وضع داكن
25-04-2024
Logo
الدرس : 61 - سورة التوبة - تفسير الآيات 106-108، توبة الله على بعض المتخلفين، المنافقون يريدون شق صفوف المسلمين والتفرقة بينهم وجعلهم شيعاً.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات. 


سورة التوبة في مجملها شرح تفصيلي لأحوال فئة من الناس :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس الواحد والستين من دروس سورة التوبة، ومع الآية السادسة بعد المئة وهي قوله تعالى:

﴿  وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(106)﴾

[ سورة التوبة ]

 أيها الإخوة، أذكركم أن هذه السورة (التوبة) في مجملها شرح تفصيلي لأحوال فئة ثالثة، ليست فئة مؤمنة، وليست كافرة، لكنها منافقة، فهؤلاء أرادوا أن يحوزوا على مكاسب المؤمنين، وأن يتمتعوا على وهمهم بتفلت الكافرين، هؤلاء المنافقون، هؤلاء جاء الحديث عنهم مُطوَّلاً في هذه السورة، ففي معظم الآيات يقول الله -عز وجل-: ومنهم، من يفعل كذا وكذا، ومنهم، ومنهم ومنهم، وفي آيات أخرى:

﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ ۚ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ ۖ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۚ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74) ﴾

[  سورة التوبة  ]

 و:

﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)﴾

[  سورة التوبة ]

 فكأن هذه السورة في مجملها شرح تفصيلي لأحوال فئة من الناس، لم يقبلوا الإيمان ولكنهم أرادوا مكاسبه، ولم يكونوا مع المؤمنين، بل كانوا مع الكافرين، هؤلاء المنافقون، وقد جاء ذكرهم في آيات كثيرة إنهم:

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)﴾

[  سورة النساء  ]

 هؤلاء يقول الله -عز وجل- عنهم: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ .


عدم استطاعة الإنسان أن يجزم بمصيره يوم القيامة :


 أيها الإخوة، معنى: ﴿مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ أي مؤخرون، حتى يحكم الله فيهم.

 بالمناسبة الإنسان حينما يعلم علم اليقين ما سيكون ليس هذا من صفات العبودية لله -عز وجل-، مما يلفت النظر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم".

 فالإنسان يرجو رحمة الله، يرجو الثواب، يرجو السلامة، يرجو النجاة، يرجو الجنة، أما لا يستطيع إنسان أن يجزم بمصيره يوم القيامة.

 لذلك كان عليه الصلاة والسلام عند بعض أصحابه وقد توفاه الله -عز وجل-، فسمع امرأة من وراء الستار تقول: هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله، النبي -عليه الصلاة والسلام- كما تعلمون كلامه تشريع، وسكوته تشريع- أي إقراره- وأفعاله تشريع، بل وصفاته تشريع، فلو أن النبي الكريم سمع هذه المقولة من هذه المرأة، وقد قالت: هنيئاً لك أبا السائب لقد - حرف تحقيق- لقد أكرمك الله، لو أنه سكت لكان كلامها صحيحاً، فقال لها: ومن أدراك أن الله أكرمه؟ قولي: أرجو الله أن يكرمه، وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم.

(( فَطارَ لنا عُثْمانُ بنُ مَظْعُونٍ وأَنْزَلْناهُ في أبْياتِنا، فَوَجِعَ وجَعَهُ الذي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ غُسِّلَ وكُفِّنَ في أثْوابِهِ، دَخَلَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَقُلتُ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أبا السَّائِبِ، فَشَهادَتي عَلَيْكَ لقَدْ أكْرَمَكَ اللَّهُ، فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: وما يُدْرِيكِ أنَّ اللَّهَ أكْرَمَهُ فَقُلتُ: بأَبِي أنْتَ يا رَسولَ اللَّهِ، فمَن يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَّا هو فَواللَّهِ لقَدْ جاءَهُ اليَقِينُ، واللَّهِ إنِّي لَأَرْجُو له الخَيْرَ، وواللَّهِ ما أدْرِي وأنا رَسولُ اللَّهِ ماذا يُفْعَلُ بي فقالَتْ: واللَّهِ لا أُزَكِّي بَعْدَهُ أحَدًا أبَدًا.. ))

[ صحيح البخاري ]

 أي ليس من شأن المخلوق أن يحكم على المستقبل، لكنه يرجو رحمة الله، يأمل أن يكون من أهل الجنة، أما أن يحكم حكماً جازماً قاطعاً فهذا ليس من شأن البشر.


ليس من شأن المخلوق أن يحكم على المستقبل :


 لذلك دائماً وأبداً حينما يدور الحديث عن مصير إنسان أنا أتمنى أن يكون الجواب دائماً: هذا من شأن الله وحده، لا تضع نفسك موضع الحكم على الآخرين، هذا من شأن الله وحده، فالنبي الكريم لما سمع من امرأة من وراء الستار تقول عن صحابي جليل توفاه الله: هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله، فلو أنه سكت لكان كلامها صحيحاً، قال: ومن أدراك أن الله أكرمه قولي: أرجو الله أن يكرمه، وأنا نبي مرسل لا أدري ما يُفعَل بي ولا بكم.

 مما يؤكد هذه الحقيقة أن بعض الذين تخلفوا عن الجهاد، حينما جاء النبي الكريم عائداً من تبوك، واستمع إلى الذين تخلفوا عن الجهاد، استمع إليهم واحداً واحداً، وقبِل أعذارهم لحكمة بالغة، فلما جاء بعض الصحابة هم ثلاثة، كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، سيدنا كعب قال: والله يا رسول الله ما كنت في وقت من الأوقات أشد مني قوة ومالاً في الوقت الذي تخلفت عنك، فقال النبي الكريم بلفتة رائعة، قال: أما هذا فقد صدق، استمع إلى ثمانين منافقاً وقبل أعذارهم، فلما جاء كعب استحيا من الله أن يكذب عليه، قال له: كنت شديداً صحيحاً، ومعي راحلة، ومعي مال، كنت في أعلى درجات القوة والنشاط، ومع ذلك تخلفت عنك فقال النبي الكريم: أما هذا فقد صدق.

(( قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلستُ عندَ غيرِك من أهل الدنيا لرأيتُ أني سأخرج من سخطه بعذر؛ لقد أُعْطِيتُ جَدَلًا، ولكني واللهِ لقد علمتُ لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عني لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يُسْخِطَكَ عَلَيَّ، وإن حَدَّثْتُكَ حديث صدق تَجِدُ عَلَيَّ فيه إني لأرجو فيه عُقْبَى اللهِ - عز وجل - والله ما كان لي من عُذْرٍ، والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: أما هذا فقد صدق، فَقُمْ حتى يقضي الله فيك ))

[ متفق عليه ]


من كان صادقاً مع الله فالطريق إلى الله سالك :


 لذلك الإنسان إذا كان صادقاً مع الله الطريق سالك إلى الله مباشرة، فالله -عز وجل- قال: ﴿وَآخَرُونَ﴾ يقصد هؤلاء الثلاثة، وفي آية أخرى يقول الله -عز وجل-:

﴿  وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118)  ﴾

[  سورة التوبة ]

 أراد الله -سبحانه وتعالى- من هذه الآيات أن يبين أن الإنسان ما دام قلبه ينبض، باب التوبة مفتوح على مصاريعه، بل إن الله -سبحانه وتعالى- ما أمرنا أن نتوب إليه إلا ليتوب علينا، وما أمرنا أن نستغفره إلا ليغفر لنا، وما أمرنا أن نسأله إلا ليعطينا، إنه أرادنا أن نكون سعداء.

((  إني والإنسن والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي. ))

[  رواه البيهقي في شعبه وفي سنده ضعف ]

(( مَن جَاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَن جَاءَ بالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ. ))

[ صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري ]


الرحمة التي يتراحم بها البشر هي رحمة الله عز وجل :


 أيها الإخوة الكرام، وقد روي أن امرأة تخبز على التنور، فكلما وضعت رغيفاً في التنور ابنها إلى جانب التنور، حملته، وضمته، وشمته، فمر نبي كريم قال: يا رب! ما هذه الرحمة؟ قال: هذه رحمتي، أودعتها في قلوب الأمهات وسأنزعها- القصة رمزية طبعاً- فلما نُزعت الرحمة من قلب الأم، وبكى طفلها ألقته في التنور.

 لذلك الرحمة التي يتراحم بها البشر هي رحمة الله -عز وجل-، وفي بعض الإشارات اللطيفة في القرآن:

﴿ أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ ۚ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي (39)﴾

[  سورة طه  ]

 أي إذا أحبك الناس فهذه محبة الله، إذا أحبت الأم ابنها فهذه محبة الله له، إذا أحب الأب ابنه فهذه محبة الله له، ﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي﴾ .


الحديث عن الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله :


 إذاً هؤلاء الذين تخلفوا عن الجهاد، وكانوا صادقين، لم يكذبوا، قال سيدنا كعب: فأجمعت صدقه، كنت نشيطاً، ومعي راحلة، ومعي نفقات أهلي، ومعي نفقات الجهاد، وتخلفت عنك، فلما استمع النبي إلى ثمانين منافقاً، وقدموا أعذاراً كاذبة، وواهية، فلما استمع إلى هذا الصحابي الجليل سيدنا كعب، قال: أما هذا فقد صدق، دقق في هذه العبارة الذكية، إنه قيّم هؤلاء الثمانين: أما هذا فقد صدق، أما الذين سبقوه كانوا كاذبين.

 لذلك هناك ثلاثة من أصحاب النبي الكريم تخلفوا عن الجهاد، ولا عذر لهم، منهم سيدنا كعب، فجاء ذكرهم، قال: 

﴿وَآخَرُونَ﴾ بعد الحديث عن المنافقين، عن صفاتهم، عن أخلاقهم، عن مواقفهم، عن أنواعهم، عن أقسامهم، ومنهم، ومنهم، ومنهم، يحلفون، وسيحلفون، ويحلفون، جاء الحديث عن هؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله، فقال: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ .


السجن ليس ممنوعاً في الإسلام فهو طريقة من طرق تأديب المنحرفين :


 إخوتنا الكرام، كان الإسلام في عهد النبي الكريم في أعلى المستويات، ولم يكن في عهد النبي سجن، مع أن السجن ليس ممنوعاً في الإسلام، طريقة من طرق تأديب المنحرفين، لكن هذا المجتمع المثالي الذي انصاع لرسول الله، مما يلفت النظر أن الإنسان إذا سُجن يُمنَع من أهله ومن أقربائه، ومن الناس، وحتى من أقرب الناس إليه –زوجته- أما في هذا المجتمع فلما وجه النبي أصحابه أن يقاطعوا هؤلاء الثلاثة، المدينة كلها سجن أصبحت لهم، لا أحد يكلمهم، ولا أحد يلقي عليهم السلام، ولا حتى زوجاتهم، هذا المجتمع الكامل، مجتمع الطاعة لله -عز وجل-، الشيء الذي يلفت النظر لم يكن هناك سجن، ولكن المدينة كلها أصبحت سجناً لهم، ما دام الإنسان بالسجن يُمنع عن أهله، وعن أولاده، وعن أحبابه، وعن أقاربه، هو طليق، وليس مسجوناً، لكنه في الحقيقة في سجن لا أحد يكلمه، ولا أحد يلقي عليه السلام، لذلك قال تعالى: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ﴾ أي حكمهم مؤخر لمشيئة الله ﴿إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ .


الفرق بين الآيتين التاليتين :


 بالمناسبة أحياناً نقرأ في القرآن: ﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ وفي آيات أخرى لها ترتيب معاكس، تابوا: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ ما الفرق بين الآيتين؟ أما تابوا: ﴿ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ أي أعلنوا التوبة فقبِل الله توبتهم، أما: ﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ أحياناً يسوق الله لبعض المذنبين بعض الشدائد، هذه الشدائد تسوقهم إلى باب الله، إذاً هو بهذه الشدة التي أحاطت بهم دفعتهم إلى باب الله، لذلك قالوا: كل شِدة - طبعاً للمؤمنين - وراءها شَدة إلى الله، وكل محنة تصيب المؤمنين وراءها منحة من الله، وهناك آيات تؤكد هذا المعنى:

﴿  إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ(4) ﴾

[ سورة القصص  ]


الله عز وجل حكيم تقتضي رحمته أن يعالج عباده :


 الآن ندقق:

﴿  وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ(5)  وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ(6)﴾

[  سورة القصص ]

 لذلك بعضهم يرى أن الطغاة في الأرض في شتى العصور، هؤلاء ما كانوا طغاةً إلا ليقدموا خدمة غير ظاهرة للمؤمنين، الطغاة دون أن يشعروا، ودون أن يريدوا طغيانهم موظف لخدمة للمؤمنين، أو لخدمة الإيمان والمؤمنين، لأن هذه الشِدة تسوق الناس إلى الله -عز وجل-:

﴿  وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)﴾

[  سورة السجدة ]

 العذاب الأدنى العذاب في الدنيا، فالله -عز وجل- حكيم، كيف أن الطبيب إذا مرض ابنه والتهبت زائدته، الأب الطبيب الرحيم الحنون يأمر بإجراء عملية لابنه، يُخدَّر ابنه، تُفتح بطنه، تُستأصل الزائدة، لأنه رحيم وعليم، فلذلك الآية الكريمة:

﴿  فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ(147)﴾

[ سورة الأنعام ]

 أي تقتضي رحمته أن يعالج عباده، أحياناً إنسان يصاب بالتهاب معدة حاد، فإذا التقى بطبيب داخلي يخضعه لحمية قاسية جداً جداً، هذه الحمية طريق شفائه، مع أنها قاسية جداً منعه من كل أطايب الطعام من أجل شفائه، لكن لو جاء هذا الطبيب مريض آخر، معه ورم خبيث منتشر في كل أنحاء جسمه، ولا أمل في شفائه، لو أن هذا المريض سأل الطبيب: ماذا آكل؟ يقول له: كُل ما شئت، أيهما أفضل أن تخضع لحمية قاسية جداً بعدها الشفاء التام أم أن يقول لك الطبيب كُل ما شئت؟ لأنه ميؤوس من الشفاء، لذلك قال تعالى: 

﴿  فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44)﴾

[ سورة الأنعام ]


الذي وقع لو لم يقع لكان نقصاً في حكمة الله :


 لذلك هؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا عن الجهاد وكانوا صادقين مع رسول الله هؤلاء جاء ذكرهم في هذه الآية: ﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ إذاً تاب الله عليهم ليتوبوا، أي ساق لهم من الشدائد كي تنتهي بهم هذه الشدة إلى التوبة إلى الله، أما تابوا فتاب عليهم معناها أعلنوا توبتهم، فقبل الله هذه التوبة.

﴿وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ معنى حكيم: أن الذي وقع لو لم يقع لكان نقصاً في حكمة الله، والذي وقع لو لم يقع لكان الله ملوماً، هذه الحقيقة دقيقة جداً.


انطلاق المنافقين في بناء مسجدهم من الكفر :


 أيها الإخوة، ثم يقول الله -عز وجل-: 

﴿  وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(107)﴾

[ سورة التوبة ]

 هؤلاء المنافقون ضاقوا ذرعاً بأصحاب رسول الله، فأرادوا أن يبنوا لهم مسجداً خاصاً، في هذا المسجد يتحدثون كما يشاؤون، قد ينتقضون النبي الكريم، وقد ينتقضون أصحابه، أرادوا أن يكون لهم مسجد يرتعون فيه ويمرحون، ويتكلمون على أهوائهم، فأنشؤوا مسجداً، لكن هذا المسجد سماه الله -عز وجل- مسجد ضرار لتفريق وحدة المسلمين، لشق صفوفهم، لإيقاع الفتنة بينهم.

﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ هم انطلقوا في إنشاء هذا المسجد من الكفر، كفروا بهذه الرسالة، وكفروا بدعوة النبي الكريم، أرادوا أن يكون لهم مكانة اجتماعية نابعة من الدين، أي هناك من يريد الدنيا من خلال الدين، الحقيقة الله -عز وجل- يكشف كل هؤلاء المنافقين.


المنافقون ليسوا مؤمنين لكن أرادوا مكاسب المؤمنين :


 أحياناً الإنسان يبحث عن الدنيا من خلال الدين، وأساساً ما هو النفاق؟ الحقيقة النفاق هو ظاهرتان ظاهرة انحطاط في الإنسان، عنده شيء يعتقده، وشيء يقوله، فحينما تتناقض أقواله مع عقائده هو المنافق، يقول شيئاً لا يؤمن به، يؤمن بشيء لا يقوله، هذه الازدواجية بالشخصية، هو أراد أن يكون مع الكفر، مع أهل الفسق والفجور، مع التفلت، مع الإباحية، مع الشهوات، لكن وُجِد في مجتمع إيماني قوي، فمن أجل مصالحه أراد أن ينافق، لذلك الإسلام إذا كان ضعيفاً لا أحد ينافق له، لا أحد ينافق لإسلام ضعيف، أما إذا كان الإسلام قوياً فهناك من ينافق له، فإذا قلنا: نفاق أي يوجد عندنا ظاهرتين: ظاهرة مرضية في المنافق، وظاهرة قوة في المؤمنين، لأن الإنسان الضعيف لا أحد ينافق له، فالمؤمنون أقوياء، ومعهم مغانم كثيرة، فالمنافقون هم ليسوا مؤمنين، لكن أرادوا مكاسب المؤمنين.لذلك: 

﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ أنشؤوا مسجداً، وارتادوا هذا المسجد ليكون مقابلاً لمسجد رسول الله، ليأخذ فيه المنافقون حريتهم في الحديث كما يشتهون، هم في مجتمع المسلمين مُقيَّدون، ومُحاسَبون، ومراقبون.

لذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ أي أرادوا من هذا المسجد أن يشقوا صفوف المسلمين.

 أحياناً سألني مرة أخ، قال: رأيت بعض الناس عقب صلاة الجمعة يصلون الظهر فما حكم ذلك؟ قلت له: لو أن بلدة فيها عدة مساجد، وأحد هذه المساجد يتسع لكل أهل القرية، في أحكام الشريعة لا يجوز أن يصلي الناس إلا في هذا المسجد الواحد، من أجل وحدة الكلمة، من أجل وحدة الهدف، من أجل جمع الشمل، من أجل عدم التفريق بين المسلمين، تصور بلدة فيها عدة مساجد، أربعة مساجد، أحد هذه المساجد يتسع لكل أهل القرية، الحكم الشرعي أن يرتاد جميع أهل القرية هذا المسجد، من أجل وحدة الكلمة، وحدة الصف، من أجل التوفيق بين المؤمنين، فالذي يصلي في مسجد آخر هذه الصلاة لا تُقبَل منه، لا بد من أن يصلي الظهر بعدها حتى تُرمَّم صلاته، هذه منطلق الفكرة في الذين يصلون الظهر بعد صلاة الجمعة، أما إذا كان هناك مدينة فيها ملايين مملينة، وفيها مئة مسجد، لو أن ربع هذه الكمية من السكان ارتادوا المساجد لا تكفيهم، هذا صار موضوعاً ثانياً، أما أتصور قرية فيها أربعة مساجد، أحد هذه المساجد يتسع لكل سكان القرية، فيجب أن يكونوا في مكان واحد، وفي توجيه واحد، وفي لُحمة واحدة، وفي أهداف واحدة، لأن التفرقة خطيرة جداً.


الدعوة إلى الله دعوتان :


﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ كفراً بالله ورسوله، أي وأنت في الحقل الديني هناك دنيا، وأنت في الحقل الديني هناك مآرب لا ترضي الله، وأنت في الحقل الديني هناك من يدعو لغير الله، أنا أقول دائماً: الدعوة إلى الله دعوتان -وكلام دقيق جداً-، دعوة إلى الله خالصة، ودعوة إلى الذات مغلفة بدعوة إلى الله، أما الدعوة إلى الله الخالصة فمن خصائصها الاتباع، أما الدعوة إلى الذات فمن خصائصها الابتداع، هذا يبتدع شيئاً ما جاء في السنة ليقول أنا العالم الوحيد، وأنا المصدر الفريد، فالدعوة إلى الله الخالصة من خصائصها الاتباع، أما الدعوة إلى الذات فمن خصائصها الابتداع، الدعوة إلى الله الخالصة من خصائصها التعاون، قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَانًا ۚ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُوا ۘ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) ﴾

[ سورة المائدة ]

 والدعوة إلى الذات من خصائصها عدم التعاون التنافس، مجتمع المؤمنين مجتمع متعاون. 

 فالدعوة إلى الله الخالصة من خصائصها الاتباع، والدعوة إلى الذات من خصائصها الابتداع، الدعوة إلى الله الخالصة من خصائصها التعاون، والدعوة إلى الذات من خصائصها التنافس، الدعوة إلى الله الخالصة من خصائصها الاعتراف بالآخر، أما الدعوة إلى الذات فمن خصائصها إلغاء الآخر، إقصاء الآخر، إذاً: الخالصة اتباع، وتعاون، واعتراف بالآخر، أما الدعوة إلى الذات فمن خصائصها التفلت من منهج الله، عدم الاتباع، الابتداع، ثم التنافس لا التعاون، ثم إلغاء الآخر، إقصاء الآخر.


المؤمن يجمع ولا يفرق أما الذي يفرق فيثير القضايا الخلافية :


 هؤلاء المنافقون ليسوا مؤمنين، هم في الحقيقة كفار، إن المنافقين هم الكافرون، لكنهم أرادوا أن يتمتعوا بمزايا المؤمنين ومكتسباتهم، ويتوهموا أن التفلت أقرب إليهم من الالتزام فكانوا المنافقين.

﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ أرادوا من خلال الدين، من خلال بناء مسجد، من خلال جعل مسجد منافس، مسجد يجمع الكفار بصيغة الإسلام.

﴿وَكُفْراً﴾ بهذا الدين، بنبي المسلمين، بهذا القرآن، ﴿وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لذلك ورد في بعض النصوص: 

(( ليس منا من خبب امرأة على  زوجها ))

[ سنن أبي داوود ]

 المؤمن يجمع ولا يفرق، أما الذي يفرق فيثير القضايا الخلافية، يثير التعصبات، يدعو بدعوى الجاهلية، هذا إنسان منحرف، إذاً: (ليس منا) هذه "ليس منا" خطيرة جداً، ينفي عنه النبي الانتماء إلى الإسلام أصلاً:

((  لَيسَ مِنَّا مَنْ دَعا إِلى عَصبيَّة، وليس منا من قاتل عصبيَّة، وليس منا من مات على عصبيَّة ))

[ أخرجه أبو داود عن جبير بن مطعم وفي سنده ضعف ]

 والعصبية الانحياز الأعمى. 

وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت   وإن ترشد غزية أرشد

[ دريد بن الصمة ]

هذا أجمل تعريف للعصبية: انحياز أعمى إلى القوم، إن كانوا صالحين فهو معهم، وإن كانوا سيئين فهو معهم، إذاً:  ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْر﴾ كفروا بهذه الدعوة، ﴿وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ والنص الدقيق جداً: (ليس منا من خبب امرأة على  زوجها) .


الهدف من بناء المنافقين مسجداً لهم :


 الآن: ﴿وَإِرْصَاداً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ هذا المكان يجذبون إليه من حارب الله ورسوله، ليكونوا عوناً لهم على محاربة هذه الدعوة، فتجد الإنسان المنافق إذا رأى إنساناً ينتقد المؤمنين، يطعن باستقامتهم، لا يثمن عملهم يحبونه، ويلتقون معه، لأنه عنصر جديد انضم إليهم.

 لذلك: ﴿وَإِرْصَاداً﴾ تتبع، انتظار، مراقبة، تتبع، انتظار: ﴿لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ هؤلاء المنافقون يريدون أن يجمعوا حولهم مَن على شاكلتهم، فأي إنسان له انتقاد، له تعليق سلبي، له موقف عدائي من النبي وأصحابه، هم ينتظرونه بفارغ الصبر، كي ينضم إليهم وكي يؤسسوا دعوة موازية لدعوة النبي و﴿مَسْجِداً ضِرَاراً﴾ فيه حديث عن سلبيات، وانتقادات، اخترعوها هم من أجل تفرقة المؤمنين، وشق صفوفهم، ومع ذلك هم يدعون بخلاف واقعهم.

﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى﴾ أي من إنشاء هذا المسجد، لكن الله يشهد ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ إذاً تستطيع أن تخدع معظم الناس لبعض الوقت، أو أن تخدع بعض الناس لكل الوقت، أما أن تخدع الله فلا تستطيع ولا لثانية واحدة. 

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) ﴾

[ سورة النساء  ]

 أو أن تخدع نفسك:

﴿  بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ(14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ(15)  ﴾

[ سورة القيامة ]


الحكم الشرعي للمسجد الذي أنشأه المنافقون :


﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ الآن جاء الحكم الشرعي، هؤلاء المنافقون حينما بنوا هذا المسجد، أرادوا أن يُصبِغوا عليه طابعاً مقدساً، فرجوا النبي الكريم أن يصلي فيه، وكان على وشك مغادرة المدينة إلى غزوة تبوك، هو وعدهم أنه إذا عاد من هذه الغزوة يصلي فيه، لكن الله -سبحانه وتعالى- كشفهم له، أي أحياناً يكون النفاق غير ذكي، وهناك نفاق ذكي جداً، لدرجة أن المؤمن لا يكشفه، هذا شيء طبيعي جداً، فهؤلاء أرادوا أن يأتي النبي إليهم ليصلي فيه، ليأخذ هذا المسجد طابعاً مقدساً، فصار هناك مسجد مناوئ آخر فيه طَرحٌ آخر، فيه كلام آخر، فيه موقف نفسي آخر، فهم يحلفون بالله ﴿إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى﴾ لكن الله فضحهم وقال: ﴿وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ جاء الحكم الشرعي: 

﴿  لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ(108)﴾

[ سورة التوبة ]

﴿لَا تَقُمْ فِيهِ﴾ دعه لكن لا تصلِّ فيه أما ﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً﴾ فهم النبي أن يُهدَم هذا المسجد، فأمر بهدمه بعد أن عاد، وأُنشئ مكانه مكان للقمامة، هذا المسجد منطلق من شق صفوف المسلمين.


طرح القضايا الخلافية جريمة بحق المسلمين : 


 لذلك أنا أقول الآن وأتمنى: طرح القضايا الخلافية الآن يعد جريمة بحق المسلمين، لأن الأعداء وضعونا جميعاً في خندق واحد، وضعونا جميعاً في سلة واحدة، وينبغي أن نقف جميعاً في خندق واحد.

﴿وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ* لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ أي إنسان يطلب رحمة الله، يطلب نقاءه من الذنوب، يطلب توبة نصوحة، يطلب قرباً من الله، هذا المكان مُقدَّس بمن فيه، فالصحابة الكرام في مسجد النبي هم مخلصون، أرادوا تطهير نفوسهم، أرادوا أن تصطبغ نفوسهم بالكمالات الإلهية، أرادوا التعاون، أرادوا نشر هذا الدين، المؤمن ينطلق على نوايا عالية جداً، بل إنهم قالوا: نية المؤمن خير من عمله، قد يجهد ليلاً نهاراً لخدمة الخلق، لكن يتمنى أن يهدي الخلق جميعاً، نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله، يتمنى الضلال لكل البشر، فهو يسعى في إضلال البشر لكن ما تمكن من ذلك، يتمنى لو أنه أضل الناس جميعاً، إذاً نية المؤمن خير من عمله، ونية الكافر شر من عمله.

﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً﴾ وحينما قال الله أبداً فهم النبي أن هذا المسجد ينبغي أن يُلغَى، أن يُهدَم، وهُدم، لذلك شق صفوف المسلمين الآن يعد جريمة.


أي طرح يفرق بين المسلمين طرح من قبل الشيطان :


﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ ماذا فعل فرعون؟ لأنه علا في الأرض: ﴿وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً﴾ أي طرح طائفي، أي طرح يفرّق بين المسلمين هذا طرحٌ من قِبَل الشيطان، ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ لذلك الأَولى والله أنا أقول دائماً ومع الأسف الشديد: إن أعداءنا يتعاونون تعاوناً مذهلاً، وبينهم خمسة بالمئة قواسم مشتركة، ومع الأسف الشديد المسلمون يتقاتلون، والدماء تسيل بينهم، وبينهم خمسة وتسعون بالمئة قواسم مشتركة، أعداؤنا على خمسة بالمئة قواسم مشتركة يتعاونون، والمسلمون إلههم واحد، نبيهم واحد، قرآنهم واحد، منهجهم واحد، كله واحد، ومع ذلك فِرَق، وأحزاب، وطوائف، وتناحر، وتراشق تهم، هذه وصمة عار بحق الأمة.

﴿لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى﴾ على طاعة الله ﴿مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ﴾ لو أن الأخ الكريم فتح القرآن، أو على معجم مُفهرَس، أو في الكمبيوتر، الله يحب من؟ يحب المتقين، المُطَّهرين، الصادقين، المؤمنين، فإذا أراد الإنسان أن يصل إلى الله فالمنهج واضح أمامه تماماً.

 وفي لقاء آخر إن شاء الله نتابع هذه الآيات.

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور