وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 47 - سورة التوبة - تفسير الآيات 64 - 66، عقاب الله للمنافقين، والمجرم هو القاطع.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


الاستعداد لدفع خطر متوقع هو المعنى الذي يُفهم من كلمة احذر :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السابع والأربعين من دروس سورة التوبة، ومع الآية الرابعة والستين وما بعدها وهي قوله تعالى:

﴿  يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ(64)﴾

[ سورة التوبة ]

 أيها الإخوة الكرام، أصل الحذر أن تستعد لدفع خطر متوقع، فإذا قلت لمسافر: خذ حذرك؟ قد يسافر ومعه صديق، وقد يسافر ومعه سلاح، فالاستعداد لدفع خطر متوقع هو المعنى الذي يُفهم من كلمة احذر، والحذر.

ولكن كيف نفهم هذه الآية الكريمة في ضوء هذا التعريف، ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ﴾ المنافق ما الذي يخيفه؟.

 أولاً: زمرتان من البشر واضحتان جداً، المؤمنون والكفار، المؤمن واضح آمن بالله خالقاً، ورباً، ومُسيِّراً، وانصاع لمنهجه تطبيقاً وإخلاصاً، والكافر أنكر الإيمان، وتحرك وفق شهواته، فالكافر واضح، والمؤمن واضح، إلا أن هناك صنفاً ثالثاً له لبوسان، له موقف خاص يفعله إذا خلا، وموقف عام يفعله أمام المؤمنين، هذا المنافق، المنافق له ظاهر، وله باطن، له سريرة، وله علانية، له موقف خاص، وله موقف معلَن، هذه الازدواجية عند المنافق تقتضي الحذر، فالمنافق أظهر الإيمان أمام المؤمنين، حرصاً على مكاسب يجنيها من هذا الموقف، وأخفى الكفر، فهذا المنافق الشيء الذي يخافه كثيراً أن تُنزَّل آية تفضحه.

 حينما سمع طفل صغير اسمه الجُلَّاس من عمه هذه الكلمة التي قالها في البيت: لو أن محمداً صادق فيما يقول لكنا شراً من الحمر، فحينما عرض هذا الطفل الصغير على النبي هذه المقولة نزل قوله تعالى:

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ۚ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) ﴾

[  سورة التوبة  ]


الله عز وجل سمح للبشر أن يروا الظاهر لكن السرائر لا يعلمها إلا هو :


 لذلك أيها الإخوة، كلمة يحذر بالنسبة للمنافق نفهمها أن المنافق أعلن الإيمان، وأخفى الكفر، أعلن الانسياق بأمر الله، وأخفى المعصية سراً، فهو مزدوج الشخصية، وذو الوجهين - كما قيل- لا يكون عند الله وجيهاً، فهذا المنافق يحذر أن تنزل آية في القرآن تفضحه، قال تعالى:

﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ لحكمة بالغةٍ بالغة الله -عز وجل- سمح للبشر أن يروا الظاهر، لكن السرائر يعلمها الله -عز وجل-، فالإنسان إذا أسرَّ سريرة لحكمة بالغةٍ بالغة لابد من أن يكشفها الله للبشر بوقت طويل أو قصير، لذلك قيل: يمكن أن تخدع معظم الناس لبعض الوقت، بل يمكن أن تخدع بعض الناس لكل الوقت، أما أن تخدع كل الناس لكل الوقت فهذا مستحيل وألف ألف مستحيل، لكني أعلق وأقول: أما أن تخدع نفسك أو أن تخدع ربك فهذا مستحيل، ولا لثانية واحدة، لقوله تعالى:

﴿  بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14)  ﴾

[  سورة القيامة ]

﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16)﴾

[  سورة ق  ]

 فالإنسان حينما يؤمن أن الله معه كيف يعصيه؟ 

تعصي الإله وأنت تظهر حبه  ذاك لعمري في المقال شنيع

لـو كان حبك صادق لأطعته إن الـمحب لمن يحب يطيع

[ عبد الغني النابلسي ]

 فالمؤمن من خصائصه أنه واضح، سريرته كعلانيته، ظاهره كباطنه، وهو مع الحق والحق لا يخشى البحث، ولا يُستحيا به، الحق ينبغي أن تعلنه على الناس كافة، لأن الحق هو الله -عز وجل-.


الدين قضية مصيرية تتعلق بها سلامتك وسعادتك في الدنيا والآخرة :


 أريد أن أوضح نقطة دقيقة هي أن الحق يشبه دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط، خط النقل الصحيح، الدين نقل، لكن هناك نقل صحيح، و هناك نقل غير صحيح، فالبطولة إذا نقلت أن تنقل ما هو صحيح، هناك أحاديث لا تعد ولا تحصى موضوعة، وهناك تأويل لآيات غير صحيح، فالبطولة أن تعتمد النص الصحيح بتأويل صحيح، لأن هذا الدين حياتك، ومستقبلك، ومصيرك.

((  إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم ))

[ رواه أنس بن مالك في الجامع الصغير وفي سلده ضعف ]

سيدنا عمر يقول لابنه عبد الله: " ابن عمر دينك دينك إنه لحمك ودمك، خذ عن الذين استقاموا، ولا تأخذ عن الذين مالوا " .

 فقضية الدين قضية خطيرة، بل قضية مصيرية، الإنسان قد ينجح من صف إلى صف أما بالشهادة الثانوية فهناك علامات، هذه العلامات تحدد مصيره، قد يكون طبيباً، أو مهندساً، أو باختصاص ليس عليه طلب إطلاقاً، بالحياة أشياء مصيرية تحدد مصير الإنسان، إما في سعادة أبدية، أو في شقاء أبدي، فقضية الدين قضية مصيرية، ليس الدين وردة تضعها على صدرك من حين لآخر، الدين قضية مصيرية تتعلق بها سلامتك وسعادتك في الدنيا والآخرة.


حقيقة المنافقين :


 لذلك المنافق له باطن كُفري، وله ظاهر إيماني، أراد أن يكسب من الطرفين، أراد أن يكون في تفلت كامل فيما بينه وبين حياته الخاصة، وأراد أن يكون مع المؤمنين في الظاهر كي ينال من مكاسبهم، هذه حقيقة المنافقين.

فلذلك المنافقون يحذرون أن تُنزَّل: ﴿سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ المؤمن حياته فيها طمأنينة، فيها صراحة، فيها وضوح، لا يخشى المساءلة، ظاهره كباطنه، باطنه كظاهره، سره كعلانيته، علانيته كسرِّه، هذا التطابق التام بين الظاهر والباطن، بين حالته الخاصة وحالته العامة هو سرّ قوته، فالحق لا يُستحيا به، الحق لا يخشى البحث، الحق يُعلَن على الملأ، الحق لا يُقال في غرف مغلقة، لا يقال في الأقبية، الحق يقال على الملأ، في رابعة النهار، بل يقال في الإذاعة، إذاً فالحق واضح كالشمس لا يخشى البحث، لا يُستحيا به، تقوله على الملأ، تقوله وأنت واثق من أحقيّته، هذا الحق الذي هو الدين، الحق يكاد يكون دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط، خط النقل الصحيح هناك نقل موضوع، ونقل غير صحيح، ونقل موهوم، وتأويل لنقل صحيح غير صحيح، فتتقاطع في هذه الدائرة أربعة خطوط، خط النقل الصحيح، وخط العقل الصريح، هناك عقل تبريري، هذا عقل سيئ جداً، الهدف أن مصالحك في المقدمة، يأتي العقل ليبرر، كأن يقول المستعمرون مثلاً: جئنا إلى هذا البلد من أجل حريتكم، هم جاؤوا من أجل النفط، لا من أجل حريتنا.

 فالعقل الصريح أحد خصائص الحق، الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط، خط النقل الصحيح، وخط العقل الصريح، وخط الفطرة السليمة، وخط الواقع الموضوعي، هناك واقع مزور، لو فرضنا أن إنساناً قال: إن معظم المسلمين عندهم أكثر من زوجة، هذا الكلام غير صحيح، الذي يعدد ثلاثة في المئة فقط من مجموع البشر، فهناك كلام غير صحيح.

 إذاً أريد أن ألح على أن الحق دائرة تتقاطع فيها أربعة خطوط، خط النقل الصحيح، وخط العقل الصريح، وخط الفطرة السليمة، وخط الواقع الموضوعي، هذه كلها تتوافر في الحق، والحق هو هذا الدين، والحق هو الوحي، والحق هو السيرة والسنة، والحق ما جاء به الوحي السماوي.

 لذلك هؤلاء المنافقون يحذرون أن تنزل آية تفضحهم، ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ .


غيب المستقبل لا يعلمه إلا الله عز وجل :


 بالمناسبة عندنا شيء اسمه غيب، عندنا غيب الماضي، وغيب الحاضر، وغيب المستقبل، وغيب مكاني، وغيب زماني، فغيب الماضي، والحاضر، والمستقبل غيب زماني، وأنت الآن في هذا البلد لا تدري ما يكون في بلد آخر هذا غيب مكاني.

 فلذلك النقطة الدقيقة جداً أن غيب المستقبل لا يعلمه إلا الله، وأي إنسان يدّعي أنه يعلم الغيب فهو كاذب، لأن الله -سبحانه وتعالى- يقول عن رسول الله قل:

﴿ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ ۖ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31) ﴾  

[ سورة الأنعام ]

 أما الذي ورد عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بأشراط الساعة هذا من إخبار الله له، هو بذاته لا يعلم الغيب، أيّ بشر كائناً من كان حتى الأنبياء والمرسلون لا يعلمون الغيب، أما إذا تحدثوا عن المستقبل فإخبار الله لهم عن هذا المستقبل. 


الحق لا يخشى البحث لأن الحق هو الله عز وجل :


 أيها الإخوة الكرام، المنافق أبطل الكفر وأظهر الإيمان، إذاً هو يخاف أن تُنزَّل سورة تفضحه، أما المؤمن واضح وضوح الشمس، ليله كنهاره، سره كعلانيته، ما يضمر كما يعلن، هذه صفة بالإنسان رائعة جداً، واضح، ليس معه حالة قلق، حالة خوف، حالة وَجَل، لا، واضح، يقول النبي الكريم:

(( قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ ))

[  ابن ماجه عن العرباض  ]

 لذلك مرة ثانية: الحق لا يخشى البحث، والحق لا يُستحيا به، والحق يُعلَن على الملأ ولا أحد على وجه الأرض يستطيع أن ينطق بكلمة، لأن الحق هو الله -عز وجل-، والحق أساسه نقل صحيح، وعقل صريح، وفطرة سليمة، وواقع موضوعي، الواقع المزور يتناقض مع الحق، الفطرة المنطمسة تتناقض مع الحق، العقل التبريري يتناقض مع الحق، النص الموضوع يتناقض مع الحق، لابد من نقل صحيح، وعقل صريح، وفطرة سليمة، وواقع موضوعي. 


الغيب و أنواعه :


 الآن ما دام الحديث عن الغيب، عندنا غيب المستقبل، هذا لا يعلمه إلا الله، حتى الأنبياء والمرسلون لا يعلمون الغيب، أما غيب الماضي فغاب عنا، لكن الله -عز وجل- أخبرنا بأشياء كثيرة من غيب الماضي، والدليل قوله تعالى:

﴿ تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ ۖ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَٰذَا ۖ فَاصْبِرْ ۖ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)﴾

[  سورة هود  ]

 وأحد دلائل نبوة النبي أن الله -سبحانه وتعالى- أخبره بقصص وحوادث من عالم الغيب الماضي.

 هناك شيء آخر: غيب المستقبل في بعض الآيات أخبر الله عنها، هناك شيء يلفت النظر، الله -عز وجل- قال:

﴿  غُلِبَتِ الرُّومُ(2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)﴾

[  سورة الروم ]

 غلبت فعل ماض.

﴿  فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ( 4) بِنَصْرِ اللَّهِ ۚ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5)﴾

[  سورة الروم ]

 أولاً: هناك استنباطان دقيقان من خلال هذه الآية، الاستنباط الأول: أن غيب المستقبل لا يعلمه إلا الله، وأنه أخبر أنبياءه عن أشياء لم تقع، لكنها سوف تقع كهذه الآية.

 لكن هناك شيء ثان، قال: ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ معنى ذلك هناك قواسم مشتركة بين الأديان السماوية، قواسم مشتركة بين الحق، بين أهل الحق، فمن علامة إيمانك أنك تقدّر من هم على شاكلتك في الدعوة إلى الله. 


الدعوة إلى الله دعوتان :


 لهذا أقول دائماً: الدعوة إلى الله دعوتان، دعوة إلى الله خالصة، ودعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله، فالدعوة إلى الله الخالصة أساسها الاتباع.

﴿ قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ ۖ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (9)﴾

[  سورة الأحقاف  ]

 والدعوة إلى الله الخالصة أساسها التعاون.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)﴾

[  سورة المائدة  ]

 والدعوة إلى الله الخالصة أساسها الاعتراف بالآخر، بينما الدعوة إلى الذات المغلفة بالدعوة إلى الله أساسها الابتداع لا الاتباع، والدعوة إلى الذات المغلفة بالدعوة إلى الله أساسها عدم التعاون، التنافس، والدعوة إلى الذات المغلفة بالدعوة إلى الله أساسها إلغاء الآخر بالمصطلح المعاصر إقصاء الآخر، فالمؤمن ليس إقصائياً، هو يدعو إلى الله، يتبع لا يبتدع، يتعاون لا يتنافس، يقدّر الآخر، لا يلغي وجوده. 


كل شيء وقع أراده الله وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة :


 إذاً هذا غيب المستقبل قد أخبر الله عنه، مثلاً:

﴿ سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا ۚ قُل لِّلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (142) ﴾

[  سورة البقرة  ]

 هذا شيء لم يقولوا بعد، ﴿سَيَقُولُ﴾ هؤلاء السفهاء وُصفوا بأنهم سفهاء، فلو سكتوا لأبطلوا هذه الآية، سكتوا فقط.

﴿  تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ(1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ(2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ(3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ(4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ(5)﴾

[  سورة المسد ]

 لو أن أبا لهب توجه إلى النبي وأعلن إسلامه ظاهراً ألغى هذه السورة، لو أن السفهاء سكتوا ألغوا هذه الآية، إذاً هذا يُستنبَط منه أن الله -سبحانه وتعالى- طليق الإرادة، الأمر بيد الله -عز وجل- الله:

﴿  فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ(16)﴾

[  سورة هود ]

 لو أن هؤلاء السفهاء سكتوا ولم يقولوا لأبطلوا هذه الآية، هذا يُستنبط منه أن الله -عز وجل-﴿فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ﴾ كل شيء وقع أراده الله، وكل شيء أراده الله وقع، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق. 


أي إنسان يدّعي أنه يعلم الغيب فهو إنسان كاذب :


 أيها الإخوة، لذلك هذه الآيات التي تتحدث عن أقوام سابقين تلخصها الآية الكريمة: ﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ﴾ غيب الماضي الإخبار عنه دليل نبوة هذا النبي الكريم، وغيب الحاضر قد يكون شيء حدث في مكان آخر، هو غاب عنك مع أنه وقع، وقع في الوقت نفسه هذا غيب الحاضر، أحياناً ربنا -عز وجل- أخبرنا عنه.

الآن أي إنسان يدّعي أنه يعلم الغيب فهو كاذب وهذه حقيقة مهمة جداً، فلذلك هذه الآية تلغي عمل المشعوذين، والدجالين، والكذابين، والقصاصين، وكل إنسان يوهم الناس أنه يعلم الغيب فهو كاذب، كاذب وينبغي أن تركله بقدمك، لأن الله -عز وجل- اختص بعلم الغيب، لكن أحياناً تقتضي حكمته أن ينبئ أنبياءه أو النبي الكريم عن أحداث سوف تقع مصداقاً لنبوته، هذا من إعلام الله له وليس من علمه بذاته. 


الابتعاد عن وضع المواضيع المقدسة الإلهية في مجال اللعب :


 أيها الإخوة الكرام، ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ أحياناً كان المنافقون إذا جلسوا مع بعضهم بعضاً يتحدثون عن هذا النبي، وعن هذا القرآن بسخرية لاذعة، فقيل: أتستهزئون بهذا؟ بمنهج العظيم؟ بقرآن كريم؟ الآية الكريمة:

﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ هذا الأمر أمر تحدّ وأمر توبيخ، ﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا﴾ سوف تعلمون نتائج هذا الاستهزاء، فالإنسان ينبغي أن يبتعد عن أن يضع المواضيع المقدسة الإلهية في مجال اللعب أحياناً، ﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾

﴿  وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ(65)﴾

[  سورة التوبة ]


أشقى الناس من كان في خندق معاد للحق :


 أيها الإخوة الكرام، بعض الكفار كانوا إذا جلسوا فيما بينهم، حينما علموا أن بعض أقوالهم قد ينزل بها وحي فكانوا يقولون: لا داعي أن نتكلم حتى لا يُنزَّل فينا قرآن، هذا من أقوالهم، لا داعي أن نتكلم حتى لا ينزل فينا قرآن، لكن من هو أشقى الناس؟ هو الذي يكون بخندق معادٍ للحق، أشقى الأشقياء الذي كان في خندق آخر غير خندق الحق، لأن الله -سبحانه وتعالى- يبين أن الله بيده كل شيء، وأن كيد الله متين، والمتانة صفة مادة تتحمل الشد، عندنا مقاومة قِوى الشَّد، المادة التي تقاوم قوى الشد نسميها بالمادة المتينة، والمادة التي تقاوم قوى الضغط نسميها بالمادة القاسية، من أمتن المواد في الأرض الفولاذ المضفور، خيط من الفولاذ قطره ميلي متر، يحمل مئتي كيلو، فإذا كان الفولاذ مضفوراً يحمل أكثر، الآن المصاعد بالفولاذ المضفور، التل فريك بالفولاذ المضفور، الأشياء التي تتحمل أوزاناً كبيرة جداً نعلقها بالفولاذ المضفور، فالفولاذ المضفور أمتن معدن في الأرض، والمتانة مقاومة قوى الشد، أما أقسى مادة في الأرض الألماس تقاوم قوى الضغط، مثلاً الاسمنت السنتمتر المربع أو المكعب منه يتحمل خمسمئة وخمسين كيلو ولا ينكسر، بينما هذا السنتيمتر المكعب لو وضعته بين فكين وسحبته يكسر على خمسة كيلو، لذلك الاسمنت ينبغي أن يكون مُسلحاً، مقاومة قوى الضغط عالية جداً، أما مقاومة قوى الشد فضعيفة جداً، فلابد من إسمنت مسلح، التسليح ليقاوم قوى الشد لا قوى الضغط، الآن ما علاقة هذا الكلام بالآية في قوله تعالى:

﴿ وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) ﴾

[  سورة الأعراف ]

 أي هذا الكافر مربوط بحبل لكنه مُرخى، ففي أية لحظة يُشد هذا الحبل فإذا هو في قبضة الله، وهذا أكبر وهم يدمر الكافر، لا يدخل الله في حساباته أبداً، يعتمد على قوته، على ذكائه، على معلوماته، على من حوله، على جمعه الغفير، وينسى الله -عز وجل-، لكنه يُفاجأ من حيث لا يحتسب، عرفت الله من نقض العزائم، فالذي يعتمد على إمكاناته، وعلى عقله، وعلى ماله، وعلى من حوله، وينسى الله، أنا أرى أن أغبى الأغبياء في الأرض هم الذين ما أدخلوا الله في حساباتهم، ﴿إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾ المتانة مقاومة قوى الشد. 


من ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى :


 الآية التي تقول: ﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا﴾ هذا أمر تحدٍّ، استهزئ وسوف تُحاسَب، لكن أن تكون في خندق معادٍ للحق؟ أن تكون تحت وعيد إلهي؟ هذا شيء مخيف، فهذا هو الغباء بعينه، أن تنسى أن الله بيده كل شيء، وأن مرجعك إليه، ومصيرك إليه، وحياتك بيده، وموتك بيده، ورزقك بيده، والسعادة بيده، والشقاء بيده، لذلك لما الله -عز وجل- قال:

﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) ﴾

[ سورة الأنفال ]

 شيء رائع جداً، قال:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) ﴾

[  سورة الحديد ]

 هذه معية عامة، معكم بعلمه، أما إذا قال: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هذه معية خاصة، معكم بالتوفيق، معكم بالحفظ، معكم بالنصر، معكم بالتأييد، فإذا كان الله معك فمن عليك؟ وإذا كان عليك فمن معك؟ لذلك معية الله ثمينة جداً.

 أيها الإخوة الكرام، ﴿قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ من ابتغى أمراً بمعصية كان أبعد مما رجا وأقرب مما اتقى، ﴿إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ﴾ .


تناقض العبث مع الدين :


﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ مثلاً للتقريب: أستاذ جامعي أمامه ورقة أسماءالطلاب وعليها يضع العلامات، وكلمة العلامات تعني مصير هذا الطالب بالنجاح أو الرسوب، النجاح أي أخذ شهادة عليا، وتعين بوظيفة راقية، وتزوج، هل من الممكن أن يجرب الأستاذ قلمه على هذه الأوراق؟ إنسان يأخذ صفراً بشكل عابث؟ العبث يتناقض مع هذا الدين.

﴿  أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115)﴾

[  سورة المؤمنين ]

 كلام دقيق. 


الحق و الباطل :


 ما هو الحق؟ الحق هو الله، لكن من بعض تعريفات الحق لأن هناك آيات كثيرة جداً، بالمئات:

﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا ۖ وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119) ﴾  

[ سورة القرآن ]

 ما هو الحق؟ الحق الشيء الثابت والدائم، الثبات والديمومة، ما هو الباطل؟ الشيء العابث والزائل، مثلاً: نحن ممكن أن نعمل سيركاً، السيرك يعمل لمدة أسبوعين أو ثلاثة، فلا يوجد داعٍ للبناء، الخيام تكفي، وأشياء للتسلية، فيل مثلاً، بعض الحيوانات، بعض الألعاب البهلوانية، هذا السيرك، فالسيرك هدفه إمضاء الوقت فقط، تسلية، فالهدف ليس هدفاً عظيماً، هدف زائل وعابث، أما الحق كتأسيس جامعة من أجل تخريج قادة للأمة، يجب أن يكون بناؤها ضخماً قد يعيش مئات السنين، فالفرق بين بناء لهدف نبيل كالجامعات و المساجد مثلاً وبين بناء لهدف رخيص كالسيرك .

 فالشيء الحق هو ثابت وله هدف كبير، هادف وثابت، والباطل زائل وعابث، فحيثما قرأت كلمة الحق في القرآن، أُنزِل هذا الكتاب بالحق، لهدف كبير أن تسعد في الدارين، وهذا الحق لا يتبدل ولا يتغير، تمر أمم، شعوب، أقوام، رخاء، شدة، الحق ثابت، ومبادئ الحق ثابتة. 


بطولة المؤمن أن يكون مع الحق وليس مع الباطل :


 لذلك: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ اللعب عمل عابث، إذا لم يكن هناك إيذاء للآخرين ممكن، لكن ألا يكون في موضوعات خطيرة، الموضوع الخطير ممنوع أن يكون عُرضةً للعب والعبث، هناك آية كريمة تقول:

﴿  وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ(16) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(17)﴾

[  سورة الدخان ]

﴿مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ بالحق لهدف كبير، بالحق الحق ثابت، أحياناً تقرأ كثيراً، تراجع كثيراً، لكن الحق ثابت لا يتغير، طوبى لمن كان مع الحق، والويل لمن كان مع الباطل، الباطل زائل، في بلاد شمال الأرض كان الفكر الإلحادي منتشراً لمدة سبعين أو ثمانين سنة ثم تهاوى وأصبح زائلاً.

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81) ﴾

[  سورة الإسراء ]

 زهوق صيغة مبالغة، أكبر باطل زائل، ومليون باطل زائل، فكل بطولة المؤمن أنه مع الحق وليس مع الباطل.

إذاً الآية الكريمة: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ﴾ الله عاتبهم وقال: ﴿قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ﴾ أيعقل أن تكون الموضوعات الكبرى في الحياة، موضوع الإيمان بالله، الإيمان برسول الله، الإيمان بكتاب الله موضع استهزاء أو موضع لعب؟ لذلك قال تعالى:

﴿  لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ(66)﴾

[  سورة التوبة ]


رحمة الله عز وجل رحمة واسعة :


 هناك ملمح دقيق: هم لم يؤمنوا، لكن أعلنوا إيمانهم، هم قدموا هوية لهم أنهم مؤمنون، فربنا -عز وجل- بهذا المعنى ذكر هذا الكلام، ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ بعد أن أعطيتم أنفسكم هوية إيمانية، وحصّلتم بها مكاسب كبيرة، وأنتم تبطنون الكفر، ﴿قَدْ كَفَرْتُمْ﴾ كنتم بنظر الآخرين مؤمنين فلما عبرتم عن هذه السخرية وهذا الاستهزاء بالكتاب والسنة أصبحتم كافرين ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ لكن رحمة الله -عز وجل- قال: ﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ﴾ أي هؤلاء المنافقون الذين سخروا من دين الله، من كتاب الله، من رسول الله، لو أنهم عادوا لقبلهم الله -عز وجل-. وقد قيل: إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.

 والآية واضحة جداً:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ﴾

[  سورة الزمر  ]

 فلذلك قال بعض علماء التفسير: هذه أرجى آية في كتاب الله، ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً﴾ .


المغفرة تكون بعد الإيمان بالله عز وجل :


 لكن لو تابعنها:

﴿ وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ (54) ﴾

[  سورة الزمر  ]

 المغفرة تكون بعد الإيمان، لذلك:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا (48)﴾  

[ سورة النساء  ]

 الشيء الدقيق: ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ﴾ أي تابت ورجعت، المنافقون سخروا من هذا الدين، من هذا الكتاب، من هذا النبي، ومع ذلك إذا عادوا إلى الله انتهى كل شيء، فلذلك ما دام القلب ينبض أنت في بحبوحة المغفرة:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)﴾

[  سورة الأنفال  ]

 ما دامت سنتك قائمة فيهم هم في مأمن من عذاب الله، لكن عندنا مأمن ثان: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ لذلك: ﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ﴾ هؤلاء الذين سخروا بالكتاب، وبالسنة، وبرسول الله، إذا تابوا وعادوا إلى الله، فالله يتوب عليهم. 


من أصرّ على كفره و طغيانه فالنار مثوى له :


﴿نُعَذِّبْ طَائِفَةً﴾ مصرة على كفرها، وعلى نفاقها، ﴿بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ ما معنى مجرمين؟ أنت حينما تجرم أي تقطع، كمن جرم اللحم عن العظم، قطع اللحم، فهذا الذي أخذ هذا الموقف الساخر وأصر عليه قطع نفسه عن الحق، صار هو في واد والحق في واد آخر، هذا هو الجرم الكبير أن تكون في خندق معادٍ للحق، أن تكون في طرف آخر، لا مع أهل الحق.

﴿إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾ جرموا أنفسهم أي قطعوها عن الحق، أصبحوا في خندق معادٍ للحق، أصبحوا هم في مكان والحق في مكان آخر، أما المؤمن فمع الحق دائماً.

 لذلك الآيات:

﴿يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ﴾

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور