وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 45 - سورة التوبة - تفسير الآية 62، الحلف بالله هروب من كذب يريده الحالف، والصادق لا يحتاج إلى الحلف.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


من علامات الإيمان أن تتجه إلى الله وحده و تستعين به وحده :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الخامس والأربعين من دروس سورة التوبة، ومع الآية الثانية والستين وهي قوله تعالى:

﴿  يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ(62)  ﴾

[ سورة التوبة ]

 أيها الإخوة الكرام، من علامات الإيمان أن تتجه إلى الله وحده، أن تثق بالله وحده، أن تستعين بالله وحده، أن ترجو الله وحده، هذا هو التوحيد، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، وإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟

 من خصائص المؤمن أنه يتجه إلى الله، يتجه إليه، ويحبه، ويعبده، ويطيعه، ويعلق آماله على الله عز وجل، أما هم فقد شردوا عن الله واتجهوا إلى البشر.

﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ لكن الإنسان المؤمن الصادق هدفه الأول إرضاء الله -عز وجل-، وإذا رضي الله عنك رضي عنك كل من حولك. ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإذا فتك فاتك كل شيء، وأنا أحب إليك من كل شيء.


المنافق يسترضي من حوله و لو كان عن طريق الكذب :


 أيها الإخوة الكرام، إذا أردت أن تضغط الدين كله في كلمات؛ أن تتجه إلى الله وحده، أن تعلق الأمل على الله وحده، أن ترجو الله وحده، أن تحب الله وحده، إذا أحببت الله أحبك كل من حولك، إذا توكلت على الله أنت أقوى إنسان، حتى إنهم قالوا: إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثقَ منك بما في يديك، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتقِ الله.

أيها الإخوة الكرام، هؤلاء الذين شردوا عن الله، هؤلاء المنافقون الذين نحن بصددهم في هذه السورة الكريمة، هؤلاء المنافقون: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ هو يريد أن يسترضي من حوله، ولو كان هذا الاسترضاء عن طريق الكذب.

﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ ولكنهم غفلوا عن أن الذي خلقهم يعلم سرهم ونجواهم، يعلم بأي شيء يتكلمون، ومن أي تصور ينطلقون، ولأي هدف يعملون، هم ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ إذا رضي الله عنك أرضى عنك كل الخلق، أما إذا رضي عنك الخلق جميعاً ولم يكن الله راضياً عنك فهذا الرضا لا تنتفع به إطلاقاً. 


من خسر الجنة فقد وقع في أكبر خسارة على الإطلاق :


ذلك أن الإنسان سيعيش لسنوات معدودات، هو خُلق للأبد، خُلق لجنة عرضها السموات والأرض، فالذي يخسر الجنة يكون قد وقع في أكبر خسارة على الإطلاق، والدليل:

﴿ فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) ﴾

[  سورة الزمر  ]

 ففرق كبير بين أن تتشتت، وبين أن ترضي فلاناً وعلّاناً، وبين أن تحلف لفلان ولعلان، وبين أن تكون موزعاً بين الخلق، وبين أن تكون مع الحق، وإذ كان الله معك فمن عليك وإذا كان عليك فمن معك؟.

 حتى إن بعضهم قال: يا ربي ماذا فقد من وجدك؟ وماذا وجد من فقدك؟ ماذا وجد من فقدك؟ ما وجد شيئاً، أما الذي وصل إلى الله فوصل إلى كل شيء. ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ لكن الله -عز وجل- يقول: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ لماذا؟ لأن رزقك بيد الله وحده، لأن سلامتك بيد الله وحده، لأن عزك بيد الله وحده، لأن ما تطمح إليه عند الله وحده، فإذا اتجهت إلى غيره وقعت في الشرك.


من يشتهي شهوة لا ترضي الله فقد وقع في الشرك :


 الحقيقة أن الشرك الجلي فيما أتصور لا وجود له في العالم الإسلامي، ليس هناك إله كبوذا يُعبَد مع الله في العالم الإسلامي، الشرك الجلي ليس موجوداً، لكن في بعض الآثار النبوية ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:

(( إنَّ أخوفَ ما أخافُ على أُمَّتِي الإِشراكُ بِاللهِ أمَا إنِّي لَستُ أقولُ يَعبدُونَ شَمسًا ولا قمرًا ولا وثَنًا ولَكِنَّ أعمالًا لِغيرِ اللهِ وشَهوةً خَفِيَّةً.  ))

[ رواه ابن ماجه وفي سنده ضعف ]

 وليس الجلي، الشرك الخفي: 

(أمَا إنِّي لَستُ أقولُ يَعبدُونَ شَمسًا ولا قمرًا ولا وثَنًا ولَكِنَّ أعمالًا لِغيرِ اللهِ وشَهوةً خَفِيَّةً) شهوة خفية، فالإنسان حينما يشتهي شهوة لا ترضي الله وقع في الشرك، والدليل:

﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23) ﴾

[  سورة الجاثية ]

 فالذي يشتهي شهوة لا ترضي الله، الذي يشتهي شهوة تحجبه عن الله، الذي يشتهي شهوة تبعده عن الله، الذي يشتهي شهوة تؤخر اتصاله بالله، هذا وقع في خطأ كبير، لذلك الإيمان الصحيح توجهٌ إلى الله، الإيمان الصحيح إخلاصٌ لله، الإيمان الصحيح طاعةٌ لله، الإيمان الصحيح أن ترضي الله وحده جل جلاله: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ .


طاعة الله عين طاعة رسول الله و طاعة رسول الله عين طاعة الله :


 إخوتنا الكرام، في هذه الآية ملمح خطير، وأقول خطير لماذا؟ لأن من قواعد اللغة أنك إذا قلت: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ﴾ بحسب قواعد اللغة أن يرضوهما، الاثنان، أما الآية جاءت: ﴿أَنْ يُرْضُوهُ﴾  بالمفرد، ماذا تعني هذه اللفتة البلاغية؟ يسميها بعض المفسرين لفتة بلاغية، أو نكتة بلاغية، معنى أنه جاء الضمير مفرداً أي أن طاعة الله عين طاعة رسول الله، وأن طاعة رسول الله عين طاعة الله، لأنك إن أطعت رسول الله فقد أطعت الله، وإن أطعت الله فمن لوازم طاعتك لله أن تطيع رسول الله، هذه المعاني مُختزلة موجودة في الضمير المفرد ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ بدل من أن تقول أن يرضوهما، لذلك القرآن الكريم فيه آيات كثيرة، يؤكد أنهم إذا أطاعوا رسول الله فقد أطاعوا الله، وإذا عصوه فكأنهم عصوا رسول الله، لماذا؟ هناك مصطلح معاصر اسمه الشفافية، أي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- شفاف، بمعنى يشف عن الحق، ليس له مطلب شخصي، دعوة إلى ذاته ليست موجودة، دعوته لله، إخلاصه لله، كلامه مستنبط من وحي الله، إذاً الضمير المفرد في قول الله -عز وجل-: ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾


من حلف بغير الله فقد وقع في شرك خفي :


 لذلك نعود إلى كلمة: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ﴾ قال العلماء: الحلف يُطلَق على اليمين الكاذبة، بل إنك إن راجعت ألفاظ الحلف في القرآن لوجدت كل هذه الألفاظ تؤكد أنهم أقسموا بالله كذباً،﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ﴾ الشيء الذي ينبغي أن يكون متعلقاً بهذه الآية أن الإنسان حينما يحلف بغير الله، أو يحلف لمقصد دنيوي، وقع في شرك خفي، السبب أنه فاته أن الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء، وأن إرادته مطلقة، وأن الله جل جلاله:

﴿  فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(16)  ﴾

[  سورة البروج ]

 الإنسان الذي تتجه إليه ليس فعالاً لما يريد، أما الله وحده ﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ ما كل إنسان أراد شيئاً يتحقق، فأنت إذا اتجهت إلى إنسان وقعت في خطأ كبير، أما إذا اتجهت إلى الواحد الديان بيده كل شيء، حياتك بيده، زواجك بيده، نجاح زواجك بيده، أولادك بيده، صحتك بيده، رزقك بيده، خيرك بيده، صوابك بيده، خطؤك بيده، فلذلك هذا هو التوحيد، حقيقة التوحيد. 


الإيمان الحقيقي أن ترى أن الله فعال وقيوم وبيده كل شيء :


 قد يقول قائل: إن الإيمان أن تقول الله -عز وجل- خالق السموات والأرض، لقد غاب عن الإنسان أن الشيطان مؤمن بهذا المعنى، ألم يقل الشيطان ربي:

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) ﴾

[ سورة ص  ]

 في القرآن الكريم، الشيطان آمن بالله رباً، وآمن به عزيزاً، وقال له:

﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12)﴾

[ سورة الأعراف  ]

 وآمن به خالقاً، وقال:

﴿ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14)  ﴾

[ سورة الأعراف ]

 وآمن بالآخرة، ومع ذلك هو شيطان رجيم، وإبليس لعين، لذلك ليس الإيمان أن تؤمن أن الله خلق السموات والأرض وانتهى الأمر، الإيمان الحقيقي أن تراه فعالاً، قيوماً، بيده كل شيء، ما من شيء يقع في الأرض إلا بيده، والدليل الآية المشهورة في البقرة:

﴿ لِّلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) ﴾

[ سورة البقرة ]

﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۚ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۚ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ ۚ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ۖ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا ۚ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) ﴾

[ سورة البقرة  ]


الفرق الكبير بين أن تتجه إلى المخلوق وبين أن تتجه إلى الخالق :


 (لَّهُ) لام التملك، الله -عز وجل- يملكنا خَلقاً، وتطوراً، ومصيراً، إذاً فرق كبير بين أن تتجه إلى المخلوق وبين أن تتجه إلى الخالق، أهل الدنيا إذا غفلوا عن الله يتجهون إلى المخلوقات، وهناك مآس ونكبات وإحباطات، وإنسان يخلص لإنسان ثم يُفاجأ أنه لئيمٌ لؤماً لا حدود له، فإذا أردت أن تعيش سعيداً فكن مع الله:

كن مع الله ترَ الله مـعك   واترك الكل وحاذر طمعك

وإذا أعطـاك من يمنعه   ثم من يعطي إذا ما منعك

* * *

 إذاً إذا حلفت فاحلف بالله، الله -عز وجل- هو خالقك، وهو ربك، وهو مسيرك، أي إلهك بيده الملك، بيده مصائر الخلق، بيده الدنيا وبيده الآخرة.

﴿ وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)﴾

[  سورة هود  ]


الله عز وجل أمرك أن تعبده بعد أن طمأنك أن الأمر بيده :


 الله -عز وجل- في هذه الآية الأخيرة ﴿وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ﴾ قال لك: ﴿فَاعْبُدْهُ﴾ متى أمرك أن تعبده؟ حينما طمأنك أن الأمر كله بيده، والإنسان حينما يشعر أن علاقته مع جهة واحدة هذا الشعور مسعِد، علاقته مع جهة، يرضي هذه الجهة، يخلص لهذه الجهة، يسعى لهذه الجهة، يخاف من هذه الجهة، يرجو هذه الجهة، هذا هو التوحيد، فالمؤمن علاقته مع جهة واحدة، هي الله، والله -عز وجل- لا يحتاج إلى إيصال، ولا إلى يمين، أنت مُعفى من كل ذلك لأنه يعلم، أما غير الله -عز وجل- فلا يعلم إلا بالقسم، أو بالسند، أو بالإيصال، طبعاً ليس ممنوعاً أن تأخذ إيصالاً من إنسان، لكن القصد من ذلك أنك مع الله، لا تحتاج إلا إلى أن توقن أنه يعلم. 


الله عز وجل يعلم وسيحاسب وسيعاقب :


 أنا أقول كلمة: هناك كلمات ثلاث؛ يعلم، وسيحاسب، وسيعاقب، أخذاً من قوله تعالى:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) ﴾

[  الطلاق الآية ]

 كأن الله -عز وجل- سوف يلخص لنا القرآن كله: ﴿لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ .

 دقق: أنت في علاقتك ليس مع خالق السموات والأرض، مع إنسان أقوى منك، علمه يطولك، وقدرته تطولك، لا يمكن أن تعصيه، وأوضح مثل: شرطي أمام الإشارة الضوئية، أنت مواطن عادي، والإشارة حمراء، والشرطي معك، فإذا تجاوزتها كتب مخالفة، فيها مبلغ كبير، وإذا تفلّت من يده هناك شرطي على دراجة، وضابط مرور بسيارة، وسحب إجازة، وحجز مركبة، لماذا أنت مع الشرطي؟ لأنك توقن أن علمه يطولك، وأن قدرته تطولك، تستقيم على أمره، فلذلك الآية الكريمة: ﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ .


المؤمن لا يكذب :


 إذاً الحلف في الأعم الأغلب بل في القرآن الكريم حصراً يعني القسم مع الكذب، ودائماً الإنسان حينما يلجأ للقسم أي عنده كذب، عنده شك أن الذي يخاطبه لا يصدقه، الحالف ينطلق من هذا المنطلق، أما إذا كنت صادقاً لا تحتاج إلى كذب، بل إن الأشخاص المتوازنون، أصحاب الشخصية القوية الناتجة عن إيمانهم، وعن استقامتهم، قلّما يحلفون، لأن كلامه صادق، هذا الذي أمامه يعرفه مؤمناً، لا يكذب.

 بالمناسبة: المؤمن لا يكذب قد يقع في أخطاء كثيرة لكنه لا يكذب، لماذا؟ لأن الكذب لا يتعلق بشهوة، يتعلق بمكر، قد تزل قدم الإنسان إذا غلبته شهوته أحياناً، أما الكذب لا يتعلق بشهوة إطلاقاً، يتعلق بمصلحة، فالذي يكذب يخطط، فالمؤمن لا يكذب وهذه صفة بالإيمان كبيرة جداً.

﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ﴾ يحلفون لكم، هذا اليمين موجه لكم، لأنهم توهموا أن مصالحهم معكم، وأنكم أقوياء، وأن رضاءهم عنكم مغنم كبير، هذا هو الشرك، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد، لكن الله -عز وجل- يقول: من الجهة التي أحق أن ترضيها؟ إنه الله، والإنسان الذي أخبرك عن أمر الله و نهيه هو رسول الله، فجهتان في الأرض هما الأولى أن تكون في رضائهما، الله ورسوله. 


كل شيء وقع أراده الله وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة :


﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ لذلك قالوا: كل شيء وقع أراده الله، معنى أراده لا تعني أنه أمر به، ومعنى أراده لا تعني أنه رضيه، لكن أراده تعني أنه سمح به فقط.

 كما أن طبيباً يسمح بإجراء عمل جراحي لابنه إن كانت الزائدة عنده ملتهبة، أراد ولم يأمر، أراد ولم يرضَ، هذا كلام دقيق، أراد أي سمح فقط، الله -عز وجل- خلقنا للسعادة، فإذا أكل إنسان مالاً حراماً تقتضي رحمة الله به أن يؤدبه، يتلف ماله، فإذا أُتلِف مال الإنسان أحياناً طبعاً ليس شرطاً هذا، لكن إتلاف المال أحياناً رسالة من الله أن هذا الدخل ليس صحيحاً، دخل معه كذب، معه غش.

 فالإنسان حينما يبدأ يفهم على الله يكون قد قطع أربعة أخماس الطريق إلى الله، الإنسان حينما يُصاب بمصيبة من السذاجة بمكان أن تمر عليه مرور الكرام، لماذا ساق الله لي هذه المصيبة؟ هناك حكمة بالغة، أفعال الله -عز وجل- فيها حكمة بالغة، لأن كل شيء وقع أراده الله، معنى سمح به، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، لكن الذي وقع أراده الله، لحكمة بالغة، فالإنسان من السذاجة بمكان إذا ساق الله له مصيبة أن يمر عليها مروراً سطحياً.

يقول لك إنسان أحياناً: الحياة متعبة، الدهر يومان يوم لك ويوم عليك، قلب لي القدر ظهر المِجَن، هذا كلام ليس له معنى إطلاقاً، هذه المصيبة التي ساقها الله للإنسان وراءها حكمة بالغة.

 أنت هل تصدق أن أباً في الأرض يضرب ابنه بلا سبب؟ مستحيل! فالضرب وراءه حكمة، بل إن الأب الصادق المربي حينما يعاقب ابنه يبين له السبب، هذه العقوبة من أجل كذا أو كذا، من هنا جاء قول الله تعالى: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ .


الله عز وجل طليق الإرادة :


 هناك ملمح دقيق في القرآن؛ الله -عز وجل- حينما قال:

﴿  تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ(3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(5)  ﴾

[  سورة المسد ]

لو أن أبا لهب توجه إلى النبي كاذباً، ومنافقاً، وأعلن إسلامه، ألغى السورة، لكن الله -عز وجل- كما يقول بعض العلماء: إرادته مطلقة، طليق الإرادة، الأمر بيده، فأبو جهل بتفكير بسيط وقليل وسريع لو ذهب إلى النبي وأعلن أنه أسلم لألغيت الآية، بل هناك شيء آخر: الآية الكريمة:

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) ﴾

[  سورة البقرة ]

 لم يقولوا بعد، وقد سمعوا هذه الآية هؤلاء السفهاء، فإذا سكتوا ألغوا هذه الآية: ﴿سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا﴾ الله -عز وجل- وصفهم بأنهم سفهاء، وهؤلاء السفهاء سمعوا هذه الآية، فإذا سكتوا ألغوا هذه الآية، لكن الله -عز وجل- طليق الإرادة، هذا الشيء لا بد من أن يقال، لذلك: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ لو سكت، أو لو ذهب وأعلن إسلامه لألغى السورة كلها، قال:

﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) ﴾

[  سورة التوبة ]

 هناك آيات سيحلفون، لم يحلفوا بعد، فلو لم يحلفوا لألغوا الآية. 


الطغاة عصي بيد الله :


 إذاً الله -عز وجل- طليق الإرادة، كل شيء أراده يقع، بأي شكل، والكلمة التي أذكرها كثيراً: كل شيء وقع أراده الله، معكوسة، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادته متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، بالعالم المادي كل شيء له حكمة بالغة، فالشر صار في النفوس، فالإنسان حينما يظلم إنساناً، المظلوم ظُلم لحكمة أرادها الله، لذلك قد قيل: الظالم سوط الله، ينتقم به، ثم ينتقم منه، فهذا الإيمان مريح، هذا الإيمان بالتوحيد يلغي الحقد، يلغي القهر، الأقوياء أحياناً عصي بيد الله، فالإنسان إذا تلقى ضربة بعصا من الخطأ أن يحقد على العصا، يحقد على الضارب إذا أراد أن يحقد، فهؤلاء الطغاة عِصِي بيد الله، فلذلك البطولة أن تعود إلى الله مستقيماً وتائباً.

﴿  إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)  ﴾

[  سورة القصص ]

 الآن مرة ثانية: ﴿يَحْلِفُونَ﴾ يحلفون يعني أقسموا أيماناً كاذبة، الحلف في القرآن الكريم هو اليمين الكاذبة، لكن: ﴿لِيُرْضُوكُمْ﴾.


القسم يعني الكذب أو الصدق أما الحالف فالحالف كاذب دائماً :


 أما إذا قلت:

﴿ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) ﴾

[  سورة الأنعام ]

 فالقسم يعني الكذب أو الصدق، يحتمل القسم أن يكون المُقسِم كاذباً، ويحتمل أن يكون صادقاً، أما إذا قلنا الحالف فالحالف كاذب دائماً، والدليل:

﴿  وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ(10)  ﴾

[  سورة القلم ]


الإنسان كائن متحرك و له حاجات عدة :


 هناك شيء آخر متعلق بهذه الآية الدقيقة: هناك قوانين يستنبطها الإنسان من حركة الحياة، نحن نعيش في هذه الدنيا، هناك عمل، ودوام، وربح، وخسارة، وسفر، وإقامة، وزواج، هذه الحركة، الإنسان طبعاً كائن متحرك، لِمَ هو كائن متحرك؟ هناك سبب، عنده حاجات، حاجته إلى الطعام والشراب تدفعه للحركة، حاجته إلى الزواج تدفعه لأن يتحرك تحركاً آخر، حاجته إلى تأكيد الذات هذه حركة ثالثة، فالحاجة إلى الطعام والشراب حفاظاً على بقاء الفرد، والحاجة إلى الزواج حفاظاً على بقاء النوع، والحاجة إلى التفوق حفاظاً على بقاء الذكر، هذه حاجات ثلاثة في الإنسان، هذه الحاجات تدفعه كي يتحرك فهو كائن متحرك، يذهب إلى عمله، يعود إلى البيت، يبحث عن زوجة صالحة، يبحث عن دخل وفير، يبحث عن إنجاب ولد، فعنده حركة، هذه الحركة فيها قوانين، الغني يشتري أثمن شيء، ويسكن بيتاً فاخراً مثلاً، والفقير بيته متواضع، ودخله قليل، وإنفاقه قليل، هذه القوانين مستنبطة من حركة الحياة، لكن المؤمن يتمتع برؤية عميقة جداً، يتمتع بتصور دقيق جداً، لأن هناك قوانين أخرى ليست كهذه القوانين التي نراها كل يوم، هذه القوانين مستنبطة من حركة الحياة، أما هناك قوانين أخرى أنا أسميها قوانين العناية الإلهية، يأتي إنسان يتصدق بماله، بحسب الآلات الحاسبة لم يعد معه مال، يفتح الله له رزقاً حلالاً ما كان في حسبانه، فنقول: هذا الرزق الوفير الذي جاءه لا بقوانين الحياة بل بقوانين العناية الإلهية، أحياناً الإنسان يصيبه مرض، هذا المرض قد يكون سبب توبته إلى الله، فإذا تاب والمرض عضال وعند الأطباء ليس له دواء، فالله يتدخل تدخلاً مباشراً يتم ما يسمى بالشفاء الذاتي.


على الإنسان الاعتماد على قوانين العناية الإلهية :


 المؤمن يعلم علم اليقين أن هناك قوانين غير قوانين حركة الحياة، هناك قوانين العناية الإلهية، هذه القوانين توفقه في دراسته، في زواجه، في عمله، في صحته، فهو اعتماده على الله لذلك الفاتحة التي نقرأها في اليوم عدة مرات:

﴿  إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ(5)  ﴾

[  سورة الفاتحة ]

 بين أن تكون مع خالق السموات والأرض، مع الغني، مع القوي، مع العالم، مع العليم، مع الحكيم، مع المقتدر، مع من يعلم، مع من بيده كل الأقوياء.

 أنا أقول دائماً: المؤمن وضعه يشبه وضع إنسان أمام وحوش كاسرة، لكن هذه الوحوش مربوطة بأزِمَّة قوية، بيد جهة حكيمة، فأنا علاقتي ليست مع الوحوش، مع من يملكها، فإذا أرخى أحد الحبال وصل هذا الوحش إلي، وإذا شدّ الحبل أبعده عني، فالحقيقة العاقل علاقته ليست مع الوحوش لكن مع من يمسك أزِمَّتها، هذا هو التوحيد، لذلك يجب أن نعتمد على قوانين العناية الإلهية. 


من يؤثر طاعة الله يخضع لقانون العناية الإلهية :


 الله -عز وجل- قال لك:

﴿ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) ﴾

[ سورة البقرة  ]

 لكن بالآلة الحاسبة الربا يزيد المال، أقرضت مئة ألف أخذت مئة وعشرة، ففي الآلة الحاسبة الربا فيها زيادة، هو ربا: زاد، لكن الله قال: ﴿وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ الصدقة فيها نقص للمال، مع هذا النقص يفتح الله لك أبواباً لم تكن في الحسبان للرزق، فالإيمان بالله يقتضي تسليماً كاملاً لقدرة الله -عز وجل-، فقادر أن يمنحك رزقاً وفيراً وأنت لا تملك أسبابه، وقادر أن يسعدك بزوجة وقد تكون من الدرجة العاشرة، وقادر أن يشقيك بزوجة من الدرجة الأولى، وقادر بالمال أن يطغيك، وبالمال أن يسعدك به، فالعبرة أن تكون مع الله -عز وجل-، فهذه الأشياء التي بين أيدينا، المال، المنصب، الصحة، هي أشياء حيادية، إما أن تكون لصالحنا، أو أن تكون عبئاً علينا.

 إذاً القوانين التي تحكم البشر قوانين ثابتة، لكن معها مجموعة قوانين أخرى أنا أسميها قوانين العناية الإلهية، فالذي يؤثر طاعة الله يخضع لقانون العناية الإلهية، الذي ينفق ماله إرضاء لله يخضع لقانون العناية الإلهية.

 لذلك قالوا: يمكن أن تخدع معظم الناس لبعض الوقت، أما أن تخدع كل الناس لكل الوقت فهذا مستحيل وألف ألف مستحيل، لأن الله -عز وجل- لا بد من أن يكشف الحقائق.

(( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ عَملَ أهل الجنَّةِ ))

[ أخرجه البخاري عن سهل بن سعد الساعدي ]

 وفي نهاية المطاف يكشف الله نفاقه. 


الله عز وجل قيد معصية الرسول في المعروف :


 شيء آخر: أنت حينما تؤمن أن طاعة رسول الله هي طاعة الله، وأن طاعة الله تقتضي طاعة رسول الله، تكتشف النكتة البلاغية في الضمير المفرد ﴿وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾ .

 مرة النبي -عليه الصلاة والسلام- أرسل سرية وأمّر عليها صحابياً، هذا الصحابي أنصاري، هذا الذي حصل، قال: ألست أميركم؟ قالوا: بلى، قال: أليست طاعتي طاعة رسول الله؟ قالوا: نعم، قال: أضرموا ناراً عظيمة، أضرموها، قال: اقتحموها، فكر الصحابة و قالوا: كيف نقتحمها وقد آمنا بالله فراراً منها؟! فشكوا، فراجعوا النبي الكريم على هذا الأمر فقال عليه الصلاة والسلام:

(( والله لو اقتحمتموها لازلتم فيها إلى يوم القيامة إِنَّمَا الطاعةُ في المعروف ))

[ أخرجه البخاري عن علي بن أبي طالب ]

 لا تعطل عقلك (إِنَّمَا الطاعةُ في المعروف)

 يؤكد هذا الآية الكريمة:

﴿  يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَىٰ أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (12 ﴾﴾

[ سورة الممتحنة  ]

 الله -عز وجل- قيّد معصية الرسول وهو المعصوم الذي يوحَى إليه، سيد الخلق، وحبيب الحق في المعروف، ﴿وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ﴾ .


شفافية دعوة النبي الكريم أن كل ما أمر به محض إخلاص لله :


 إخواننا الكرام، الشيء الآخر الذي يجب أن يكون واضحاً أن دعوة النبي -عليه الصلاة والسلام- فيها شفافية كبيرة، ما معنى الشفافية؟ أحياناً يكون على النافذة بلور صافٍ، صناعة متقنة جداً، هذا البلور يشف عما وراءه، هناك بلور فيه عروق، أو فيه زخارف، الذي يظهر لك الزخارف وليس ما وراء البلور، فشفافية النبي الكريم، وهذا مما ينبغي أن يكون عليه الدعاة، حظ نفس ليس له إطلاقاً، مطلب شخصي ليس له، أهداف أرضية ليس له، يشف عن الحقيقة فقط، طبعاً هي صفة في أعلى مستوياتها في الأنبياء، فشفافية دعوة النبي الكريم أن كل ما أمر به محض إخلاص لله، وكل ما نهى عنه محض إخلاص لله، فلذلك طاعته من طاعة الله -عز وجل-، لكن ما سوى النبي ينبغي أن تفكر، إذا كان هذا الأمر يتناسب مع القرآن والسنة لا يوجد مانع، إذا لم يتناسب تستطيع أن تراجعه، أنت مسموح لك، نحن كمسلمين في الأرض مسموح لنا أن نستجيب لواحد ليس غير، هو رسول الله، لو لم تفكر بالأمر أنت على صواب، مادام أمر النبي فأنت على صواب، لكن ما سوى النبي الكريم تحتاج إلى تدقيق وإلى مراجعة.


دعوة النبي عليه الصلاة والسلام فيها تنفيذ لأمر الله عز وجل :


 أيها الإخوة الكرام، الآية التي ينبغي أن تكون داعمة لهذه الآية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ﴾

[ سورة النساء  ]

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ﴾ أي في قرآنه ﴿وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ أي في سنته، الثالثة عليها إشكال، ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ أروع ما قرأت عن هذه الآية أن الأمام الشافعي يقول: أولو الأمر هم الأمراء والعلماء، العلماء يعلمون الأمر، والأمراء ينفذونه، فكأن بينهما تكاملاً، العالم يعلم تشريعاً، الأمير ينفذ تنفيذاً، والآن يقول لك: السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية، فكأن العلماء يعلمون الأمر، والأمراء ينفذونه، فدعوة النبي -عليه الصلاة والسلام- فيها تنفيذ لأمر الله -عز وجل-.

 لذلك قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ واللفتة الدقيقة في كلمة: ﴿مِنْكُمْ﴾ أي من جنسكم، مؤمن، يخاف الله، يحرص على مصالحكم، ﴿وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾ .


العودة إلى القرآن و السنة في أية قضية خلافية بين الأمراء و العلماء :


 لكن الشيء الذي يلفت النظر قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59) ﴾

[ سورة النساء  ]

﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ﴾ قال: إذا تنازعتم مع أمرائكم، ومع علمائكم، طبعاً مع الله ورسوله أشياء واضحة، لكن مع علمائكم وأمرائكم قال: ﴿فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ هنا اللفتة الدقيقة، هل تصدق أن يردّك الله إلى مرجعين فيهما حل لكل مشكلات الأمة إلى يوم القيامة؟ فإذا رجعت إلى هذين المرجعين لابد من أن تجد حلاً، كأن الله شهد لهذا الدين أنك إذا رجعت إليه ففيه حلٌ لكل مشكلات الإنسان من دون استثناء.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ معنى ذلك أي منازعة ما بين العلماء أو الأمراء في قضية معاشية، قضية ثقافية، قضية دينية، فالحكم هو القرآن والسنة، القرآن فيه مبادئ كبرى، والسنة فيها تفاصيل. 


علامة حبّ الله عز وجل أن تتبع النبي الكريم :


 شيء آخر متعلق بهذه الآية: ﴿يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ﴾   الشيء الآخر قوله تعالى:

﴿ قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) ﴾

[ سورة آل عمران  ]

 علامة حب الله -عز وجل- أن تتبع النبي الكريم، لذلك قال تعالى: 

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) ﴾

[ سورة الأنفال ]

 إذا كانت سنتك يا محمد مطبقة في حياتهم فهم في مأمن من عذاب الله، والآية الأخيرة:

﴿ مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) ﴾

[ سورة النساء  ]

 هذه الآية حاسمة، هذا المنهج منهج متكامل لله ورسوله، طاعة الله في قرآنه، والنبي في سنته الصحيحة، فإذا طبقنا هذا التوجيه نحن في مأمن من عذاب الله.

(( تَركْتُ فيكُمْ أَمْرَيْنِ لنْ تَضِلُّوا ما تَمسَّكْتُمْ بهما: كتابَ الله، وسنّة رسولِهِ ))

[ أخرجه مالك عن بلاغ بن مالك ]

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور