وضع داكن
28-03-2024
Logo
رمضان 1420 - خواطر إيمانية - الدرس : 45 - من سورة الإنسان - الإنسان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

الإنسان حادث سبقه عدم وينتهي إلى عدم :

 أيها الأخوة المؤمنون؛ كان عليه الصلاة والسلام يقرأ سورة الإنسان في فجر يوم الجمعة، هذه السورة تبدأ بقوله تعالى:

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان: 1]

 كل واحد منَّا لو اطلع على كِتاب مطبوع قبل ولادته، في أثناء طبع الكتاب، وتنضيد حروفه هل لك وجود؟ هل لك اسم في النفوس؟ هل أحد يعرفك؟ هذا هو الشيء الحادث سبقه عدم، وينتهي إلى عدم، وبعد الموت يلخص الإنسان بكلمةٍ واحدة، إما أن يقال: الله يرحمه، أو العكس. يعيش عمراً مديداً - ثمانون سنة - يأكل، ويشرب، ويعمل، ويتاجر، ويتزوج، ويزوِّج، في النهاية يلخص بكلمة واحدة إما أن تسأل الله له الرحمة، أو العكس.
 فالإنسان حادث، في الدنيا مروره سريع، الإنسان بضعة أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه، قف أمام أحد أسواق دمشق - وليكن سوق الحميديَّة - هذا السوق الطويل، كل خمسين أو ستين سنة يوجد طقم جديد، يكبر الإنسان، ثم يتوفى، يُباع المحل، يُوزع على الورثة، يأتي إنسان جديد في مُقْتَبل الحياة،  يشتري المحل وهو راغب فيه، ثم يزينه، يحسنه، وبعد هذا يكبر فيباع المحل لواحد ثالث، الله عزَّ وجل جعلنا خلائف، فنحن نعيش عمراً ينقضي سريعاً، أما الشيء الثابت فهو الآخرة، فالإنسان إما إلى جنةٍ يدوم نعيمها، أو إلى نارٍ لا ينفد عذابها، فكل عقل الإنسان وكل ذكائه أن يسعى لهذا الأبد الذي لا ينتهي، أما الدنيا فهي فانية، ومنقطعة، وتمر سريعاً، وقد يقول الإنسان: لبثت في الدنيا يوماً أو بعض يوم. ثمانون سنة عنده يومٌ أو بعض يوم.
 فالله عزَّ وجل يذكرنا بهويتنا، نحن مخلوقون حادثون، سبقنا عدم وننتهي إلى عدم، طبعاً في الدنيا، أما الإنسان فيَذوق الموت ولا يموت، لأن نفسه خُلِقَت من نور الله، وكل شيءٍ خُلِقَ من نور الله لا يفنى، أما هذا الجسد فيفنى، هذا وعاء، ثياب نخلعها عند الموت.

 

اليوم المشهود هو أخطر يوم يعيشه الإنسان :

 أيها الأخوة؛ كيف أن الطالب بالتعليم، من الصف الأول للثاني، ومن الثاني للثالث، ومن الثالث للرابع، ينجح للخامس، للسادس، للسابع، للثامن، بحسب نظامنا التعليمي، أما في الشهادة الثانوية فمجموع علاماته يحدد مصيره؛ إما طبيب، أو طبيب أسنان أقل، أو صيدلي، هندسة فرضاً، فمجموع علاماته يحدد مصيره، نحن لا نعيش هذه الأيام هكذا، طريقة حياتنا، وانضباطنا، ومعرفتنا بالله، تحدد مصيرنا الأبدي، نحن في أخطر فترة بحياة الإنسان، إن صح التعبير: إن له حياة في الأزل - في عالم الذر - وله حياة في الدنيا، وله حياة في الآخرة، أنت بين يومٍ مفقود، ويومٍ مشهود، ويومٍ موعود، ويومٍ مورود، ويومٍ ممدود.
 أخطر يوم بمراحل حياة الإنسان من عالم الذر إلى الأبد، أخطر يوم هو هذا اليوم المَشهود، هذا اليوم بحسب حركتك، ومعرفتك، واستقامتك يتحدد مصيرك الأبدي إلى أبد الآبدين، كيف أن الطالب بحسب دراسته في الشهادة الثانوية تحدد هويته، إما إلى مهنة مُريحة، أو إلى اختصاص من الدرجة العاشرة؛ لا يوجد وظائف، ولا دخل، ولا شيء، فكما أن الطالب يتحدد مصيره بشكل تقريبي من علاماته في هذا العام، كذلك المؤمن يتحدد مصيره الأبدي من عمله في هذه الدنيا، أخطر يوم يعيشه الإنسان هو اليوم المشهود.
 فإذا عرف الله المعرفة الكافية ليستقيم على أمره، وإذا ضبط دخله، وإنفاقه، وأعضاءه، وشهواته وفق منهج الله، عندئذٍ يستحق حياة الأبد، و..

﴿ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾

[سورة الحديد : 12]

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ﴾

[سورة الصافات : 61]

بطولة الإنسان أن يعتني بقبره الذي لا أنيس له فيه :

 واللهِ أيها الأخوة، معظم الناس في غفلة، يرون المجد كلَّه في الدنيا، يسعون إلى جمع المال بطريقٍ مشروعٍ أو غير مشروع، يسعون إلى مكانةٍ عَلِيَّةٍ في الدنيا بوسيلةٍ مشروعةٍ أو غير مشروعة، وينسى أن هذه الدنيا حُلُم يمضي سريعاً.
 فالإنسان أحياناً يؤدي واجب التعزية، يدخل لبيت غير معقول من حيث مساحته، ولا أناقته، ولا حجم الأثاث، ولا تنسيق الأمور فيه، صاحبه مات، لكن أين وُضعَ صاحبه؟ في قبر صغير، هكذا تنتهي الحياة من بيت فخم إلى قبر، فالبطولة أن تعتني بالقبر، أن تعتني بهذا البيت الذي لا أنيس فيه ولا أحد، يقول لك كلمة: " يا قيس إن لك قريناً يدفن معك وأنت ميّت، وتدفن معه وهو حي، فإن كان كريماً أكرمك، وإن كان لئيماً أسلمك، ألا وهو عملك".
 ورد أن أول ليلة يُنادَى الإنسان: " عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبقَ لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت ".

العاقل يعيش المستقبل :

 يجب أن نفهم معنى الزمن، نحن نعيش أياماً محدودة، الآن كل واحد منا ضمن خمس سنوات ماضية؛ كم شخص مات يعرفه؟ كان شخصاً صار خبراً، كان شخص له بيت، وغرفة نوم، وغرفة ضيوف، وغرفة استقبال، وغرفة طعام، وله زوجة، وأولاد، وله مركبته، وله مكتبه التجاري، صار خبراً، وضع في قماش لُفَّ ثم وضع تحت أطباق الثرى، يا ترى ماذا يوجد في القبر؟ هذا سؤال خطير.
 فالإنسان العاقل يعيش للمستقبل، وأخطر حدث في المستقبل هو وفاته، والإنسان الأقل عقل يعيش الحاضر، والإنسان الغني يتغنى بماضيه دائماً:

ألهى بني تغلبٍ عن كل مكرُمةٍ  قصيـدةٌ قالها عمـرو بن كلـثومِ
* * *

 والآن الأمة الإسلاميَّة أو العربية من عوامل تخلفها أنها تتغنى بماضيها فقط، تتغنى بماضيها وليس حاضرها كماضيها، الأجداد عملوا، أنتم ماذا تعملون؟ فتألق الجد لا ينسحب على الابن، ولا على ابن الابن، يبقى الابن بحسب عمله، هذه الآية:

﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان: 1]

 وسيأتي حينٌ آخر يُنسى، فقد تجلس أحياناً مع شاب يتكلم معك عشر ساعات، يمكن تمر كلمة واحدة: والله كان أبي رحمه الله يحب هذا الطعام، كلمة واحدة، نسوه، أحياناً تجد إنساناً يُتوفى؛ حزن شديد، وسواد، وجللوا الثريات، والمرايا، وبعد أسبوعين ينسونه، يضحكون، يسهرون، وبعدها يذهبون إلى النزهة، ثم ينسونه نهائياً.
 فسبق الإنسان عدم، وسوف يتلوه عدم، فكيف يعيش في هذه الأيام التي يشهدها يتحدد مصيره الأبدي؛ إما إلى جنةٍ يدوم نعيمها، أو إلى نارٍ لا ينفد عذابها.

 

الله عز وجل كماله مطلق و أي تعديل في خلقه يكون نحو الأسوأ :

 هناك ملمح لطيف في هذه الآية:

﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ﴾

[ سورة الإنسان: 2]

 هذه النطفة تلقح بويضة، بالبويضة يوجد ثلاث وعشرون مورِّثة، وبالنطفة ثلاث وعشرون مورّثة، هذه تتفاعل، فيتشكل منهم ست وأربعون مورّثة نتيجة تفاعل مورِّثات النُطفة مع مورِّثات البويضة.
 أما في الاستنساخ فلا يوجد فيه ازدواجية، لا يوجد تفاعل، الاستنساخ هذا الذي يقال عنه أنه نجح، وهو لم ينجح، بلغني أن هذه النَعجة التي استنسخوها، سبق هذه المحاولات مئتين وخمس وثمانين محاولة فاشلة، والآن أصيبت بمرض الهَرَم المُبَكِّر، فهل من الممكن لإنسان يكون بوضع هرم خلال عشر سنوات؟ مستحيل، فربنا عزَّ وجل خلقه هو الأكمل، و كماله كمال مُطلق، أي تعديل فهو نحو الأسوأ، أي تعديل لأن الله عزَّ وجل كماله مطلق، فخلق الإنسان..

﴿ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾

[ سورة الإنسان: 2]

 أما إذا خُلِقَ من نطفةٍ ليست أمشاجاً فهذا نقصٌ في خَلْقِهِ.

 

استخدامات أنا و نحن في القرآن الكريم :

 أيها الأخوة؛ هناك في آخر هذه السورة أيضاً آيات لطيفة جداً، يقول الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 23]

 طبعاً أحياناً يقول الله عن ذاته:

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا﴾

[سورة طه: 14 ]

﴿إِنَّنِي أَنَا﴾

 وأحياناً يقول:

﴿ إِنَّا نَحْنُ﴾

[سورة الحجر: 9]

 قال علماء التفسير: إذا تحدث عن ذاته قال: أنا، وإن تحدث عن أفعاله قال: نحن. لأن أفعاله فيها كل أسمائه الحسنى، أي فعل من أفعاله فيه علمٌ، وقدرةٌ، ورحمةٌ، ولطفٌ، وحكمةٌ، إن تحدث عن أفعاله قال:

﴿ إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى﴾

[سورة يس: 12]

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 23]

 أما إن تحدث عن ذاته العَلِيَّة فيقول:

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ﴾

[سورة طه: 14 ]

معاهدة الله على السمع و الطاعة في المنشط و المكره :

 ثم قال تعالى:

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾

[ سورة الإنسان: 23-24]

 الإنسان حينما يُكشَف له سر المصيبة، لا يحتاج كثيراً إلى أن يصبر، الدليل: عندما يقول لك طبيب الأسنان: لا يتحمل قلبك المخدر، يجب أن نقلع السن بدون مخدر، وأنت إنسان عاقل راشد، فلأن الأمر واضح جداً عندك أنه يوجد ألم، هذا الألم أخف من خطر أن يصاب القلب بآفة بسبب المخدر مثلاً، فأنت تصبر، لأنه واضح جداً، لكن متى تُؤْجَر على الصبر أعلى أجر؟ حينما لا ترى الحكمة، الله عزَّ وجل يقول:

﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ﴾

[ سورة الإنسان: 24]

 أحياناً الإنسان يكون مستقيماً، يبتليه الله ببلاء معيَّن، يا رب أنا لم أفعل شيئاً، هنا مكان هذه الآية، ألا تثق بحكمة الله؟ أحياناً أب كريم أغدق على ابنه نِعَماً لا تُعَد ولا تحصى، مرَّة أعطاه أمراً غير معقول، ألا يحق للأب بعمله الطيب خلال عشرين أو ثلاثين سنة أن يعطيه أمراً ويمتحن طاعته؟! الطعام نفيس والابن جائع قال له: لا تأكل. يقول له: حاضر. قد يكون الابن قد تلقى من أبيه مليون أمر منطقي، مليون أمر لصالحه، ومرة أراد الأب أن يمتحن ثقة ابنه به، يمتحن معرفة ابنه له، فأعطاه أمراً غير منطقي. فعندما تأتي للإنسان مصيبة أحياناً، يكون هدفها امتحان عبوديته لله عزَّ وجل، فالنبي عليه الصلاة و السلام ماذا فعل حتى يؤذى في الطائف، ويُكَذَّب، ويُسخر منه؟ قال له:

(( ربي إن لم يكن بك غضب عليّ فلا أبالي، ولك العتبى حتى ترضى، لكن عافيتك أوسع لي ))

[ الطبراني عن عبد الله بن جعفر بسند فيه ضعف ]

 يجب أن تكون مطواعاً لله عزَّ وجل، عاهدنا الله على السمع والطاعة في المنشط والمكره، فأنت مستقيم في الغنى والفقر، وقبل الزواج وبعد الزواج، وفي إقبال الدنيا وفي إدبارها، وفي مقتبل العمر وفي خريف العمر، وإذا كنت وحدك وإذا كنت مع الناس، وإذا كنت في الحَضَر أو في السَفَر أنت مستقيم، لأنك عاهدت الله على السمع والطاعة، في المنشط والمكره.

 

الكفر انحراف عقيدي والإثم انحراف سلوكي :

 أيها الأخوة :

﴿ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً ﴾

[ سورة الإنسان: 24]

 الكفر هذا انحراف عقيدي، والإثم انحراف سلوكي، الإنسان تكون عقيدته سليمة، ولكنه غارق في شهواته، هذا آثم، أحياناً يكون ذكياً جداً، ويخاف على سمعته؛ يبدو أنه مستقيم ولكنه كافر، فينبغي أن تكون مؤمناً مستقيماً، فإما أن تكون آثماً أو كفوراً..

﴿ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 24-25]

ذكر الله للإنسان أكبر من ذكر الإنسان لربه :

 ثم إن الله عزَّ وجل قال:

﴿ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ﴾

[سورة العنكبوت: 45 ]

 من أجمل المعاني في هذه الآية أن ذكر الله لك أكبر من ذكرك له، فأنت تذكره شاكراً، تذكره داعياً، تذكره مُنيباً، تذكره مستغفراً، أما إذا ذكرك ملأ قلبك غنىً، إذا ذكرك وفَّقك في عملك، إذا ذكرك جعل حياتك سعيدةً، إذا ذكرك جعلك في أعلى عليين، إذا ذكرك أجرى على يدك الخير.
 مثل شخص قال لأبيه: أعطني، هو كلف خاطره كلمة يقولها، من أربعة أحرف، فأعطاه مليوناً فرضاً، لا تتناسب الكلمة مع العطاء، ذكر الله لك أكبر من ذكرك له..

﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان:25]

 يبدو أن الله بحسب أنه هو الخالق يعرف ما الذي خلق، تحتاج إلى شِحنات متتابعة، إلى شحنة بكرةً، وشحنة أصيلاً، وشحنة في الليل، فكانت الصلوات الخمس. أنت لاحظ إن صلَّيت الفجر في جماعة، أو صليت الفجر في وقته تشعر براحة، أخذت شحنة للظهر، مع الحركة، والمشاحنة مع الناس، يخفّ التألق يأتي الظهر، العصر، المغرب، العشاء..

﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 26]

بطولة الإنسان أن يعد لساعة الموت عدتها :

 الآن لفتة رائعة، قال:

﴿إِنَّ هَؤُلَاءِ﴾

 الشاردون، هؤلاء التائهون، هؤلاء الغافلون، هؤلاء المنغمسون في الدنيا..

﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 27]

﴿ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾

  الآن إذا الإنسان شكل عصابة وسطا على المحلات، وجمَّع ملايين، وبعد هذا ألقي القبض على هذه العصابة، وتوجد مع السرقات جريمة قتل، فاستحق الإعدام، وسيق إلى المشنقة، فكم يكون أحمق هذا الإنسان، طبعاً سينسى وهو على حبل المَشنقة الليالي التي أمضاها وكان معه وفر من المال، قد يكون ذهب إلى الملاهي، قد يكون دخل إلى مطاعم نفيسة، وأكل أطيب الطعام، ولكن حينما يُشنق ينسى كل هذه اللذائذ نهائياً..

﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 27]

 واللهِ حدَّثني أخ قريب، له ابن عم له محل تجاري بأحد أسواق دمشق، ويبدو أن هذا الإنسان على خبرة عالية جداً بالتسوّق والبيع، دائماً محله رائِج، وهم ثلاثة شركاء، ففي خلال سنة، أو سنتين اشتروا بيوتاً، وسيارات، و كان دخلهم كبيراً جداً، أحد الشركاء وهو أكثرهم تألُّقاً في التجارة، هو الأساسي في هذه الشركة، هو الذي يشتري، هو الذي يبيع، أصيب بمرض عُضال في دمه، فيقول لي قريبه: لم يكن يعرف ما هو مرضه، الأطباء لم يبلغوه، فظنَّ أن القضيَّة عرضية. فعندما بلغه أن عنده سرطان بالدم بدأت تأتيه حالات هستيرية، كل ربع ساعة يقول: لا أريد أن أموت. وبعد فترة وقت أجله يقسم لي - شريكه يحضر معنا - شريكه أنه صاح صيحةً ما من واحدٍ في البناء كُلِّه إلا سمعها، حينما قُبِضَت روحه.
 فالإنسان تأتيه ساعة ينسى حليب أمه. فالبطولة أن نعد لهذه الساعة عدتها، أن نعد لها طاعةً، واستقامةً، وطلب علمٍ، وعملاً صالحاً، وتربية أولادٍ..

﴿ إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 27]

 هذا في الدنيا فكيف في الآخرة؟..

 

التفكر في عظيم خلق الله عز وجل :

 ثم قال تعالى:

﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 28]

 فعلى كلمة (شددنا أسرهم) هكذا سمعت: أن هذه العظام، وليكن عظم الفخذ مثلاً له مشاشة – كرة - ولهذه المشاشة جُرن تتحرك ضمنه هكذا، هنا يوجد تفريغ هواء، أي لا توجد قوة تخلع هذا العظم من جُرنه، هناك أربطة، وإحكام بالغ، فالإنسان مشدود أسره، هو يأكل ويشرب الحليب، من أين جاء العَظم؟ لو لم يكن هناك عظم لوجدت الإنسان كالخرقة، كيف يقف؟ معنى هذا هناك عَظم، وهذا العظم؛ عنق الفخذ يحمل مئتين وخمسين كيلو، الإنسان يكون شكله جميلاً، له جذع، وبعدها يتوسَّع جذعه، كيف توسَّع؟ لأن عظم الفخذ بدل من أن تكون المُشاشة مستقيمة ضمن الحوض، المشاشة هكذا، فصار عنده عرض بوسطه، وهذا لتناسق شكله، فهذه المنطقة أخطر منطقة لأن كل الضغط عليها.
 أحياناً أخ يشتغل في حمل الأشياء، يحمل صندوقاً حديدياً، صندوق حديد وزنه حوالي ثلاثمئة وخمسين كيلو، يحمله على ظهره، فأين الضغط كله؟ على هذا القسم، هذه المشاشة تحمل مئتين وخمسين كيلو، لو أن الضغط جاء على الإنسان، قوته خمسمئة كيلو، العظم يقاوم، من أين جاءت هذه المتانة؟ هو أساسه من نطفة، فأنت ممكن أن تعمل مادة سائلة وتتحول إلى فولاذ؟ غير معقول، الإنسان أساسه نطفة وبويضة، وأساسه من ماء، فكيف تشكل هيكل عظمي متين؟
 أسنانه ثان أقسى عنصر في العالم، في الكون، الألماس أولاً وميناء الأسنان ثانياً..

﴿ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾

[ سورة الإنسان: 28]

 يوجد إحكام، أحياناً الإنسان يحمل ابنه، الأربطة هنا مدروسة، يجب عليها أن تحمل الجسم كله، وأحياناً يكون بحالة غضب شديد من ابنه فيحمله بشكل قوي و غير صحيح، هذا يعمل ضعفاً في الأربطة، لأن الوزن تضاعف، فمعنى هذا الإنسان إذا حمل ابنه..

﴿ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾

[ سورة الإنسان: 28]

 إذا وقف له هيكل عظمي يمسكه، فالإنسان مُحْكَم إحكام جيد، أحياناً الإنسان يشتري حقيبة رخيصة، ويملؤها بالأغراض، يحملها فتقطع يدها، معنى هذا غير مدروس مقاومة اليد مع وزن الحقيبة، فربنا عزَّ وجل قال:

﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾

[سورة التين :4]

﴿ نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ﴾

[ سورة الإنسان: 28]

 العين لها مَحْجَر، هذا من الإحكام، لو لم يكن هناك محجر لكان تسعون بالمئة من الأطفال فقدوا بصرهم، يقع على رأسه فينتهي بصره، أما العين كيفما وقع الطفل فهي محمية بهذا المحجر.
 بعد هذا انتبه، الدماغ مكانه في صندوق عظمي، الدماغ أخطر عضو بالإنسان، مكانه في صندوق عظمي، وبين الصندوق والدماغ يوجد سائل، إذا وقع الإنسان على رأسه السائل يوزع هذه الضربة على كل الدماغ، الضربة بمكان عن طريق السائل يوزع الضغط على كل الدماغ، معنى هذا أن أخطر عضو ضمن صندوق، وأخطر حبل النخاع الشوكي ضمن العمود الفقري، وأخطر جهاز هو القلب ضمن القفص الصدري، وأخطر عضو في المرأة هو الرحم ضمن عظام الحوض.
 الرحم محمي بعظام الحوض، والقلب بالقفص الصدري، والنخاع الشوكي بالعمود الفِقَري، والدماغ بالجُمجمة..

 

مشيئة الإنسان مشيئة اختيار ومشيئة الله مشيئة فَحْصٍ واختبار :

﴿ نحنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً * إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ﴾

[ سورة الإنسان: 28-29]

 معنى هذا أن فطرتك سليمة، فطرتك تؤمن، تحتاج إلى تذكرة..

﴿ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 29]

 أنت مخيَّر. لكن..

﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾

[ سورة الإنسان: 30]

 العلماء قالوا: مشيئة الإنسان مشيئة اختيار، لكن مشيئة الله عزَّ وجل مشيئة فَحْصٍ واختبار، أي كلية تريد يا بني؟ والله الطب أستاذ، كم هي علاماتك؟ والله لم أنجح هذه السنة. كيف دون أن تنجح تريد أن تدخل كلية الطب؟‍ فإذا قلنا: أنت اختر أيها الطالب، إدارة الجامعة مهمتها فحص علاماتك، تفحص مستوى نجاحك، إذاً مشيئة الإنسان مشيئة اختيار، مشيئة خالق الأكوان؛ مشيئة فحصٍ واختبار.

﴿ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً ﴾

[ سورة الإنسان: 29]

 لكن..

﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ﴾

[ سورة الإنسان: 30]

 الآن دقِّق..

﴿ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ﴾

 أيْ أنك إذا توهمت من هذه الآية أن الله هو الذي يشاء يهديه، والذي يشاء لا يهديه، هذا المعنى ما أراده الله أبداً، بعد دقيقة تأتي تتمة الآية:

﴿ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾

[ سورة الإنسان: 31]

 من هذا الذي لا يُدْخِلُه في رحمته؟ الظالم، معنى هذا رحمته مقنَّنة، رحمته واضحة، كأن هناك موجزاً وتفصيلاً، أنا أقول: أنا آخذ من أشاء معي إلى الرحلة، لكن الكسول لن آخذه، معنى هذا توضَّحت مشيئتي، آخذ من أشاء إلى الرحلة لكن الكسول لن آخذه، معنى ذلك مشيئتي مع المجتهدين.

 

مكانة المؤمن عند الله عز وجل مكانة كبيرة :

 أيها الأخوة؛ هذه الآيات في سورة الإنسان، ولاسيما في نهايتها.
 بقي آية واحدة، ممكن تدخل إلى بيت مساحته تقدر بمئتي متر، أو أربعمئة، أنا شاهدت قصراً في بعض البلاد الإسلامية، هذا القصر ضمن غابة مساحتها تقدر بخمسين أو ستين دونماً، فدقق في هذه الآية:

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾

[ سورة الإنسان: 20]

 أنت في الدنيا ساكن في بيت، أما في الآخرة فلك قصر..

﴿ وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً ﴾

[ سورة الإنسان: 20]

 فالمؤمن له عند الله مكانة كبيرة جداً، وهذه المكانة تُتَرْجَم إلى نعيم مُقيم، وإلى قُصور في الجِنان ..

﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً * إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان: 21-22]

 فهل من الممكن تعمل عملاً والله ينساه لك؟ ممكن تعمل عملاً ولا تأخذ أضعافاً مضاعفة عنه؟..

﴿ وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ﴾

[ سورة الإنسان: 22]

 فأبشروا أيها الأخوة.

 

تحميل النص

إخفاء الصور