وضع داكن
28-03-2024
Logo
رمضان 1421 - دراسات قرآنية - الدرس : 27 - من سورة المؤمنون - طريق الإيمان .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

  الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

الإيمان المطلوب من كل إنسان :

 أيها الأخوة الكرام؛ تقييم النفس تقييماً موضوعياً أول خطوة في طريق الإيمان.
 معظم المسلمين يظنون أنهم مؤمنون الإيمان الذي ينجيهم من عذاب يوم القيامة، لكن لو عرفوا الحقيقة المرة، لكانت هذه الحقيقة المرة أفضل ألف مرة من الوهم المريح، كل إنسان أقرّ أن لهذا الكون خالقاً هو مؤمن، والذي أنكر هذه الحقيقة هو ملحد، فقد يعمل إنسان عملاً سيئاً جداً، يا رب وفقني به، هو سوف يعاقب، لكنه أقرّ أن لهذا الكون خالقاً، وبيده التوفيق، الإيمان المطلوب ليس هذا الإيمان.
 يوجد في القرآن أربع آيات حصراً:

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾

[سورة المؤمنون:1]

 و:

﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى﴾

[سورة الأعلى:14]

 فمن هذا المؤمن الذي أفلح؟ لأن الله يقول:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا﴾

[سورة النساء:136]

 معنى هذا أن إيمانكم لا يكفي، إبليس آمن:

﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ﴾

[سورة ص:81]

 آمن به رباً، وعزيزاً، وآمن به خالقاً:

﴿خَلَقْتَنِي﴾

[سورة الأعراف:12]

 وآمن باليوم الآخر:

﴿أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾

[سورة الأعراف: 14]

 فالعبرة ألا ترضى بإيمان تقليدي، ألا ترضى بإيمان لا يحجبك عن معصية، ألا ترضى بإيمان لا تكون فيه في الجنة من المقربين.

الصفة قيد :

 في المنطق أيها الأخوة، في علم المنطق الصفة قيد، قل: إنسان، تنطبق على ستة آلاف مليون الآن، أضف كلمة؛ إنسان مسلم ضاقت الدائرة، مليار ومئتا مليون، حسناً، إنسان مسلم عربي ثلاثمئة مليون، اكتب إنساناً مسلماً عربياً مثقفاً مئة مليون، اكتب إنساناً مسلماً عربياً مثقفاً سورياً ثلاثة عشر مليوناً، اكتب إنساناً مسلماً عربياً مثقفاً سورياً طبيباً مئة ألف، مئتا ألف، اكتب إنساناً مسلماً عربياً سورياً مثقفاً طبيب قلب مئة، كلما أضفت صفة ضاقت الدائرة، هذه الحقيقة منطقية. ربنا عندما قال:

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾

[سورة المؤمنون:1]

 كل واحد آمن أن لهذا الكون خالقاً، دخل في هذه الآية:

﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

[سورة المؤمنون:2]

 ضاقت الدائرة، ليس كل مؤمن يصلي بخشوع؛ هناك من يؤدي شعائر الله، وهناك من يعظم شعائر الله، قد تصلي وأنت ساه، لاه، أما النبي عليه الصلاة والسلام فكان إذا حضرت الصلاة لا نعرفه ولا يعرفنا، هو يعظم شعائر الله، وفرق كبير جداً بين أداء شعائر الله وبين تعظيم شعائر الله، الصلاة هي هي، تؤدَّى أداء كي لا تحاسب عليها، وتؤدَّى أداء كي تسعد بها، وهذا الفرق بين الواجب والحب؛ الواجب: أرحنا منها، الحب: أرحنا بها، هي هي، فرق كبير بين الواجب وبين الحب؛ الواجب: أرحنا منها، الحب:

((أرحنا بها يا بلال))

[أخرجه الطبراني عن رجل من الصحابة]

 فالدائرة ضاقت كثيراً:

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾

[سورة المؤمنون:1]

﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

[سورة المؤمنون:2]

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 3]

 أحد الأحاديث التي تعد من أركان الأحاديث:

(( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ))

[ أخرجه الديلمي في مسن الفردوس عن أنس تصحيح السيوطي: حسن‏ ]

(( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعينه ))

[ ابن ماجه عن أبي هريرة]

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 3]

 والإنسان كلما تخلف عن ركب المؤمنين تعلق بالسفاسف، وحشر أنفه في الجزئيات، وأقام الدنيا ولم يقعدها، القضية لا تحتاج كل هذا الاهتمام، يصغر عقله، كما
 قال عليه الصلاة والسلام:

((إن الله يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها ودنيها))

[أخرجه الطبراني عن حسين بن علي ]

صفات المؤمن :

 استنبطت، تأمل، ما الذي يقلقك؟ ما الذي يشغلك؟ سفاسف الأمور أم معالي الأمور؟ هناك من يحمل همّ المسلمين، هناك من يسعى لخدمتهم، من يسعى لإغنائهم، من يسعى لهدايتهم، هناك من يسعى لهمومهم الشخصية:

﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾

[سورة المؤمنون:1]

﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾

[سورة المؤمنون:2]

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 3]

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 4]

 بمعناها الواسع، ومعناها الضيق؛ بمعناها الضيق: يؤدي ما عليه من زكاة، بمعناها الواسع: يفعل الخير دائماً وأبداً، ضاقت الدائرة.
 الآن:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 5]

 يحفظ فرجه لا من الزنا فقط، بل من مقدمات الزنا، ومن مقدمات الزنا إطلاق البصر، يغض بصره، من مقدمات الزنا أن تملأ العين من امرأة لا تحل لك، ولو على الشاشة:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 4]

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 5]

﴿إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ﴾

[سورة المؤمنون: 6]

﴿فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ﴾

 من أراد أن يروي هذه الشهوة بغير هذين الطريقين فهو المعتدي:

﴿فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 7]

 من العدوان، ومن العد والتجاور:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 8]

 المؤمن أمانته عالية جداً، أي يثق الناس به، ائتمنوه على أموالهم، وعلى أعراضهم، فكلمة أمانة أي ثلث الأخلاق.

((حتى بعث الله فينا رجلاً، نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونسبه))

[ ابن خزيمة عن جعفر بن أبي طالب ]

 ثلاثة أشياء أساسية؛ نعرف صدقه، إذا حدثك فهو صادق، وأمانته، إذا عاملك فهو أمين، وإذا عرضت له شهوة فهو عفيف، كلمات جامعة مانعة: نعرف أمانته، وصدقه، وعفافه، ونسبه:

﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 8]

﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 9]

 يؤديها على وقتها. و:

((أحبّ الأعمال إلى الله الصلاة على وقتها))

[ البخاري عن عبد الله بن مسعود]

 يحافظ عليها، يقتطع من وقته وقتاً لأدائها.

((الصلاة عماد الدين))

[ أخرجه البيهقي في شعب الإيمان عن عمر ]

﴿أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 10]

﴿الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾

[سورة المؤمنون:11]

 إذاً:

((ليس كل مصلّ يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي، وعزتي وجلالي إن نور وجهه لأضوأ عندي من نور الشمس، على أن أجعل الجهالة له حلماً، والظلمة نوراً، يدعوني فألبيه، ويسألني فأعطيه، ويقسم علي فأبره، أكلؤه بقربي، وأستحفظه ملائكتي، مثله عندي كمثل الفردوس، لا يُمس ثمرها، ولا يتغير حالها))

[ أخرجه الديلمي عن حارثة بن وهب ]

الموفق من كان مع الوحي لأن العلم التجريبي يخطئ ويصيب :

 يوجد مثل دقيق؛ عالم كبير اخترع جهازاً، اخترعه، صممه، جاء إنسان مثقف، أخذ هذا الجهاز، وفك أجزاءه، وتعرف إلى طبيعة عمله، الثاني قد يصيب، وقد يخطئ، أما كلام الأول فصحيح مئة في المئة، لأنه مصمم، فالعلم التجريبي الذي يقوم به الثاني قد يصيب، وقد يخطئ، أما كلام المخترع فلا يمكن أن يخطئ، لأنه هو المصمم.
 أي قد يأتي المجرب فيزيل صماماً يتوهمه للصوت ينقطع الصوت، هو ليس للصوت، ولكن على طريق الصوت، لتصفية الصوت، فإذا أزيل قطع الصوت، هو ليس للصوت، ولكن لتصفية الصوت، أيهما أصدق: المصمم أم المجرب؟ العلم التجريبي كله فيه خطأ، وفيه صواب، أما الوحي فلا يمكن أن يكون فيه خطأ، من هو الموفق؟ هو الذي مع الوحي، مع الذي قاله الله عز وجل.
 يقول لك بعلم الاجتماع: إن كل مكان فيه اختلاط يصبح فيه تهديد للمشاعر. يعني: إنسان شاب، يوجد فتاة بجانبه، يجوز أن يتلملم، يحسن حاله، يتلاطف، حتى يستعطف قلبها، لأنه هو يحب الجنس الآخر، أما بقواعد الوحي فالاختلاط يسبب مشكلات كبيرة جداً، فإذا أنت تعارضت معك كلمات قالها علماء شاردون عن الله، وكلمات قالها رب السماوات والأرض، فأنت كمؤمن أنت مع الوحي، الوحي هو الصح، الوحي هو كلام الخبير، الوحي هو كلام الخالق.
 كثيراً ما تتعارض آيات القرآن مع اجتهادات العلماء، في الأمور الاجتماعية تقريباً، العلمية مستحيل، التعارض أنه حينما تكشف قانوناً، هو قانون قننه الله عز وجل، والقرآن أنزله الله، والمصدر واحد، في العلوم يستحيل التعارض، لكن في الأمور الاجتماعية قد تجد في علم النفس شيئاً مناقضاً للقرآن الكريم، هذا مجرِّب، وهذا وحي، فلذلك هذا ذكرني أن هناك كتاباً كبيراً جداً من أكبر كتب علم الأجنة في بريطانيا، هو يؤكد أن العضلات تتشكل قبل العظام.
 مرة دخل أستاذ علم الأجنة في جامعة أوكسفورد، وقال لطالبه: اكتشفت اكتشافاً لم أسبق إليه، الذي ذكرته لكم في كتابي غير صحيح، العظام أولاً، ثم العضلات ثانياً، فقام طالب باكستاني قال له: هذه حقيقة في كتابنا في القرآن، فغضب غضباً أن هذه الحقيقة لم أسبق إليها، جاءه بالكتاب، بالقرآن الكريم باليوم التالي مع ترجمته. الآية تقول:

﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً﴾

[سورة المؤمنون: 14]

 فخضع، هذا كلام الخالق، أما العلم التجريبي فيخطئ ويصيب.

الماء هو الحياة :

﴿وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 18]

 الشيء المؤلم أن الإنسان بالغوطة كان يحفر أربعة أمتار يجد ماء، الآن: ثلاثمئة متر لا يجد ماء، ستمئة لا يجد ماء، حفر شخص بالصبورة ألفاً ومئتي متر، أي ممكن أن يكلف حفر البئر ثمن المزرعة، لا يوجد ماء:

﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 18]

﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾

[سورة الملك: 30]

 الماء أساس الرزق، نعم:

﴿وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 18]

 إذا الماء ذهب، البناء ليس له قيمة، كل شي لم يعد له قيمة من دون ماء.
 سمعت في منطقة أسعار الفلل هبطت إلى الثلث من شح المياه، للثلث.

معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية :

 يوجد لفتة:

﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾

[سورة هود:27]

 هم يتحدثون عن نبي، والنبي معصوم، نحن ما أتيح لنا أن نلقى نبياً، لكن قضية النبي قضية مذهلة، قمة البشر في الكمال، والفصاحة، والتواضع، والرحمة، والبيان، والود، والصفاء.
 كان الصحابي الجليل سيدنا ربيعة يخدم رسول الله عليه الصلاة والسلام، الساعة مثلاً بعد العشاء، قال له: انصرف إلى بيتك، الآن أي شخص موظف بمكان، ينتظر للثامنة بفارغ الصبر، يمكن أن يكون هناك عمل مهم، يقول: أنا أذهب يا معلمي؟ هل تريد مني شيئاً؟ يريد أن يمشي، فلما قال له النبي: انصرف يا ربيعة، كان ينام على عتبة بيت النبي، من شدة تعلقه به، لما جاء أهل زيد كي يأخذوه، ومعهم مبلغ ضخم جداً كي يدفعوه فدية للنبي، قال له: لا، لا، لا أريد شيئاً، خيروه، فاختار النبي على أمه وأبيه، فأبوه صعق، قال: أتؤثره علينا؟ قال له: رأيت منه ما أنساني أمي وأبي.
 قضية النبي قضية عظيمة، ومع ذلك الطرف الآخر يتهم النبي، أي يوجد للحق أعداء:

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ﴾

[سورة الفرقان:31]

﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾

[سورة الأنعام:112]

 أتيت بهذا الشاهد، أي مهما كنت كاملاً، مهما كنت منصفاً، مهما كنت رحيماً، مهما كنت محسناً، مهما كنت فصيحاً، مهما كنت واضحاً، مهما كنت مؤيداً بالحجج، الكافر يريد أن ينتقدك، ويطعن بدعوتك، ويسيء الظن بك، لأن هناك معركة أزلية أبدية، معركة الحق والباطل، أي المؤمن لا بد من أن يُنتقد، ولا بد من أن يُطعن. قال سيدنا موسى بالمناجاة : يا رب لا تبق لي عدواً؟ قال له: يا موسى هذه ليست لي.
 لي لم تصح، أي أن يكون لك عدو شيء طبيعي جداً، هذا من طبيعة الحياة، معركة الحق والباطل معركة أزلية أبدية.

لكلّ إنسان مقام عند الله عز وجل :

 الآن اسمعوا:

﴿فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ﴾

[سورة المؤمنون: 24]

 إذا شخص بأعلى درجة من العلم، تفوق حدّ الخيال، له مئتا مؤلف، معه أربعة دكتوراه مثلاً، أستاذ اختصاصه من خمسين سنة بالجامعة فرضاً، جاء شخص بنفس الشكل، جاهل، لا يقرأ ولا يكتب، يقول لك: أنا مثلي مثله، صحيح مثله، لكن أين الثرى من الثريا؟ لو أتينا بألماسة، ثمنها مئة وخمسون مليون دولار- أنا رأيتها باستانبول، ثمنها مئة وخمسون مليون، بحجم البيضة- ألماسة برلنت بحجم البيضة، كأنها شمس، هذه أساسها فحم، لو جئنا بفحمة في حجمها، والفحمة قالت: أنا مثلي مثلك، بين فحمة ثمنها قرشان، وبين ألماسة ثمنها مئة وخمسون مليون دولار، فكلمة أنا مثلي مثلك هذا نوع من الكلام المضحك، إنسان تعب على حاله، وصل لمستوى عال جداً، يأتي شخص فاسق، فاجر، منحرف، يقول لك: مثلي مثلك، فهذا معنى:

﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾

[سورة المؤمنون: 24]

 ولكن شتان.
 مرة أخ يعمل باللحم- والحرف كلها على الرأس والعين- لكن قال لي: أنا وفلان هذا القارىء الكبير الشيخ أبو حسن الكردي، قال لي: أنا وإياه معاً كنا لحامة، قلت له: لكن أين الثرى من الثريا؟ واحد قمة في القرآن الكريم، قمة في الصلاح، قمة في الأدب مع الله، والثاني أنا لا أذمه، لكن لا ليس مثلك مثله، يوجد فرق كبير جداً.
 فلان يقول لك: الشيخ صالح فرفور كان نجاراً، أي كل نجار مثل الشيخ صالح فرفور؟ الشيخ حسين خطاب كان دولاتياً، ليس كل دولاتي مثل الشيخ حسين، أي كل واحد له مقام عند الله عز وجل، فهؤلاء قالوا:

﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ﴾

[سورة المؤمنون: 24]

 الله عز وجل قال:

﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾

[سورة الشرح: 4]

 أنت عندما تتعرف إلى الله، وتسلك طريق العلم، لك مقام كبير عند الله عز وجل، الله عز وجل أقسم بعمر النبي. قال له:

﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾

[سورة الحجر:72]

 وهذه:

﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾

[سورة الشرح:4]

 ليست فقط للنبي، لكل مؤمن، أنت حينما تؤمن، ويتشرف قلبك بمعرفة الله، لك مقام كبير عند الله، أنت غال على الله، هكذا تذهب فرق عملة، مستحيل إنسان يتطاول عليك، الله يحميك منه:

﴿إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾

[سورة طه:46]

ثقة المؤمن اللامتناهية بالله عز وجل :

 المؤمن واثق من الله عز وجل، يشعر نفسه أنه غال على الله، أي ليست قضية سهلة، ليس كل شخص تافه يتطاول عليه، ليس كل شخص يضربه له هيبة، من اتقى الله هابه كل شيء، ومن لم يتق الله أهابه الله من كل شيء، تجد قلبه فارغاً، قلبه مخلوع، هو يتذلل للناس، أما المؤمن فعزيز النفس.
الحجاج أراد أن يقتل الحسن البصري، أحضر السياف ومدّ النطع، دخل الحسن البصري عرف أنه منته، فتمتم بكلمات، قال له: يا ملاذي عند كربتي، يا مؤنسي في وحشتي، اجعله نقمته عليّ برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، فقال له: أهلاً بأبي سعيد، الحجاج وقف له، أجلسه إلى جانبه، سأله، واستفتاه، وضيفه، وشيعه، والسياف واقف، نظر السياف: ماذا حصل!؟ استدعي ليقتله، لحقه الحاجب، قال له: يا أبا سعيد، لقد جيء بك لغير ما فعل بك، فماذا قلت لربك؟ قال له: قلت: يا ملاذي عند كربتي، ويا مؤنسي في وحشتي، اجعله نقمته عليّ برداً وسلاماً، كما جعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، أنت دقق، رحمة الله وجدها إبراهيم في النار:

﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾

[سورة الأنبياء:69]

 رحمة الله وجدها يونس في بطن الحوت، رحمة الله وجدها أهل الكهف في كهفهم، رحمة الله وجدها النبي في الغار، في غار ثور:

﴿لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾

[سورة التوبة:40]

 أحياناً: يكون الشخص بأجمل بيت وهو في شقاء، فالعبرة أن تكون مع الله.

إذا كنت في كل حال معي  فعن حمل زادي أنت في غنى
أتيناك بالفقر يا ذا الغنـــى  وأنت الذي لم تــزل محسنـــــــاً
***

روعة القرآن في إعجاز نظمه :

 يوجد عالم ملحد، عالم اجتماع درس التاريخ، قرأ في الكتب المقدسة، ومنها القرآن، ومنها التوراة عن سفينة نوح، أنه من غير المعقول أن تحمل سفينة نوح من كل زوجين ذكراً وأنثى، عمل حسابات بسيطة، أنواع الحيوانات أوزانها غير معقولة، فأنكر هذه القصة، مع أن دقة اللغة العربية مذهلة. ألم يقل الله:

﴿ احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾

[ سورة هود:40]

﴿ مِنْ كُلٍّ ﴾

 يوجد تنوين، أي من كل نوعين أنت بحاجة إليهما

﴿ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾

 فرق كبير بين كل زوجين هذه شمول، وبين من كلٍّ زوجين اثنين، أي من كل نوع تحتاجه في السفينة احمل زوجين اثنين، هذه دقة اللغة العربية، القرآن لا يترجم، تترجم معانية فقط، أما أن تظن أن الذي ترجمته قرآناً فمستحيل، لأن روعة القرآن في إعجاز نظمه، والنظم إذا بدلته بلغة أخرى اختلف.

على كلّ إنسان ألا يصل مع الله إلى طريق مسدود :

 هناك شيء آخر أنا أسميه: إياك أن تصل مع الله إلى طريق مسدود.
 شخص أحياناً يقتل قتيلاً عامداً متعمداً، يُساق للمحكمة، يحكم بالإعدام، يُستأنف الحكم، فيصدق، يُرفع إلى محكمة النقض فيثبت، يصدقه رئيس الجمهورية، يُساق للإعدام، الطريق صار مسدوداً، وهذا الإنسان قبل أن يشنق، يحب أن يبكي يبكي لأنه سيعدم، يحب أن يضحك، يضحك لأنه سيعدم، يحب أن يتوسل، يتوسل لأنه سيعدم، يحب ألا يتوسل، ابق ساكتاً، تريد أن تعدم، فصار الطريق مسدوداً، فعلى الإنسان ألا يصل مع الله لطريق مسدود، يبقى في بر الأمان، فقال له:

﴿ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ ﴾

[سورة المؤمنون:27]

 إياك أن تظلم، إياك أن تعتدي، إياك أن تبني مجدك على أنقاض الناس، إياك أن تبني عزك على إذلالهم، إياك أن تبني غناك على فقرهم، إياك أن تبني سعادتك على شقائهم، إياك أن تبني حياتك على موتهم:

﴿وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾

[سورة المؤمنون:27]

 هؤلاء وصلوا إلى طريق مسدود، عندئذ لا ينفع دعاء، ولا ينفع شيء آخر، فالإنسان يظل في بحبوحة ما لم يظلم.

((من عامل الناس فلم يظلمهم، وحدثهم فلم يكذبهم، ووعدهم فلم يخلفهم، فهو ممن كملت مروءته، وظهرت عدالته، ووجبت أخوته، وحرمت غيبته))

[ مسند الشهاب عن علي بن أبي طالب]

الناجح من تتطابق مقاييسه مع مقاييس القرآن الكريم :

 دقق بين هذا الربط:

﴿وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾

[سورة المؤمنون:33]

 فما كل مترف في الحياة الدنيا يحبه الله عز وجل؟ بالعكس، قد يكون العكس الترف، الإسراف، التبذير، الاستعلاء، الغطرسة، هذه كلها صفات يمقتها الله عز وجل، بعد ذلك الإنسان يكون ملء السمع والبصر، شخص بثانية يصبح خبراً على الجدران: المرحوم فلان، كان شخصاً فصار خبراً، وهناك أقوام، أقوام أشداء، صاروا أحاديث. قال:

﴿ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾

[سورة المؤمنون:44]

 كنت في القاهرة أزور القلعة، فيها قاعة كبيرة كان فيها المماليك، فجيء بهؤلاء المماليك إلى حفل، وطعام نفيس، وجلسوا بقاعة كلها مقاعد خشبية فخمة جداً، وفجأة رُفعت المقاعد، وأُخرجت السيوف، وقتلوا عن آخرهم، إلا واحداً فرّ بنفسه، كان هو المخبر، فلما خرجت، جاءتني هذه الآية:

﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾

[سورة سبا:19]

 كلما جاء وفد سياحي يأتي الدليل، يشرح أنه كيف كانوا يأكلون؟ فتحت هذه الصناديق فجأة، فقتلوا عن آخرهم. الله قال:

﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾

[سورة سبا:19]

 وكل إنسان ينحرف عن الحق، يكون شخصاً، يصبح حديثاً للتفكر، لذلك من بعض الأدعية: " اللهم لا تجعلني عبرة لأحد من خلقك" اللهم لا تجعلنا عبرة لأحد من خلقك .
 قال:

﴿فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ﴾

[سورة سبا:19]

﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾

[سورة المؤمنون: 53]

 كل واحد يظن نفسه ناجحاً هو عند الله ليس بناجح، العبرة أن تنطبق مقاييسك مع مقاييس القرآن، لا أن تتوهم أنك متفوق، فالتفوق من دون قواعد مشكلة.

تحميل النص

إخفاء الصور