وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 48 - سورة التوبة - تفسير الآيات 67 - 68، صفات المنافقين، وباب التوبة مفتوح ما لم يغرغر.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


الأوامر الإلهية حينما تكون موجهة للذكور هي حتماً للإناث من باب التغليب :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الثامن والأربعين من دروس سورة التوبة، ومع الآية الكريمة:

﴿  الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ(67)﴾

[ سورة التوبة  ]

 أولاً: الأحكام التكليفية ذكورية:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ۖ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) ﴾

[ سورة التحريم  ]

 أكثر آيات القرآن الكريم المتعلقة بالتكليف جاءت ذكورية، لأنها تخاطب الذكور، لكن هناك في اللغة العربية، أو في البلاغة بحث دقيق هو التغليب، فإذا دخل إلى هذه القاعة فرضاً سبعون طالبة وطالب واحد نقول: دخل الطلاب، غلّبنا هذا الذكر على السبعين أنثى، فالتغليب كأن تقول: الوالدين، الأب لم يلد، اسمه والد، القمرين: الشمس والقمر، فلذلك التغليب حينما تأتي الأوامر الإلهية موجهة للذكور، هي حتماً للإناث، من باب التغليب، أية أخت كريمة، مؤمنة طاهرة، إذا قرأت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هي مخاطبة أيضاً بهذه اللغة، وكأن الله يقول: يا أيتها المؤمنات، هذا هو التغليب. 


في بعض الآيات لا بد من التفرقة بين الذكور والإناث :


 لكن في حالات قليلة لا بد من التفرقة بين الذكور والإناث:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)﴾

[ سورة النحل  ]

﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)﴾

[ سورة آل عمران  ]

 هنا: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ﴾ لأن المنافقون لهم مجالسهم، والنساء لهنّ مجالسهنّ، فربما تكلم النساء في مجالسهن كلاماً، الله -عز وجل- ينكره عليهن، وكذلك الرجال، فهو بالأصل أي آية موجهة إلى الذين آمنوا هي حكماً موجهة إلى المؤمنات، إلا في حالات، في بعض الآيات لا بد من ذكر الذكور والإناث معاً، هنا جاءت الآية: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ .


علة خيرية هذه الأمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :


 لكن قبل أن نتابع الآية: إذ يأتي بعد هذه الكلمات ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾   النقطة الدقيقة أن الله سبحانه وتعالى حينما قال:

﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) ﴾

[ سورة آل عمران  ]

 هي خير أمة بنص هذه الآية، وفضل كلام الله على كلام خلقه كفضل الله على خلقه، إله عظيم خلق الكون، يقول: ﴿كُنْتُمْ﴾ قال علماء التفسير: أيها العرب أصبحتم بهذه الرسالة ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ أصبحتم، كنتم هنا بمعنى أصبحتم بحسب السياق، ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ السؤال؟ ما علة هذه الخيرية؟ ما العلة؟ جاءت العلة: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ علة هذه الخيرية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لو تصورنا أن هذه العلة لم تُطبَّق، فقدنا خيريتنا، وأصبحنا أمة كأية أمة خلقها الله، يؤكد هذا قوله تعالى:

﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَىٰ نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ۚ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم ۖ بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ۚ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ۚ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ۖ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)﴾

[ سورة المائدة  ]


الأمة الإسلامية إن تخلت عن رسالتها فقدت خيريتها :


 الأمة العربية الآن لو تخلت عن هذه الرسالة، ولم تقم بما أراده الله لها أن تكون وسيطة بين الله وبين خلقه, ولم تعبأ بهذه الرسالة، عندئذٍ فقدت خيريتها، لذلك يصدق عليها ما يصدق على أية أمة شاردة عن الله -عز وجل-، ﴿كُنْتُمْ﴾ أي أصبحتم بهذه الرسالة خير أمة أخرجت للناس:

﴿ وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (143) ﴾

[ سورة البقرة ]

 أي وسطاء بين الله وخلقه، فإذا تخلينا عن هذه الرسالة، أو لم نعرف حقها، فقدنا هذه الخيرية، فلذلك في بعض الآثار النبوية كلام خطير قال:

(( كيف بكمْ أيُّها النَّاسُ إذا طَغى نِساؤُكم، وفسَقَ فِتيانُكم؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا لَكائنٌ؟ قال: نعمْ، وأشَدُّ منه، كيف بكم إذا تَركتُمُ الأمْرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا لَكائنٌ؟ قال: نعمْ، وأشَدُّ منه، كيف بكم إذا رأيتُمُ المُنكَرَ مَعروفًا والمعروفَ مُنكَرًا؟ ))

[ الطبراني في الأوسط وفيه ضعف ]

 هذا اسمه تبدل القيم، للتقريب: في النقد العربي، عدّ النقاد أهجا بيت قالته العرب على الإطلاق: 

دع المكارمَ لا ترحل لبغيتها    واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

[ الحطيئة ]

 أهجا بيت قالته العرب هو مع الأسف الشديد شعار أي إنسان في هذا العصر، مادام دخله وفيراً، بيته فخم، عنده مركبة فارهة، يقضي أوقاته الممتعة مع من يحب، يسافر، إذا كان همه هكذا، فقد انطبق عليه هذا البيت:  

دع المكارمَ لا ترحل لبغيتها    واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي

* * *


من عرف نفسه عرف ربه :


 ألم تسأل من الذي خلقك؟ ولماذا خلقك؟ ولماذا جاء بك إلى الدنيا؟ وماذا بعد الموت؟ هذه قضايا كبيرة.

 لذلك قالوا: ما كل ذكي بعاقل، كيف؟ الذكاء متعلق بالأشياء التفصيلية، فقد تحمل دكتوراه بالفيزياء النووية، ولست عاقلاً إذا غفلت عن ربك، وعن مصيرك، وعمّا بعد الموت، لست عاقلاً، ما كل ذكي بعاقل، الإنسان إذا جاء إلى الدنيا من خلقني؟ من أمدني؟ من أعطاني هذا الشكل؟ من أعطاني هذه الحواس؟ من أعطاني هذا العقل؟ من جعلني من أم وأب؟ هناك ملايين الأسئلة إذا عرفتها عرفت الله، وإن غابت عنك غبت عن الحق، لذلك قالوا: من عرف نفسه عرف ربه.

 إذاً: نحن نكون خير أمة إذا ذكرنا علة الخيرية: ﴿تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾

 (كيف بكم إذا تَركتُمُ الأمْرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا لَكائنٌ؟ قال: نعمْ، وأشَدُّ منه، كيف بكم إذا رأيتُمُ المُنكَرَ مَعروفًا والمعروفَ مُنكَرًا؟)

 فهذا الذي كسب مالاً حراماً هو عند الناس ذكي جداً، هذا الذي وصل إلى شيء ليس عن طريق مشروع، بل عن طريق غير مشروع يعد عند الناس شاطراً، هذا شيء خطير جداً، أن تتبدل القيم، فلذلك من بعض الأحاديث التي تلفت النظر:

(( اطلعت في الجنة فرأيت عامة أهلها المساكين ))

[  شعب الإيمان عن ابن عباس ]

 الإنسان المادي مقاييسه كلها مادية، يرى المؤمن يؤثر طاعة الله على كسب مادي كبير أحياناً، يؤثر طاعة الله على منصب رفيع، يريد أن يكون محسناً لا مسيئاً، فهذا الموقف يجعله عند أهل الدنيا أبلهاً. فهو أبله عند البُلْه.


الإيمان المنجي هو الإيمان الذي يحمل الإنسان على طاعة الله :


 لذلك أيها الإخوة الكرام، كما قال الله -عز وجل-: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ متشابهون لكن هناك شيء لطيف جداً، ينبغي أن أذكره لكم متعلق بهذا الموضوع، الله -عز وجل- في سورة الأنفال في الآية الثانية والسبعين قال: 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) ﴾

[  سورة الأنفال ]

 آمنوا بالله خالقاً، آمنوا به مربياً، آمنوا به مُسيّراً، آمنوا بأسمائه الحسنى، وبصفاته الفضلى، آمنوا أن بيده كل شيء، وإليه مصير كل شيء، ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أو بشكل مختصر ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ هم الأشخاص الذين حملهم إيمانهم على طاعة الله، الإيمان الذي يحمل على طاعة الله هو الإيمان الذي أراده الله، أما الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله فلا يقدم ولا يؤخر، بل إن إبليس مؤمن بهذا المعنى، قال:

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) ﴾

[  سورة ص  ]

 قال له:

﴿ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12)﴾

[  سورة الأعراف  ]

 آمن به رباً، وعزيزاً، وخالقاً، قال:

﴿  قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(14)  ﴾

[  سورة الأعراف ]

 آمن بالآخرة ومع ذلك هو إبليس، فالإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله لا يعد إيماناً منجّياً، الدليل:

﴿  خُذُوهُ فَغُلُّوهُ(30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ(31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ(32) إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ(33)  ﴾

[  سورة الحاقة ]

 آمن بالله لكنه ما آمن به عظيماً.

﴿  مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً(13) ﴾  

[  سورة نوح ]


طريق الإيمان بالله العظيم التفكر في خلق السموات والأرض :


 التركيز على الإيمان بالله العظيم، وكيف تؤمن بالله العظيم حينما تتفكر في خلق السموات والأرض، هذه العين الشبكية مساحتها ميلي وثلث فقط، كم مستقبِل ضوئي فيها؟ فيها مئة وثلاثون مليون مستقبل ضوئي، وأنا أمامي آلات تصوير، آلات احترافية لا شك، أعلى آلة تصوير احترافية في بالميليمتر المربع عشرة آلاف مستقبل ضوئي، بالعين بالميليمتر مئة مليون مستقبل ضوئي، العين البشرية تفرق بين تسعة ملايين لون، لو أخذنا لوناً واحداً ودرجناه ثمانمئة ألف درجة العين البشرية تفرق بين درجتين، قال تعالى:

﴿  أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8)  ﴾

[  سورة البلد ]

 فلذلك قضية الإيمان قضية كبيرة جداً، أنت حينما تؤمن بالله عظيماً، ﴿إِنّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ﴾ طريق الإيمان بالله العظيم التفكر في خلق السموات والأرض.

﴿  إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ(190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ(191)﴾

[  سورة آل عمران ]

 فالتفكر في خلق السموات والأرض أقصر طريق إلى الله، وأوسع باب ندخل منه على الله، لأن هذا التفكر يضعك وجهاً لوجه أمام عظمة الله. 


المؤمن مرتبة أخلاقية وعلمية وجمالية :


 لذلك: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الدكتور، ما معنى دكتور؟ أي معه ابتدائي، وإعدادي، وثانوي، ولسانس، ودبلوم، وماجستير، ودكتوراه، يدرس ثلاثاً و ثلاثين سنة، هذه معنى كلمة "د"، إذا قلت: مؤمن؟ المؤمن مرتبة أخلاقية، ومرتبة علمية، ومرتبة جمالية، إذا قلت: مؤمن أي يتمتع بحس جمالي عال جداً، المؤمن يتمتع بعلم عال جداً.

ما اتخذ الله ولياً جاهلاً لو اتخذه لعلمه. إذا قلت: مؤمن أي يتمتع بأخلاق عالية جداً. 


المؤمنون يتعاونون ويتناصرون و يتناصحون ويتزاورون :


 لذلك الآية الدقيقة حينما ذكر الله المنافقين والمنافقات قال: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ أما حينما ذكر: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا﴾ هاجر، انتقل من مكان إلى مكان، أو من موقف إلى موقف، أو من منطلق إلى منطلق، أو من قيم إلى قيم، هناك نقلة نوعية: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا﴾ بذلوا جهداً كبيراً: ﴿بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ الإخلاص: ﴿وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ آويت أهل الإيمان، نصرتهم، وقفت معهم، آويتهم ولو كانوا ضعافاً وفقراء، لأن أهل الدنيا يحتفلون بالأقوياء والأغنياء، بينما أهل الإيمان يحتفلون بالفقراء والضعفاء.

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ أي الكل للواحد، والواحد للكل، يتعاونون، يتناصرون، يتناصحون، يتزاورون، يتبادلون، وقد ورد:

(( وَجَبَتْ محبَّتي للمُتَحَابِّينَ فيَّ، والمُتجالِسينَ فيَّ، والمُتزاورينَ فيَّ، والمتباذلينَ فيَّ. ))

[ ابن باز عن معاذ بن جبل ]

((  والمتحابُّون في جلالي لهم منابرُ من نُور، يغبِطهم النبيون والشهداء ))


[ سنن الترمذي عن معاذ بن جبل  ]

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ .

من لم يأخذ من المؤمنين موقفاً عملياً فكلامه لا يقدم و لا يؤخر :


﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾ ما أخذ موقفاً عملياً، لم يصل لله، ولم يقطع لله، ولم يعط لله، ولم يمنع لله، ولم يرضَ لله، ولم يغضب لله، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾ ما تحرك، ما قدم شيئاً، أنت إذا قلت للشمس وهي ساطعة: يا لها من شمس ساطعة، ماذا فعلت؟ ما قدمت شيئاً، هي ساطعة شئت أم أبيت، ذكرت هذا أم لم تذكره، أحببت أم كرهت هي ساطعة، لكن ماذا فعلت من أجل أن تتمتع بهذه الأشعة؟ هل عرضت نفسك لها؟ إنسان معه مرض جلدي، وشفاؤه بالشمس فقط، وقال: يا لها من شمس ساطعة، وهو بالقبو يسكن تحت الأرض، هذا الكلام لا يقدم ولا يؤخر فما لم ينتفع من هذه الأشعة لا يعد كلامه عنها له قيمة إطلاقاً.

﴿وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا﴾ ما تحرك، ما قدم، ما بذل، ما ضحى، ما وصل، ما قطع، ما رضي، ما غضب، هو يعيش بعالمه الخاص، بعامله المادي، لكن يتعاطف مع المسلمين، يقول، عنده خلفية إسلامية، عنده أرضية إسلامية، عنده نزعة إسلامية، عنده اهتمامات إسلامية، عنده فكر إسلامي، و لكن هذا كله لا يقدم ولا يؤخر. 


إن لم يؤمن المؤمن و ينصر أخاه ستكون هناك فتنة ينتج عنها شقاء كبير :


﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ الشاهد ليس هنا، الآية دقيقة جداً جداً جداً: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ يتعاونون، ويتآمرون، ويخططون، ويسهرون إلى الفجر وهم يخططون للمؤمنين ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ الشاهد الخطير: ﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾ هذه الهاء على من تعود؟ تعود على آية سابقة بأكملها، أي ﴿إِنَّ َالَّذِينَ آمَنُوا﴾ إذا ما آمنتم، ولا هاجرتم، ولا جاهدتم بأموالكم، وأنفسكم في سبيل الله، ولم تؤووا، ولم تنصروا إن لم تفعلوا هذا، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾


تعاون الطرف الآخر و تكاتفه لإضعاف المسلمين و إذلالهم :


 يعاني المسلمون اليوم من فتنة في الأرض يمسي المرء مؤمناً ويصبح كافراً، يمسي كافراً ويصبح مؤمناً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾ يجتمعون، يخططون، يتآمرون لضرب العالم الإسلامي، لاستنزاف خيراته، لأخذ ثرواته، للإيقاع بين أطرافه، ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾ الهاء تعود على: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾

﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا﴾ إن لم تؤمن، إن لم تهاجر، إن لم تجاهد بمالك ونفسك، إن لم تؤوِ، وإن لم تنصر ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ وقد حدثنا النبي عن آخر الزمان:

((  يَوْمٌ لاَ يَدْرِى الْقَاتِلُ فِيمَ قَتَلَ؟ وَلاَ الْمَقْتُولُ فِيمَ قُتِلَ؟  ))

[ مسلم عن أبي هريرة  ]

 بالخمسينات حينما يحكم على الإنسان بالإعدام تزحف المدينة بأكملها كي ترى إعدامه، الآن كل يوم في الأخبار هناك أربعون، خمسون، ستون شخصاً يموتون في اليوم الواحد، أخبار القتل وسفك الدماء شيء غير معقول إطلاقاً.

﴿إِلَّا تَفْعَلُوهُ﴾ تفعلوا الإيمان، والهجرة، والجهاد بالمال، والنفس، والإيواء، والنصر، ﴿تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ﴾ ذكرت هذه الآيات من سورة الأنفال لأنها توضح معنى: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ يتعاونون، يتآمرون، يخططون.

 الآن هم ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ﴾

 (كيف بكم إذا تَركتُمُ الأمْرَ بالمعروفِ والنَّهيَ عن المُنكَرِ؟ قالوا: يا رسولَ اللهِ، إنَّ هذا لَكائنٌ؟ قال: نعمْ، وأشَدُّ منه، كيف بكم إذا رأيتُمُ المُنكَرَ مَعروفًا والمعروفَ مُنكَرًا؟)


وصف المؤمنين والمنافقين والكفار له هدف كبير جداً :


﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ لا ينفق، بخيل، ينفق على شهواته مبالغ فلكية، فإذا دُعي إلى صدقة أو زكاة يمسك يده، إن أنفقوا المال أنفقوه إسرافاً وتبذيراً، وإن منعوه منعوه بخلاً وتقطيراً، هذه الصفات إذا ذكرها الله في كتابه الكريم من أجل أن نخاف، لعل بعض هذه الصفات تقع علينا، دائماً وأبداً في القرآن الكريم إذا جاء وصف المؤمنين لتكون هذه الأوصاف مقياساً لك، هل أنت من هؤلاء؟ هل أنت من الذين إذا ذكر الله وجل قلبك؟ هل إذا ذكرت عليك آياته ازددت إيماناً؟ فوصف المؤمنين والمنافقين والكفار له هدف كبير جداً، ما هذا الهدف؟ من أجل أن تقيس نفسك، هذه الأوصاف للمؤمنين مقاييس لأهل الإيمان، أوصاف الكفار تعريف بهم، أوصاف المنافقين تعريف بهذه الفئة الخطيرة، هذه لها موقف مزدوج، لها ظاهر ولها باطن، دائماً الكافر أعلن عن كفره، وعندما أعلن عن كفره أعطانا مناعة ضده، والمؤمن مؤمن واضح، أما المنافق فأوهمنا أنه مؤمن، فتعاملنا معه فغدر بنا، الكافر واضح، والمؤمن واضح، أما المنافق فله ظاهر وله باطن، له علانية وله سر، له شيء معلن وشيء غير معلَن، فهذه الشخصية المزدوجة أوقعتنا في حرج شديد، نال مكاسب المؤمنين وهو في الحقيقة مع الكفار.

﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)﴾

[  سورة البقرة ]

 فلذلك: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ لذلك من اشتكى إلى مؤمن فكأنه اشتكى إلى الله، ومن اشتكى إلى كافر فكأنه اشتكى على الله.

﴿  وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً(28)﴾

[  سورة الكهف ]


تسمية المنكر منكراً لأن الفطر السليمة تنكره بداهة من دون توجيه :


 قد يقول أحد الإخوة المشاهدين: ﴿أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ﴾ الله جعله غافلاً، لا، وزن أفعل في اللغة، افتح المعاجم، وجدناه غافلاً وليس جعلناه غافلاً، الفرق كبير جداً بين وجدناه غافلاً، أو جعلناه غافلاً، أغفلنا قلبه أي وجدناه كذلك، ﴿وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ .

 إذاً: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ يتعاونون، يتفقون، يخططون، يتآمرون ﴿يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ﴾ لماذا سمى الله المنكر منكراً؟ لفتة لطيفة جداً، لأن الفِطَر السليمة تنكر المنكر بَداهةً من دون توجيه، من دون تعليم، المنكر مرفوض، الذي يغش الحليب بالماء هل يفعل هذا أمام الناس؟ لا، في غرفة أخرى، يفعلها في خلوة، بالفطرة.

 حتى القطة قال بعضهم: إن أطعمتها قطعة لحم تأكلها أمامك، فإن خطفتها تأكلها بعيداً عنك، هناك فطرة تنطبق مع الشرع مئة بالمئة. 


كل شيء أمرنا الله به متوافق توافقاً تاماً مع الفطرة :


 الآية الكريمة:

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) ﴾

[ سورة الروم  ]

 الشيء الرائع بهذا الدين أن كل شيء أمرك الله به متوافق توافقاً تاماً مع فطرتك، فالذي أمرك الله به ترتاح له، وهذا تفسير السعادة العظمى التي تصيب المؤمن حينما يصطلح مع الله -عز وجل-.

 إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.


من عرف الله عرف سرّ وجوده و غاية وجوده :


 أيها الإخوة الكرام، ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ بخلاء، لا ينفق، ينفق إسرافاً وتبذيراً وإذا منع يمنع بخلاً وتقطيراً.

﴿وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ﴾ بعضهم قال: الإنسان حينما ينسى الله نسيان الله ينسيه مهمته في الدنيا، أنت إذا عرفت الله عرفت سرّ وجودك، وغاية وجودك، أنت إذا عرفت الله عرفت طاعته، عرفت جنته، عرفت ناره، أما إذا غفلت عن الله غفلت عن كل شيء، المعنى الدقيق أن نسيان الله أنساهم أنفسهم، أنساهم أنهم المخلوق الأول، الله -عز وجل- قال:

﴿  إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) ﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 لما قبل حمل الأمانة كان المخلوق الأول عند الله، ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ لأنه قبل حمل الأمانة سخر له :

﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) ﴾

[  سورة الجاثية  ]

 لأنه قبِل حمل الأمانة أودع فيه الشهوات، ليرقى بها إلى رب الأرض والسموات.

 بالمناسبة: ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها. 


باب التوبة مفتوح على مصراعيه :


 لذلك: ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ﴾ هذه الصفات الإنسان إذا قرأها وراجع نفسه مراجعة دقيقة، فوجد نفسه ينطوي على واحدة منها الباب مفتوح للتوبة، ما دام القلب ينبض فأنت في بحبوحة من أمرك، الله -عز وجل- قال:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) ﴾

[  سورة الأنفال  ]

 مستحيل وألف ألف مستحيل أن يُعذَّب الإنسان وهو مطبق لمنهج رسول الله، الآن لو فرضنا لا يطبق هذا المنهج، معه بحبوحة ثانية: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾ .

﴿نَسُوا اللَّهَ﴾ نسيانهم لله -عز وجل- أنساهم أنفسهم.

﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ إنسان منحرف فسقت التمرة: نزعت جلدها من لبها، أي الفاسق خرج عن منهج الله. 


ما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل :


 بالمناسبة ما من مصيبة على وجه الأرض إلا بسبب خروج عن منهج الله، وما من خروج عن منهج الله إلا بسبب الجهل، والجهل أعدى أعداء الإنسان، والجاهل يفعل في نفسه ما لا يستطيع عدوه أن يفعله به، ويقول لك: استعمار، وصهيونية، والحقيقة أكبر خطر يواجه المسلمين جهلهم بالله، حينما جهلوا ربهم ما عرفوا لماذا جاء الله بهم إلى الدنيا، ما عرفوا سر وجودهم، ما عرفوا غاية وجودهم، ما عرفوا ما عند الله من عطاء كبير، هذا جاهل، وهذا الجهل أوقعه بالشقاء، لأن مشكلة أهل النار في النار بآية واحدة:

﴿  وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ(10)  ﴾

[  سورة الملك ]

 معناها أزمة علم، لأن الإنسان عقل يدرك، وقلب يحب، وجسم يتحرك، غذاء العقل العلم، غذاء القلب الحب، غذاء الجسم الطعام والشراب، فكل إنسان منطلق من حبه لذاته، من حرصه على سلامة وجوده، وحرصه على كمال وجوده، وحرصه على استمرار وجوده، ينبغي أن يطيع الله -عز وجل-، فإذا نسي سر وجوده، وغاية وجوده، كان جاهلاً ولو كان يحمل أعلى شهادة، قلت قبل قليل: فرق كبير بين الذكاء والعقل، قد تكون ذكياً ولست عاقلاً، لأن الذكاء متعلق بالجزئيات، قد يحمل أعلى شهادة في الفيزياء النووية، لأنه ما عرف الله، وما عرف منهجه، وما عرف ماذا بعد الموت فهو ليس بعاقل. 


الحكمة من تقديم المنافق على الكافر :


 لكن الله -عز وجل- يقول: 

﴿ وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ(68) ﴾

[  سورة التوبة ]

 هناك تقديم وتأخير، لِمَ لم يبدأ الله بالكفار؟ الكافر واضح كافلر يعلن عن كفره، والمنافق له مظهر إسلامي، قال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ﴾ قال: لأن الكافر لما أعلن عن كفره أعطاك مناعة ضده، فلن تستجيب له إطلاقاً، أما المنافق فيصلي معك أحياناً.

﴿ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) ﴾

[  سورة التوبة  ]

 معنى هذا أنه يصلي، لذلك:

((  لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَاماً مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضاً فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُوراً قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا  ))

[ أخرجه ابن ماجه عن ثوبان بن بجدد  ]

( ويأخذون من الليل كما تأخذون، وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا)

﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ قدمهم على الكفار لأنهم غشوا المؤمنين، لهم مظهر إسلامي وهم في الحقيقة كفار، فقدمهم على الكفار وعدهم: ﴿نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾ سيدنا علي رضي الله عنه يقول: "يا بني ما خير بعده النار بخير، وما شر بعده الجنة بشر، وكل نعيم دون الجنة محقور، وكل بلاء دون النار عافية " .

﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ﴾ لكن قد يقول قائل: الوعد للخير، أما الوعيد للشر، بحسب اللغة توعدهم الله، الله يتوعدهم بجهنم، قال: هذا أسلوب تأكيد المدح بما يشبه الذم، يعني مثلاً يقال: فلان لئيم خسيس بخيل لكنه- قد تتوهم أنه سيمدحه - لكنه حقير، هذا اسمه تأكيد الذم بما يشبه المديح، أو فلان كريم ومفضال إلا أنه شهم ذو مروءة، هذا الأسلوب ذكره النبي الكريم، ذكره في نص دقيق قال:

((  أنا أفصح العرب بَيْد أني من قريش وقريش فصح القبائل ))

[  أخرجه الطبراني عن أبي سعيد الخدري  ]

 قريش أفصح قبيلة في العرب. (أنا أفصح العرب بيد أني من قريش) قال عنه علماء البلاغة: أسلوب تأكيد الذم بما يشبه المديح، أو أسلوب تأكيد المديح بما يشبه الذم، هنا وعد، ما قال أوعد، كأن بعد الوعد هناك جنة فإذا بها نار، هناك مفاجأة تعمل صدمة: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾


الإنسان ما لم يغرغر باب التوبة مفتوح أمامه :


 مرة ثانية هذه الأوصاف التي يأتي ذكرها في القرآن الكريم للمؤمنين مثلاً، أو للكفار، أو للمنافقين، هي في الحقيقة مقاييس لنا جميعاً، فإذا المؤمن قرأ آيات المؤمنين وشعر أن هذه الآيات تنطبق عليه هو في نعمة كبيرة أما إن كان هناك آية لا تنطبق عليه فالباب مفتوح، القلب ينبض، ما دام القلب ينبض فهناك بحبوحة كبيرة جداً، صحح خطأك، وإذا قرأ إنسان آية عن المنافقين وجد فيها صفة تنطبق عليه، الباب مفتوح أيضاً تب منها، الإنسان ما لم يغرغر باب التوبة مفتوح، فما دام باب التوبة مفتوح:

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) ﴾

[   سورة الزمر  ]

 فالباب مفتوح، وهناك كثير من القصص تؤكد هذا المعنى، سمعت قصة كنت في بلد عربي يبدو أن هناك إنسان ثقافته محدودة جداً، عنده أرض إلى جانب مدينة تتوسع توسعاً كبيراً، فلما توسعت هذه المدينة اقتربت من أرضه، فتضاعف ثمنها مئات الأضعاف، فباعها إلى مكتب تجاري، هذا المكتب خبيث جداً فاشتراها بربع قيمتها، صاحبها ليس عنده هذه الثقافة التجارية العميقة، أنشؤوا بناء من اثني عشر طابقاً، في مدينة كبيرة جداً، وفي بلد عربي مهم، هم شركاء ثلاث، فالأول وقع من سطح هذا البناء فنزل ميتاً، والثاني داسته سيارة، فبقي الثالث، فهذا الثالث خاف على مصيره كما رأى من شريكيه فبحث عن هذا الأعرابي الذي باعه الأرض وأخذها منه بربع ثمنها ونقده ثلاثة أضعاف حصته، فقال له هذا البدوي: ترى أنت لحقت حالك.

 الإنسان أحياناً يلحق حاله إذا كان عنده غلط إما في كسب المال، أو في إنفاق المال، أو في علاقته مع أقاربه، أو علاقته مع زوجته، أو علاقته مع أولاده، فالبطولة أن الإنسان ما دام قلبه ينبض فباب التوبة مفتوح ما لم يغرغر طبعاً: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ- أبعدهم عنه- وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ﴾

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور