وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 32 - سورة آل عمران - تفسير الآيات 121 - 127 لابد من الصبر والتقوى في مواجهة كيد الأعداء
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، و انفعنا بما علمتنا ، و زدنا علماً ، و أرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الثاني والثلاثين من دروس سورة آل عمران ، ومع الآية الواحدة والعشرين بعد المئة .

غزوة أُحد :

1 ـ وقفتان عند غزوة أحد :

 أيها الإخوة ، بينت لكم في الدرس الماضي أن هناك ستين آية تتحدث عن موقعة أُحد ، وقبل الشروع في تفسيرها بفضل الله عز وجل وتوفيقه ، أردت أن أقف وقفتين ، وقفة عند المعاني الدقيقة التي يمكن أن نستنبطها من معركة أُحد ، والوقفة الثانية حول تفاصيل هذه المعركة من أجل أن تكون أرضية لشرح الآيات التي بعدها ، وقد بينت لكم أيضاً في الدرس الماضي ، حديثاً حول تفاصيل هذه المعركة ، ووصلت إلى أن هؤلاء المشركين حينما التفوا على المسلمين من ظهورهم بسبب معصية الرماة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، التفوا على الرماة ، وقتلوا من بقي منهم .

2 ـ نزول الرماة من الجبل :

 كلكم يعلم أيها الإخوة أنهم حينما رأوا الكفار يولون الأدبار قالوا : الغنيمةَ الغنِيمةَ ، فذكرهم أميرهم عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمعوا ، وظنوا أنه ليس للمشركين رجعة ، فذهبوا في طلب الغنيمة ، وأخلوا الثغر ، ولم يطع أميرهم منهم إلا نحو العشرة ، فكَرّ المشركون وقتلوا من بقي من الرماة ، ثم أتوا الصحابة من ورائهم .

لله في أفعاله حِكَمٌ :

 أيها الإخوة ، المسلمون هُزِموا مرتين ، والنبي صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم ، هُزموا المرة الأولى ، لأنهم عَصَوا أمر قائدهم ، وهُزموا في المرة الثانية في حنين ، لأنهم داخَلَهم شرك خفي ، فقالوا : لن نُغلَبَ من قلة ، فالإنسان حينما يستغني وحينما يعتدُّ بنفسه لا يستحق نصر الله عز وجل ، وحينما يخالف الأمر الإلهي الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستحق النصر ، قد يقول قائل : لو أن الله جل جلاله نصرهم فهم المؤمنون ، وهم أصحاب رسوله ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق بين ظهرانيهم ، لِمَ لَمْ ينصرهم على خطئهم ؟ لو أن النصر جاء بعد أُحد على ما فعل الرماة من معصية رسول الله ، لسقطت قيمة الأمر النبوي .

3 ـ لابد من تطبيق الأمر النبوي :

 أنت مؤمن يجب أن تفتقر إلى الله عز وجل دائماً توحيداً ، وينبغي أن تنفذ الأمر تطبيقاً ، فإن أخليت بأحد هذين الشرطين لا تستحق نصر الله ، وهذا يعلمنا الآن أننا إذا أردنا أن ننتصر على أعدائنا لا بد أن نُحْكِم إيماننا ، لا بد أن نُحْكِم توحيدنا ، لا بد أن نُعَمِّق فهمنا لتوحيد الألوهية في القرآن الكريم ، بعد ذلك نستحق النصر ، ثم أتوا الصحابة من ورائهم ، وهم يأخذون الغنائم ، وقد التفَّ عليهم جيش المشركين ، فأحاطوا بهم ، واستشهد منهم من أكرمه الله ، ووصل العدو إلى رسول الله .

4 ـ العطاء الكبير في الآخرة :

 تعلمنا هذه الواقعة أن هذا العطاء الكبير في الآخرة ، لابد له من امتحان صعب ، فكلما كان المغنم كبيراً ، كان الامتحان صعباً ، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق دخل في مضائق صعبة جداً ، هذه المضائق صبر ، وانتصر على ذاته فاستحق هذا المقام العلي ، فَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

(( سَلُوا لِيَ الْوَسِيلَةَ ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ لا تَنْبَغِي إِلا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ ))

( رواه أحمد)

 استنباطاً من هذا لا تتمنى أن تصل إلى مقامات عالية في الجنة من دون ثمن ، لا تتصور أن الله يمكن أن يعطيك عطاء لا حدود له من دون ثمن ، من دون امتحان ، لا بد من أن توضع في امتحان صعب ، لا بد أن تُمْتَحن ، لا بد أن توضع في ظرف عصيب ، هل تصبر أم لا تصبر ؟ وصل المشركون إلى رسول الله .

 

5 ـ صبر الصحابة في غزوة أحد :

 وقاتل مصعب بن عمير صاحب اللواء دونه حتى قُتِلَ ، الذي كان يحمل لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مصعب ابن عمير قُتِل ، وجُرِحَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجهه ، أرسله الله رحمة للعالمين ليوقظ الضالين من عذاب الدنيا وعذاب الآخرة ، هؤلاء الذين حاربوه آذوه ، لذلك شر الخلق قاطبة من قتلَهُ نبي ، أو من قَتَلَ نبياً ، جُرِح النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه ، وكُسِرت رباعيته اليمنى السفلى بحجر ، جُرِح وكُسِرت إحدى أسنانه ، وهُشِّمَت البيضة في رأسه ، يُقال أن الذي تولى ذلك عتبة بن أبي وقاص ، وعمرو بن قمئة القيسي ، وشد حنظلة الغسيلُ على أبي سفيان ليقتله ، فاعترضه شداد بن الأوس الليثي في شعوب فقَتَلَه ، وكان حنظلة جُنُبَاً، أي استيقظ ، وكان في جنابة فقُتِل ، قُتِل جُنُباً فَأُخبِر النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنّ الملائكة غسَّلَتْه ، وقد استُنبط أن الذي يُقْتَل شهيداً لو قُتِل جنباً فالملائكة تغسِّله ، وأَكَبَّت الحجارة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سقط في بعض حفرٍ هناك ، جُرِحت وجنته ، وكُسِرت رباعيته ، وهُشِّمت البيضة من على رأسه ، وسقط في حفرة ، وهو سيد الخلق ، وحبيب الحق .

6 ـ النبي عليه الصلاة والسلام أصيب يوم أُحد :

 بينت لكم أيها الإخوة ، أن هناك مصائب تصيب الأنبياء ، إنها من نوع خاص مصائب الكشف ، لأنهم ينطوون على كمال لا يمكن أن يظهر إلا في مثل هذه الحالات ، ثم إن النبي عليه الصلاة والسلام حينما تأتيه شدة كهذه الشدة هو قدوتنا ، هو مثلُنا الأعلى ، فأيُّ مؤمن إلى يوم القيامة أصابته شدة فله أُسوة برسول الله عليه الصلاة والسلام ، أي أن يكون النبي في هذه الشدة الشديدة هذا هو قدوتنا ، وهو أُسوتنا ، وهو مثلُنا الأعلى ، فحينما يُصاب أحدنا بمصيبة في الدنيا يجب أن يتلو قوله سبحانه وتعالى :

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾

( سورة الأحزاب : الآية 21 )

 أنا لا أتمنى الشدائد ، لكن لا بد أن تكون هناك امتحانات صعبة للذي يطمح إلى مراتب عليَّة في الآخرة ، إن أردت الآخرة فادفع ثمنها :

﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا﴾

( سورة الأحزاب : الآية 11 )

 فسقط النبي عليه الصلاة والسلام في بعض الحفر فأخذ علي بيده ، واحتضنه طلحة حتى قام ، ومصَّ الدم من جرحه مالك بن سنان الخدري ، والد أبي سعيد ، ونشبت حلقتان من حِلَق المِخفَر في وجهه صلى الله عليه وسلم ، أي حلقتان من حلقات الدرع ، فانتزعهما أبو عبيدة بن الجرّاح ، فسقطت ثنيتاه فصار أهثم ، أبو عبيدة انتزع حلقتين من حلقات المِخفر غرستا في وجنة النبي صلى الله عليه وسلم ، انتزعهما بأسنانه فأصبح أهثم ، ولحق المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكرَّ دونه نفر من المسلمين فقُتِلوا كلهم .
 أذكركم بما قلت لكم في الدرس الماضي من أنّ أصحاب النبي دفعوا ثمن هذا الدين باهظاً حتى وصل إلينا ، إلى بلادنا ، هم فتحوا هذه البلاد ، ونشروا الحق في الخافِقَين ، هم بذلوا دماءهم ، وبذلوا الغالي والرخيص ، والنفس والنفيس حتى وصل هذا الدين إلينا ، ولولا جهادهم واستشهادهم لكانت هذه البلاد تابعة لبلاد أخرى .
 وكرّ دونه نفر من المسلمين فقُتِلوا كلهم ، وكان آخرهم عمار بن زيد ، ثم قاتل طلحة حتى أجهض المشركون ، وأبو دُجانة يلي النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يلي النبي مدافعاً عنه بظهره وتقع فيه النبل فلا يتحرك ، يلي النبي ، ويأتيه النبل من ظهره .
 جُلُّ ما هنالك أن يُقال للإخوة المؤمنين : تعالوا احضروا درس التفسير ، تعالوا استمعوا إلى هذه الخطبة ، تعالوا افعلوا هذا العمل ، هذا الذي فعله أصحاب النبي شيء يفوق حد الوصف ، من شدة حرصهم على سلامة نبيهم ، وقف نفرٌ من أصحاب رسول الله أمامه ليدافعوا عنه ، فقُتلوا واحداً وَاحداً ، أما أبو دُجانة رضي الله عنه فكان يلي النبي صلى الله عليه وسلم بظهره ، وتقع فيه النبل فلا يتحرك ، وأصيبت عين قتادة بن النعمان فرجع وهي على وجنته ، فردّها عليه الصلاة والسلام بيده فصحَّت ، وكانت أحسن عينيه ، وانتهى نظر ابن أنس إلى جماعة من الصحابة ، وقد دُهشوا .

 

7 ـ إشاعة مقتل النبي عليه الصلاة والسلام :

 وقالوا : قُتل رسول الله ، سرت شائعة بين الصحابة الكرام أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قُتل ، فقال : فما تصنعون في الحياة بعده ، قوموا فموتوا على ما مات عليه ، ثم استقبل الناس ، وقاتل حتى قُتل ، ووجِد به سبعون ضربة ، وجُرح يومئذ عبد الرحمن بن عوف عشرين جراحة ، بعضها في رجله فعرج منها ، وقُتل حمزة عم النبي صلى الله عليه وسلم ، هكذا الحرب سجال بين الكفار والمسلمين ، ونادى الشيطان الذي سماه النبي شيطاناً : ألا إن محمداً قد قُتل ، لأنّ عُمْر بن قمئة كان قد قتل مصعب بن عمير ، ويظن أنه النبي صلى الله عليه وسلم ، فسرت هذه الشائعة بين أوساط المقاتلين ، ووهن المسلمون لصريخ الشيطان ، قيمة القائد في معنوياته التي يبُثُها جنودَه ، ثم إنّ كعب بن مالك الشاعر من بني سلمة عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى بأعلى صوته يُبشِّر الناس ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : أنصت ، فاجتمع عليه المسلمون ، ونهضوا معه نحو الشِعب ، وأدركه أُبي بن خلف في الشِعب ، أدركه أحد الكفار أُبي بن خلف في الشِعب ، فتناول صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصُمة ، وطعنه بها في عنقه ، فكرَّ أُبي منهزماً ، وقال له المشركون : ما بك من بأس ؟ فقال : والله لو بصق عليّ لقتلني ، لأنه قال : أين محمد لا نجوت إن نجا ، فأبى النبي إلا أن يقتله بنفسه ، تناول حربة من الحارث بن الصُمة فطعنه بها في عنقه ، فكرَّ أُبي منهزماً ، وقال له المشركون : ما بك من بأس ؟ فقال : والله لو بصق علي لقتلني ، وكان صلى الله عليه وسلم قد توعده بالقتل ، لا نجوت إن نجا ، قال : أنا قاتلك ، فمات عدو الله بسرف في مكان بين مكة والمدينة ، ثم جاء علي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء فغسل وجهه ونهض ، فاستوى على الصخرة من الجبل ، وحانت الصلاة ، وهناك من يُهمل الصلاة لأتفه الأسباب ، هنا في المعركة وبعض الصحابة قتلى ، ومعظمهم جرحى ، وقد نُهكت قواهم ، فدخل وقت الصلاة ، وحانت ، فصلى بهم قعوداً صلى الله عليه وسلم ، وغفر الله للمنهزمين من المسلمين ، ونزل قوله تعالى :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ﴾

( سورة آل عمران : الآية 155 )

 واستشهد نحو سبعين رجلاً ، معظمهم من الأنصار ، وقُتل من المشركين اثنان وعشرون ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة ، ويُقال : إنه قال لعلي رضي الله عنه : لا يصيب المشركين منها مثلها حتى يفتح الله علينا .

 

8 ـ استفزاز أبي سفيان للصحابة بعد المعركة :

 أيها الإخوة ، بعد أن انتهت هذه المعركة هناك موقف يجدر بنا أن نستمع إليه ، لما انقضت الحرب أشرف أبو سفيان على الجبل فنادى : أفيكم محمد ؟ فلم يجيبوه ، فقال : أفيكم ابن أبي قحافة ؟ فلم يجيبوه ، فقال : أفيكم عمر بن الخطاب ؟ فلم يجيبوه ، ولم يسأل إلا عن هؤلاء الثلاثة ، يُفهم من هذا أنهم كانوا أركان الدين ، أعمدة كبار ، والناس بقوادهم ، والناس بأكابرهم ، وعَلِم قومه أنّ قوام الإسلام بهم ، فقال : أما هؤلاء فقد كُفيتموهم ـ أي انتهينا منهم ـ فلم يملك عمر نفسه أن قال : يا عدو الله إن الذين ذكرتهم أحياء ، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك ، فقال : قد كان في القوم مُثلة لم آمُر بها ولم تسؤني ، فقال : اعلُ هُبَل ـ يمجد آلهة قريش ـ فقال عليه الصلاة والسلام : ألا تجيبونه ؟ فقالوا : ما نقول ؟ فقال : قولوا : الله أعلى وأجلّ ، ثم قال : لنا العُزّى ، ولا عُزّى لكم ، فقال: ألا تجيبونه ؟ قالوا : ماذا نقول ؟ قال : قولوا : الله مولانا ، ولا مولى لكم .
 أيها الإخوة الكرام ، ما معركة أُحد إلا دليل على أنّ هذه الحياة دار ابتلاء ، وليست دار استواء .

 

وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ

 يقول الله عز وجل بعد ذلك :

﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 121 )

 لابد من الأخذ بالأسباب :

 هذه الآية تشير إلى التخطيط الذي كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم ، أي خطط لهذه المعركة تخطيطاً ، وتوكل على الله ، هذا يعلمنا أنه لا بد أن تأخذ بالأسباب ، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يعلم ما عند أصحابه من ميزات ، فقد بوّأ كل واحد منهم مكانه الصحيح ، والله سميع عليم ، أي سميع لما تدعونه به ، وعليم بأحوالكم ، قال تعالى :

﴿ وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ ﴾

( سورة آل عمران )

إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ

 الفشل هنا هو الضعف ، والله عز وجل يريد أن يذكرهم ببدر ، لماذا انتصروا ببدر ؟ قال :

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 123 )

تذكير الله لنصره المؤمنين في بدر :

 أنتم ضعاف ، أذلة ، أي إنكم ضعاف ، أو قِلة فكنتم أذلة ، وبعضهم قال : أذلة أي مفتقرون إلى الله عز وجل ، إما أنها تصف العدد القليل ، مع العدد القليل ضعف وذِلة ، وإما أن تصف حالهم مع الله عز وجل ، حالهم حال افتقار إلى الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 123 )

 وقد ذكرت لكم أن المؤمن دائماً وأبداً بين امتحانين ؛ إذا قال : الله ، تولاه الله بالرعاية والتوفيق ، وإذا قال : أنا ، تخلى الله عنه ، فأنت بين التولي والتخلي ، أصحاب النبي رضوان الله عليهم افتقروا إلى الله في بدر فتولاهم بالنصر ، وعصوا أمر قائدهم في أُحد فتخلى الله عنهم ، واعتدّوا بعددهم في حنين فتخلى الله عنهم ، يمكن أن نأخذ هذا درساً لحياتنا اليومية ، إن عصيت لا بد من دفع الثمن ، وإن أشركت شركاً خفياً فلا بد من دفع الثمن ، وحينما يدفع أصحاب النبي وهم خيرة الخلق الثمن على خطأ مادي أو معنوي على معصية لقائدهم ، أو على اعتدادهم بعددهم ، وقد دفعوا الثمن ، فمن نحن حتى لا نُعاقب إن وقعنا في الخطأ نفسه ، قال تعالى :

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 123 )

 والمؤمن الصادق يراقب الله دائماً ، لعلي أخطأت ، لعلي اعتددت بشيء ، لعلي قلت : أنا ، وينبغي أن أقول : الله ، لعلي اعتددت بمالي ، أو بذكائي ، أو بخبرتي ، فحينما لا تحقق هدفك في الحياة فلا بد أن تلوم نفسك ، لذلك ورد في بعض الأحاديث القدسية ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَى عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ :

 

(( يَا عِبَادِي ، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ ، فَسَأَلُونِي ، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ، يَا عِبَادِي ، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا ، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلا نَفْسَهُ ))

 

( مسلم ، الترمذي ، ابن ماجة ، أحمد ، الدارمي )

 قال تعالى :

 

﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 124 )

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ

1 ـ الملائكة تقاتل مع المؤمنين في أحدٍ :

 يمكن أن يكون النصر من عند الله عز وجل مباشرة ، ولكنه سبحانه طمأن المؤمنين أنّ الملائكة تدافع معكم ، وهذه من كرامات الله للمؤمنين ، لكرامة المؤمن عند الله ، الله عز وجل يرسل ملائكته يدافعون عنه ، ويعينونه في ساحة المعركة ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ تَعَالَى يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ ، وَحَفَّتْهُمُ الْملائِكَةُ ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ ))

( مسلم ، الترمذي ، ابن ماجة ، أحمد ، الدارمي ، أبو داود )

 حفتهم الملائكة أي حفظتهم ، أي سددت خطاهم ، أي ألهمتهم الخير ، وهذا ينقلنا إلى موضوع دقيق وهو أن لكل إنسان ملَك يلهمه ، وشيطان يوسوس له ، وأنت مخير ، ولا سلطان لأحدهما عليك ، إما أن تستجيب لوسوسة الشيطان فتقع ، وإما أن تستجيب لإلهام الملائكة فتنجو :

﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ ﴾

( سورة إبراهيم : الآية 22 )

 هناك قرين من الجن يوسوس لك ولا سلطان له عليك ، وهناك ملَك يلهمك الخير ، ولا سلطان له عليك ، وأنت مخير لك أن تستجيب إلى وسوسة الشيطان ، ولك أن تستجيب لإلهام الملائكة قال تعالى :

﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا ﴾

( سورة آل عمران : الآية 124 )

 هذه الكلمة وردت في آيات كثيرة :

 

﴿ وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾

( سورة إبراهيم : الآية 46 )

 ومع ذلك :

﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا ﴾

( سورة آل عمران : الآية 120 )

الصبر والتقوى لمجابهة كيد الأعداء :

 انتهى كل شيء ، ونحن الآن والأعداء محيطون بنا من كل جانب ، والعالم كله يتآمر على الإسلام ، ولا ننجو من مؤامراتهم ، ولا من كيدهم ، ولا من تخطيطاتهم إلا إن صبرنا واتقينا ، والصبر كما تعلمون في ثلاثة مواطن ؛ على طاعة الله ، وعن معصية الله ، وعلى قضاء الله وقدره ، هذا هو الصبر والإيمان هو الصبر ، وبالمناسبة لم يأمرنا الله عز وجل رحمة بنا في كل الآيات التي تتحدث عن القتال أن نُعدَّ القوة المكافئة ، وهذا فوق طاقة المسلمين ، أمرنا أن نُعدّ القوة المتاحة فقال :

﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾

( سورة الأنفال : الآية 60 )

 وقتها رباط الخيل ، والقوة مطلقة ، فينبغي أن يكون لكل عصر قوة ، فكل عصر له قوة معينة ، ففي عهد النبي الكريم رباط الخيل ، ثم جاء المنجنيق ، ثم جاءت المدرعات ، والآن المسلمون ينبغي أن يخططوا ليكونوا على مستوى من الإعداد الكافي ، كي يُسقطوا عن أنفسهم إثم عدم الإعداد ، نعتمد على الله بكل ما نملك ، ونستعد لعدونا بكل ما نملك ، قال تعالى :

 

﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ(125)وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾

( سورة آل عمران )

 أي :

﴿ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾

( سورة البقرة : الآية 260 )

 أحياناً الله عز وجل يسوق للمؤمن توفيقاً بأسباب مادية ، كان من الممكن أن يسوق له توفيقاً بلا سبب ، هذا النصر أو هذا التوفيق بلا سبب قد يقلقه ، فيأتيه الله بأسباب من طبيعة البشر ، هذه الأسباب تطمئنه .
 مثلاً لماذا قال الله عز وجل :

﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾

( سورة الأنعام : الآية 54 )

 لماذا قال الله عز وجل :

﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾

( سورة المجادلة : الآية 21 )

 هل يكتب الله عز وجل ؟ الله جل جلاله لا يكتب ، هذا من صفات البشر ، لكن قوله تعالى :

 

﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾

( سورة المجادلة : الآية 21 )

 الشيء المكتوب يبعث في النفس الطمأنينة ، يقول لك : معي عقد ، أو معي إيصال ، فالله عز وجل أحياناً يخاطبنا بحسب مفاهيمنا ، فهنا هؤلاء الملائكة الذين أمد الله بهم المؤمنين قال تعالى :

﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾

النصر الاستحقاقي ، والنصر التفضلي ، والنصر التكويني :

 فما من معركة على وجه الأرض إلا وهي بيد الله ، ينصر من يشاء ، ويحقق الهزيمة على من يشاء بحكمة بالغة ، ولكن ، وهذا أوان أن نقول لكم : هناك نصر استحقاقي ، وهناك نصر تفضلي ، وهناك نصر تكويني ، حينما يقتتل مؤمنون صادقون مع أعدائهم ، صادقين في إيمانهم ، وفي توحيدهم ، وفي افتقارهم إلى الله ، وهم صادقون في إعداد العُدَّة ، فالذي علينا أن نُحكم توحيدنا ، وافتقارنا ، وإيماننا ، وأن نُعدّ القوة المتاحة لعدونا ، إن فعلنا هذا استحققنا النصر الاستحقاقي ، وكتب الله لنا نصراً استحقاقياً ، وهذا تؤكده الآية الكريمة :

﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾

( سورة البقرة : الآية 249 )

 وهناك نصر آخر اسمه نصر تفضُّلي ، هؤلاء الطرفان بعضهم أولى من بعض ، لكنّ الطرفين على انحراف ، تؤكد هذه الحقيقة الآية الكريمة :

﴿ غُلِبَتْ الرُّومُ(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ﴾

( سورة الروم )

 الروم كانوا أهل كتاب ، والفرس كانوا وثنيين يعبدون النار ، فإذا تقاتل كتابي مع وثني من هو الأقرب إلى الله نسبياً ؟ الكتابي ، هم آمنوا أنّ لهذا الكون إلهاً ، وأنّ هناك جنة وناراً ، ولكن أشركوا ، ولكن هؤلاء الوثنيون عُبَّاد النار ، فالله جل جلاله نصر الكتابيون على الوثنيين نصراً تفضُّلياً ، أي هم لا يستحقونه ، ولكنّ حكمة الله اقتضت أن ينتصر هؤلاء على هؤلاء ، لكنّ المشكلة في النوع الثالث ؛ حينما يشرد الفريقان عن الله ، وحينما لا يعتدُّ الفريقان بالإيمان ، ولا بالاستعداد ، وينطلقان من كفر بالله ، ومن تهميش لكل جانب ديني في حياتهم ، عندئذ ينتصر الأقوى ، والذي يملك أحدث أسلحة ، فكل صفات النصر عندئذ متعلقة بالإعداد ، والسلاح ، وما إلى ذلك ، هذا النصر اسمه نصر تكويني ، قال تعالى :

﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 127 )

 الأمر بيد الله ، ويؤكد هذا قوله تعالى :

 

الأمر بيد الله :

﴿ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 128 )

 الأمر بيد الله ، وحينما تعلم أنّ يد الله تعمل في الخفاء وحدها ، وليس لأحد من الأمر شيء ، ألم يقل الله عز وجل :

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾

( سورة الزمر : الآية 19 )

 وقوله :

﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ﴾

( سورة الجن : الآية 21 )

 وقال :

﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ﴾

( سورة الأعراف : الآية 188 )

 هذا هو التوحيد ، وما تعلمت العبيد أفضل من التوحيد ، الأمر كله بيد الله ، وأنت حينما تُوحد وصلت إلى أعلى درجة في العلم ، نهاية العلم التوحيد ، ونهاية العمل التقوى ، قال تعالى :

﴿ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 128 )

 أي يتوب عليهم لحكمة أرادها ، يعذبهم لحكمة أرادها ، وهذا من شأن الله وحده ، وقد أكد هذا المعنى القرآن الكريم في آية أخرى :

﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾

( سورة المائدة : الآية 118 )

 أيها الإخوة حينما تصل إلى أن الله وحده المتصرف ، ولا أحد سواه ، وأن سيد الخلق ، وحبيب الحق لا يملك لك نفعاً ولا ضراً ، وأن ما من مخلوق على وجه الأرض يملك لك نفعاً ولا ضراً ، وأن الخلق جميعاً بيد الله ، فهو الذي يحركهم ، وهذا هو التوحيد .
 أحد الأنبياء قال :

﴿مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ(55)إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(56)﴾

( سورة هود )

 والله أيها الإخوة ، حتى في التفاصيل ، حتى في حركتك اليومية ، حتى في تجارتك ، حتى في بيعك وشرائك ، حتى في امتحاناتك ، حتى في سفرك ، الأمر كله بيد الله ، فحينما تتجه إلى الله وحده ، وحينما تأخذ بالأسباب ، ثم تتوكل على رب الأرباب ، هذا هو الموقف الإيماني ، ليس لك من الأمر شيء ، حتى لو أنك انتزعت من فم النبي صلى الله عليه وسلم فتوى لصالحك ، ولم تكن محقاً لا تنجو من عذاب الله ، فهذا الذي يعلق آمالاً على زيد أو عبيد ، ويضع كل ثقته بفلان أو علان قد وقع في شرك خفي .
 وكما تعلمون أيها الإخوة ، الشرك الجلي قلما يقع فيه مسلم ، أي ليس هناك مسلم يعبد صنماً من دون الله ، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

 

(( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلا قَمَرًا وَلا وَثَنًا ، وَلَكِنْ أَعْمَالاً لِغَيْرِ اللَّهِ ، وَشَهْوَةً خَفِيَّةً ))

 

( أحمد ، ابن ماجة)

 قال تعالى :

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ ﴾

( سورة يوسف : الآية 106 )

تطبيقات درس : الأمر بيد الله :


 وهذا الدرس أيها الإخوة ، له تطبيقات كثيرة ، أنت غداً في عملك حينما ترضي إنساناً ، وتعصي خالقك وقعت في الشرك ، حينما تكسب مالاً حراماً إرضاء لزوجتك وقعت في الشرك ، رأيت رضاها أعظم من رضاء الله عز وجل ، فأكثر أخطاء المسلمين سببها شرك خفي ، حينما تنافق وقعت في الشرك ، رأيت أنّ هذا الذي تنافق له ينفعك ، أو يضرك، لو رأيت أنه لا ينفعك ولا يضرك لا تنافق له ، حينما حجّ بعض خلفاء بني أمية سألوا عن عالِم جليل في مكة المكرمة كي يكرموه ، فدُلَّ على عالِم من علماء مكة ، قال له الخليفة : سلني حاجتك ، وهو في بيت الله الحرام ، قال : والله إني أستحي أن أسأل غير الله في بيت الله ، فلما التقى به خارج الحرم ، قال له : سلني حاجتك ، قال : والله ما سألتها من يملكها ، أفسألها من لا يملكها ، فلما أصرّ عليه ، قال : لي عندك حاجة ، أن تُنقذني من النار ، وأن تُدخلني الجنة ، قال : هذه ليست لي ، قال : إذاً ليس لي عندك حاجة ، هذا الكلام له تطبيقات واسعة ، غداً في بيوتكم ، وفي أعمالكم ، وتجارتكم ، وفي وظيفتكم ، ونشاطاتكم حينما تتجه إلى إنسان ، وتعلِّق عليه الآمال ، فقد وقعت بشرك خفي ، لك أن تأخذ بالأسباب ، لكنّ قلبك معلَّق بالله ، ترى أنّ الله يلهمه أو لا يلهمه ، يعطيك أو لا يعطيك بأمره وحده ، ليس لك من الأمر شيء ، قلت لكم قبل قليل حتى لو استطعت أن تنتزع من فم النبي صلى الله عليه وسلم فتوى لصالحك ، ولم تكن محقاً فلا تنجو من عذاب الله .
 حينما وافت النبي صلى الله عليه وسلم المنية ، ودخل الصدِّيق ، وكشف عن وجهه ، وقبَّله ، وقال : طبت حياً ، وطبت ميتاً ، خرج إلى المسلمين ، ماذا قال ؟ هذا الذي أحبّ النبي حباً لا حدود له ، هذا الذي قدّم له ماله كله ، هذا الذي قال عنه النبي : والله ما ساءني قط ، هذا الذي قال عنه النبي : ما طلعت شمس على رجل بعد نبي أفضل من أبي بكر ، هذا الذي قال عنه النبي : أبو بكر وعمر بمثابة السمع والبصر ، ماذا قال هذا الصدِّيق ؟ دققوا في قوله ، قال : من كان يعبد محمداً ـ لم يقل رسول الله ـ فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، لذلك هناك مطبّات كثيرة ، مثلاً إنسان في مسجد إذا ظنّ أنه يرضي زيداً في هذا المسجد أو عبيداً، وينسى أن يرضي الله عز وجل وقع في الشرك ، ينبغي أن ترضي الله عز وجل ، علامة إيمانك أن يستوي عملك في السر والعلانية ، وأن يستوي قصدك لله عند الحاجة ومن دون حاجة ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فيقول :

 

(( اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ، وَكَلِمَةَ الْحَقِّ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا ، وَالْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى ))

 

( أحمد ، النسائي ، أبو داود )

 أيها الإخوة ، أن تقول : الله خالق الكون هذه حقيقة أقرّ بها الكفار ، وأقرّ بها المشركون ، قال تعالى :

﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾

( سورة الزمر : الآية 38 )

 لكن الحقيقة الخطيرة في الدين أن ترى أنّ الله وحده هو المتصرف ، هو وحده الفعال ، هو وحده يرفع ويخفض ، يعطي ويمنع ، يعز ويذل ، يبسط ويقبض ، حينما ترى أن الله وحده هو المتصرف لا تتجه إلى غيره بل تتجه إليه وحده .
 قال تعالى :

 

﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(126)لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ(127)لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾

( سورة آل عمران )

والحمد لله رب العالمين

حكم منع الحمل :

 أيها الإخوة المؤمنون ، بادئ ذي بدء لا بد من تنويه وإشارة ، في الأسبوع الماضي سُئلت عن حكم منع الحمل ، وقد بينت أن الصحابة الكرام كانوا يعزلون على عهد رسول الله ، والعزل ألا يأتي الماء في الرحم ، وقد اشترط الفقهاء على صحة العزل موافقة الزوجة ، لأن الرجل قد يتزوج امرأتين ، وله من الأولى أولاد ، ولا يرغب بأولاد من الثانية ، لكنّ هذه الثانية حُرمت النسل ، وهذا ظلم كبير ، فلا يُسمح بالعزل إلا بموافقة الزوجة .
 ثم سُئلت عن أنواع أساليب منع الحمل ؟ أنا رجحت أنّ هذه الأساليب قد تؤذي أحياناً ، لأن الطب أحياناً يُتاجَر به ، ومن يقوم على صناعة بعض الأدوية من صالحه أن يروِّج بضاعته بكلام غير صحيح ، فهناك أدوية لمنع الحمل أساسها التغيير في النظام الهرموني ، وهذا قد يسبب نتائج وخيمة جداً ، أنا معلوماتي الطبية أنّ بعض وسائل منع الحمل قد تكون مؤذية للمرأة .

حُكم ربط المبيض :

 ثم أُدرج في أثناء سؤالي موضوع الربط ، هذا بعيد عن اختصاصي ، أنا ظننت الربط أحد أسباب منع الحمل ، ثم فوجئت أن الربط منع حمل أبدي ، ربط المبيض انتهى الحمل كلياً لهذه المرأة ، فقد تُطَلَّق ، وقد يتزوجها إنسان آخر يريد ولداً ، فأسلوب واحد من أساليب منع الحمل هذا لا يجوز ، لأنه يمنع الحمل كلياً ، إلا أن هناك استثناء لو أنّ طبيباً مسلماً حاذقاً ورعاً أكّد أن حمل هذه المرأة يُميتها ، فعندئذ يجوز الربط .
 أريد من هذا أن أؤكد لكم أنه في حالات كثيرة لا بد للمفتي أن يُجيّر فتواه إلى طبيب مسلم حاذق ورع ، هذا كلام دقيق ، وقد ضربت على هذا مثلاً ، فلو أن واحداً سأل عالِماً كبيراً من أعلم علماء الأرض في الدين : أنا مصاب بمرض في القلب ، أأُجري عملية زرع شريان ، أم عملية بالون ؟ لا يوجّه مثل هذا السؤال للشيخ ، يوجّه إلى طبيب مسلم حاذق ورع ، ففي حالات كثيرة تُجيَّر الفتوى للمتخصصين ، وهذا معنى قول الله عز وجل :

﴿ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا ﴾

( سورة الفرقان : الآية 59 )

 وأيضاً قوله :

﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾

( سورة الأنبياء : الآية 7 )

 فأدرج سؤال حول الربط ، أنا ظننته خطأً وسيلة من وسائل منع الحمل المؤقتة ، ثم أُخبرت بعد حين أنها وسيلة أبدية ، إذاً لا يجوز أن نستخدم الربط ، لأنّ هذه المرأة حرِمت الولد إلى الأبد ، إلا في حالة إذا أقرّ الأطباء المسلمون الحاذقون الورعون أنّ هذه المرأة لو حملت لماتت عندئذ يمكن أن نستخدم هذا ، هذه واحدة .

 

رسالة وشكوى من متزوجة قهرًا :

 الشيء الثاني أخت كريمة أخطأ أهلها في زواجها ، واحتسبت هذا عند الله ، ولكن أرادت أن تُبصّر من بعدها بمصيبتها ليتعظوا بها ، أنا والله قرأت الرسالة وتأثرت ، قالت : هي توجه الرسالة إلى أمها ، قالت : يا أمي أنا أعيش في جحيم هنا مع زوجي في بلد نفطي ، مع زوجي هذا الرجل العاجز عما تحمله الرجولة من معنى ، هو يكبرني بالعمر بكثير ، فهو في عمر جدي ، وأنا في الثامنة عشر من عمري ، وهو في عمر الخامسة وأربعين ، وهكذا أراد والدي أن يبيعني لهذا الرجل لقاء بعض الريالات ، ليصرفها والدي على نفسه ، وأنا أعيش ، وأتخبط في حياتي ، أرجوك يا أمي أسرعي بالحضور إلى مكان وجودي ، ونجدتي من مشكلتي لأعود معك إلى الشام ، أرجوك يا أمي السعي مع القنصلية هناك بالوقوف بجانبي ، ومساعدتي للعودة إلى الشام ، أرجوك يا أمي أن تخلّصيني من هذا الكابوس الذي أعيشه ، الباب دوماً مقفل علي ، الطعام القديم الذي لا يؤكل هو طعامي في المنزل ، يتركني وحدي في المنزل لعدة أيام بلا شيء ، ولا حتى بسؤال عني ، أو مرور إلى المنزل ليسأل إذا كنت أريد شيئاً ، أمي رغم معرفتي بأن الانتحار هو من المحرمات في الدين الإسلامي ، وفي جميع الأديان ، ولكني كثيراً ما أفكر في الانتحار ، وقد أفعلها إن لم تسعفيني ، وتأتي بي إلى الشام ، رسالة طويلة .
 هذا الذي يزوج ابنته ، وهي في الثامنة عشر إلى من يكبرها بعشرات السنين من أجل دريهمات قليلة ، وكأنه باع ابنته ، طبعاً قرأت بعضاً من هذه الرسالة كي تعدّوا للمليون قبل أن توافقوا على زواج ابنتكم من إنسان بينه وبينها فارق كبير جداً ، وقبل أن توافقوا على زواج ابنتكم من إنسان قد يكون بخيلاً ، وقد يكون قاسي القلب ، وقد يكون بعيداً عن كل معاني الإنسانية ، هذه الأخت تريد أن أقرأ الرسالة فقط ليتعظ المسلمون بها ، فهي في جحيم لا يُطاق ، وكيف لا تكون كذلك ، وقد تجد أن الانتحار قد يكون حلاً لمشكلتها .

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور