وضع داكن
25-04-2024
Logo
حديث + موضوع علمي - الدرس : 07 - قوة الحجة لاتعفي صاحبها المسؤولية - الدباء.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

النبي بشر وتجري عليه كُل خصائص البشر :

 أيها الأخوة الكرام؛ لازلنا في صحيح البخاري وهو أصح الكتب بعد القرآن الكريم:

((عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ، بِذَلِكَ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا ))

[البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ]

 أول نقطة: النبي عليه الصلاة والسلام بشر، ولولا أنه بشر تجري عليه كُل خصائص البشر لَما كان سيّدَ البشر، هناكَ من يُضفي على النبي الكريم صِفاتٍ بعيدة عن البشرية، عِندئذٍ ليسَ قدوةً لنا، أي أنا أريد قدوة يعيشُ ما أعيش، ويتحمّل ما أتحمّل، ويتمنّى ما أتمنّى، لكنه انتصر على نفسِهِ فكانَ قدوة لي، لولا أنه بشر تجري عليهِ كُل خصائص البشر لَما كانَ سيّدَ البشر، قال عليه الصلاة والسلام عن نفسهِ

(( لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يَخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلا لِبِلالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبِطُ بِلالٍ ))

[أحمد عن أنس بن مالك]

 إذاً هو يجوع، ويخاف، ويتأذّى، لأنّهُ بشر وتجري عليه كُل خصائص البشر، وقد انتصر على نفسِهِ فكانَ سيّدَ البشر، ولولا أنّهُ بشر لَما كانَ قدوةً لنا أبداً، لو أنّهُ لا يشتهي النساء ليسَ قدوةً لنا، إنهُ يشتهي النساء كما يشتهي أيّ رجل النساء، ومع ذلك كانَ قِمّةً في العِفّة، وكانَ قِمّةً في الانضباط، لأنهُ يُحبُ المال كما يُحبُ أحدُنا المال، لكنّهُ انتصرَ على نفسِهِ فلم يأخذ من المال إلا ما كانَ مشروعاً وأنفقهُ بسخاء.
 فيجب أن تعلموا أنَّ النبي عليه الصلاة والسلام بشر، لأنّهُ بشر كان سيّدَ البشر، ولا يُمكن أن يكونَ القدوةُ إلا بشراً، لو كانَ النبي ملَكاً، الكلمة التي تُقال لَهُ كُلّ دقيقة: أنتَ ملَك ونحنُ بشر.. لا.. جاءَ النبيُ بشراً مثلنا، هذه النُقطة الأولى، أي إذا ألغيت بشريّتهُ فقد ألغيت قدوتهُ، وإن ألغيت بشريّتهُ فقد ألغيت أنّهُ مثل أعلى لنا، فلابُدَّ من أن يُعاني ما نُعاني، أن يتمنّى ما نتمنّى، أن يشتهي ما نشتهي، لكنّهُ كانَ يُمثِّلُ الكمالَ البشري.

 

الإنسان مفطور على حبّ الكمال :

 النقطة الثانية: الإنسان مُصمم أو بالتعبير الحديث مُبرّمج أو مجبول على الكمال، فإذا انحرف عن الكمال اختل توازُنهُ الداخلي، هذهِ النُقطة الدقيقة جداً، أي مجبول، مُبرمج، مُصمم على الكمال، أيّ إنسان حتى فرعون، أيّ إنسان، قالَ الله عزّ وجل:

﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾

[سورة الروم: 30]

 ما من إنسانٍ على وجه الأرض إلا ويُحب الكمال ويكره النقص، هذهِ جِبلّةُ الله عزّ وجل، لولا هذهِ الفِطرة ليسَ هناك كآبة أساساً، الكآبة أكبر مرض في المجتمع الشارد عن الله، ليسَ هناك منهج، وليسَ هناك دين، وليسَ هناك قيّم، لكن يوجد كآبة، ما هي الكآبة؟ هي ردّ الفِطرة على الانحراف، الإنسان مفطور فِطرة سليمة حينما ينحرف تُصيبُهُ الكآبة، أي فِطرتُهُ تُعذبهُ، جِبلّتُهُ تُعذبهُ، فأوضح مثل أنَّ هذه السيارة مُصممة لطريق مُمهّد، فلو سِرتَ بِها في طريقٍ وَعِر حطمتها ولم تُفلح، ولم تُسرع، لأنها مُصممة للطريق المستوي، فإن سِرتَ بِها في طريقٍ كُلهُ أكمات وحُفر ما حققت المُراد منها، فالأصوات المزعجة، والوقف المُفاجئ، والعطَب الخطير فيها بسبب أنكَ أخرجتها عن برمجتِها، أخرجتها عمّا هيَ لَهُ.
 فالإنسان مفطور على حُبِّ الكمال، أيّ إنسان، وكُل الأمراض النفسية، وكُل الكآبات، والشعور بالذنب، والشعور بالنقص، مُركّب النقص في الإنسان حينما يخرجُ عن فِطرَتِهِ، لذلك الإنسان قد يصل إلى أعلى مرتبة مالية وهوَ مُعذّب، قد يصل إلى أعلى منصب وهوَ مُعذّب، قد يصل إلى أكبر حجم علمي أو مالي أو إداري وهوَ مُعذّب، ما لم يتعرّف إلى الله ويصطلح معه وينسجم مع فِطرتِهِ، ما لم ينسجم مع فِطرتِهِ لن يسعَدَ أبداً، واذهب إلى أي مكان تشاء تجد الغِنى الذي يفوقُ حدَّ الخيال، ومع ذلك أصحابُ هذهِ الأموال يبحثونَ عن شيء ضائع، هذا أدقّ كلام، إنسان في أعلى مرتبة اقتصادية، حجمُهُ ملايين كبيرة من الدولارات، ومع ذلك يبحث عن شيء ضائع، وَصَلَ إلى كُل المُتع الرخيصة، مُنغمس فيها إلى قِمّة رأسِهِ، يبحثُ عن شيء ضائع، وَصَلَ إلى أعلى مكانة، يبحثُ عن شيء ضائع، هناكَ فراغ لا يملؤهُ إلا أن تعرِفَ اللهَ، وأن تصطَلِحَ معَهُ، وأن تنسجِمَ مع فِطرَتِكَ التي فُطِرتَ عليها.

 

قضية الفِطرة قضية دقيقة جداً :

 قضية الفِطرة قضية دقيقة جداً، أوضح آية في الفِطرة:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾

[سورة الشمس: 7-8]

 هي حينما تفجُر تعلمُ أنها فاجرة، وحينما تتقي تعلمُ أنها تقيّة، هذا الشعور الفِطري لا يحتاج إلى تعليم، ولا إلى توجيه، ولا إلى قراءة كتاب، من دون أيّ جُهد الإنسان يعرف نفسهُ على صواب أم على خطأ، يعرف نفسهُ على حق أم على باطل، يعرف نفسهُ مُحسن أم مسيء، يعرف نفسهُ خبيث أم صالح، أحياناً الإنسان عندهُ قُدرة، هناك قُدرات تعلّمناها في علم النفس، القُدرة على أن تظهَرَ بحجمٍ أكبر من حجمِك، القُدرة على أن تظهَرَ أخلاقياً وأنتَ لستَ كذلك، أن تظهرَ حضاريّاً وأنتَ لستَ كذلك.
 ذكرت قصة عبر مجيئي من آخر رحلة أنَّ أباً عِندهُ عشرة أولاد، أحد أولادِهِ ذكيٌ جداً، وبِقدرِ ذكائِهِ خبيثٌ جداً، وبِقدرِ خُبثِهِ أنانيٌّ جداً، وبِقدرِ أنانيّتِهِ منافِقٌ جداً، عِندَهُ قُدرةٌ على أن يظهرَ بأعلى مظهر علمي حضاري أخلاقي، لكنَّ هذا لا ينطلي عليه ولا على الله، لا تستطيعُ أن تكذِبَ على الله، ولا أن تكذِبَ على نفسِك، وأهم شيء اللهُ عزّ وجل ونفسك، فعلى قدر ما استطعت إقناع الناس بأنكَ إنسان عظيم هناكَ انهيار داخلي، هناكَ احتقار للذات، فلذلك الإنسان مفطور فِطرة بحيث إذا خَرَجَ عنها يتعذّب، يشعُر بالكآبة، يشعُر بالضيق، يشعُر بالملل بالسأم، يشعُر أنّهُ يبحثُ عن شيء ضائع، وهذا شعور كُل إنسان حقق نجاحاً في الدنيا كبيراً جداً، والنجاح على ثلاثة: إمّا نجاح إداري، أو نجاح مالي، أو نجاح علمي، إنسان يحمل أعلى شهادة في العالم، أو إنسان يجمع أكبر ثروة في العالم، أو إنسان يشغل أكبر منصب في العلم، ومع ذلك سقط سقوطاً مُريعاً في الوحل، سمعتُم عن فضائِحِهِ التي عُرِضت على الإنترنت، فأعلى منصِب وأعلى مال وأعلى عِلم ومع ذلك عندما خَرجَ عن فِطرَتِهِ صارَ هُناكَ عذاب، صارَ هُناك ضيق، صارَ هُناك كآبة.
 فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام جاءَ بالحق المُسعِد، الآن واحد من إخواننا الكِرام قد يكون شأنُهُ قليلاً، قد يكون حجمُهُ المالي قليلاً جداً، قد تكون حياتُهُ خشِنة جداً، قد يكون مغموراً اجتماعياً لا أحد يعرِفُهُ لا تحتَ الأضواء، ومع ذلك أسعد الناس، قد يكون لأنّهُ انسجم مع فِطرَتِهِ، تجد حاجباً قد يكون أكثر توازناً من سيّده، سيّدُهُ مدير عام لمؤسسة، وهو حاجب عنده، قد يكون الحاجب لأنّهُ مُصطلح مع الله عِندُهُ سعادة أكبر من سيّدهُ، فالقضية مع الله قضية إخلاص، قضية انسجام مع الفِطرة، فالإنسان عندما يختلَّ توازُنَهُ- كلام دقيق جداً - عندما يخرُج عن فِطرَتِهِ يأكل المال الحرام، يعتدي على إنسان، يُخوّف إنساناً، يبني مجدهُ على أنقاض الآخرين، يبني سعادتهُ على شقائهم، يبني غِناه على إفقارُهم، يبني حياتهُ على موتِهم، يبني أمنهُ على إخافتِهم، هوَ في الظاهر نجح، وصلَ إلى قمة المجد، أمّا في الحقيقة فقد اختل توازُنُهُ الداخلي، وأصعب شيء أن تكون من الداخل مُختلاً، اختل توازنه الداخلي.
 إذا الإنسان اختل توازُنُهُ الداخلي ماذا يحدُث؟ إمّا أنهُ بإمكانهُ أن يُعيد هذا التوازُن بالصُلحِ مع الله مباشرةً، الصُلحة بلمحة، أو يطعن بأهل الحق لكي يُثبت أنهُ لا أحد جيّد، فتجد كُل واحد مُنحرف عِندُهُ رغبة جامحة أن يُسفّه أيّ عمل عظيم، يُصغّر أيَ إنسان أخلاقي، يطعن بنوايا أيّ إنسان مُصلح، عندما يطعن في الآخرين يقوم باستعادة توازُنه، قاعدتُهُ أنهُ لا أحد جيّد، ويقول: أنا مِثلُهم، أمّا عندما يكون الإنسان جيّداً فسوف يُسبب لهُ اختلال توازن، فالإنسان المُنحرف يبحث عن استعادة توازُنِهِ عن طريقِ الطعنِ بأهل الحق، فتجد في المجالس لا همَّ لهم إلا التكلُّم عمن يعمل في الحقل الديني، وقد يكون كلامُهم مُصيباً، لا أُدافع عنهم، لكن ألا يوجد موضوع غيره؟ كيفما اجتمع الناس يتكلّمون على من يعملون في الدعوة، وأنت أليسَ لكَ أخطاء؟ أخطاءٌ كبيرة في الظُلمة، أخطاء صغيرة تحت المِجهر، هذا موقف غير أخلاقي، من أجلِ أن يستعيدَ توازُنَهُ، هذهِ واحدة، أو يصطلح مع الله الثانية، أو يحتاج إلى فتوى.
في آخر رحلة لي أكبر سؤال هناك شيء مُقلِق، هناك عملية ربوية مُقلِقة في شراء المنزل، أينما ذهبت هذا السؤال الأول، يُريد استعادة توازُنِهِ، متضايق، قد فعلها، فعلها وهو متضايق، فإذا الإنسان استطاع أن يتفاهم مع فِطرتِهِ، أن يتفاهم من بُنيته النفسية يكون من أسعد الناس.

 

قوة الحجة لا تعفي صاحبها من المسؤولية :

 الآن: عندنا حديث من أخطر الأحاديث، هذا الحديث لأنَّ أكثر الناس تُريد فتوى، من هوَ المُفتي؟ لو كان المُفتي سيّد الخلق، وحبيب الحق، وسيّد ولد آدم، وقِمّة البشر ولم تُكن أنتَ مُحقّاً لا تنجو من عذاب الله، هذه أهم نُقطة في الدرس، أي اخترت الحديث لأنَّ البارحة جاءني هاتف: أخت كريمة قالت: أنا سمعت فتوى من الأزهر فقمت بوضع أموالي في البنك، لكنني متضايقة وشعرت بنفسي أنني على غلط فهل هناك فتوى؟ لا، وأنتِ على غلط، معنى هذا أن الفِطرة لم ترتح مع أنّ هناكَ فتوى، والقصة طويلة طبعاً وانتهت إلى أنها قامت بسحب الأموال وتابت إلى الله، وكُل شيء أخذتهُ قامت بتوزيعهِ صدقة، أو ليست بصدقة نُسميّها: أجر الوسيط.
 على كُلٍّ الإنسان عندما يعتمد على فتوى قد لا يقنع بِها فتبقى فِطرتُهُ تُعذِبُهُ، هذا الموضوع الحاسم قالَهُ النبيُ عليه الصلاة والسلام، قال:

(( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّهُ يَأْتِينِي الْخَصْمُ فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا))

[البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ]

 عندما أنتَ تسأل عالِماً كبيراً، أو مُفتياً كبيراً، أو إنساناً مُتبحّراً في العلم، هل من المعقول ألا تجد إنساناً مُهماً جداً يسأل شخصاً في جامع ليسَ لَهُ أي منصب؟ ليسَ لَهُ أي إنتاج علمي؟ ليسَ لَهُ أي معرفة؟ يقول لكَ: سألت شخصاً.. ما اسمه؟ يقول لك: لا أعرف اسمه، ولكن قال: لا يوجد بها شيء، معقول أن تبني دينك على فتوى لِشخص لا تعرف ما اسمه؟ هل أي شخص ارتدى عباءة أصبح عالِماً؟ شاهدهُ مرتدياً عباءة فسألَهُ فأجابَهُ فقال: هذهِ لا شيء بِها، تأتي أسئلة عجيبة جداً، أي سوف يبني تخطيط حياته على إنسان لا يعرف ما اسمُهُ،
 فلذلك موضوع الفتوى، لو حصّلت فتوى من سيّد الخلق، لو حصّلت فتوى من أعلم عُلماء البشر وهوَ رسول الله، لو حصّلت فتوى من أخشى الناس إطلاقاً وهو النبي، ولم تكُن مُحِقاً لا تنجو من عذاب الله، موضوع الفتوى استرح منهُ: استفتِ قلبَكَ وإن أفتاكَ المُفتونَ وأفتوك،
 خُذ فتوى وقُم بمناقشَتها، قد يكون عرض الموضوع غير صحيح، قالوا: الفتوى على قدر الوصف، قد تأتي فتوى هي صحيحة بحسب الوصف الذي وصفت به، أمّا الوصف الذي قيل للمُفتي غير صحيح، غير مُطابق للواقع، أنا من عادتي إذا شخص استفتى بقضية أقول له: هذه الفتوى لِكلامك هذا فإن كان الواقع خِلاف كلامك فهذهِ الفتوى باطلة، هذهِ الفتوى لِهذا الوصف، أمّا لو كانَ وصفاً آخر قُمت بإخفائه وأظهرت وصفاً غيره، وأكثر الناس تقريباً يُعطيك وصفاً ويأخذ فتوى كما يُريد، فعلاً واقعة لوجود قواعد، أي إذا شخص فرضاً كانَ مُضطّراً إلى درجة أنّهُ سيفقِدُ حياتهُ يوجد معهُ فتوى، الضرورات تُبيح المحظورات، لكن أيُّ ضرورة !؟ حينما يغلِبُ على يقينِكَ أنكَ ميتٌ، أو يغلِبُ على يقينِكَ أنكَ ستفقِدُ أحدَ أعضائِك، هناك حالات دقيقة جداً يقول: لكَ أنا مُضطّر، هذهِ مُضطّر كلمة مطاطة، ما معنى مُضطّر؟ المُضطّر في الفتوى أي يغلِبُ على ظنِهِ أنهُ يفقِدُ حياتَهُ، أو أحدَ أعضائِه، أو مالهُ كُلّهُ.. هذهِ الضرورة..

 

الفتوى و التقوى :

 أخواننا الكِرام: أنتَ مُصمم تصميماً عالياً جداً، مُصمم لو خرجتَ عن الحق لعذبتكَ نفسُك، فالحل قال عليه الصلاة والسلام:

(( قَالَ زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ فَقَالَ: الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ))

[مسند أحمد، مسند الشاميين]

 البِر ما اطمأنت إليهِ نفسُك، والإثم ما حاكَ في صِدرك، وكرهتَ أن يطّلِعَ عليهِ الناس، أي موضوع الفِطرة في الإسلام موضوع خطير جداً، موضوع الفِطرة يعني أنت مُصمم تصميماً فيما لو خرجتَ عن منهج الله عذبتكَ نفسُك، واللهُ عزّ وجل يُحاسب يوم القيامة حتى الذين كانوا من أهل الفطرة، حتى الذين لم تصلِهُم الرسالات السماوية، هؤلاء يُحاسبون على فِطرتِهم، وعلى عقولِهم، فأنتَ عِندكَ شيئان؛ عِندكَ عقل يكفي أن تعرِفَ الله بِهِ. وعِندكَ فِطرة يكفي أن تعرِفَ خطأكَ بِها.
 إذا عرفتَ اللهَ بعقلِك، وعرفتَ خطأكَ بِفطرتِك، معنى هذا أنك تكون قد عَرفتَ كُل شيء، أي أهلُ الفطرة الذين لم تبلُغهُم رِسالات السماء محاسبونَ على عقلٍ أعطاهُم اللهُ إيّاه يكفيهم أن يعرِفوا اللهَ بِهِ، ومُحاسبونَ على فِطرةٍ تكفي أن يعرِفوا أخطاءهم بِها، فيُحاسبونَ على عقلٍ لمعرفة الله وعلى فِطرةٍ لمعرفة الخطأ.
 فلذلك الإنسان لا يُعلّق كبيرَ أهمية على فتوى يملِكُها، يجب أن تكونَ أنتَ قانعاً بهذهِ الفتوى، وكُل إنسان يتوهّم إن شاء الله في رقبتِهِ، لا تعلّق على رقبتِهِ، تُعلّق في رقبتِكَ وحدك، أي أنا لا دخلَ لي هو أفتاها لي، هذا كلام مُضحك، الإنسان وحدُهُ مسؤول ولا يُحاسب عنهُ أحد:

﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾

[سورة فاطر: 18]

 مع أنّهُ الذي يُفتي خطأً يُحاسَب، لكن المُفتي إذا أفتى خطأً لا يُقلل من عِقاب الذي استفتاه، المُستفتي آثم لا محالة ومُحاسَب ومُعاقَب، فالمُفتي يُضافُ إلى إثمِ الذي اقترف الذنب من أفتى لَهُ بذلك، لكن الوهم المُضحك أنك إذا أخذت فتوى من إنسان فأنا بريء أمامَ الله وهوَ مسؤول، لا، هذا كلام غير معقول، والدليل مع رسول الله، أي هل هناك أعظم من رسول الله؟ ومع ذلك سيّد الخلق قالَ لك:

(( ..فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا))

[البخاري عَنِ ابْنِ شِهَابٍ]

 لا تُحلُ مُشكِلَتُكَ بفتوى، عندنا فتوى وعِندنا تقوى، ابحث عن التقوى ولا تبحث عن الفتوى، وأُطمئِنَكُم هناكَ لِكُل معصية فتوى رسمية ومختومة ولكنكَ لن تنجو من عذاب الله، لو معك فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم.
 هذا الحديث أصل في موضوع الفتوى، الإنسان لهُ فِطرة، والفِطرة سليمة، وهذهِ الفِطرة تُعذِّبُهُ، لأنها تُعذِّبُهُ يبحث عن فتوى، أوضح مثل لو أنكَ أكلت صباحاً قطعة جبنة مع كأس شاي تسألُني ماذا فعلت؟ لا تحتاج إلى سؤال، لم تفعل شيئاً، مالك حلال، وقد اشتريت بهذا المال جبنة وسكر وشاي وأنت على السحور أكلت جبنة وخبزاً، معقول أن تسألني: أنا قلق هل فعلت شيئاً؟ ماذا فعلت؟ أكلت جبنة وخبزاً، لا أحد يسأل لأنها واضحة، فالحلال بيّن والحرام بيّن، أما إذا شيء تملك لَهُ فتوى وأنتَ غير مُرتاح فعندئذٍ تسأل، حينما تضطِربُ النفس تسأل، فسؤالك دليل على أنكَ غير مُرتاح لهذهِ الفتوى، فاعتبر أنَّ الحق قديم في الإنسان، والحق واضح، وأنتَ مجبول جِبلّة عالية، ولا تقنع بِفتوى أنتَ غير مُقتنع بِها أساساً، لا تعتمد على فتوى أنتَ لستَ قانعاً بِها.
 هذه طرفة؛ سألوا شخصاً يفتي أنهُ أنا إذا كنتُ أمشي في جنازة فأين أمشي؟ حسب السُنّة على اليمين أو اليسار أو أمام الجنازة أو وراء الجنازة؟ فقال له: لا تكُن في النعش وسِرَ أينما شِئت.

* * *

الدّباء :

 الموضوع العلمي اليوم: كانَ عليه الصلاة والسلام يُحبُّ الدبّاء - اليقطين - واللهُ عزّ وجل قال:

﴿ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ﴾

[سورة الصافات: 146]

 على سيدنا يونس، و كانَ صلى الله عليه الصلاة وسلم يُحبُّ الدبّاء، والدبّاءُ هو اليقطين، وعن أنسٍ أيضاً قال:

(( رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِمَرَقَةٍ فِيهَا دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ فَرَأَيْتُهُ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ يَأْكُلُهَا ))

[البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ]

 وثَبَتَ في الصحيحين من حديثِ أنس بن مالِك أنَّ خياطاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعامٍ صنعهُ لَهُ، فقالَ أنس:

(( عن إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ أَنَّ خَيَّاطًا دَعَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ فَذَهَبْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَّبَ خُبْزَ شَعِيرٍ وَمَرَقًا فِيهِ دُبَّاءٌ وَقَدِيدٌ، رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَتَبَّعُ الدُّبَّاءَ مِنْ حَوَالَيِ الْقَصْعَةِ فَلَمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبَّاءَ بَعْدَ يَوْمِئِذٍ ))

[البخاري عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ]

 و:

((عَنْ أَبِي طَالُوتَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ يَأْكُلُ الْقَرْعَ وَهُوَ يَقُولُ: يَا لَكِ شَجَرَةً مَا أَحَبَّكِ إِلَيَّ لِحُبِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاكِ))

[الترمذي عَنْ أَبِي طَالُوتَ]

 وحديث:

((يا عائشة إذا طبختم قدرا فأكثروا من الدباء فإنها تشد قلب الحزين؟))

[تخريج أحاديث الإحياء]

 رويناه في فوائد أبي بكر الشافعي.
 وقالَ ابنُ كثير: " وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ، إنَّ الدبّاء يتميّزُ بسُرعةِ نباتِهِ، وتظليلِ ورقِهِ، وأنَّ ورقِهِ لا يقرَبُهُ الذبابُ أبداً. سُرعة النبات، واتساع الأوراق، وأنَّ هذا النبات لا يقرَبُهُ الذبابُ أبداً".
 ابن قيّم الجوزي قالَ عن الدبّاء: " إنهُ باردٌ رطبٌ، ماؤهُ يقطعُ العطش، ويُذهب الصُداع، مُليّن للبطن، شديدُ النفعِ للمحمومين، من ألطف الأغذية وأسرَعِها هضماً".
 ماذا في الكُتب الحديثة عن الدبّاء؟ قال: هوَ غنيٌّ بالسُكريّات والفيتامينات A و B، فيهِ حديد وكلس، وفيه عناصر فعّالة كالقرعين، وفيهِ حوامض أمينيّة كاللوسين، وغير مُهيّج، وهاضم ومُسكن، ورطب ومُليّن، ومُدِر للبول، يطردُ سوائِلَ الوزمات، - سوائِلَ الوزمات ألم يكن سيدنا يونس في بطن الحوت؟ صارَ عِندَهُ وزمات - والانصبابات، ومُطّهِرٌ للصدر والمجاري التنفسية، مُطهِرٌ للمجاري البولية، يُفيد في معالجة التهاب المجاري البولية والبواسير والإمساك وانحباس البول، يُفيد في معالجة الوهن - الضعف - وعُسر الهضم، والتهابات الأمعاء، ويُفيد المُصابين بِالعِلل القلبية، والأرق، ومرضى السُكري، ويُفيد في آفات المستقيم.
 والقاعدة الذهبية: أفضل دواءٍ ما كانَ غِذاءً، وأفضلُ غِذاءٍ ما كان دواء، أي إذا الإنسان أكل كُل شيء، كُل شيء فيهِ دواء لِكل شيء، هذا اليقطين، كُلُّ هذهِ المنافع من اليقطين، فإذا الإنسان استعاض عن الأدوية بالأغذية أفضل دواء ما كانَ غِذاءً، وأفضل غِذاء ما كانَ دواءً.

 

تحميل النص

إخفاء الصور