكينة، مرض خبيث أقضّ مضجعها، آلمها، سحقها، ليس معنى ذلك أن كل واحد معه مرض مذنب، لا، إياكم أن تفهموا هذا الكلام، هناك حالات، فالله قصمها قصماً، لو تعرف القصة تقول: سبحان الله! قُصمت في شهر، وأصبحت تحت أطباق الثرى، وتبدأ المعالجة هناك، والحساب هناك.
 فكل واحد منا يعرف قصة، قصتين، ثلاث، أربع، خمس، من أول فصل لآخر فصل، ويسمع عن مئة ألف قصة، يجد مصائب، وفقراً، وذلاً، وفقد حرية، ومشكلات، وطلاقاً، وخيانات، هذه القصص لا ينبغي لك أن ترويها إطلاقاً إلا إذا عرفت كل فصولها، قسها على هذه القصص؛ على قتل الغلام، وخرق السفينة، وبناء الجدار، مؤدى هذه القصة هذا أن تحسن الظن بالله، وأن تستسلم له، وأن تعلم أن أفعال الله كلها خير، وأن الله عز وجل ماذا يفعل بعذابنا إن شكرنا وآمنا؟

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾

[ سورة النساء : 147 ]

(( ما من عثرة، ولا اختلاج عرق، ولا خدش عود إلا بما قدمت أيديكم وما يعفو الله أكثر))

[ أخرجه ابن عساكر عن البراء ]

﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾

[ سورة الشورى: 30]

تحميل النص

إخفاء الصور