الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتمُّ التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علّمتنا وزِدنا علماً، وأرِنا الحقَّ حقَّاً وارزقنا اتباعه، وأرِنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتَّبِعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
الحمد حالة نفسية مبنية على معرفةٍ بفضل الله عزَّ وجل:
أيُّها الإخوة المؤمنون: لا زلنا في سورة الفاتحة، وفي الدرس الماضي وضَّحت بتوفيق الله عزَّ وجل، معنى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ومعنى بسم الله الرحمن الرحيم، وشرحنا طرفاً من قوله تعالى:
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)﴾
فكلمة الحمدُ كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( الحَمدُ رأسُ الشُّكرِ، ما شَكَرَ اللهَ عبدٌ لا يَحمَدُهُ ))
فالحمدُ حالةٌ نفسيةٌ مبنيةٌ على معرفةٍ بفضل الله عزَّ وجل، يعني الكلمة الأولى في الإسلام (الْحَمْدُ لِلَّهِ) الحمد لله على إيجادنا، نعمة الإيجاد، فلان الفلاني ابن فلان وُلِد في دمشق عام كذا، مَن أخرجك إلى هذا الوجود؟
﴿ هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا (1)﴾
إذا ولدت عام ثمانية وثلاثين، فأين كنت عام ستة وثلاثين؟ إذا وقع تحت يديك كتابٌ طُبع عام ثلاثين، أين كنت حينما طُبِع هذا الكتاب؟ لم تكن شيئاً مذكوراً، فالحمد لله على نعمة الإيجاد، والحمد لله على نعمة الإمداد، أمدَّنا بكل ما نحتاج، والحمد لله على نعمة الإرشاد، الإيجاد، والإمداد، والإرشاد.
﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ ۚ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)﴾
الحمد مقياس للقرب من الله عزَّ وجل:
فكلمة (الْحَمْدُ لِلَّهِ) إحدى أكبر شعارات المؤمن، الحمد لله على السراء وعلى الضراء، على الصحة وعلى المرض، على إقبال الدنيا وعلى إدبارها، على الغِنى وعلى الفقر، على الزواج، وقبل الزواج، وبعد الزواج، الحمد لله تعني أنك تعرف أن لهذا الكون إلهاً عظيماً، على كل شيءٍ قدير، فإذا حرمك من شيءٍ فهذا حرمان معالجة لا حرمان عجز.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) تعني أن الذي خلقك يُحبك، يُحبك أكثر مما تُحب نفسك، لذلك يُعالجك، ولولا المعالجة لما اهتديت.
فموضوع (الْحَمْدُ لِلَّهِ) موضوعٌ واسعٌ جداً، لكن علماء البلاغة قالوا: الحمد مُسلَّمٌ بها، لكن لمن؟ ربنا قال: لله، كلمة الحمد تقتضي وجود نِعَم، فالنِّعم ظاهرة لا يُنكرها جاحد، حتى الذي يُنكِر وجود الله لا يُنكِر النعم، يقول لك: الطبيعة، استثمار المياه في الطبيعة، استثمار الخيرات، تحسين النسل، هذه موضوعات يعالجها الكفرة أيضاً، فالنِعَم لا يُنكرها أحد، حتى الذين أنكروا وجود الله عزَّ وجل لا يستطيعون إنكار النِعَم، الهواء، الماء، الطعام، الشراب، النبات، الأسماك، الأطيار، الأزهار، هذه الشروط الدقيقة جداً التي خلقها الله عزَّ وجل موافقةً لطبيعتنا، هذه نِعمٌ لا يُنكرها أحد.
ولكن المشكلة في الآية أنَّ الحمدَ لله فقط، أمّا أهل الدنيا يحمدون بعضهم بعضاً، يشكرون بعضهم بعضاً (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فصار الحمد لا يمكن أن تحمد الله إلا إذا عرفته، وقبل أن تعرفه لا تحمده، بل تحمد أنداداً له، تحمد شركاء تظنُّهم شركاءه، فالحمد تقتضي المعرفة، لذلك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، سُمّيَ محمداً لأنه أحمد الخلق قاطبةً، ما من مخلوقٍ خلقه الله سبحانه وتعالى حَمِده أكثر منه، كأنَّ الحمد مقياسٌ للقرب من الله عزَّ وجل، سيد الحامدين كان سيد الخلق، فإسم أحمد، ومحمد، وحامد، هذه كلها من الحمد، والله سبحانه وتعالى خلق لنا النِعم، وعلَّمنا كيف نحمده عليها، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، كيف أثنى الله على نفسه؟ بقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) لذلك النبي الكريم قال:
(( عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له ))
الفرق بين المؤمن وغير المؤمن حالة الحمد التي يعيشها المؤمن:
الحمد لله على كل حال كما قال عليه الصلاة والسلام:
(( كانَ إذا أتاهُ الأمرُ يَسُرُّه قال : الحمدُ للهِ الذي بنعمتِهِ تتمُ الصالحاتِ، و إذا أتاهُ الأمرُ يكرهُهُ قالَ: الحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ ))
[ أخرجه ابن ماجه والطبراني ]
يعني إذا أردت فرقاً أساسياً بين المؤمن وغير المؤمن، لا أقول: كلمة الحمد يقولها الناس جميعاً، بل حالة الحمد، المؤمن يعيش حالةً دائمةً من الحمد لله عزَّ وجل، شاكر، جاء من أسرةٍ فقيرة الحمد لله، رزقه الله زوجةً ليست صالحة، كيف يفهم هذا الأمر؟ يفهم هذا الأمر أنَّ الله سبحانه وتعالى رزقه هذه الزوجة ليُصلحها، ويكسب بها أجراً عند الله كبيراً، رزقه الله أولاداً ذكوراً الحمد لله، إناثاً الحمد لله، ذكوراً وإناثاً الحمد لله، جعله الله عقيماً الحمد لله، له وظيفةٌ متعبة الحمد لله، مريحة الحمد لله، دخْلُها قليل الحمد لله، كبير الحمد لله، ولكن هناك نقطةٌ دقيقةٌ جداً، إيّاكم أن تفهموا من هذا الكلام، أنه في أي وضعٍ تحمد الله عليه، ولا تحاول تحسين هذا الوضع، لا، هذا يتنافى مع أخلاق المؤمن، هو يحاول تحسين وضعه المادي، يحاول تحسين وضعه العلمي، يحاول رفع مستواه في كل الميادين، فإذا بذل كل طاقته، ووصل إلى هذا المستوى، وليس في إمكانه أن يتجاوزه، الحمد لله، هنا الحمد لله.
طالبٌ قدَّم امتحاناً ولم ينجح، الحمد لله، إذا كنت باذلاً جهدك كله فقُل الحمد لله، لكن إذا ما درست فهذا جزاء التقصير، ليس له علاقة بالحمد، هذا جزاء التقصير، عندما يبذل الإنسان كل جهده، ولا يُحقَّق مطلوبه، عندئذٍ (الحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ) .
فكأني أقول: إنَّ الفرق الدقيق بين المؤمن وغير المؤمن، لا أقول كلمة الحمد، بل حالة الحمد التي يَحياها المؤمن، لِمَ لا يحمد الله؟ لأنَّ الله بيده كل شيء، لا إله إلا الله، وهو الغني، لم تهطل أمطار الحمد لله معالجة، وهو القدير على كل شيء، ليس هناك أندادٌ لله عزَّ وجل يمنعونه من تصرفٍ مُعيَّن، هو الغني هو القدير.
النعم لا ينكرها أحد ولكن المشكلة في أن هذه النعم تُعزى لغير الله:
أحياناً أنت تعمـل في دائرة مثلاً، المعلومات تصل إلى من هو فوقك غير صحيحة، يُثنى على المُقصِّر، ويُذم المجتهد، أمّا عند الله عليم، هو الغني، هو القدير، هو العليم، هو السميع، هو القريب، تكلمت أم لم تتكلم، يعلم السر وأخفى، لماذا الحمد لله؟ لأنه لا إله إلا الله أولاً، لا إله إلا الله الغني.
﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21)﴾
لا إله إلا الله القدير، هو الواحد القهار.
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(41)﴾
أحياناً القاضي يحكُم، وهناك قاض أعلى ينقُض حُكمه، لكن (وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) الحمد لله لأنه لا إله إلا الله، والحمد لله لأنه غني، والحمد لله لأنه قوي، والحمد لله لأنه سميع، والحمد لله لأنه بصير، والحمد لله لأنه عليم، والحمد لله لأنه رحيم، فلمَ لا تحمد الله عزَّ وجل؟ الحقيقة إذا عرفت أسماء الله لا تحزن أبداً، لا ترى إلا حكمةً بالغةً في تصرفات الله عزَّ وجل، فالآية في مبدئها أنَّ النعم التي أسبغها الله علينا ظاهرة، وجليَّة، وواضحة، وناصعة، وهي كالشمس، لا يستطيع أحدٌ على ظهر الأرض أن يُنكرها، ولكن المشكلة أنَّ هذه النعم تُعزى لغير الله، جاء قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) .
(( إني والإنس والجن في نبأٍ عظيم أخلُق ويُعبَد غيري، وأرزُق ويُشكَر سواي ))
[ أخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" وهو ضعيف ]
المشكلة أنَّ النِعَم لا يُنكرها أحد، ولكن المشكلة في أنَّ هذه النعم تُعزى لغير الله.
﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ (106)﴾
المؤمن كلما تفتحت بصيرته يرى أن كل من يُقـدِّم له خدمةً في الحياة إنما هي بفضل الله:
قد يرى أنَّ فلاناً الفلاني بيده نفعه وضره، هذا إشراك، قد يرى أنَّ هذه الزوجة ملجأٌ له وملاذ، ولولا أنَّ الله سبحانه وتعالى جعلها سكناً لك، ولولا أنَّ الله سبحانه وتعالى ألقى في قلبها محبتك، أو ألقى في قلبها رجاءك لَمَا خدمتك، فالمؤمن كلما تفتحـت بصيرته، يرى أن كل مَن يُقـدِّم له خدمةً في الحياة، إنما هي بفضل الله، وبإذن الله، والحمد لله وحده.
فلذلك نعمة الصحة، أنا أقول ليس العَجب أن يمرض الإنسان، بل العَجب ألا يمرض، لأنَّ هناك آلاف الآلاف من الشروط، التي يجب أن تتوافر جميعها، كي تقول صباحاً: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأجهزة لديك تعمل، جهاز الهضم، بدءاً من الفم، إلى الُلعاب، إلى البلعوم، إلى لسان المزمار، إلى المريء، إلى المعدة، إلى البنكرياس، إلى الإثني عشر، خلايا الامتصاص في الأمعاء الدقيقة، الأمعاء الغليظة، جهاز التصفية البولية، الكليتين، جهاز القلب، الرئتين، العضلات، العظام، الجلد، هذا كله يعمل بانتظام، الجهاز الودي، النظير الودي، الجهاز العصبي، الجهاز الهرموني، الغدة النخامية، الغدة الدرقية، غدة الكظر، البنكرياس كله يعمل بانتظام، الحمد لله، هذه معجزة، أن تستيقظ صباحاً وتشعر أنك بصحةٍ تامة الحمد لله.
أكلـت طعاماً، مَن خَلَقـَه؟ من سخَّره؟ من جعلـه مناسباً لنا؟ طعماً، ولوناً، ورائحةً، وقِواماً، ومضموناً، وغذاءً، من نَوَّع هذه الأغذية؟ البروتينات، والفيتامينات، والسكريات، والمواد الدسمة، من وزَّعها على هذا الطعام الذي بين أيدينا؟
إذا أكلت لقمة خبزٍ مَن خَلَق القمح؟ الأرض، والقمر، والشمس، والبحار اشتركت في صنع هذا الرغيف، إن شربت كأس ماءٍ من سخَّره لك؟ إذا كان لتر الماء المُحلَّى في دول النفط يُكلِّف ثلاثة ريالات، أيْ عشر ليرات سورية تقريباً، هذا الينبوع ينبوع عين الفيجة الذي سخَّره الله لنا، والذي بلغني مؤخراً، أنه يمتد إلى حدود الإتحاد السوفييتي، هذا أحدث خبر أنَّ هذا النبع يصل إلى حدود الإتحاد السوفييتي، حوضه الجيولوجي! مَن سخَّره لنا ماءٌ عذبٌ فرات؟
الحمد لله على كأس الماء، الحمد لله على رغيف الخبز، الحمد لله على هذه التفاحة التي تأكلها، إيّاك أن تظنّ أنك دفعت ثمنهـا، لا، دفعت ثمن خدمتها، أمّا لو اجتمع أهل الأرض لا يستطيعون صنع تفاحةٍ واحدة، مَن جعل هذه الكميات بكميات معقولة، لو كان التفاح قليلاً جداً، لكان ثمن الكيلو مئتي ليرة، مَن يأكله؟ مَن الذي عمل تناسباً؟ لو أنَّ الدجاجة تبيض في السنة بيضةً واحدة لكان ثمنها ألف ليرة، أمّا إذا كانت تبيض كل يوم بيضة، فثمنها نصف ليرة هذه معقولة، إذاً الحمد لله، الحليب، البيض، الجبن، اللحوم، هذه كلها من نِعَم الله، فهذه النِعَم لا يستطيع أحدٌ أن ينكرها، لكن المشكلة في أنَّ أهل الأرض معظمهم يُعزونها إلى غير الله، فجاء قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
"الحمد لله" كلمة تعني الله المسيِّر:
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) فكلما تعمَّقت في الإيمان، الحركة، السكنة، نظرت إلى ابنك الحمد لله، من جعله بهذه الصورة الحسنة؟ نظرت إلى زوجتك، دخلت إلى بيتك، أشعلت المدفئة، أدرت المروحة، من سخَّر هذه القِوى؟ مَن أودع في الأرض هذه المادة التي تُسمّى الطاقة، وعن طريقها ولِّدَت الكهرباء؟ الحمد لله.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) كلمة لله تعني المُسيِّر، هناك خالقٌ وربٌّ وإله، فالخالق الذي خلق، والربّ هو المُّمِد، والإله هو المُسيِّر، وتقريباً لأذهانكم أقول: هذه السيارة لها معمل صنعها، وتحتاج إلى إمدادٍ مستمر بالوقود والزيت وما إلى ذلك، وتحتاج إلى من يقودها، فالذي يُسيُّرها اسمه المسيِّر، والذي يُمدُّها اسمه الرب، والذي صنعها اسمه الخالق، فإذاً (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أمورك جميعها، صغيرها وكبيرها، عظيمها وحقيرها، دقيقها وكبيرها، بيد الله عزَّ وجل.
﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾
فالحمد لله، هذا هو التوحيد.
فإذا أردتَ أن تُلخِّص الإسلام كله في كلمات، ففي كلمة " لا إله إلا الله"، وكلمة "الحمد لله" هو كل شيء، ويُحمَد على كل شيء، هو الأول، والآخر، والظاهر، والباطن، يُحمَد على كل شيء، والحمد لله الذي لا يُحمَد على مكروهٍ سواه.
ما من حادثٍ يقع، ما من مصيبةٍ تقع، ما من فقرٍ ينزل بإنسان، ما من مرضٍ يلحق بجسم إنسان إلا بأمر الله
﴿ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)﴾
﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166)﴾
هذا هو التوحيد، وهذا هو الحمد، وكأنني بهذه الآية (الْحَمْدُ لِلَّهِ) جمَعَت لا إله إلا الله والحمد لله.
(الْحَمْدُ لِلَّهِ) جمعَت التوحيد والحمد، وهذا هو الدين كله، توحيدٌ وحمدٌ، والمشركين شركٌ وسخطٌ، الكافر السمات العميقة بتفكيره، أول شيء لديه الشرك، فلان، وفلان، وفلان، يرجو فلاناً، يخاف فلاناً، يتمنى رضاء فلان، يحسب لفلان حساباً، يعيش بدوامة الشرك، قلبه فارغ، يكاد قلبه ينخلع خوفاً من فلان، يكاد يذوب حُبَّاً بفلان، النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِن أُمَّتي خَلِيلًا، لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ، ولَكِنْ أخِي وصاحِبِي. ))
ليس هناك إنسان أحبَّ إنساناً على وجه الأرض، هذا ظنّي، كحُبِّ سيدنا أبي بكر لسيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ومع ذلك (الْحَمْدُ لِلَّهِ) .
(لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِن أُمَّتي خَلِيلًا، لاتَّخَذْتُ أبا بَكْرٍ، ولَكِنْ أخِي وصاحِبِي) مَن سخَّر هذا الصديق لهذا النبي العظيم؟ الله عزَّ وجل، لو خُلِق الصدّيق عام ألف وخمسمائة وخمسين لما التقى معه، مَن جعله بعصره؟ الله عزَّ وجل، إذاً الحمد لله رب العالمين.
مَن جمعك بهذه الزوجة؟ الله سبحانه وتعالى هو الذي قدَّر، مَن رزقك هؤلاء الأولاد؟ الله سبحانه وتعالى، من أعطاك هذا الذكاء فحصّلت، وأصبَحَت لك خبرات ترتزق منها؟ الله سبحانه وتعالى، طبيب، محامٍ، مهندس، مُدرِّس، خبير ببعض الحاجات، بيده مصلحة بأعلى مستوى تُدر عليه أرباحاً طائلة، (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لو أنَّ نقطة دم كرأس الدبوس، تجمدت في أحد شرايين الدماغ، لفقدت كل ذاكرتك وخبراتك.
الكافر دائماً ساخط على كل شيء ويشك في حكمة الله:
فلان خبير بهذه المصلحة، عمله نظيف جداً، يقفون عنده بالدور، حتى تتمكن من إنجاز عملٍ عنده تحتاج إلى شهرين، الفضل لله عزَّ وجل، إن كنت طبيباً ناجحاً، أو مُدرِّساً ناجحاً، أو مهندساً ناجحاً، أو تاجراً ناجحاً، أو صاحب معمل ناجحاً، أو كان عندك مشروع زراعي ناجحٌ، أو كنت أباً ناجحاً، أو كنت موفَّقاً في زواجك (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، هذا هو الدين كله توحيدٌ وحمدٌ، الكافر شركٌ وسخطٌ، الكافر دائماً ساخط على كل شيء، متشائم، دائماً يشكُّ في حكمة الله، أحياناً يقول لك: فلان ليس أهلاً للنعمة، يستكثر نعمة الله على بعض عباده، ويستقلها على آخرين، كأنه شاكُّ في حكمة الله، مع أنك لو تعمقت في الأمور وكُشِف الغطاء، وأطلَعَنا الله على كل شيء لقلنا: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
﴿ دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ ۚ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)﴾
تحدث في الأرض زلازل، فيضانات، براكين، وهناك أعمال عنف، وهناك قوي وضعيف، هناك صحة وهناك مرض، هناك فقرٌ مدقع، هناك مجاعات (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، " لو اطلعتم على الغيب لاخترتم الواقع" .
لكن المشكلة أنَّ هذه الحياة الدنيا بالنسبة إلى الدار الآخرة لا شيء، لذلك ربنا سبحانه وتعالى قد يُضحّي بها من أجل الهداية، فإذا أغلق صاحب المحل محله مثلاً، ولديه عامل نسيَ شمعةً مشتعلة، وفي الساعة الثانية ليلاً أبلغوه أنَّ المحل احترق، المحل فيه بضاعة بستة ملايين مثلاً، فإذا بدأ يُصلّي على أثر هذا الحريق، فهذا عند الله حكمةٌ بالغة، أمّا عند الناس ماذا يقولون؟ ليت هذا العامل لم ينسَ الشمعة مشتعلة، هي عند الله حكمةٌ بالغة، لأنَّ هذا المحل بكل هذه البضاعة التي احترقت، إذا أثمر احتراق المحل توبةً لصاحبه، فهذا خيرٌ كبير لا يعلمه إلا عند الموت.
لو كُشفت للإنسان الحقائق لما اختار إلا أن يكون كما كان:
﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)﴾
أي يُكشف عن كل شيءٍ ساقه الله إليك، خجلاً، وصَغاراً، وشعوراً بالخزي والعار.
﴿ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ۖ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)﴾
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، بعض العلماء وقع في حيرة، أيهما أفضل كلمة "لا إله إلا الله" أم "الحمد لله"؟ مُلخَّص المُلخَّص أنَّ الإمام الغزالي قال: " ليس في الإمكان أبدع مما كان " ، بعضهم فهِمَ هذا الكلام فهماً مغلوطاً، ليس في إمكان المخلوق أبدع مما أعطاه الله عزَّ وجل، الذي أعطاك الله عزَّ وجل هو أنسب شيء إليك، ولو كُشِفت لك الحقائق، لما اخترت إلا أن تكون كما كنت.
بعض الناس يتمنى الغِنى، بعض الناس يتمنى الصحة، لو كُشِفت لك الحقائق لن تتمنى إلا أن تكون كما كنت، لأنَّ الله عزَّ وجل يعلم ما كان، ويعلم ما يكون، ويعلم ما سيكون، ويعلم ما لم يكن، لو كان كيف كان يكون؟ لذلك: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
هذه الزوجة أنسب امرأة لك، يقول: الحقّ على أمي، خَطَبتها بسرعة، كانت مستعجلة، رأوها في الليل، وقعوا في الغش، لا ليس الحق على أُمك، ليس في الإمكان أبدع مما كان.
درجةً واحدة كنت سأصبح مهندساً، ليس في الإمكان أبدع مما كان.
آخر اسمٍ، كنت سأوفد في بعثة، ليس في الإمكان أبدع مما كان.
لو نظرت إلى التوحيد لرأيت أنَّ الله وحده بيده كل شيء، قدَّم وأخَّر، وسمح ومنع، يسَّر وعسَّر.
(( اللَّهمَّ لا سَهْلَ إلَّا ما جعَلْتَه سَهلًا وأنتَ تجعَلُ الحَزْنَ سَهلًا إذا شِئْتَ ))
[ أخرجه ابن حبان والبيهقي ]
(( إن اللهَ تعالى إذا أَحَبَّ إنفاذَ أمرٍ، سَلَب كلَّ ذِي لُبٍّ لُبَّهُ ))
[ الألباني السلسلة الضعيفة ]
الذي ساقه الله إليك مبني على علم وحكمة وخبرة ورحمة:
﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)﴾
﴿ مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)﴾
(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) كلما تعمقت في الإيمان ازددت تمثلاً بهذه الآية، كم جزئية في حياتك؟ أعتقد أنَّ في حياة أحدنا خمسين ألف، أو مئة ألف جزئية، نوع بيته، ذاكرته ضعيفة قليلاً، الحمد لله أنسب شيء، معلوماته ما عنده إمكانية لدخول فروعٍ علمية، هكذا خلقني الله، أنا أُحب الحفظ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يعني إمكاناتك الفكرية والجسدية، جعلك طويلاً وقوياً، أو جعلك ضعيفاً، جعلك من أسرةٍ غنية، من أسرةٍ فقيرة، جعلك في بيئةٍ راقية، في بيئةٍ متخلفة، كله " ليس في الإمكان أبدع مما كان "، يعني ليس في إمكاني أبدع مما أعطاني، هذا الذي أعطاك الله عزَّ وجل، لو كُشف لك الغطاء لما اخترت غيره، وقد يكون هذا الشيء طريقك إلى الجنَّة، الفقر هو الهادي.
﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)﴾
إنسان يهتدي عن طريق الفقر، إنسان يهتدي عن طريق المرض، إنسان يهتدي عند موت أحد أقاربه، إنسان يهتدي بمصيبةٍ مؤلمة، إنسان يهتدي بإكرامٍ كبير، هذا الذي ساقه الله إليك مبنيٌ على علمٍ وحكمةٍ وخبرةٍ ورحمة، الحمد لله، لله المُسيِّر الذي لا إله إلا الله، لا مُسيِّر غيره، لا رافع، ولا خافض، ولا معزّ، ولا مُذل، ولا معطي، ولا مانع، ولا قابض، ولا باسط إلا الله عزَّ وجل، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
كل إنسان يتلقى من الله عزَّ وجل تربيتين تربية لجسمه وتربية لنفسه:
الإله نفسه ربُّ العالمين، المُمِد:
﴿ هَٰذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39)﴾
المياه من عطاء الله عزَّ وجل، نهر الأمازون ثلاثمئة ألف متر مكعب بالثانية، نبع الفيجة أحياناً بأيام الخير يفيض، يُلبّي حاجة دمشق بكاملها ويفيض نصف كثافته إلى نهر بردى، ربنا مُمِد أمدَّنا بالماء.
أحياناً يكون هناك شُحٌ في الماء، ترى النباتات صفراء، قال لي صديق: والله دفعت في الأسبوع الماضي خمسمائة ليرة، كل أربعة أيام أدفع خمسمائة ليرة ثمن ماء لسقي المزروعات، فالأمر صعب جداً، وإلا تموت الأشجار، فالذي أمدَّنا بالماء هو الله سبحانه وتعالى، نهر الفرات يبلغ أحياناً في أيام الفيضانات، عرضه أحد عشر كيلو متراً، بعمق كبير جداً، الآن يمكن الإنسان يمشي فيه، لا يتجاوز مستوى الماء ركبتيه، (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) على عطائه وعلى منعه، عطاؤه عطاء، ومنعه عطاء (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) مُمِد.
لكن ربنا عزَّ وجل يُمدُّ هذه الأجسام بكل ما تحتاجه من الهواء، إلى الماء، إلى الطعام، إلى الشراب، إلى كل شيء، شيءٌ أساسي وشيءٌ ثانوي، الأساسي الطعام والشراب، والثانوي الأزهار هل هذه تؤكل؟ لا، هذا الجمال الذي بثَّه الله في الأرض، هذه السماء التي زينها بالنجوم، هذه الأماكن الجميلة التي جعلها منتجعاً لنا (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ).
لكن معنى الربوبية يشمل التربية النفسية، فكل أنواع المصائب مشتقةٌ من قولـه تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأب مثلٌ مُصغَّر، يُمدّ ابنه بكل ما يحتاج، حاجاته، أدواته، كتبه، دفاتره، ألبسته الصيفية والشتوية، غرفته بما فيها من تدفئة، طاولة، إنارة، سرير، وسائد مثلاً، فرش وثيرة، أغطية مناسبة صيفية وشتوية، هذا إمداد، فإذا ضبطه يكذب فقد يضربه، والضرب أيضاً تربية، فالتربية لها معنيان: معنى الإمداد بما تحتاجه من مواد، أصبح هناك تربيتان: تربية نفسية وتربية جسدية، فكل إنسان يتلقى من الله عزَّ وجل تربيتين، يتلقى تربيةً لجسمه، ويتلقى تربيةً لنفسه، فكل ما يحدث لك إنما هو من الله عزَّ وجل، بناءً على واقعك، وعلى نفسيتك (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم، رحمن في ذاته رحيم في أفعاله:
في درسٍ سابق قلت لكم: إن كلمة "ربّ" تقتضي العلم، وتقتضي الخبرة، وتقتضي الغنى، وتقتضي الإشراف الدائم، وتقتضي الحكمة، وتقتضي الرحمة، لا بُدَّ من أن يكون ربُّ العالمين قوياً، وغنياً، وحكيماً، وعليماً، وخبيراً، ورحيماً، وقيوماً، يعني دائم الإشراف، لا يُسمّى المُربّي ناجحاً إذا غاب عن الذي يُربّيه، لا يُسمّى المُعلِّم ناجحاً إذا تغيَّب عن الطلاب، لا بُدَّ من أن يكون ربُّ العالمين قوياً، وغنياً، وقديراً، وحكيماً، ورحيماً، ودائم الإشراف، يعني قيوماً (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) .
كلمة "ربّ" فيها عطاء، ربنا ما قال: الحمد للإله، ما قال: الحمد للخالق، بل قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، أي أنَّ لك ربَّاً، ذات مرةٍ سمعت في الطريق رجُلاً يقول وهو في حالة غضب: إن لم يكن له أب أليس له ربّ؟ تأثرت بهذه الكلمة، قد ينشأ أحدنا يتيماً ولا أب له، لكن الله في الوجود.
وَإِذَا العِنَايَةُ لَاحَظَتْكُ عُيُونُهَا نَمْ فَالمَخَاوِفُ كُلُّهُنَّ أَمَانُ
وإذا أعطاك من يمنعــه ثم من يعطي إذا ما منعــك
كن مع الله تَرَ الله معَكْ واترك الكل وحاذر طمعَكْ
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3)﴾
الرحمن في ذاته، الرحيم في أفعاله، ذاته رحيمة، هناك تطابق كامل بين أفعاله وبين ذاته، أحياناً الإنسان يكون هناك مسافة بين أفعاله وبين نفسيته، قد يفعل عملاً فيه رحمةٌ، ولكن قلبه قاسٍ كالحجر، الظروف اضطرته لذلك، ذكاؤه أرشده لذلك، ولكن الله سبحانه وتعالى رحمنٌ رحيم، رحمنٌ في ذاته، رحيمٌ في أفعاله.
الرحمن يُعذِّب أمّا الرحيم لا يُعذِّب:
﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)﴾
الرحمن يُعذِّب أمّا الرحيم لا يُعذِّب، انظر إلى دقة الآية السابقة (إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ) ربنا عزَّ وجل رحمنٌ في ذاته، تقتضي رحمته أن يسوق لعبده بعض الشدائد، هذه الشدائد تُسمّى شدائد، أمّا الرحمة فهي رخاء، لذلك قال ربنا عزَّ وجل:
﴿ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)﴾
انظر الإعجاز، يعني تقتضي رحمته ألا يرد بأسه عن المجرم (يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) الرحيـم صفة أفعاله، أمّا الرحمن صفة ذاته (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) ماذا بقي؟ هو الإله، وهو الربّ، وهو الرحمن الرحيم، و(الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) اسمٌ جامعٌ لأسماء الله الحُسنى، فقوته ضمن رحمته، ولطفه من رحمته، وبطشه من رحمته، وأفعاله نابعةٌ من رحمته، لذلك هناك أسماءٌ جامعة، وأسماءٌ غير جامعة، الرحيم من الأسماء الجامعة (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ) .
إذا جاء يوم الدين فلا اختيار لك وكل شيء أصبح ملكاً لله وحده:
لكن:
﴿ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)﴾
لو عقلنا معناها لارتعدت فرائصنا، أنتم الآن مُخيّرون ما دام في القلب حياة، ما دام القلب ينبض فأنت مُخيَّر، كل شيء ممكن الآن، الإصلاح ممكن، التوبة ممكنة.
﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ (82)﴾
لكن: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إذا جاء يوم الدين فلا اختيار لك، هذه الأمانة التي أودعها الله فيك، هذا التكليف، هذا الاختيار الذي منحك الله إياه، هذا الكون الذي وهبه الله لك، هذا العقل والفكر الذي ميَّزك الله به كله انتهى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) .
هو في الدنيا مالِك، لكن مالِك وأنت مُختار، لكنه في الآخرة مَلَك كل شيء، ومَلَك اختيارك، إذاً لا تستطيع أن تفعل شيئاً، يوم الدين يوم الجزاء، الدنيا دار عمل، والآخرة دار جزاء، قال عليه الصلاة والسلام:
(( أتاني جبريلُ عليه السَّلامُ فقال: يا محمَّدُ عِشْ ما شئتَ فإنَّك ميِّتٌ، وأحبِبْ من شئتَ فإنَّك مفارقُه، واعمَلْ ما شئتَ فإنَّك مجزِيٌّ به، ثمَّ قال : يا محمَّدُ شرفُ المؤمنِ قيامُه باللَّيلِ، وعِزُّه استغناؤُه عن النَّاسِ ))
افعل ما شئت، أعطِ أولا تعطي، اعدل أو اظلم، أحسِن أو لا تُحسِن، اعملوا ما شئتم فإن يوم الدين هو يوم الجزاء، عاملت زوجتك بالإحسان، فهو لك، وإن أسأت فعليك، أنفقت مالَك فهو لك، لم تنفق عليك.
﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)﴾
﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)﴾
الآية التالية تحض على العمل الصالح:
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) إذا جاء مَلَك الموت انتهى كل شيء، الاختيار انتهى، الأمانة انتهت، الشهوات نُزِعت، الكون طوي، الفكر تعطَّل، كل شيء انتهى، يوم الدين يوم الجزاء والله مالكه، أمّا الآن فأنت تملِك الاختيار، أنت الآن مُخيَّر، مُخيَّر أن تتوب أو لا تتوب، أن تُسيء أو تُحسِن، لكن يوم الدين ينتهي فيه الاختيار، كأنَّ هذه الآية تحضُك على العمل الصالح، إياك أن تصل إلى هذا اليوم، وليس لك عملٌ صالح تلقى الله به، لذلك:
﴿ وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133)﴾
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102)﴾
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يوم الدين يوم الجزاء، نحن الآن في يوم عمل، في العام الدراسي مثلاً، الطالب يأتي للمدرسة، يُحب أن يدرس أو لا يدرس، يجتهد أو لا يجتهد، يُراجع أو لا يُراجع، يُذاكر أو لا يُذاكر، يكتب وظائفه أو لا يكتبها، أو ينقلها من رفاقه، يستطيع لأنه مُخيَّر، لكن إذا قُرع جرس الامتحان في آخر العام، وطُرحت الأسئلة، هذا اليوم يوم الجزاء، لذلك: "وفي الامتحان يُكرم المرء أو يُهان" ، أمّا في أثناء العام الدراسي فلا إهانة للكسول، معه مهلة، أُعطيَ فرصة، ونحن الآن كذلك، الآن نحن في فرصة، أنت حُرّ، تُحب أن تأتي إلى هذا المجلس أو لا تأتِ، هناك من يسهر وراء جهاز لهوٍ، يقول لك: والله أمتع، أمّا هنا في هذا المجلس ناشفة، اليوم دار عمل، لكن الآخرة دار جزاء، قالوا: " الدنيا دار تكليف والآخرة دار تشريف" ، في الآخرة انتهى الاختيار، انتهى التكليف، انتهت كلمة حرام وحلال، أنت في جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض، لا يوجد غضّ بصر في الآخرة، ولا استيقاظ لصلاة الصبح باكراً، وليس هناك بذل مال، ولا مشي في الشمس، ولا حرّ، في جنَّةٍ عرضها السماوات والأرض.
جزاء المؤمن يوم الدين كما وردت في بعض آيات الذكر الحكيم:
ربنا عزَّ وجل قال:
﴿ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)﴾
وامتازوا أي ابتعدوا، وقبل هذه الآية الكريمة:
﴿ إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ(56)﴾
هنيئاً لهم، هذا الوقت:
﴿ لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)﴾
﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)﴾
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16)﴾
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)﴾
فنحن الآن في دار عمل، ويوم الدين دار جزاء وحساب، أمّا إذا وصل الإنسان إلى يوم الدين، فقد انتهى كل شيء، انتهى اختياره، وانتهت الفُرص كلها، أمّا الآن فالفُرص كلها مُفتَّحة، أبواب الرحمة مُفتَّحة، أبواب التوبة مُفتَّحة، أبواب الاستقامة مُفتَّحة، أبواب العمل الصالح مُفتَّحة، لكن إذا جاء يوم الدين انتهى كل شيء، انتهت حرية الاختيار، انتهت الدنيا، ليس هناك مال لتعوِّض
﴿ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾
بعد هذه المقدمة:
﴿ الحَمدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)﴾
وقد رويَ عن الحسن البصري رحمه الله: " جُمِع القرآن في الفاتحة، وجُمِعت الفاتحة بإيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ" ، والله معه الحقّ، لأنَّ كل شيءٍ فيها الفاتحة، الألوهية، والحمد، والربوبية، واسم الله الأعظم (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) والمصير الذي لا مفر منه (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) الآن موقفك المنطقي (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .
لو أنَّ الله عزَّ وجل قال: نعبُد إيَّاك لاختلف الأمر، إذا سبق المفعول به الفعل، فهذا أسلوب الحصر، أيْ نعبُدك ولا نعبُد أحداً معك، لو قال: نعبُد إياك، شيء، و(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) شيءٌ آخر، لذلك فإنَّ أعلى مرتبة يبلغها إنسانٌ في الأرض أن يعبُد الله حقَّ العبادة، وأعلى مقام بلغه النبي أنه كان عبداً لله، عبداً حقيقياً، أي تطابقَ اختياره مع أمر الله تماماً، نحن أحياناً لا يتطابق اختيارنا مع أمر الله، نُطبِّق مثلاً تسعين نقطة، يوجد نقطتين لم تُطبقهما، فلست إذاً عبداً كاملاً، أمّا العبودية الكاملة أن يكون اختيارك موافقاً مئةً بالمئة، لما أمر به الله عزَّ وجل، إذاً أنت عبدٌ لله، وإن لم تكن عبداً لله، فلا بُدَّ أن تكون عبداً لشهوتك
(( تَعِسَ عبدُ الدِّينارِ، والدِّرْهَمِ، والقَطِيفَةِ، والخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ. ))
إن لم تكن عبداً لله فأنت عبدٌ لشهوتك، وإن لم تكن عبداً لشهوتك، فأنت عبدٌ لعبدٍ من عبيد الله، فأنت عبدٌ لعبدٍ لئيم، كُن للهِ عبداً فعبد الله حُرّ.
العلة الكبرى لخلق الإنسان على وجه الأرض أن يعبُد الله:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) العبادة طاعةٌ تامة، مبنيةٌ على معرفةٍ، ومنتهيةٌ بسعادة، التعريف الدقيق: طاعة تسبقها معرفة، وتعقبها سعادة، وإلا لما كانت لها هذه الأهمية.
﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)﴾
العلة الكبرى لخلق الإنسان على وجه الأرض أن يعبُده، أي أن يعرفه فيطيعه فيسعد بقربه (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) لا نعبُد إلا إيَّاك.
﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)﴾
التوحيد والعبودية لله عزَّ وجل (لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) .
﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)﴾
والله هذه الآية تكفي (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) هذا يوم الدين، الكافر عنده أمل طويل.
الركوع هو الإعلان عن الخضوع لله والسجود هو طلب العون منه:
﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)﴾
نهيٌ إلهيٌ عظيمٌ جداً (وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) .
(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لكن العبادة لله عزَّ وجل، تحتاج إلى عونٍ من الله عزَّ وجل، فأنت في الركوع تُعلن عن خضوعك لله، وفي السجود تطلب العون منه، لذلك قال عليه الصلاة والسلام:
(( أعْطُوا كُلَّ سُورةٍ حَظَّها مِنَ الرُّكوعِ والسُّجودِ ))
تقول:
﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)﴾
الصلاة مُناجاة (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) الأنبياء، الصدِّيقين، الصالحين، المؤمنين، أهل العقل، أهل اللب الطيبون، الأذكياء.
الفرق بين " المغضوب عليهم" و "الضالين":
(صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) هناك أناسٌ عرفوا وعَصوا، هؤلاء الذين غَضِب الله عليهم، وهناك أناسٌ ما عرفوا الله عزَّ وجل، هؤلاء الضالون (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) .
يقول لك الله عزَّ وجل وكأنه يُخاطبك في الصلاة:
﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾
في الركوع تقول: "سبحان ربي العظيم" ، أي خضوعاً لك يا ربّ لهذا الأمر، أنا خاضعٌ لك، أنا مطيعٌ لك، حين السجود تقول: "سبحان ربي الأعلى" ، يعني يا ربّ أعِنّي على تنفيذ هذا الأمر، الركوع خضوع، والسجود طلب العون من الله عزَّ وجل، لذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (أعْطُوا كُلَّ سُورةٍ حَظَّها مِنَ الرُّكوعِ والسُّجودِ) .
آيات من الذكر الحكيم عن ضعف الإنسان:
كل آية تقرؤها في الصلاة لها ركوعٌ خاص بحسب مضمونها، ولها سجودٌ خاص بحسب مضمونها، تبدأ: (الحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) لا نعبُد إلا إيّاك، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، ولكننا ضعاف
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ ۚ وَخُلِقَ الْإِنسَانُ ضَعِيفًا (28)﴾
﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33)﴾
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) على عبادتك، قال الشيخ ابن عطاء: " إذا أراد ربك إظهار فضله عليك، خلق الفضل ونسبه إليك" .
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) عندئذٍ تتوجه إلى الله عزَّ وجل (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) هؤلاء الناجحون، هؤلاء الفالحون، هؤلاء المؤمنون السعداء في الدارين، الذين عرفوك، وأطاعوك، وتقرَّبوا إليك، وعقلوا عنك، وسعدوا بقربك (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) من يطع الله ورسوله، يحشره الله عزَّ وجل مع النبيين، والصدِّيقين، والشهداء، والصالحين.
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) هؤلاء الذين عرفوا الله، وحادوا عن شريعته.
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (93)﴾
هذا الذي يقول: نحن عبيد إحسان ولسنا عبيد امتحان، وهناك أدعية من صنع بعضهم: أمرتنا فما ائتمرنا، ونهيتنا فارتكبنا، ولا يسعنا إلا فضلك، هؤلاء مغضوبٌ عليهم.
البطولة أن تقرأ الفاتحة وأنت مُتمثِّل لمعانيها:
(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) عرفت الله وتعصيه!! قال أحدهم لابن الأدهم: ائذن لي بالمعصية، قال: << أشياءٌ خمس، إذا فعلتها لن تضرك المعصية، قال: وما هي؟ قال: إذا أردت أن تعصيه فلا تسكن أرضه، قال: وأين أسكن إذاً؟ قال: تسكن أرضه وتعصيه؟! قال: الثانية؟ قال: إذا أردت أن تعصيه فاجهَد ألا تأكل من رزقه، قال: وماذا آكل إذاً؟! قال: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه؟! قال: هات الثالثة، قال: إذا أردت أن تعصيه فاجهَد ألا يراك! قال: وكيف لا يراني؟! قال: تسكن أرضه، وتأكل رزقه، وتعصيه، ويراك؟!>> .
لذلك:
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7)
نختم هذا الدرس بما رويَ عن الحسن البصري رحمه الله: جُمِع القرآن في الفاتحة، لذلك تقرؤها في كل ركعة
(( لَا صَلَاةَ لِمَن لَمْ يَقْرَأْ بفَاتِحَةِ الكِتَابِ. ))
والبطولة أن تقرأ الفاتحة، وأنت متمثلٌ لمعانيها (الحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)) .
الإنسان عندما يطيع الله عز وجل وهو مفتقر إليه يعينه على طاعته:
من عند (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بدأ موقفك العملي، ما دام الله سبحانه وتعالى ربُّ العالمين، وهو الرحمن الرحيم، الذي لا إله إلا هو، يُحمَد على كل شيء، ماذا تنتظر؟!! (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .
(( من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَلِمَةٍ مِنْ كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ قُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي قَالَ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ))
لا حول عن معصيته إلا به، ولا قوة على طاعته إلا به، يعني (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) .
سيدنا يوسف مثلاً: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) لمّا الإنسان يُطيع الله عزَّ وجل وهو مفتقرٌ إليه، يُعينه على طاعته، فإذا اعتمد على نفسه أوكله الله إياها، لذلك الإمام أحمد رضي الله عنه قبل أن تدركه المنية كان يقول: " كلا بعد، كلا بعد" ، فحار تلامذته في ذلك، فلمّا توفي رحمه الله، رآه بعض تلامذته في المنام، فقال له: يا سيدي كنت تقول: كلا بعد، كلا بعد، فقال: يا بني جاءني الشيطان وقال لي: لقد نجوت، قلت: كلا بعد، حتى تُنزع الروح من الجسد على الإيمان، الآن نجوت، مادام الإنسان في الحياة، لو أصابه كِبِر وقع في المعصية، أصابه اعتزاز وقع في الشِرك (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) دائماً في افتقار إلى الله عزَّ وجل، هل من الممكن نبي أن يعبُد صنم؟! مستحيل، ورَد هذا في القرآن الكريم حينما دعا إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربّه فقال:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)﴾
معناها مُفتقر، معناها (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) بعد أن عزمت على طاعة الله عزَّ وجل، وعزمت على الاستعانة به، الآن التفصيلات، يا ربّي ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7) الآن تقرؤوا القرآن وهو الصراط المستقيم، القرآن الصراط المستقيم افعل ولا تفعل (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ) .
﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِّنكُمْ وَأَنتُم مُّعْرِضُونَ (83)﴾
﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾
كل آيات القرآن الكريم هي صراطٌ مستقيم:
كل آيات القرآن الكريم هي صراطٌ مستقيم، تقول أنت (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7) طبعاً المغضوب عليهم عرفوا وحرفوا، والضالين ما عرفوا أصلاً، الضالون كثيرون، أمّا المغضوب عليهم أكثر، أكثر المسلمين يعرفُ أنَّ له ربَّاً، وفي الآخرة جنَّةٌ ونار، ومع ذلك يأكل حراماً، ويُطعِم حراماً، ولا يُبالي بأمر الله، يعصي الله ويقول: نحن ضِعاف، نحن عبيد إحسان ولسنا عبيد امتحان، وهكذا.. هؤلاء مغضوبٌ عليهم، والضالون الذين ما عرفوا الله أصلاً، وأمّا الذين:
﴿ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا (69)﴾
هؤلاء الذين أنعم الله عليهم ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يوجد حمد (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3) ويوجد مصير مُخيف (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) يوم الجزاء، وهناك موقفٌ عملي (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهناك تفصيلات (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) يعني حمدت الله المُسيِّر، الربّ، الرحمن، الرحيم، وعلمت أنَّ يوم الدين هو يوم الجزاء ولا اختيار لك، ثم رجوت الله أعلنت عن عبوديتك لله وعن استعانتك به، ثم طلبت منه الصراط المستقيم، المنهج الصحيح (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ(7) وكلمة آمين يعني استجب يا ربّ، ثم تأتي الصلاة، تأتي القراءة.
اللهم اجزِ عنّا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما هو أهله، واجزِ عنّا صحابته الكرام ما هُم أهله، واجزِ عنّا مشايخنا، ومَن علَّمنا، ومَن له حقٌّ علينا.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً، واجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، ولا تجعل منّا ولا فينا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
اللهم كما هديتنا للإسلام فثبِّتنا عليه، اللهم ألهمنا سبيل الاستقامة لا نحيدُ عنها أبداً، واهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم.
الملف مدقق