وضع داكن
20-04-2024
Logo
الدرس : 66 - سورة التوبة - تفسير الآيات 117 - 119، التوبة هي حبل النجاة، والفوز بالجنة، والله يتوب على عبده ليتوب.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضَ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.


من رحمة الله بالخلق أنه شرع لهم التوبة :


 أيها الإخوة الكرام، مع الدرس السادس والستين من دروس سورة التوبة، ومع الآية السابعة عشرة بعد المئة وهي قوله تعالى:

﴿  لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(117)﴾

[ سورة التوبة  ]

 أيها الإخوة الكرام، من رحمة الله بالخلق أن الله -سبحانه وتعالى- شرّع لنا التوبة، بل إن:

﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىٰ يَطْهُرْنَ ۖ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(222)﴾

[  سورة البقرة  ]

 وهذه التوبة هي حبل النجاة، التوبة هي قارب النجاة، هذه التوبة لولاها لتفاقمت الذنوب، وانتهت بأصحابها إلى جهنم وبئس المصير، لكن الله رحيم بعباده، فشرّع لنا التوبة، بل شجع عليها، وقال:

﴿  وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً(27)﴾

[  سورة النساء ]

 لذلك التوبة هي صمام الأمان، وحبل النجاة، التوبة طريقنا إلى نسيان الماضي.

 إذا رجع العبد العاصي إلى الله نادى منادٍ في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.


التوبة النصوح ليس لها ثواب إلا الجنة :


 التوبة النصوح ليس لها ثواب إلا الجنة، فلذلك تشريع التوبة رحمة كبيرة لهؤلاء البشر، التوبة أن تفتح مع الله صفحة جديدة.

(( إني والإنس والجن في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، ))  

[  رواه البيهقي وفي سنده ضعف ]

(( مَن جَاءَ بالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَن جَاءَ بالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ. ))

[ صحيح مسلم عن أبي ذر الغفاري  ]

 لذلك: ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾

 لكن هنا الآية الكريمة: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾


التوبة خلاص الإنسان من شقاء الدنيا و الآخرة :


 أيها الإخوة الكرام، أحياناً تأتي الآيات: تابوا فتاب الله عليهم، تابوا فقبل الله توبتهم، وأحياناً تأتي الآيات: تابوا فتاب عليهم، لعل الآية الثانية تابوا فتاب عليهم بمعنى أن الله ساق لهم بعض الشدائد التي حملتهم بها على التوبة، لأن الله -عز وجل- قال:

﴿  وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(21)﴾

[  سورة السجدة ]

 فكل عذابات الدنيا عذابات دنيا، متعلقة باسمها، عذابات الدنيا هي عذابات دنيا من أجل أن نتوب إلى الله -عز وجل-، ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ﴾ فلذلك التوبة باب النجاة، التوبة قارب النجاة، التوبة حبل النجاة، التوبة أن تفتح مع الله صفحة جديدة.

(( والإسلام يجبُّ ما قبله  ))

[ أخرجه الطبراني والإمام أحمد عن عمرو بن العاص ]

 فلذلك أيها الإخوة، لو عرف الناس حقيقة التوبة لكانت التوبة خلاصاً لهم من شقاء الدنيا والآخرة، على كلٍّ في معركة مؤتة بعض الذين كانوا حول النبي تخلفوا، وبعضهم تخلفوا بلا عذر، وبعضهم بعذر، وبعضهم كانوا مع النبي الكريم.

المؤمن الصادق يدافع عن إخوانه المؤمنين وهذا الدفاع وسام شرف له :

 لكن الذي يلفت النظر أن النبي الكريم وهو في تبوك سأل عن بعض أصحابه، فقال بعضهم: شغلته الدنيا- بستانه- فقال أحدهم: لا والله يارسول الله، وهذه لفتة رائعة، يا رسول الله لقد تخلف عنك أناس ما نحن بأشد حباً لك منهم، ولو علموا أنك تلقى عدواً ما تخلفوا عنك، فابتسم النبي -عليه الصلاة والسلام- وكأنه ثمّنَ هذا الدفاع من الصحابي عن إخوانه، على كلٍّ المؤمن الصادق يدافع عن إخوانه المؤمنين، وهذا الدفاع وسام شرف له.

 في هذه الغزوة غزوة تبوك بعض المنافقين تخلفوا وبلا أعذار، وبعض المؤمنين تخلفوا بأعذار، فالذي لم يجد دابة يحمل نفسه عليها، تخلف، والفقير تخلف، والمريض تخلف، فهناك فقير، ومريض، وهناك من لم يجد، وهناك إنسان آخر لم يجد شيئاً يحمله إلى الجهاد، هذا التخلف مقبول والعذر مقبول، أما هناك تخلف بلا عذر، أو العذر كاذب.

 لذلك لما جاء الذين تخلفوا عن هذه الغزوة ليعتذروا للنبي -عليه الصلاة والسلام- وأدلوا بأعذار واهية، والنبي كما يقال مجاملة لهم قَبِل هذه الأعذار، وكانوا فيما أعتقد ثمانين، فلما جاء سيدنا كعب، وقال: والله تخلفت عنك بلا عذر، أي كنت قوياً، وعندي ناقتان، و، و، ولكني تخلفت عنك، فقال النبي الكريم: أما هذا فقد صدق، وكأنه قيّم الثمانين إنساناً الذين قدموا أعذاراً واهية.

 فلذلك في هذه الغزوة بعض المنافقين تخلفوا بأعذار واهية، وبعضهم تخلفوا بأعذار مقبولة، وبعضهم كانوا مع النبي الكريم، فجاءت الآية: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ .


عتب الله على النبي في الهامش الضيق الذي تركه له هو عتب له وليس عليه :


 قد يسأل سائل: ما نوع توبة الله على النبي وهو المعصوم؟ الحقيقة هناك إضاءة لابد منها هو أن الله -سبحانه وتعالى- عصم النبي الكريم من أن يخطئ بأقواله، وأفعاله، وإقراره، ولكن ترك له هامشاً ضيقاً هو الهامش الاجتهادي، لماذا تُرك له هذا الهامش؟ قال: في هذا الهامش الاجتهادي الذي تركه الله له النبي الكريم يجتهد، فإن أصاب أقره الوحي على ذلك، وإن لم يصب جاء الوحي فصحح له، ولكن هذا الهامش، وهذا التصحيح، قال عنه بعض علماء السيرة: إن الله أراد ذلك ليكون هناك فرق بين مقام الألوهية، وبين مقام النبوة، أو مقام البشرية، هذا الهامش الضيق الاجتهادي الذي تُرك له أراد الله منه أن يكون الفارق واضحاً بين مقام الألوهية وبين مقام النبوة، لكن الذين تبحروا في هذا الموضوع وجدوا أن عتب الله على النبي كان عتباً له لا عليه، لأنه اجتهد وفعل الأصعب، فكل عتب الله -عز وجل- على النبي في الهامش الضيق الذي تركه له، هو عتب له وليس عليه.

﴿  طه(1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2)  ﴾

[  سورة طه ]

﴿  عَبَسَ وَتَوَلَّى(1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى(2) ﴾

[  سورة عبس ]

 فكل الآيات التي في ظاهرها تعاتب النبي -عليه الصلاة والسلام- هي في مضمونها تعتب له لا عليه.

كأن يدخل الأب إلى غرفة ابنه يراه منكباً على الكتاب، دخل إلى غرفته الساعة التاسعة فرآه منكباً على الكتاب، الساعة الحادية عشرة رآه منكبَّاً على الكتاب، الساعة السادسة فجراً رآه منكباً على الكتاب، فعتب له، قم واسترح قليلاً يا بني، هل هذا عتاب عليه؟ لا، عتاب له. 


الفرق بين مقام البشرية ومقام الألوهية :


 كل عتابات القرآن للنبي الكريم من هذا النوع، يعتب له لا عليه، لأنه حمّل نفسه ما لا يطيق، ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ لكن الحكمة البالغة من ذلك أن هناك مقام الألوهية، وهناك مقام البشرية، النبي بشر، قل:

(( إنما أنا بشر، أرضى كما يرْضى البشر، وأغْضَبُ كما يغضب البشر ))

[ أخرجه مسلم عن أنس بن مالك ]

(( وأُوذِيت في الله ما لم يُؤذَ أحد، ولقد أتى عليَّ ثلاثون من يوم وليلة، ومالي ولبلال طعامٌ إِلا شيء يُواريه إِبطُ بلال ))

[ أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك ]

 إذاً: الهامش الضيق الذي تُرك للنبي -عليه الصلاة والسلام- هامش اجتهادي، والنبي الكريم اجتهد فإن أصاب أقره الوحي على هذا الاجتهاد، وإن ترك الأولى وقد حمل نفسه ما لا تطيق يأتي الوحي ويصحح له، فصار عندنا مقام البشرية ومقام الألوهية، النبي بشر لكنه كان سيد البشر، لأنه انتصر على بشريته، مرة ثانية: لولا أن النبي بشر، وتجري عليه كل خصائص البشر، لما كان سيد البشر.

 الآية هنا أيها الإخوة: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ بعضهم قال: النبي لم يفعل شيئاً، هو معصوم في الأساس، معصوم من أن يخطئ في أقواله، وأفعاله، وإقراره، ما معنى توبة الله على النبي؟ بعضهم قال: إنها جبر لخاطر الصحابة، أدخله معهم: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ﴾ بعضهم قال: توبة الله على النبي توبة تُثمِّن جهده الكبير، أتعبت نفسك كثيراً، أشقيت نفسك كثيراً، ﴿مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾ هذا نوع توبة الله على النبي الكريم. 


الإنسان بضعة أيام :


 إذاً الآية الكريمة، ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ الإنسان أيها الإخوة، يأكل، ويشرب، ويصلي، ويصوم، هكذا معظم المسلمين، لكن في مواقف محدودة، في أيام معدودة، إما أن يكون بطلاً يكبر ويكبر، ولا نرى كبره فيتضاءل أمامه كل كبير، ويصغر ويصغر ويصغر ولا نرى صغره فيتعاظم عليه كل حقير، فأنت بضعة أيام، فلذلك الله قال:

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(5) ﴾

[   سورة إبراهيم  ]

 كل مؤمن له بضعة أيام وقف بها موقفاً بطولياً، آثر طاعة الله على هوى نفسه، بذل ما في وسعه، قدم الغالي والرخيص، والنفس والنفيس، هذا يوم مشهود للمؤمن، فلذلك الله -عز وجل- يريدنا أن نذكر أنفسنا بأيام الله، يوم الله -عز وجل- أنقذك من مشكلة كبيرة، يوم وُفِّقت فيه بعمل بطولي، هذه الأيام تعد منارات على طريق الإيمان.

﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ﴾ الحقيقة المهاجرون والأنصار ضربوا أروع المثل، هؤلاء المهاجرون سبقوا إلى الإسلام، والأنصار قدموا لهم الغالي والرخيص، ولا أنسى الكلمة التي قالها سيدنا سعد بن الربيع حينما عرض عليه الأنصاري نصف أملاكه، دكاناً، وبيتاً، وحقلاً، ومالاً، قال له: بارك الله لك في مالك، ولكن دلني على السوق، الشيء الذي لا يصدق، الأنصار بذلوا كل ما في وسعهم للمهاجرين، أما المهاجرون فتعففوا عن أملاك غيرهم، هؤلاء بذلوا، وهؤلاء تعففوا، هذا شأن المؤمنين، قال له: بارك الله لك في مالك ولكن دلني على السوق، لذلك ورد في بعض الآثار:

(( ولا تَسألوا النَّاس شيئاً  ))

[ أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي عن عوف بن مالك الأشجعي ]

 بل كان الصحابي إذا وقع من يده زمام الناقة ينزل من على جمله إلى الأرض ليلتقطه ولا يحب أن يكلف أحداً أن يناوله إياه، هذه دقة بالغة في خدمة الذات. 


الإنسان يمتحن إيمانه في أيام الشدائد :


﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ والحقيقة الأيام بين أن تكون مريحة، أو صعبة، بين إقبال الدنيا، وإدبارها، بين توافر الحاجات، وبين فقد هذه الحاجات، فالإنسان لا تظهر بطولته في أيام الرخاء، تظهر في أيام الشدة، كما أن المركبة لا تُمتحَن في الطريق النازلة، تمتحن في الطريق الصاعدة، فنحن في أيام الشدائد يُمتحَن إيماننا، يُمتحن عطاؤنا، بذلنا، مواساتنا، مشاركتنا للآخرين.

﴿الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ لذلك ليسوا سواءً، من آمن قبل الفتح، ومن آمن بعد الفتح، مسافة كبيرة جداً، حينما ينتصر الإسلام الدخول فيه سهل جداً، أما حينما يكون الدخول في الإسلام عبئاً كبيراً على الإنسان، وآثر طاعة الله ورضوانه فدخل ودفع ما دفع من متاعب، فهذا له عند الله شأن كبير.

 إذاً: ﴿لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ لكن الشيء الذي يلفت النظر أن الله -عز وجل- حينما قال:

﴿ إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(140)﴾

[   سورة آل عمران ]

 مرة يقوى المؤمنون، ومرة يقوى أعداؤهم، فإذا جعل الله القوة على مدى الزمان للمؤمنين، دخل الناس في النفاق، وإذا جعلها لغير المؤمنين دخل الناس في اليأس، لكن حكمة الله -عز وجل- اقتضت أن القوة والضعف تتناوب بين المؤمنين وبين غير المؤمنين، فإذا كنا في عصر القوي هو الذي لم يؤمن فلابد من حكمة بالغة يجب أن نعرفها.

الله عز وجل متكفل أن يحجم الإنسان و يضعه في حجمه الطبيعي :

﴿وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ﴾ أي الله -عز وجل- أحياناً يضعنا على الحافة، فالذي يعبد الله على حرف قد لا يتحمل امتحان الله -عز وجل-، هذا الامتحان كاشف، لهذا أنا أقول: قل ما شئت عن نفسك، لكن الله مُتكفل أن يحجِّمك، أن يضعك في الحجم الحقيقي الذي تحتله، قل ما شئت، ادَّعِ ما شئت، هناك امتحانات دقيقة جداً وقد تكون صعبة تكشف الإنسان على حقيقته، ويُحجَّم تحجيماً حقيقياً، وهذا يؤكده معنى قوله تعالى:

﴿  أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3) ﴾

[   سورة العنكبوت ]

 أنت ادَّعِ ما شئت، وضع لنفسك حجماً كما تشاء، لكن الله متكفل أن هذا الحجم الكبير الذي منحته لنفسك يُحجَّم بامتحان دقيق دقيق.


الدعاء مخ العبادة :


 أيها الإخوة، لولا أن الله أرادنا أن نتوب إليه، بل أراد أن يقبل توبتنا، بل أراد أن يرحمنا، لمَا أمرنا أن نتوب، ولولا أن الله أراد أن يستجيب لنا لمَا أمرنا أن ندعوه، والدليل القوي جداً الآية الكريمة:

﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا(77) ﴾

[ سورة الفرقان  ]

(( الدُّعاءُ مُخُّ العبادةِ ))

[ ضعيف الترمذي عن أنس بن مالك ]

 الدعاء هو العبادة، هو الذي يترجم المعرفة بالله، والدعاء هو سلاح المؤمن، وأنت بالدعاء قوي جداً، لأنك مع القوي، مع الغني، مع الحكيم، مع العليم، مع الرحيم، فلذلك ورد في بعض الآثار:

(( مَن لم يسألِ اللهَ يغضبْ علَيهِ ))

[ صحيح الترمذي عن أبي هريرة ]

(( عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلاثًا ، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلاثًا))

[ رواه مسلم ]

(( إن الله يحب كل قلب حزين ))

[ أخرجه الحاكم عن أبي الدرداء وهو ضعيف ]

 فالذي يدعو الله -عز وجل- يدعوه عن معرفة، والدعاء هو العبادة، بل هو مخ العبادة، فالله -عز وجل- تاب على النبي، وتاب على أصحابه: ﴿وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ﴾ .


التوبة الوقائية :


 هناك معنى آخر للتوبة إن صحت التسمية، التوبة الوقائية، أنت حينما تتصل بالله -عز وجل- وتنعقد لك صلة مع الله -عز وجل-، ويمتلئ القلب نوراً ترى به الحق حقاً، والباطل باطلاً، الله تاب عليك بهذه الطريقة، بمعنى أنه منحك أسباب الاستقامة، أسباب الرؤية، نوّر قلبك.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ(28) ﴾

[   سورة الحديد  ]

 كأن هذا المعنى يعطيك وقاية من المعاصي والآثام، فكأن هذا المعنى بالشمول توبة من الله لك، بين أن يعصي الإنسان ربه ويتوب فيقبل الله توبته، وبين ألا يعصيه أصلاً، فهذا نوع من التوبة عالية جداً، ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .


على الإنسان أن يجمع في دعائه بين الخوف و الرجاء :


 الله عز وجل:

﴿ وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) ﴾

[   سورة الرحمن ]

 ذو الجلال قوي، غني، جبار، منتقم، والإكرام رحيم، عفو، كريم، والحقيقة البطولة أن تعرف الأسماء المتعلقة بقوته، والأسماء المتعلقة برحمته، وأن تكون بين الرجاء وبين الخوف، فإذا غلب الخوف على الرجاء وقعنا باليأس، وإذا غلب الرجاء على الخوف وقعنا في التوسع، أو في عدم التقيد بمنهج الله -عز وجل-، فالله يعالجنا، إن رآنا توسعنا في مفهوم الرجاء تأتي بعض الشدائد، وإن رآنا توسعنا في مفهوم الخوف هذا الخوف جعلنا أقرب لليأس تأتي بعض الإكرامات الإلهية، فالله يُقلِّبنا يَمنةً ويسرةً، بين الرخاء والشدة، بل إن الله -عز وجل- وصف أنبياءه العظام بأنهم يعبدون الله خوفاً وطمعاً، هذا موقف المؤمن الصادق، موقف المربي الحكيم، المربي الحكيم، الأستاذ الناجح، الداعية، يجب أن يعرف الابن من أبيه الحكيم أنه يحبه، وأنه يخافه، أن تجمع بين الحب والخوف، هذا معنى قول الله عز وجل:

﴿  تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ(78)  ﴾

[ سورة الرحمن ]

 لا تعلم، تخافه، تخافه، لكن لا يوجد خوف مع يأس، وتحبه تحبه، وهذا درس للآباء، والأمهات، والمعلمين، والمدرسين، والموجهين، والدعاة، وكل إنسان يحتل منصباً قيادياً هو بحاجة لهذا الدرس، أن تشعر من حولك بالخوف تارة، والرجاء تارة أخرى، كما يقال في بعض العبارات المعاصرة: أن تمسك العصا من الوسط، بين الخوف والرجاء، ﴿إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ .


الله عز وجل يحب الصادقين :


 ثم قال تعالى:

﴿  وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118)﴾

[ سورة التوبة ]

 هناك أصحاب ثلاث تخلفوا عن الجهاد، وكانوا مع النبي صادقين، حتى أن سيدنا كعب قال: وقد أجمعت صدقه، يا رسول الله كنت قوياً، وعندي ناقتان، وكنت صحيحاً ومعافى، ليس لي عذر، قال: أما هذا فقد صدق، استمع إلى ثمانين منافقاً بأعذار واهية وقبل منهم مجاملة، أما سيدنا كعب فقال عنه النبي: أما هذا فقد صدق، فالله عز وجل يحب الصادقين.

(( واللَّه ما كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، واللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسر مِنِّي حِينَ تَخلفْتُ عَنك. قَالَ: فقالَ رسولُ الله ﷺ: أَمَّا هذَا فقَدْ صَدَقَ، فَقُمْ حَتَّى يَقْضيَ اللَّهُ فيكَ ))

[ صحيح البخاري عن كعب بن مالك ]


مجتمع المؤمنين مجتمع مؤمن منضبط مطبق لمنهج الله :


 قال: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ ما معنى خُلِّفوا؟ غير معنى تخلفوا، خلفوا أي أرجِئ الحكم بهم إلى حين، حيث تمت مقاطعتهم لمدة خمسين يوماً، المقاطعة بينهم وبين أصحاب رسول الله لا أحد يكلمهم حتى زوجاتهم، حتى أقرب الناس إليهم، بل هذه القصة في الحقيقة وسام شرف كبير، ما هذا المجتمع الملتزم؟ المنضبط؟ المؤتمر؟ إنسان يرتكب خطأ تدخله السجن، ما السجن؟ أن تعزله عمن حوله من دون سجن عزلته عمن حوله، هو طليق، يتحرك يمشي في الطريق، يدخل إلى بيته، لكن زوجته لا تحدثه، أقرب الناس إليه، ما هذا المنهج القويم الذي جعل أمر النبي نافذاً في أدق أدق خصوصيات الإنسان؟ هذا منهج الله -عز وجل-، مجتمع مؤمن، منضبط، مطبق. 

قال: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ لذلك قال تعالى:

﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(97) ﴾

[  سورة النحل ]

 الحياة الطيبة لا تعني أنه غني، تعني أنه موصول بالله، تعني أنه متوكل على الله، تعني أنه يحب الله، تعني أنه خاضع لمنهج الله، تعني أنه يتأمل بحياة سعيدة، قادمة بعد الموت، هذه حالة دقيقة جداً.


المؤمن موعود بالجنة وهذا الوعد لا بد من أن يقع :


 مرة قلت: المؤمن سعيد، فالذي استمع لهذه الكلمة في جمع غفير قال: لا ليس سعيداً، مثله مثل أي إنسان، فقلت له: لو أن إنساناً فقيراً جداً، وعنده ثمانية أولاد، ودخله لا يكفي أياماً معدودة، له عم يمتلك خمسمئة مليون، ومات بحادث سير، وليس له أولاد، فهذا المبلغ الفلكي صار إليك، أما إذا أراد أن يقبضه فيحتاج إلى وقت طويل، هناك معاملات مالية، وبراءات ذمة، إلى آخره، لماذا في هذه الفترة بين وفاة عمه وبين استلام المبلغ هو أسعد الناس؟ لأن الله وعده بالجنة، والمؤمن موعود بالجنة، وهذا الوعد لا بد من أن يقع:

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(111) ﴾

[  سورة التوبة  ]

 سبب سعادته، وسبب امتصاصه لكل مشكلة حوله.

 إذاً: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ﴾ هؤلاء المؤمنون تخلفوا عن رسول الله وكانوا صادقين.

﴿الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ أما خلفوا هنا يعني تأخر الحكم عليهم.

﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾ بعد خمسين يوماً، ﴿لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾

 أيها الإخوة الكرام، في بعض الأحاديث:

(( إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدي ))

[  أخرجه البخاري، ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صحيح ]

 الصدق يهديك إلى الله فكن صادقاً، ولو أخطأت كن صادقاً. 


السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء :


﴿وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾ أحياناً –الفكرة دقيقة- أنت تخاف من الله، لكن مع الله وحده، تخاف منه، ولا ملجأ من عقابه إلا إليه، تخاف منه وتقبل عليه، تفر من عقابه، وتتسابق إلى طاعته، لا يوجد غير الله -عز وجل-، تخاف منه، والحل أن تلجأ إليه.﴿أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾

﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ﴾ أحياناً الإنسان يحس بضيق، والآية الكريمة:

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً(124)  ﴾

[ سورة طه  ]

 قرآن، زوال الكون أهون من ألا تُحقَّق هذه الآية، ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً﴾ قال بعضهم: ما بال الأقوياء والأغنياء؟ قال: ضيق القلب، الإنسان إذا ابتعد عن الله لو كان قوياً، لو كان غنياً، يشعر بضيق لا حدود له، لذلك هذه الراحة النفسية، نسميها السكينة أحياناً، الله -عز وجل- ينزل هذه السكينة على عباده الصالحين، هذه السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، هذه السكينة ذاق النبي الكريم طعمها وهو في الغار، مهدور دمه، مُلاحَق، وذاقها إبراهيم وهو في النار، وذاقها موسى في الصحراء، وذاقها أهل الكهف في كهفهم، هذه السكينة تسعد بها ولو فقدت كل شيء، وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء، هذه سكينة الله -عز وجل-، تسميها رحمة، تسميها تفاؤلاً، تسميها تماسكاً، تسميها ثقة، تسميها صعوداً إلى الله -عز وجل-، تسميها صعوداً نفسياً، سمها ما شئت لكنها رحمة الله، تسعد بها ولو فقدت كل شيء وتشقى بفقدها ولو ملكت كل شيء.


الله عز وجل يسوق للإنسان الشدائد لتحمله على التوبة :


﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ﴾ ما الذي يسعدك حينما تأخذ أم حينما تعطي؟ الحقيقة هناك أقوياء وهناك أنبياء، الأقوياء ملكوا الرقاب، الأنبياء ملكوا القلوب، الأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء عاش الناس لهم، الأقوياء يُمدحون في حضرتهم، الأنبياء في غيبتهم.

أيها الإخوة، كن تابعاً لنبي، إن تبعت النبي تكن أسعد الناس في الدنيا ﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ هنا الشاهد، ﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ ساق لهم هذه الشدة، أن الصحابة الكرام قاطعوهم خمسين يوماً، لا أحد يكلمهم، لا أحد يسلم عليهم، حتى زوجاتهم، ﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ ساق لهم بعض الشدائد كي تحملهم هذه الشدائد على التوبة.

﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ تواب، صيغة مبالغة، تاب، يتوب، تائب، هنا تواب صيغة مبالغة، ومعنى صيغة مبالغة أنه يتوب على عبد ارتكب أكبر ذنب في الأرض، أو معنى يتوب على عبد ارتكب مليون ذنب، إما نوعاً، أو عدداً، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ شديد التوبة.


على الإنسان أن يكون مع المؤمنين الصادقين :


 ثم يقول الله -عز وجل-:

﴿  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ(119)  ﴾

[  سورة التوبة ]

 الحقيقة هذه الآية دقيقة جداً، أنت حينما تكون مع الناس الشاردين عن الله -عز وجل- تصعب عليك التوبة، من حولك يدعوك إلى المعصية، إلى الشرود عن الله، إلى التفلت، إلى ترك العبادات، أما إذا كنت مع المؤمنين فهؤلاء يدعونك إلى طاعة الله، فلذلك العلاج، الدواء، الصواب أن تكون مع المؤمنين، والدليل:

﴿  وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً(28)﴾

[  سورة الكهف ]

﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا﴾ أي أرجأ الله الحكم فيهم إلى حين، بعد خمسين يوماً تاب الله عليهم.

﴿حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ﴾ هنا معنى ظنوا بمعنى أيقنوا، ظن بمعنى أيقن أو حسب، من ألفاظ التضاد، هنا ظنوا بمعنى أيقنوا.﴿وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ أي الشدائد ساقها لهم كي تحملهم على التوبة، فإذا تاب العبد العاصي ورجع نادى منادٍ في السموات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله.


التوبة علم وحال وعمل :


﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ أما تابوا فتاب عليهم فلها معنى آخر، أي أعلنوا توبتهم والتوبة علم، وحال، وعمل، علم: علمَ أنه مذنب، حال: شعر بالندم، العمل: أقلع عن الذنب، علم، وحال، وعمل، هذا الذي علمه هداه إلى التوبة، وحاله انعقد على ألا يعود لهذا الذنب، ثم أصلح ما أفسده قبل أن يتوب، ثلاثة أشياء، علم، وحال، وعمل.

 هنا: تابوا فتاب عليهم، أما ﴿تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا﴾ فساق لهم بعض الشدائد كي يحملهم على التوبة، لذلك ورد في بعض الأحاديث:

((  عجب ربنا من قوم يساقون إلى الجنة بالسلاسل ))

[ رواه أحمد والبخاري وأبو داود عن أبي هريرة ]

﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ التواب صيغة مبالغة، يغفر لك مليون ذنب، العدد، ويغفر أكبر ذنب، إما نوع أو عدد، ﴿إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ والله -سبحانه وتعالى- يضع لنا الحل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ كن معهم.

(( الجماعة رحمة والفرقة عذاب ))

[ أخرجه عبد الله بن أحمد عن النعمان بن بشير وهو ضعيف ]

(( فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد  ))

[ أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه وأبو يعلى والإمام أحمد عن عمر بن الخطاب ]

(( عليْكَ بالجماعةِ فإنَّما يأْكلُ الذِّئبُ منَ الغنمِ القاصيةَ ))

[ ابن القيم ]

 كن مع المجموع، كن مع أهل الإيمان: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً﴾ .

والحمد لله رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور