وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 2 - سورة الفجر - تفسير الآيات 15-17، الإبتلاء 2 عطاء الله ليس إكرام ولا منعه حرمان.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمْتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينْفعنا وانْفعنا بِما علَّمتنا وزِدْنا عِلما، وأَرِنا الحق حقاً وارْزقنا اتِّباعه وأرِنا الباطل باطِلاً وارزُقنا اجْتنابه، واجْعلنا ممن يسْتمعون القول فَيَتَّبِعون أحْسنه وأدْخِلنا برحْمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الإخوة الكرام، في سورة الفجْر قوله تعالى الآية الخامسة عشرة: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه...أهانني " الإنسان يتوَهَّم أنّه إذا كان غَنِيًّا فقد كرَّمه الله، وأنَّه إن كان فقيرًا فقد أهانه الله، فالله تعالى يردُّ على هذا الوَهْم ؛ كَلاَّ وهي أداة ردْعٍ ونفْيٍ، ليْسَت نفْيًا فقط، فلو قال لك أحدهم: هل أنت سارق ؟ تقول له: كلاَّ، ترْدَعُهُ على هذه التُّهْمة أما لو سألك: هل أنت جائع ؟ تقول له: لا، فالجوع ليس تُهْمَة، فَكَلاَّ تُضيف إلى النَّفْي الرَّدْع، أي يا عبادي ليس عطائي إكْرامًا، ولا مَنْعي حِرْمانًا، عطائي ابتِلاء، وحِرْماني دواء ؛ وهذا مع التَّفصيل
 إنسان آتاه الله المال ؛ هل يُعَدُّ المال نِعْمَةً ؟ لا ! هل يُعَدُّ نِقْمَةً ؟ لا ! ليس نِعْمَةً وليس نقْمَة، إنَّما المال ابتِلاء، فهو يكون نِعْمة إذا أُنْفقَ في طاعة الله، ويكون نقْمَةً إذا أُنْفِقَ في معْصِيَة الله، فهُوَ مَوْقوف على كَيْفِيَّة اسْتِخْدامِه ؛ ليس نِعْمَةً وليس نقْمَة وليس عطاءً إنَّما ابْتِلاء، وقِسْ على المال كلّ حُظوظ الحياة، فالذَّكاء هل هو نِعْمَة أم نِقْمَة ؟ هو مَوْقوف على نَوْع اسْتِعْمال الذَّكاء، فلو اسْتَعْمَلْتَ الذَّكاء في أخذ أموال الناس والإيقاء بينهم، وفي قهْرِهِم فَهُوَ ذكاء، ولو اسْتَخْدَمْتَ الذَّكاء في نَشْر الحق، وعَرْضِهِ عرْضًا رائِعًا، وفي تأليف القلوب وحل مُشْكِلاتِهم ؛ الدُّنْيَوِيَّة والأُخْرَوِيَّة فهذا الذَّكاء نِعْمة كبيرة وُظِّف في الحق.
 طيِّب الوَسامَة ؛ واحِد وسيم، إذا الوسامَة جعلها في الحق بأن دعا إلى الله وشَكْلُهُ وسيم وأنيق، فالناس تُحِبُّ الشَّكْل الوَسيم، أما إن اسْتَخْدَمَ وسامَتَهُ لإغْواء الفتيات فقد جعل هذا الحظّ نِقْمَة ومَعْصِيَةً ؛ فما مِن حظٍّ مِن حُظوظ الدنيا إلا ويُوَظَّفُ في الخير أو الشرّ.
دُعينَا مَرَّةً لافْتِتاح مسْجد في الصَّبورة ؛ مَسْجِدٌ رائِع ضِمْن حديقة، ويحوي كلّ المرافق الرائِعَة، والذي بنى المَسْجِد اسْتَقْبلَنا واحِدًا واحِدًا ثمَّ دعانا إلى الغذاء، ثُمَّ ألقيت الكلمات مِن قِبَل عدَدٍ من العلماء وحينما ودَّعَنا كان باشًّا ! رَكِبْتُ مَرْكَبة مُتَّجِهًا إلى دمَشْق فإذا على الطَّرف الآخر مَلْهى ؛ وما مِن موبِقَةٍ إلا وفي هذا المَلْهى، فهذا المَسْجد احْتاج إلى أموال، وهذا الملْهى احْتاج إلى أموال، فالمال واحِد ولكن من المال ما أُنفِق لِيَكون مسْجِدًا، ومنه ما أُنْفق لِيَكون ملْهًى.
 واحِدٌ آتاه الله تعالى صوْتًا حَسَنًا، قرأ القرآن ؛ مات ولكن صَوْتُه يصدح به إلى يوم القيامة، وهذا مُغَنِّي مات فأُغْنِيَّاتُه تصْدح إلى يوم القيامة، وكذا الخط الحسَن، والمال والعقل والحسَب والنَّسب والأولاد فكلّ هذه ليْسَت نِعَمًا ولا نِقَمًا، إنَّما هي ابْتِلاء ! يا عبادي ليس عطائي إكْرامًا، ولا مَنْعي حِرْمانًا، عطائي ابتِلاء، وحِرْماني دواء ؛ قال تعالى: فأما الإنسان إذا...فيقول " هو الذي يقول هذا الكلام الواهِم والذي يحلم به، فأكثر الناس الآن إذا آتاه الله المال، ويقولون: إذا أحَبَّ عبْدَهُ أرى لهُ مُلْكَهُ ! لا يدَعُ ملْهى، ولا مكانًا مُنْحَطًّا إلا وزارهُ ثمَّ تقول: إذا أحَبَّ عبْدَهُ أرى لهُ مُلْكَهُ ! إذًا الله تعالى لا يحبّ عبده ! مِن مكَّة إلى المدينة إلى الطائف ! ما رأى شيئًا ؛ لا هذه المُدُن الجميلة، ولا هذه الملاهي الضَّخْمَة، إنَّما بِلاد قاحِلة وسوداء، وصحْراء حارَّة فَمِن أين هذه المقولات ؟ إذا أحَبَّ عبْدَهُ أرى لهُ مُلْكَهُ ! قال تعالى: وكذلك نري إبراهيم ملكوت..." حقيقة الكون، وحقيقة الإنسان، وحقيقة العمل الصالح، فهذه نُقْطة دقيقة جدًا ؛ حُظوظ الدنيا مِن مال ونَسَب وحسب وجمال وذكاء واخْتِصاصات، وهذه الشهادات العالِيَة قد يسْتخدِمُها لابتزاز أموال الناس ؛ لأنّ الناس يُصَدِّقونه، فلو قال الطبيب للمريض لا بدّ لك مِن تخطيط، فهل يستطيع المريض أن يُناقِشَهُ ؟! وقد يقول لك: لا بدّ لك مِن ثمانِيَة تحاليل ! أما إن وظَّف الإنسان اخْتِصاصه في خِدْمة المسلمين أصبحَ نِعْمة، فَيُمكِن لك أن تَحُلّ مليون مشكلة وأنت في المنصب، وممكن بالمنصب نفسه تكسب مليون مشكلة كل يوم ! ويكون منْصِبك هاوٍ بك إلى أسفل جهنَّم، إما أن تُحِق الحق لِوَجه الله، وإما أن تُحِقَّ الباطل مُقبل مبْلغ تأخذه، وحينها يصبح الحق باطلاً، والباطل حقًّا، لذلك قالوا بآخر الزمان قاضيان إلى النار وقاضي إلى الجنَّة، وفيها تعديل وهو قاضيان إلى النار وقاضٍ إلى جهنَّم ! الحُكْم لِمَن يدْفَع، وهذه مُشْكِلَة، لذلك أيها الإخوة، الحُظوظ تُوَظَّف في الحق وتُوَظَّف في الباطل.
 أحد إخواننا العلماء كان بِبَلَدٍ إسْلامي، فقالوا له أحد كبار الأغنِياء قدَّم لِطَلبة العلم الشرعي بسيط ؛ كم ؟ ثلاثمائة مليون دولار ! فقال: والله أُحبّ أن أرى هذا الإنسان، فأقاموا جلسة للفطور، فجاء هذا العالم الدِّمَشقي حتَّى يلْتقي مع هذا الغنِيّ المُحْسِن، فما جاء هذا الغنِيّ ! انْتَظَر ساعة وأكثر، فسأل عنه أين هو ؟ فقالوا له: جاء وله الآن وقد بقي طويلاً ينتظر ولكن مِن شِدَّة أنَّه مُتواضع لا يظهر عليه أنَّهُ دفه مبْلَغًا كهذا ! أما أحدهم يدْفع خمسة وعشرون ألفًا فتراه يحبّ أن يجلس على الرُّخام ! أنا والله أغْبط العلماء، فقد يصِلوا إلى أعلى مرتبة بالجنَّة، ويُنافِسوا أكبر عالم في الإسلام، وهكذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: لا حسد إلا في اثنتين:..." فالغنيّ المؤمن إذا وظَّف ماله في الحق وصل إلى رتبة كبيرة ؛ فَكَم كم أسرة تُعاني البؤس وشقاء المعيشة ؟ وكم من إنسان يحْتاج إلى عَمَلِيَّة جراحِيَّة ؟ وكم من شابٍّ طرق الزواج مُغْلَقَة أمامه، فمجال العمل الصالح بالمال لا يُعَدُّ ولا يُحْصى، والأغنياء المؤمنون يمكنهم أن يصلوا إلى أعلى مرتبة في الجنَّة بِمَالهِم فقط ! كما أنَّ العلماء يصلون بِعِلْمِهم وإنْفاقِه فالمال إذًا قُوَّة تُوَظَّف في الحق فتُؤتي أُكلها يانِعَةً.
 شيخ الأزهر السابق جاد الحق، فَمَشى بِجَنازته ستَّة ملايين إنسان، ساكن بِبَيْت مائة متر طابق رابع، ومعه الْتِهاب مفاصِل ! وتحت يدِهِ مئات الملايين للأزْهر، ولا توجد قريَة بِمِصر إلا أنشأ فيها معهد شرعي تابِع للأزهر، وتُوُفِّيَ وهو فقير، فالعِبْرة أن يموت الإنسان على حقّ، فالعالم إذا توَفَّى يُحْدِث هزَّة للعالم كلِّه له، ترك تفسير قرآن ودعوة إلى الله وصَحْوة إسلامِيَّة، وهناك مَن ترَكَ ملْهى فهو له صَدَقَة جارِيَّة إلى يوم القيامة !
 فالقَصْد مِن كلامي ؛ أنّ الحُظوظ إما أن تُوَظَّف في الخير، وإمَّا في الشرّ، يقولون لك في بعض البلاد المُجاوِرَة كازينو ؛ القاعة الواحد مُكَلِّفَةً لثلاثين مليون دولار ‍‍!! قاعة قِمَار، وحفلة بِفُنْدق خمسة نجوم كلَّفَتْ سِتِّين مليون ؛ حفلة عرس ! لو تأمَّن بيتًا بِمئة ألف في أطراف دمشق، وخمسين ألف لوازم الزوج، فكم مِن شابٍّ سيَتَزَوَّج ؟! لذلك الكفار إذا أنفقوا الأموال أنفقُوها إسرافًا وتبْذيرًا، وإن منعوها منعوها بُخْلاً وتقْتيرًا.
 أحد إخواننا أراد أن ينشأ جامِعًا في نَهْر عيشَة، فوَجَد قطْعَةً مساحتها ثلاثمائة متر لإنسانٍ مُدَرِّس فقير معاشُه ثلاثة آلاف ليرة فقط، وهو أرخَص معاش في الدَّوْلة، فهذا الغنِيّ أراد أن يشتري هذه القطعة وثمنها ثلاثة ملايين ونصف ! فباعهُ هذا الفقير القطعة بِمليونين، وقال له: مليون ونصف هذه عند التنازل للأوقاف، فهذا الغنيّ لا يفْهم شيئًا من هذا ! فقال له ما الأوقاف ؟ قال الغنيّ: هذه نريد أن نُقيمَها جامِعًا فقال الفقير: جامِع ! فقَطَّع الشيك وقال له: أنا أوْلى أنْ أُقَدِّمَها لله منك ! يقول هذا الغنيّ: والله ما احْتَقَرْتُ نفْسي وما صَغُرَت أمام إنسان كانْذِلالها أمام هذا الفقير الذي راتبُهُ زهيد، ما هي الدنيا ؟ عمل صالِح فابْذُل علْمك ومالك ووقْتَك وخِبْرتَكَ حتّى تُلاقي الله وهو راضٍ عنك قال تعالى: فأما الإنسان إذا ما ابتلاه...كلا "ليس عطائي إكرامًا ولا منْعي حِرْمانًا ، عطائي ابْتِلاء، وحِرْماني دواء، أنت مُبْتَلى فيما أُعطيتَ وفيما مُنِعْتَ، لذلك كان عليه الصلاة والسلام: اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله عونا لي فيما تحب، وما زللت عنِّي ما أحبّ فاجْعَلْهُ لي فراغًا فيما تحبّ.

تحميل النص

إخفاء الصور