وضع داكن
20-04-2024
Logo
رمضان 1420 - خواطر إيمانية - الدرس : 54 - من سور الانفطار المطففين البروج الطارق - الدعوة.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

مخاطبة العقل و القلب عند الدعوة إلى الله عز وجل :

 أيها الأخوة؛ الإنسان فيه جانب إدراكي – عقلي-، وفيه جانب نفسي، وفيه جانب مادي، الجانب المادي له غذاء وهو الطعام والشراب، والجانب العقلي له غذاء وهو العلم، والجانب النفسي له غذاء وهو الحب.
 أية دعوةٍ إلى الله إن لم تخاطب الجوانب الثلاثة لا تنجح، هناك دعواتٌ إلى الله توجَّهت إلى القلب وحده، فلم تنجح، وهناك دعوةٌ إلى الله توجهت إلى العقل وحده، فلم تنجح، وهناك مذهب أهل الأرض توجهوا إلى الجسم وحده، فأخفقوا.
 الله جلَّ جلاله يخاطب العقل تارةً والقلب تارةً، وفي بعض الآيات يخاطب العقل والقلب معاً، يقول الله عزَّ وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

[سورة الانفطار:6]

الشيطان يحمل الإنسان على تسويف التوبة و يخوفه مما سوى الله :

 بالمناسبة الشيطان سمَّاه الله الغرور..

﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾

[سورة فاطر:5]

 هو الشيطان. ماذا يقول لك الشيطان؟ يحملك على تسويف التوبة، يخوَّفك أن تُنْفِق، يخوِّفك مما سوى الله عزَّ وجل، يفرِّق بين المرء وأهله، يبغضك بالحلال ويرغبك في الحرام، هذا فعل الشيطان، أن يزهِّدك في الحلال، وأن يرغبك في الحرام، وأن يخوفك مما سوى الله، وأن يعدك الفقر، فلذلك هذا هو الغرور.
 الله عزّ وجل يقول:

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾

[سورة الانفطار:6]

 لماذا لا تطيعه؟ ما الذي أقنعك ألا تطيعه؟ ما الذي خوَّفك من طاعته؟ ما الذي أمدَّ لك أملاً في الدنيا؟ إنه الشيطان..

﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾

[سورة الانفطار:6-8]

 ما سوى الله ممكن، ممكن أن يكون لنا عينٌ واحدة، إذاً لن نرى الأبعاد الثلاثة، يمكن أن تكون لنا أذنٌ واحدة، إذاً لن نعرف جهة الصوت، يمكن ألا تكون لنا المثانة، إذاً نحتاج إلى جُهد كبير في حفظ أنفسنا من هذا السائل النجس، لكن الله جل جلاله خلق الإنسان في أحسن تقويم، وقوَّمه أحسن تقويم، منحه نعمة العقل، فما الذي يغرُّك بالله عزَّ وجل؟

 

تسجيل كل صغيرةٍ وكبيرة على الإنسان :

 ثم هناك شيءٌ آخر:

﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾

[سورة الانفطار:10-12]

 الناس يعيشون في قيم مادية، فهذه قضية الملائكة من يأخذ بها؟ من يحسب للملائكة حساباً؟ يقول الله عزَّ وجل:

﴿ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ﴾

[سورة الانفطار:10-12]

 فكل صغيرةٍ وكبيرة مسجَّلةٍ عليك.

 

الناس رجلان بر وفاجر :

 ثم يقول الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾

[سورة الانفطار:13-14]

 أي بالنهاية الناس رجلان برٌ وفاجر، برٌ كريم على الله، وفاجرٌ هينٌ على الله، البر في نعيم، والفاجر في جحيم، هذه المعادلات، والأفكار المضغوطة مريحة جداً، الناس رجلان؛ إنسان عرف الله فاتصل به، فانضبط بمنهجه، فأحسن إلى خلقه، فسعد في الدنيا والآخرة، هذا البَر، وإنسان غفل عن الله، تفلَّت من منهجه، أساء لخلقه، شقي في الدنيا والآخرة، هذا الفاجر.
 الناس رجلان؛ برٌ كريم على الله، وفاجرٌ هينٌ على الله.

 

تعطيل جميع العلاقات في الآخرة :

 كل العلاقات في الدنيا معطَّلة بالآخرة، الأب له أولاد يحميهم، يدافع عنهم، مدير الدائرة عنده موظف يدافع عنه، كل إنسان حوله أشخاص يتدخَّلون أحياناً لصالحه، إلا يوم القيامة..

﴿ يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾

[سورة الانفطار:19]

 " يا فاطمة بنت محمد، يا عباس عم رسول الله أنقذا نفسيكما من النار، أنا لا أغني عنكما من الله شيئا، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه ".

﴿ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾

[سورة الانفطار:19]

 جاءت نكرة..

﴿ لِنَفْسٍ شَيْئاً﴾

  أية نفسٍ لا تملك لأية نفس شيئاً..

﴿ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ ﴾

  هذا معنى قوله تعالى:

﴿ وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾

[سورة الأنعام: 94 ]

الحكمة من ورود سورة المطففين بين آيات سورٍ مكيةٍ تتحدَّث عن الله :

 هناك شيء يلفت النظر في الآيات؛ في سورة الانفطار..

﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ ﴾

[سورة الانفطار:1]

 والتكوير..

﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾

[سورة التكوير: 1]

 والفجر..

﴿ وَالْفَجْرِ*وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾

[سورة الفجر: 1-2]

﴿ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ﴾

[سورة النازعات: 1]

﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ *عَنْ النَّبَإِ الْعَظِيمِ ﴾

[سورة النبأ : 1-2]

 كل هذه الآيات تبدأ بآيات كونية، فجأةً:

﴿ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾

[سورة المطففين: 1-3]

 أي لعظم التطفيف، ولعظم أكل مال الناس بالباطل، جاءت هذه السورة بين آيات سورٍ مكيةٍ تتحدَّث عن الله عزَّ وجل، فكما أن الكفر بالله سبب شقاء الإنسان، الآن أكل أموال الناس بالباطل أحد أكبر أسباب شقاء الإنسان، قال تعالى:

﴿ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ ﴾

[سورة المطففين: 7-9]

 العلماء قالوا: (مرقوم) من الرَّقْم، أو من الرَّقَم، الرَّقْم النقش، والرَّقَم العدد، كتاب الإنسان مُرَقَّم، الآن كيف دفاتر المالية مرقَّمة، يقول لك: هذا الدفتر عبارة عن مئتين وخمسين صفحة، ختم وتوقيع، لا يستطيع التاجر أن يمزق ورقة منه، صفقة كبيرة جداً ينزع ورقتها، الأرقام متسلسلة، فكتاب الإنسان مرقَّم.
وأيضاً بالمعنى الثاني مرقَّم من الرَّقْم كل مخالفة وصورتها، إذا الإنسان شك، فهذه هي الصورة، فالإنسان أعماله كلها على شريط يعرض عليه يوم القيامة..

﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾

[سورة الإسراء: 14]

 هذا معنى قوله تعالى:

﴿ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ *وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾

[سورة المطففين: 7-10]

أعظم عقاب يعاقب به الإنسان يوم القيامة أنه يُحْجَب عن الله :

 أخواننا الكرام؛ أعظم عقاب يعاقب به الإنسان يوم القيامة أنه يُحْجَب عن الله عزَّ وجل..

﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾

[سورة المطففين: 15]

البطولة من يضحك آخراً :

 الآية الأخيرة:

﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾

[سورة المطففين: 34]

 الكفار في الدنيا يضحكون من المؤمنين، يسخرون منهم، لكن المؤمنين يضحكون في النهاية، فالبطولة من يضحك آخراً، من يضحك أولاً يضحك قليلاً ويبكي كثيراً، ومن يضحك آخراً يضحك كثيراً إلى أبد الآبدين..

﴿ فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ ﴾

[سورة المطففين: 34]

كلّ إنسان يأخذ حقه يوم القيامة بمعيارٍ دقيق :

 مرَّة ذكرت لكم من قبل أن أحد الذين ارتدوا على أدبارهم في عهد النبي - مسيلمة الكذاب - قبض على صحابيين جليلين، وعرض عليهما أن يشهدا أنه رسول الله، فالأول قال: لم أسمع شيئاً، فقتله، والثاني قال: إنك رسول الله، فنجا من القتل. فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا قال: أما الأول فقد أعزَّ دين الله فأعزَّه الله - كلام طيب - وأما الثاني فقد قبل رخصة الله، فالشرع يسع جميع الخَلْق، لكن يوجد أناس متفوقون، هؤلاء اختاروا المَرْكَب الأصعب، لهم عند الله أجرٌ كبير، أصحاب الأخدود لو أنهم اعترفوا بهذا الذي عذبهم بأنه إله لما حرقهم، قال تعالى:

﴿ قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ﴾

[سورة البروج : 4-8]

 والآن قد تجد إنساناً ذنبه الوحيد أنه مسلم، ذنبه الوحيد أنه موحِّد، في العالم كله تقريباً، فلولا أن هناك أبطالاً يركبون المركب الصعب لما كانوا قدوةً لغيرهم، الذي يأخذ المركب الأهون ناج، وأخذ رخصة الله، لكن الذي يأخذ المركب الأصعب، ويقف عند عقيدته، وعند إيمانه، ولا يتزعزع، هذا له عند الله أجرٌ كبير بقدر تضحيته، أي أن كل إنسان يأخذ حقه بمعيارٍ دقيق.

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ﴾

[سورة البروج : 12]

 واللهِ ترون بأعينكم، وتسمعون كل يوم ماذا يحدث في العالم، قلت كلمة من يومين: الله عزَّ وجل يؤدبنا بهم، ويؤدِّبهم بذاته مباشرةً، يؤدبنا بهم، ويتولى تأديبهم بنفسه مباشرةً، عن طريق هذه الأعاصير، وتلك الرياح، وهذه الزلازل، وهذه الأمطار الطينيَّة، وكل ما تسمعون من أحداث في الأرض، إنما هو تأديبٌ من الله عزَّ وجل:

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾

[سورة البروج : 12-16]

 إنه يبطش ليغفر، يأخذ ليعطي، ويبتلي ليجزي، ويخفض ليرفع، ويضر لينفع، ويذل ليعز، ويأخذ ليعطي..

﴿ إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ﴾

[سورة البروج : 12-16]

 إذا أراد الله شيئاً وقع، وإذا وقع الشيء فقد أراده الله، ولا يمكن أن يقع في مُلْكِ الله عزَّ وجل ما لا يريده الله أن يقع.

***

الحكمة من تدبير الله هي الردّ على كيد الكافرين :

 الكفار يكيدون، والله عزَّ وجل يدبر تدبيراً يردُّ على كيدهم، لكن الله شاءت حكمته سمىَّ تدبيره كيداً من باب المشاكلة.

﴿ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً ﴾

[ سورة الطارق : 15-17]

 دقق في قوله تعالى:

﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ﴾

[ سورة آل عمران: 12 ]

 إله يقول. فالكافر مهما بدا لك قوياً، مهما تحرَّك، مهما استعلى، مهما تعجرف، مهما تغطرس، في النهاية سوف يُغْلَب، وسوف يبقى في مزبلة التاريخ. والمؤمن له العاقبة الحسنة ..

﴿ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾

[ سورة الأعراف : 128]

 وهذا التاريخ أمامكم، الذين أيَّدوا الحق هم في أعلى عليين، والذين قاوموا الحق هم في أسفل سافلين..

 

تزكية النفس ثمن الجنَّة :

 الآن:

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى ﴾

[ سورة الأعلى : 14]

 الفلاح في تزكية النفس، تكاد تكون تزكية النفس ثمن الجنَّة ..

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾

  أربع آيات في القرآن أو خمس فيما أذكر الفلاح في تزكية النفس، لأن نفسك أمانةٌ بين يديك، تزكيتها ثمن الجنة، تزكيتها بتعريفها بربها، وحملها على طاعته..

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾

[ سورة الأعلى : 14-19]

بطولة الإنسان أن يحسن علاقته بالله في الدنيا :

 أيها الأخوة؛ نحن جميعاً مصيرنا إلى الله..

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾

[ سورة الغاشية : 25-26]

 الميت حينما يُدفن يُنادى، يقول: عبدي رجعوا وتركوك، وفي التراب دفنوك، ولو بقوا معك ما نفعوك، ولم يبق لك إلا أنا وأنا الحي الذي لا يموت .
 الإنسان مصيره إلى الله، فبطولته أن يحسن علاقته بالله في الدنيا، حتى إذا انقلب إلى الله عزَّ وجل لقي تكريماً، وسعادةً، وقبراً كروضةٍ من رياض الجنة..

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾

[ سورة الغاشية : 25-26]

***

قيمة الأمر من قيمة الآمر :

 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
 أيها الأخوة الكرام؛ الإمام جزاه الله خيراً قرأ كل الآيات، أو بعض الآيات، أو أكثر الآيات التي تبدأ بقوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾

 وهناك ملمحٌ دقيق في هذه الآيات، أنت أيها الإنسان، حينما آمنت بالله؛ آمنت به خالقاً، آمنت به خبيراً، آمنت به عليماً، آمنت به حكيماً، آمنت به قديراً، آمنت أنه إليه المصير، آمنت به أنه خلقك لجنةٍ عرضها السماوات والأرض، إذا آمنت هذا الإيمان عليك أن تتبع هذا، فالأمر يؤخذ على قدر الآمر، قيمة الأمر من قيمة الآمر، يا من آمنتم بالله افعلوا كذا، أو لا تفعلوا كذا. فلا يقيَّم الأمر إلا من زاويةٍ واحد، من زاوية الآمر.
 لذلك ربنا عزَّ وجل يخاطب عامة الناس بأصول الدين كي يؤمنوا، لكنه يخاطب المؤمنين بفروع الدين كي يطبِّقوا، من هذه الآيات:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾

[سورة المائدة: 54 ]

 هناك استنباط رائع جداً، هو أن الذي يحب الله ويحب رسوله لا يرتد عن دينه..

﴿ مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ﴾

 لا يرتدون عن دينهم ذلك لأنهم يحبون الله ورسوله، إذا بُنِيَ الإيمان على الحب كان المؤمن طاقةً مذهلة.
 الآن الإنسان يحاول أن يبحث عن فتوى ضعيفة، عن رأي العالم لكي يتحلل من بعض الأوامر، لأن حُبَّهُ ضعيف، أما حينما يشتد حبه لله عزَّ وجل يهون عليه كل شيء، وسخي بكل شيء، ويضحّي بكل شيء، ويرجو كل شيء، هذه واحدة.

 

اتباع تشريع الخالق ينجي الإنسان من الهلاك في الدنيا والآخرة :

 النقطة الثانية: نحن في عصر فيه طوفان تشريعات؛ تشريعات وضعية، تشريعات قانونية، تشريعات إقليميَّة، تقاليد، عادات، التشريعات لا تعدّ ولا تحصى، ولكن تشريعاً واحداً هو الذي ينجي الإنسان من الهلاك في الدنيا والآخرة، إنه تشريع الخالق، لأن الله خبير..

﴿وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾

[سورة فاطر : 14]

 أيْ أقدر إنسان على الإطلاق في تصليح آلة معقدة هو مخترعها، أعلى إنسان بتصليح آلة هو الذي اخترعها؛ يعرف كل دقائقها، وكل مداخلها، وكل مخارجها، وكل خصائصها .

 

طاعة الله في قرآنه و الرسول في سنته :

 أيها الأخوة؛ عندنا آية دقيقة جداً، يقول الله عزَّ وجل فيها:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾

[سورة النساء: 59 ]

 (أطيعوا) مكرَّرة، معنى ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام يُطاع استقلالاً، أما أي إنسان آخر فلا يُطاع إلا قياساً، قال لك الأب: اصدق يا بني، فصدقت، يطاع الأب في كلمة اصدق، لأن النبي أمرنا بالصدق، فأيُّ إنسان كائناً من كان لا يطاع إلا إذا تطابق أمره مع أمر الرسول، لذلك: أطيعوا الله في القرآن..

﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾

 معطوفة على الرسول، فأي أمر تتلقاه تقيسه بالكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسُنَّة فعلى العين والرأس وإلا فاركله بقدمك.
 يطاع الله في القرآن في كل أمرٍ ونهيٍ، ويطاع رسول الله في السُنَّة في كل أمرٍ ونهيٍ، ويطاع كلام أولي الأمر في ضوء الكتاب والسنة، إن وافق الكتاب والسنة نحن نطيع الكتاب والسنة، ولا نطيع الشخص، لا يوجد إنسان يستحق أن تطيعه إلا الله ورسوله، لأن إليه المصير، وبيده مقاليد الأمور، وهو الخبير العليم الحكيم.
 من هم أولو الأمر؟ طبعاً الأمراء والعلماء، أناسٌ يعلمون الأمر، وأناسٌ ينفّذون الأمر، أناسٌ يعلمون هم العلماء، وأناسٌ ينفذون، وإذا صلح العلماء والأمراء صلحت الأمة، وإذا فسد العلماء والأمراء فسدت الأمة.

 

أي مشكلة يعاني منها الإنسان إلى نهاية الدوران لها حلّ في الكتاب أو السنة :

 الآن:

﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾

[سورة النساء: 59 ]

 أي إن تنازعتم فيما بينكم وبين أولي الأمر، ماذا عليكم أن تفعلوا؟ قال:

﴿ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾

  فأي قضية نتنازع عليها ينبغي أن نجد في الكتاب والسنة حلاً لها، أيعقل أن ينزل الله كتاباً لا يغطي حاجات المجتمع؟ إله، خالق الإنسان، يعلم ما سيكون، أيعقل أن ينزل كتاباً ويكلف نبيه بشرح هذا الكتاب في السنة ولا نجد في الكتاب والسنة حلاً لمشكلات؛ مالية، اجتماعية، نفسية، مشكلات بيئية - مطر مثلاً – تشريعية؟ مستحيل، وإلا لماذا هذا الدين دين الله عزَّ وجل؟ هذا دليل قطعي على أن أي مشكلة يعاني منها الإنسان إلى نهاية الدوران، لابدَّ من أن تجد لها في كتاب الله وسُنَّة النبي الكريم ما يُغَطِّيها.
 مرة قال لي شخص: ابني أكل فواكه فجة فصار معه اضطرابات هضمية مزعجة جداً، الله عزَّ وجل قال:

﴿ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾

﴿ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ﴾

[سورة الأنعام: 141 ]

 فيها إشارة أنه يجب أن تأكل الثمر إذا أثمر، إذا بدا صلاحه، إنسان شرب كأس ماء وهو بدرجة عالية من الجُهد مات فوراً..

﴿ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنْ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ﴾

[ سورة البقرة: 249 ]

 هذه إشارة، مرة قرأت مقالة أنه يوجد اثنتا عشرة حالة وفاة مفاجئة بسبب شرب الماء؛ إنسان شرب الماء واقفاً وغبَّه غباً، عبَّه عباً، والنبي يقول:

(( مصوا الماء مصاً ولا تعبوه عباً فإن الكباد من العب ))

[الجامع الصغير عن أنس بن مالك ]

 عب الماء أنت تنقل سائلاً درجته صفر أحياناً إلى جهاز درجته حوالي سبع وثلاثين، لذلك يوجد عصب بين المعدة والقلب اسمه العصب المُبْهَم، أو العصب الحائر، وهناك الكثير من الحالات المشابهة للذبحة الصدرية بسبب أسباب هضمية، لأنه يوجد عصب مشترك بين المعدة وبين القلب، التأثر الشديد لهذا العصب قد ينهى القلب عن النبض، فهناك حالات وفاة مفاجئة، لو أنك اتبعت سنة النبي عليه الصلاة والسلام لا تجد إلا كل السلام، لذلك يهديهم..

﴿ سُبُلَ السَّلامِ﴾

[ سورة المائدة: 16 ]

 يهديهم الطريق الموصل إلى السلام في الدنيا والآخرة، هذه النقطة الثانية.

 

طاعة الله لا تكون إلا في بيئة صالحة ومع أناس مؤمنين :

 النقطة الثالثة في هذا الدرس السريع هي أن الله عزَّ وجل يأمرك أن تطيعه، وكأنه يقول: إن طاعتي صعبة إلا في حالةٍ واحد إذا كنت مع المؤمنين، تكون في بيئة صالحة، مؤمنون أطهار، مستقيمون، صادقون، متواضعون، يعرفون ربَّهم، يخافون الله، يخافون الآخرة، العيش مع هؤلاء شيء مسعد، يوجد طمأنينة فلا تخف، لا يوجد غدر، ولا خيانة، ولا كذب، ولا احتيال، ولا طعن بالظهر، ولا تجريح، لذلك قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 119]

 إنكم لن تستطيعوا أن تتقوا الله إلا إذا كنتم مع الصادقين..

﴿ اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة : 119]

تحميل النص

إخفاء الصور