وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 34 - سورة آل عمران - تفسير الآيات 123 - 129 أصل المال أن يكون متداولا بين أيدي الناس
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً ، وارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً ، وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
 أيها الإخوة المؤمنون ، مع الدرس الرابع والثلاثين من دروس سورة آل عمران ، ومع الآية الثالثة والعشرين بعد المئة ، يقول الله عز وجل :

لماذا انتصر المسلمون في بدر ولم ينتصروا في أحد ؟

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 123 )

 أيها الإخوة ، معركة بدر وردت مفصَّلة في سورة الأنفال ، أو وردت مستوفاة في سورة الأنفال ، ومعركة أُحد وردت مفصَّلة ومستوفاة في سورة آل عمران ، ولكنّ حكمة الله عز وجل أن قصة معركة أُحد اعترضتها إشارة إلى معركة بدر ، الله هو هوَ ، والأمر بيده ، هو الناصر ، المعين ، القوي ، فلماذا نصركم في بد ولم ينصركم في أُحد ؟ معنى ذلك أن السبب منكم ، الأمر بيد الله ، قال تعالى :

 

﴿ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ ﴾

( سورة الشورى : الآية 53 )

 هو هوَ ، الأمر كله بيده :

 

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ ﴾

( سورة هود : الآية 123 )

 فلماذا نُصِرتُم في بدر ، ولم تُنصروا في أُحد ، والنبي بين أضلعكم ، وأنتم أنتم ؟ معنى ذلك أن هناك شيئا جديدا في أُحد لم يكن من قبل ، هذا الشيء الجديد هو معصية القائد ، لو أنكم انتصرتم مع معصيتكم لرسول الله لسقط أمر النبي ، ولم يعد له قيمة .
 أيها الإخوة ، في قوله تعالى :

 

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(123)إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ﴾

( سورة آل عمران )

إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِين

1 ـ تبشير النبي الصحابة بنزول الملائكة للقتال معهم :

 إذ تقول يا محمد للمؤمنين ، الحقيقة أن الملائكة نزلت في معركة بدر ، والدليل قوله تعالى :

 

﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ ﴾

 

( سورة الأنفال : الآية 9 )

2 ـ لماذا جعل النصر في بدر عن طريق الملائكة ؟

 فالملائكة نزلت في بدر ، وقد يسأل سائل : إذا كانت القوة كلها بيد الله ، وأنّ الله وحده هو الناصر ، فلماذا جعل النصر في بدر عن طريق الملائكة ؟ قال : الإنسان بُني على الأسباب ، ولا يطمئن إلا بنصر عن طريق السبب ، والشيء الذي يَلفت النظر أنّ كل عطاء من الله له سبب ، له سبب أرضي ، وله سبب دنيوي ، والله مسبب الأسباب ، وكل عقاب إلهي له سبب أرضي ، وله سبب دنيوي ، والله مسبب الأسباب ، لأن الإنسان بُني عقله على السببية ، فالله عز وجل من قدرته أن ينصرهم من دون الملائكة ، مباشرة ، ولكنهم يقلقون ، فمن أجل أن يطمئنوا جعل النصر في بدر بمعاونة الملائكة ، وقد أمدهم بألف من الملائكة مسومين ، إذ تقول الآن يا محمد في أُحد للمؤمنين :

﴿ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 124 )

لابد من الفرح لانتصار المسلمين :

 قال بعض علماء التفسير : هذه الآيات تابعة لمعركة بدر ، أي أمدهم الله بألف ، وقال : مردَفين ، أتبعهم بثلاثة آلاف ، وأتبعهم بخمسة آلاف ، لكنّ بعض العلماء يقول : سياق الآيات عن معركة أُحد فالنبي عليه الصلاة والسلام شجع أصحابه ، وقال لهم فيما أخبرنا الله عز وجل :

 

﴿ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ

 

(124)

 بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾

 

( سورة آل عمران )

 أيها الإخوة الكرام ، قضية النصر قضية أساسية جداً في حياة الأمة ، والمؤمنون ولا شك يفرحون بنصر الله أيما فرح ، قال تعالى :

 

﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾

 

( سورة الروم )

 ونحن أمة إسلامية عندما نرى أن المسلمين انتصروا في مكان ما في العالَم نفرح جميعاً ، وحينما تأتينا الأنباء السيئة بأنهم لم ينتصروا نتألم جميعاً ، وهذا من علامة الإيمان ، ذلك أنّ المؤمن لا بد أن يتفاعل مع قضايا المسلمين في العالَم ، إليكم دليلاً من القرآن حينما قال الله عز وجل :

 

﴿ الم(1)غُلِبَتْ الرُّوم(2)فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ(3)فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ(4)بِنَصْرِ اللَّهِ ﴾

 

[ سورة الروم ]

 المؤمنون فضلاً عن أنهم مهتمون ببقية المؤمنين في العالَم ، مهتمون بمن يجمعهم بهم ، قاسم مشترك ، هم أهل الكتاب ، الذين انتصروا هم الروم على الفُرس ، الفُرْس عُبَّاد النار ، أما الروم من أهل الكتاب ، مع أنّ هناك أشياء لا تجمعنا بهم ، وهناك قواسم تجمعنا بهم ، فهذا المؤمن مهتم بانتصارٍ لفئة تجمعنا بهم بعض القواسم ، إيمان بالله ، إيمان بالآخرة وهكذا ...
 إذاً : أن تحمل همَّ المسلمين ، وأن تقلق لهزائمهم ، وأن تفرح بانتصاراتهم ، وهذه علامة إيمانهم ، أما أن تنسلخ من المجتمع ، وأن تنتمي إلى ذاتك ، وألاّ تُعنى إلا بدخلك ، وبيتك ، وأولادك ، وراحتك ، وإنفاقك ، وما إلى ذلك ، هذا دليل بُعد الإنسان عن الله .
 والحقيقة أنّ الأحداث نراها نحن جميعاً ، ونستمع إليها ، ولكنّ البطولة لا في رؤيتها ولا في الاستماع إليها ، البطولة في تحليلها ، تحليل الخبر أهم من الخبر ، المؤمن بحسب إيمانه يعطي تحليلاً دقيقاً لأي خبر يسمعه .
 التقيت بأخ كريم ، فأراد أن يقرأ الكتاب الفلاني ، والكتاب الفلاني ، وهذه الكتب لفِرَق ضالّة ، فقلت له : استيعاب الباطل مُجهد جداً ، وطريق طويل جداً ، لو أنك استوعبت الحق لكان الطريق أقصر وأسهل ، وإن استوعبت الحق كان معك ميزان تزن به كل شيء ، والدليل أن الله عز وجل قال :

﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾

( سورة الأنعام : الآية 153 )

 السبيل للحق واحد ، أما الباطل فمتعدد ، ومتعدد تعدد لا حدود له ، لو عشت ألف عام ، وأمضيت هذا العمر كله في قراءة أفكار المذاهب الوضعية والضالة والمنحرفة ، عمرك هذا لا يكفي ، أما لو أنك استوعبت كلام الله فهمته ، واستوعبت سنة رسوله ، هذا هو الحق ، فاستيعاب الحق أولى وهو أسهل وأقصر وأقوى وأمتن ، لا بد أن تتعاطف مع المؤمنين في شتى بقاعهم ، لا بد من أن تفرح لانتصاراتهم ، وأن تتألم أشد الألم لانهزامهم ، لأنك واحد منهم ، ومن لم يهتم لأمر المسلمين فليس منهم ، ولا بد أن يكون في قلبك رحمة على هؤلاء المسلمين .
 ذاك الذي يقول لك : أنا ليس عندي مشكلة ، أي أموره مُيسرة ، دخله كافٍ ، هؤلاء الذين يموتون ، يُشردون ، يخرجون من ديارهم ، يُقَتَّلون لأتفه الأسباب ، يُطهَّرون عِرقياً ، ينبغي أن تتألم لأجلهم ، لا ينبغي أن تعتب على الله لأجلهم أيضاً ، هذا تطرف ، والله عز وجل أرحم الراحمين ، وأحكم الحاكمين ، هو العدل ، هو الرؤوف الرحيم ، هو الحكيم الغفور ، لكن لا بد من تعاطف بشكل أو بآخر .
 العلماء قالوا : هذه الآيات وإن كان بعض العلماء يجعلها في معركة بدر لكنهم يرجِّحون أنها في معركة أُحد ، لكن لا يوجد دليل قطعي أبداً أن الله أمدَّ المؤمنين في معركة أُحد بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ، كما أنه لا دليل من أنه لم يمدهم ، لكن الدليل القطعي أن سيدنا سعد بن أبي وقاص يروي عن رسول الله أن النبي قد أعانه في معركة بدر مَلَكَان يلبسان ثياباً بيضاء ، وقد قيل أنّ هذه من خصوصيات النبي لأنه كان في موضع الأمر والنهي تماماً ، قال تعالى :

﴿ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 126 )

بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا

 الحقيقة يرجح بعض العلماء أنه في أُحد لم يكن هناك مدد ، هذا عرض من النبي أخبرنا الله به ، لأنه لو كان هناك مدد من الملائكة ، ثلاثة آلاف ثم خمسة آلاف ولم ينتصروا هناك مشكلة في فهمنا لأمور التوحيد ، ويقول الله عز وجل :

﴿ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 127 )

وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

 القرآن كله نزل من أجل التوحيد :

 إخواننا الكرام ، لو سألتني ما المحور الذي تتمحور عليه آيات القرآن كلها ، أجيبك : إنه التوحيد ، طبعاً الإيمان بالله لا يكفي ، وأي إنسان آمن بالله خالقاً ، ولم يستجب له فهذا إيمان لا ينجيه من عذاب الدنيا ، ولا من عذاب الآخرة ، وإبليس آمن بالله ، قال تعالى :

﴿ قَالَ فَبِعِزَّتِكَ ﴾

( سورة ص : الآية 82 )

 وقال :

 

﴿ قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾

( سورة الأعراف : الآية 14 )

 وقال :

 

﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ﴾

( سورة ص : الآية 76 )

 آمن بالله خالقاً ، وآمن بالله عزيزاً ، وآمن بالله رباً ، وآمن باليوم الآخر ، ومع ذلك فهو إبليس ، إذاً الإيمان الذي لا يتبعه عمل لا قيمة له إطلاقاً ، الإنسان متى يستقيم على أمر الله ؟ حينما يعلم أنه لا إله إلا الله هذه كلمة نقولها في اليوم الواحد مئات المرات ، ولكن حينما نتحقق بفحواها أنّ الفعل بيد الله ، أنّ الذي يعطي هو الله ، وأنّ الذي يمنع هو الله ، وأنّ الذي يرفع هو الله ، وأنّ الذي يخفض هو الله ، أنّ الذي يُسعد هو الله ، أنّ الذي يُشقي هو الله ، أنّ الذي يميت هو الله ، أنّ الذي يحيي هو الله ، هذا التوحيد قد يكون كلاماً ، ولكن إذا تحققت منه تحققاً يقينياً تجد نفسك منساقاً إلى الله وحده ، والاستقامة كما بينتها اليوم استقامة في العقيدة ، وفي الوجهة ، وفي العمل ، فإنّ الذين قالوا ربنا الله ، ثم استقاموا ، فمن أجل أن تعتمد عليه ، وتتوكل عليه ، وأن تحبه ، وأن تعلِّق الآمال عليه ، وأن تنصاع إلى أمره ، وأن تكون عند الأمر والنهي ، وأن يجدك حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك ، لا بد أن تعرفه واحداً فرضاً صمداً .
 الإنسان لأنه بُني على مبدأ السببية فقد جعل الله عز وجل هؤلاء الملائكة التي أنزلها في معركة بدر جعلها بشرى للمؤمنين ، كي تطمئن قلوبهم ، لكن يقول الله عز وجل :

 

﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 126 )

معنى : الْعَزِيز

1 ـ المعنى الأول :

 كلمة العزيز دقيقة جداً ، العزيز هو الذي ينفرد ، لا شبيه له ، لا مثيل له ، لا يشبهه شيء ، ولا يرقى إليه شيء ، عزيز .

 

2 ـ المعنى الثاني :

 المعنى الثاني : تشتد الحاجة إليه ، بل يحتاجه كل شيء في كل شيء .

مصير الإنسان بيد الله :

 لكل واحد من إخوتنا الكرام له قلب ، وله دسام ، وله شريان أبهر ، وله شريان تاجي ، وله كليتان ، ورئتان ، ومعدة ، وأمعاء ، وبنكرياس ، وغدة نخامية ، وغدة الكظر ، هناك أجهزة بالغة التعقيد ، وأي خلل في هذه الأجهزة يجعل حياة الإنسان جحيماً لا يُطاق ، فالله معنا ، لأنه يمدنا بعمل هذه الأجهزة ، لو توقف أحد هذه الأجهزة عن العمل لانقلبت حياة الإنسان جحيماً لا يُطاق ، لكنّ الإنسان حينما يرى شيئاً مألوفاً ينسى وجوده ، لذلك قالوا : الصحة تاج على رؤوس الأصحاء ، لا يراه إلا المرضى ، فأيّ شخص يتمتع ببصره لا سمح الله ولا قدّر لو فقد بصره ليقولن : أتمنى أن أتسول في الطريق على أن يُرد بصري ، أن تستمتع ببصرك ، وبسمعك ، وبشمك ، وبنطقك ، وبحركتك ، وبهضمك ، وبعمل أجهزتك هذه نعمة كبرى .
 الله عز وجل يحتاجه كل شيء في كل شيء ، وهو واحد أحد ، فرض صمد ، ويستحيل أن تحيد به ، هذا هو العزيز ، فإذا كنت مع العزيز أعزك الله ، وإذا كنت مع العبد الذليل أذلك الله معه ، من اتكل على ماله ضلّ ، من اتكل على غير الله ذل ، من اتكل على الله لا ضل ولا ذل ، إذاً :

 

﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ﴾

 

( سورة آل عمران : الآية 126 )

3 ـ النصر من عند الله :

 أي كل قوى الأرض مجتمعة تحتاج إلى كلمة من الله ، زُلْ فيزول كل شيء ، الإنسان من ضعف إيمانه ، وتوحيده يرى أعداءه يتمتعون بقوى جبّارة ، بقوى عملاقة ، بدرع من الصواريخ كما يقال الآن ، صاروخ يضرب صاروخًا على بعد مئتين وخمسين كيلو مترًا ، هناك إحكام ما بعده إحكام ، من ضعف إيماننا نُعظّم ما يفعله الإنسان المنحرف ، أما إذا آمنا بالله فالأمر : كن فيكون ، زُل فيزول ، لا تستغربوا ، بلد ضعيف جداً ، دولة ضعيفة وصغيرة فيها مجتمع متخلف بدائي قبلي مثل هذه الدولة المتخلفة البدائية لا يمكن أن تنتصر على أقوى دولة في العالَم ، مستحيل ، وألف ألف مستحيل ، لكنّ هذا هو الذي حصل في صدر الإسلام ، المسلمون خرجوا من الصحراء بلادهم فقيرة ، حياتهم خشنة ، حياتهم بسيطة جداً ، يهزمون أقوى دولتين في العالَم الفرس والروم ، شيء لا يصدق ، لأنه إذا كان الله معك فمن عليك ، وإذا كان الله عليك فمن معك ، وقد أعزنا الله بالإسلام ، ومهما ابتغينا العزة بغير الإسلام أذلنا الله ، قال تعالى :

﴿ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 127 )

لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ

 لن ينجح شيء إلا بتوفيق الله :
 أي فعل الله هذا ليضعف الكفار ، أو يمنعهم من تحقيق مرادهم ، فينقلبوا خائبين ، لأنه لن ينجح شيء في الأرض من بدء الخليقة حتى نهاية العالَم إلا بتوفيق الله ، وهذا معنى قول الله عز وجل :

﴿ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ﴾

( سورة هود : الآية 88 )

 لا ينجح مشروع ، ولا تنجح معركة ، ولا ينجح اختراع ، و لا تنجح تجارة ولا ينجح شيء على وجه الأرض من بدء الخليقة وإلى نهاية العالَم إلا بتوفيق الله ، لذلك الذكي قد لا يحقق أهدافه ، لكن المستقيم هو الذي يحقق أهدافه ، الآية الدقيقة التي بعدها :

﴿ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 128 )

لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ

1 ـ لا دخْلَ للنبي في تعامل الله مع المشركين ، يتوب عليهم أو يعذبهم :

 هو سيد الخلق ، وحبيب الحق ، قمة البشر ، ومع ذلك توحيدياً ليس لك من الأمر شيء ، أنت لا تفعل شيء ، ليس لك دخل في توبتهم ، ولا في إهلاكهم ، الله عز وجل يهلكهم أو يتوب عليهم .
 الآن قد يسأل أحدنا هؤلاء الكفار الأشداء الذين التفوا على المسلمين من ظهورهم وانقضوا عليهم وقتَّلوا منهم ، بل قتلوا عمّ النبي صلى الله عليه وسلم ، وشُجَّ وجه النبي ، وكُسرت رباعيته ، ودخل المِخفر في وجنته الشريفة ، ووقع في الحفرة ، وصاحبه الذي يحبه أشد الحب مات أمامه مصعب بن عمير ، وصحابة كبار ماتوا في أُحد ، هؤلاء الذين التفوا حوله ، وحققوا هذا النصر ، وكانوا سبب هزيمة المسلمين ، لماذا لم يقضِ الله عليهم ؟ لِمَ لَمْ يُهلكهم الله عز وجل ؟ بعلم الله أنّ هؤلاء الكفار الأشداء الذين أوقعوا أشد الأذى بالمؤمنين منهم سيدنا خالد بن الوليد ، منهم سيدنا عكرمة بن أبي جهل ، منهم سيدنا عمر بن العاص ، سوف يؤمنون ، أي يا محمد أنت لا تعلم ، لكنّ الله يعلم ، أي مؤمن لو احتك بكافر ورأى منه القسوة والغلظة والظلم والشدة يتمنى أن يموت ، يتمنى أن يُهلكه الله عز وجل ، لكن الله يعلم أن هذا الإنسان الآن هكذا وضعه ، لكن فيه بذرة خير ، وسوف يؤمن ، فلا بد أن نستسلم لله عز وجل .

 

2 ـ لا لليأس :

 والله أيها الإخوة ، في هذه الدعوة المتواضعة ، وفي عمر ليس بالمديد التقيت بأناس كثيرين يزيدون على عشرة أشخاص كان يقول أحدهم : ما من معصية على وجه الأرض إلا اقترفتها مهما تكن قذرة ، ومع ذلك تاب إلى الله توبة نصوحًا .
 هذا الكلام أيها الإخوة ، يجب أن يمنحنا نَفَساً طويلاً مع الطرف الآخر ، يجب ألا تيأس من إنسان غارق في المعصية ، لعل الله يهديه ، لذلك كبار العلماء عندهم أدب مع الله كبير ، إذا رأوا إنساناً يعاقر الخمر يقولون : هذا الآن في معصية ، أما إنه يمكن أن يتوب ، وأن يسبقنا ، هذا شيء واقعي ، لا تحتقر عاصيًا .
 سيدنا خالد ما هو ظن المؤمنين ، وهو يقاتل رسول الله ، ويقاتل صحابته الكرام ، والتف عليهم من ظهورهم ، وأوقع فيهم الأذى ، وقتَّل بعضهم ، ألم يمتلئوا كراهية له ؟ ألم يمتلئوا تمنيات أن يموت ، أو أن يُهلكه الله عز وجل ؟ فإذا هو بعد قليل سيف الإسلام ، يقول هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه : << خُضت مئة معركة أو زُهاءها ، وليس في جسمي موضع إلا فيه ضربة بسيف ، أو طعنة برمح ، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء >> .
 فأنت كمؤمن يجب أن يكون لك قلب كبيرًا حتى لو رأيت عاصياً ، هذا الذي يعصي الله الآن قد يتوب ، وقد يستغفر ، وقد يقبله الله عز وجل ، وقد يرفع قدره ، والآية الكريمة :

﴿ قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾

( سورة الزمر : الآية 53 )

 هذا الكلام يعلمنا الأدب مع خلق الله عز وجل ، قال تعالى :

﴿ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 128 )

3 ـ النبي بشر كسائر البشر :

 فمن حيث التصرف النبي عليه الصلاة والسلام لا يملك لنفسه ، نفعاً ولا ضراً ، ولا موتاً ، ولا حياةً ، ولا نشوراً ، بل لا يملك لنا :

﴿ فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ﴾

( سورة سبأ : الآية 42 )

 علاقتنا بالله وحده ، لكنه جاء بالهدى ، وجاء بالحق ، وهو يهدي إلى صراط مستقيم ، أما من حيث الفعل فعلاقتك بالله عز وجل ، والدليل لو أنك استطعت أن تنزع من فمه الشريف فتوى، ولم تكن محقاً فيها لم تنجُ من عذاب الله ، فعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا ))

[ البخاري ، مسلم ، النسائي ، أبي داود ، ابن ماجة ، أحمد ، مالك ]

 سيدنا الصديق حينما مات رسول الله عليه الصلاة والسلام نظر إلى وجهه ، وقُبَّله ، وقال : << طِبت حياً وطِبت ميتاً ، وخرج إلى الناس وقال : من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت >> .
 نحن في أمسّ الحاجة إلى التوحيد ، نحن في أمس الحاجة إلى أن نرى يد الله تعمل وحده ، مهما سمعت من أخبار ، ومهما قرأت من أخبار ينبغي أن تؤمن أن الفعّال هو الله ، وأنّ كل واقع له حكمة بالغة ، ولو كان الموقع أحمق أو مجرماً ، لكل واقع حكمة ما دام الله قد سمح به فهناك حكمة بالغة ، بل هناك حكمة مطلقة ، بل هناك خير مطلق ، هذا معناه يُريح الإنسان ، الإيمان بالقدر يُذهب الهمَّ والحزن ، الإيمان بالقدر نظام التوحيد ، فلا تدعو مع الله إلهاً آخر فتكون من المعذَّبين ، قال تعالى :

﴿ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 128 )

 لو طبقنا هذا التوحيد على مجتمع إسلامي ، أحياناً إنسان في المجتمع الإسلامي قد يكون قويًّا ، أو له مكانة كبيرة ، أو من الدعاة الكبار ، فالمؤمن إذا ظن أن هذا الإنسان ينفعه ، أو يضره ، أو يمنع عنه عذاب الله فقد أشرك ، وهذا شرك خفي خطير جداً ، لذلك حينما دخل عبد الله بن المبارك على إخوانه كانوا آلافًا مؤلفة قال : يا رب لا تحجبني عنك بهم ، ولا تحجبهم عنك بي ، الإنسان يجب أن يبقى موحداً مع الله دائماً ، يستمع من أستاذه ، ويحبه ، ويقدم كل ما يستطيعه في سبيل الدعوة ، لكن لا ينبغي أن يتوهم أنّ هذا الذي يرشده بإمكانه أن يفعل شيئاً معه ، الفعّال هو الله ، لو كنت متخذاً من العباد خليلاً لكان أبو بكر خليلي ، ولكن أخي وصاحبي ، قال تعالى :

﴿ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 128 )

4 ـ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ

 أو أن يتوب عليهم أمر توبتهم ، وأمر تعذيبهم ليس بيدك ، بيد الله عز وجل ، هو يعلم بدليل أنه لم يعذبهم ، لم يُهلكهم مع أنهم أوقعوا بالمسلمين أشد الضرر ، لأنه علم أن فيهم بذرة خير، وهذه البذرة عملت فعلها وجعلته من كبار المؤمنين ، تصور في أثناء صلح الحديبية ماذا قال سهيل النبي : اكتب هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله ، قال له : امحُ رسول الله ، لو آمنا بك لما حاربناك ، فمحيت كلمة رسول الله ، بعد أن أصبح من كبار الصحابة يقول : أنا أذوب خجلاً من الله عز وجل كيف لم أسمح بهذا الاتفاق ألا يُكتب فيه رسول الله ، الناس أعداء ما جهلوا ، أنت حينما تعرف الحقيقة .
 والله أيها الإخوة ، أخ كريم ليس بيننا الآن قال لي : أنا أسرفت على نفسي كثيراً ، ثم أُصيب بمرض عضال وُضع في العناية المشددة ، قال لي : ناجيت الله وأنا في العناية ؛ أن يا رب أيليق أن ألقاك وأنا عارٍ من عمل صالح ، إنسان بلا ثياب يا رب ، يقصد بالثياب العمل الصالح ، أمهلني يا رب ، أعطني فرصة لأتوب إليك ، وهو في غرفة العناية المشددة ، لكن الله امتن عليه بأن أعطاه فرصة ، وحضر الدروس كلها ، وأقبل على الله ، وخشع في صلاته ، وغض بصره ، وأنفق ماله ، وفعل ما فعل ، ذاق طعم القُرب ، قال لي : مرة وأنا أُناجيه قلت له : يا رب كل هذه السعادة من القرب منك لِمَ لَمْ تُرسل لي هذه الأزمة قبل عشر سنوات ، من شدة سعادته ، أنت قد تجد شيئاً مزعجاً ، مرض مزعج ، فقر مدقع أحياناً هذه كلها أبواب إلى الله عز وجل ، دوافع .
 هناك صحابة كانوا كفاراً والتفوا على المؤمنين ، وأوقعوا فيهم أشد الخسائر ، وقتلوا منهم الكثير ، وفيهم سيدنا خالد ، وسيدنا عكرمة ، وسيدنا عمرو بن العاص ، بعد ذلك أسلموا ، وأصبحت كل طاقتهم الحربية في خدمة الإسلام ، سيدنا عكرمة بن أبي جهل أبلى بلاءً حسناً في بعض المعارك ، وسيدنا خالد ، وسيدنا عمرو بن العاص ، قال تعالى :

 

﴿ لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾

 

( سورة آل عمران : الآية 128 )

 لكن لعلمه أن فيهم بذرة خير لم يهلكهم الله عز وجل ، والذي حصل بعد ذلك يؤكد هذه الحقيقة .
 قال تعالى :

 

﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 129 )

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ  

1 ـ الملك بيد لله عز وجل :

 الملك بيد لله عز وجل ؛ خلقاً ، وتصرفاً ، ومصيراً ، وهذا أوسع أنواع المُلك ، قال تعالى :

﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 129 )

 الله خالق كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل ، له الخلق والأمر ، قال تعالى :

 

﴿ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾

( سورة هود : الآية 123 )

﴿ لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾

( سورة الشورى : الآية 12 )

﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 129 )

2 ـ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء

 يغفر من شاء المغفرة ، ويعذب من شاء العذاب ، كلام بسيط ، يقول لك الطبيب : إن فعلت كذا وكذا ، وكذا شُفيت من دون عملية جراحية ، وإن استهترت وتابعت التدخين مثلاً ، ولم تعتنِ بنظام غذائك ، ولم تتحرك في جسمك فلا بد من عملية جراحية ، فأنت مُخيَّر ، فإما أن تختار المعافاة من دون عملية ، أو أن تفرط ، وأن تتساهل بشأن معاشك ، وحياتك فتحتاج إلى عملية جراحية ، فإما أن تطلب التوبة فيتوب الله عليك ، وإما أن تطلب العذاب ضمناً فيأتي العذاب ، قال تعالى :

﴿ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 129 )

 لكن الله يريد أن يغفر لك ، يريد أن يرحمك ، أي إذا قال أب لابنه : يا بني أنت حر ، إما أن تتفوق في دراستك يكون لك مستقبلاً زاهراً ، أو أن تُقصِّر ، أنا لا أجبرك على الدراسة ، لكن الأب يتمنى من ابنه أن يختار الأول :

 

﴿ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾

 أنت مخير ، فإن أردت المغفرة غفر الله لك ، وإن ركب الإنسان رأسه ، وطلب المعصية والتفلت عذّبه الله عز وجل ، لكن الله غفور رحيم ، أي يريد الله المغفرة والرحمة .
 ثم يقول الله عز وجل :

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(130)وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ(131)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾

( سورة آل عمران )

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا َمضاعفة

1 ـ أصلُ المالِ أن يكون متداوَلاً بين الناس :

 أيها الإخوة ، شاءت حكمة الله أنّ منهجه يقتضي بأن تكون الكتلة النقدية موزعة بين الناس جميعاً ، قال تعالى :

﴿ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ ﴾

( سورة الحشر : الآية 7 )

 المال إذا لم يكن متداول بين جميع الناس هناك مشكلة كبيرة يعاني منها العالَم من بدء الخليقة وإلى قيام الساعة .

 

2 ـ الربا سبيل الشقاء والجرائم والفساد في الأرض :

 حينما يلد المالُ المالَ عن طريق الربا ، تتجمع الأموال في أيد قليلة ، وتُحرم منها الكثرة الكثيرة ، فهذا التجمع الكبير في أيدٍ قليلة ، وهذا الحرمان الشديد للكثرة الكثيرة هذا يسبب الثورات والجرائم والدعارة والسرقات والاحتيالات والفساد الأخلاقي وشقاء الإنسان .
 والله أيها الإخوة ، إن الشقاء الذي تعاني منه البشرية في شتى بقاع الأرض يمكن أن يُردّ إلى الربا ، ذلك أن الإنسان إذا شرب الخمر آذى نفسه ، أضرّ بنفسه وحده ، أما إذا زنى أضرَّ بنفسه وأفسد فتاة معه ، أما إذا أكل الربا أضرَّ بمجتمع بأكمله ، لأن هذه الكتلة النقدية ينبغي أن تكون بين الناس جميعاً متداولة ، أما إذا ولد المالُ المالَ تجمعت في أيدٍ قليلة ، ذلك أن الأعمال إذا ولدت المال فلا بد أن يوزع المال على أطراف كثيرة جداً .

 

3 ـ لابد أن تلد الأعمالُ المالَ :

 أبسط مثل ؛ افتح محلاً تجارياً أكثر من ثلث الربح يذهب مصاريف ، يحتاج إلى موظفين ، يحتاج إلى مستودع ، يحتاج إلى نقل بضاعة ، يحتاج إلى معاملات وقرطاسية ، أبسط محل تجاري ثلث أرباحه تذهب مصاريف ، لأنه حرّك الفعاليات الأخرى ، أما لو وضع ماله في مصرف ، وأخذ الربح ، وعاش به ، كل هذا الربح له وحده ، هو لم يفعل شيئاً ، ما قدَّم شيئاً ، ما ساهم في الإنتاج .
 لو فرضنا أن إنسانا هيَّأ مزرعة تفاح ، هو هدفه الربح ، هدفه أن يؤمِّن دخل له ولأولاده ، دون أن يشعر ، ما دام هناك إنتاج جديد من هذه الفاكهة هذا يسهم في تخفيض الأسعار ، كلما حوّلت أرضاً يابسة إلى أرض خضراء ، وطرحت إنتاجها في الأسواق معنى ذلك أنت وفرت الحاجات ، وانخفضت الأسعار ، وانخفضت تكاليف المعيشة .
 عندنا قاعدة أساسية : إذا ارتفعت الأسعار ضاقت الشريحة ، كالموشور تماماً ، لو أتينا بألف دائرة متدرجة في التناقص ، ووضعناها فوق بعضها البعض شكلت موشوراً ، فكلما انخفض السعر اتسعت دائرة المنتفعين بهذه السلعة .
 أبسط مثل لو نزلت فاكهة الكيلو بمئة ليرة كم من إنسان يشتريها في الشهر ؟ قد يكون خمسة آلاف ، الشام فيها خمسة ملايين ، لو كان الكيلو بعشرين ليرة لاشتراها مليونان ، لو كان الكيلو بخمس ليرات لاشتراها أربعة ملايين ، فالسعر كلما ارتفع كلما ضاقت شريحة المنتفعين به ، فما الذي يخفض الأسعار ؟ حينما تلد الأعمال المال ، أما إذا ولد المالُ المالَ ارتفعت الأسعار .
 هذا الموضوع يحتاج إلى بحث طويل ، لأن النظام الاقتصادي في الإسلام مهم جداً ، وكاد الفقر أن يكون كفراً ، في كل مجتمع منضبط بالشرع تكون هذه الكتلة النقدية متداولة بين الناس جميعاً ، أما حينما يحل الربا محل البيع ، أي الإنسان يُجمِّد أمواله بالبنوك من دون أن يقيم مشروعات ، يقال لك بأي بلد في العالم : أول مشكلة هي البطالة ، وحلها إنشاء مشاريع ، وإيجاد فرص عمل ، شاب في أول حياته وجد عمل ، معناها تزوج ، معناها سكن بيتاً ، اشترى حاجاته من ألبسة وطعام ، أساس الحياة أن يكون لك دخل ، والدخل يحتاج إلى فرصة عمل ، فالربا يتناقض مع الأعمال ، أما حين تُسَخِّر مالك في التجارة ، أو الصناعة ، أو الزراعة ، أو في مشروع استثماري ، أو في خدمة ، أو حرفة ، أو صنعة ، عندها تكون قد قدمت شيئا ، وأخذت شيئًا .

والحمد لله رب العالمين

الأسئلة :

 س : جاءتني بعض الأسئلة قال إنكم ترددون في دعاء خطبة الجمعة دعاء لا أدري معناه وهو : اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك.
 ج : أي يكون أحدهم قد ورث أرضاً ، وكانت الأرض قديماً تباع مقابل حمار صغير ، أما الآن فأصبحت الأرض غالية جداً ، فالدنم مثلاً يباع بثلاثة ملايين ، ومن عنده مئتا دنم ، وكل دنم بثلاثة ملايين يُضرب اثنان بثلاثة فهم ستمئة مليون ، يشعر بسرور ، عنده بيت ارتفع سعره ، عنده تجارة رابحة جداً ، وكيل حصري لمادة تجارية أساسية ، وبيعها رائج جداً ، تجد أن لديه شعورا أنه غني ، وأموره ميسرة ، وليس لديه مشكلة مادية ، عينه قرّت بهذه التجارة ، وطرب لها ، ظن أنه ملك كل شيء ، فأنا بالدعاء : اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم ، أنت مثلاً قد تكون أخذت بيتاً بخمسة عشر ألفاً ، والآن لا تبيعه بخمسة عشر مليوناً ، وهذا الآن قد بطل ، والأسعار قد نزلت إلى الثلث ، لكن كل إنسان اشترى بيتاً بعشرة آلاف ، وصار ثمنه عشرة ملايين ، يقولها عدة مرات بأنه يملك ثروة ضخمة ، أو عنده أولاد نجباء ، كلهم أطباء ، ومهندسون ، لكنهم جميعاً بلا دين ، فقط يفرح بمناصبهم العلمية ، فقد يفتخر الإنسان بزوجته ، قد يفتخر بأولاده ، قد يفتخر ببيته .
 دخلت على شخص فقال لي : هذا البيت مساحته أربعمئة متر ، فقلت الله : هنيئاً لك ، قال لي : هذا البلاط أتيت به من إيطاليا ، شحن جوي ، فقلت له : والله هذا شيء جميل ، بيت فخم في حي راق جداً ، له إطلالة جميلة ، سعره من ستين إلى سبعين مليوناً ، فمن كان عنده بيت فخم ، من كان عنده مرتبة ، من كان عنده أرض تنظمت ، وأخذها بسعر بخس ، ثم أصبح كل دنم بالملايين ، ألا يشعر أنه متفوق ، كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم ، فأقرر أعيننا من رضوانك ، المؤمن يقول : أنا لم أؤذِ أحداً في حياتي ، كل عمري أمضيته في خدمة الناس ، أحس بسعادة لا توصف ، فإذا أخذ الله عز وجل أمانته سأجد لي عند الله شيئاً ، قدمت الكثير ، وتعبت كثيراً ، وسهرت كثيراً ، أنفقت الكثير من المال ، هذه الأعمال الصالحة كلها تصبح رصيداً ضخماً عند الله ، ومن قدَّم ماله أمامه سرَّه اللحاق به .
 إذا رأى الإنسان أهل الدنيا يطربون لما عندهم من بيوت فخمة ، من مركبات فارهة ، من أراضٍ شاسعة ، من مزارع جميلة جداً .
 والله هناك إنسان يملك مزرعة لا تقل كلفتها عن مئة مليون ، كل شيء فيها ، فإذا قرَّت عين إنسان في هذه الدنيا ، يا رب اجعل عيني تقرّ برحمتك ، قال تعالى :

 

﴿ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ﴾

( سورة يونس : الآية 58 )

 أي افرح برحمة الله ، افرح أن هداك الله إليه ، افرح أن جعلك في بلد مسلم تستمع إلى هذا الكلام ، فإن ثمة بلادًا ليس فيها إلا الملاهي ، والنوادي الليلية ، والخمر ، والقمار ، بلاد جميلة جداً ، لا تجد فيها إلا النوادي الليلية ، والمسابح ، والمطاعم ، والفسق ، والفجور على أشده ، هنا عندنا مساجد ، عندنا دروس علم ، عندنا ولد يحترم أباه ، عندنا زوجة مخلصة ، عندنا ابنة تحب أباها حباً لا حدود له ، عندنا صهر له ولاء لعمه ، عندنا أشياء جميلة جداً في بلادنا .
 والله زارنا أخ من أمريكا بقي عندنا مدة شهر ، فقال : والله عندنا كل شيء ، ولكن عندكم الحب والإيمان ، هناك صلات اجتماعية ، رحمة ، تعاون ، بذل لأعمال صالحة ، كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا برضوانك ، هذا الذي قال لي بيتي مساحته أربعمئة متر ، والبلاط من إيطاليا ، والطقم مستورد ، والثريا فخمة جداً ، لم يترك شيئاً لم يصفه لي ، فقلت لنفسي : يجب لي أن أبين له ، فقلت له : ما قولك في بيت من أحياء دمشق الفقيرة جداً ، بغرفتين شماليتان على العظم ، والناس ساكنون فيه ، عوضاً عن الأبواب يضعون قطعة من القماش ، هل يتوازنان ؟ فقال لي : أعوذ بالله ، وازنت له بين بيت ثمنه سبعون أو ثمانون مليون ، وبين بيت في حي فقير ، وتحت الأرض ، وازنت له بين ممرض مهنته أن ينظف المرضى ، وبين أكبر جراح ، كل عملية يأخذ عليها مئة وخمسين ألفاً ، في اليوم يجري عملية أو اثنتين ، وازنت له بين معلم في قرية يحمل طعامه ، ويمشي هو المدير ، والآذن ، والمعلم ، وبين أستاذ جامعة عنده ساعتان تدريسًا ، وأستاذ له كرسي ، رئيس قسم مثلاً ، بين رئيس أركان ، وبين جندي يرابط على الخطوط الأمامية ، فقد قارنت له بين هؤلاء قد يكون أستاذ الابتدائي أرقى عند الله من ألف أستاذ جامعي ، أنا لا أذكر أحداً بسوء ، وبين بيت في حي فقير جداً وبين بيت فخم ، قال لي : ما الذي تقصده ، قلت له :

 

﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا ﴾

( سورة الإسراء : الآية 21 )

 لكن درجات الدنيا لا تعني شيئاً ، وقد تعني العكس ، قال تعالى :

 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

( سورة الأنعام : الآية 44 )

 قلت له : درجات الدنيا لا تعني شيئاً ، وقد تعني العكس والدليل أن سيد الخلق كان إذا أراد أن يصلي قيام الليل لا تتسع غرفته لصلاته ونوم زوجته ، لا بد أن تنزاح جانباً كي تصلي ، لم تكن مساحة بيته أربعمئة متر ، أما درجات الآخرة فتعني كل شيء ، وهي أبدية .
 والله أيها الإخوة كلام من القلب ، مثلاً : الواحد وأمامه ثلاثة أصفار أصبح ألفاً ، ثلاثة أخر يصبح مليونا ، ثلاثة أخر ألف مليون ، ثلاثة أخر مليون مليون ، الأصفار إلى الشمس ، تصور مئة وستة وخمسين مليون كيلو متر ، كل ميليمتر صفر ، إن ساوى هذا الرقم الدنيا ، والآخرة لا نهاية قيمته صفر ، لو عشت ألف مليون مليون مليون مليون سنة ببحبوحة ، ودخل فلكي ، وبصحة جيدة ، وزوجة جميلة ، وأولاد ممتازين ، وكل شيء عندك والآخرة إلى جهنم ، فأنت أكبر خاسر ، والدليل قول سيدنا علي : << يا بني ما خير بعده النار بخير ، وما شر بعده الجنة بشر ، وكل نعيم دون الجنة محقور ، وكل بلاء دون النار عافية >> ، فالبطولة لا أن تحقق دخل كبير ، البطولة أن تزحزح عن النار ، وهذا هو الدليل :

 

﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنْ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾

( سورة آل عمران : الآية 185 )

 س : عزمت على الزواج وتطبيقاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم :

(( تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ : لِمَالِهَا ، وَلِحَسَبِهَا ، وَلِجَمَالِهَا ، وَلِدِينِهَا ، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ ))

[ مسلم ، البخاري ، النسائي ، أبي داود ، ابن ماجة ، أحمد ، الدارمي عن أبي هريرة]

 طرقت أبواب عدة من المتدينين ، ففوجئت بأسلوب تبييت الاستخارة ، مع أنني لم أرَ الأهل ولا الفتاة ، وهم لم يعرفوني فيبيتون الاستخارة عند الشيخ الملتزمين عنده ، فيكون جوابهم : الاستخارة ليست جيدة ، وهذا حدث أكثر من مرة .
 ج : إخواننا الكرام ، إن أردتم السُّنة فليس في السنة استخارة بالنيابة أبداً ، الاستخارة تكون مباشرة من صاحب الاستخارة ، الفتاة تستخير الله ، أما أن يستخير إنسانا مكان إنسان فهذا لم يرد في السُّنة أبداً .
 س : نتيجة لظروف مر بها زوجي فقد حُرِم من نعمة الصلاة ، فهل يجوز أن أقوم بالصلاة عني وعنه ؟
 ج : لا ، والدليل قوله تعالى :

﴿ وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى ﴾

( سورة النجم : الآية 39 )

 إن كان هناك ظروف صحية قاهرة فالله يعفيه ، طبعاً هي فرض لا يسقط بحال ، إلا بالإغماء الشديد ، أو السبات ، فإذا دخل إنسان في السُبات فهذا لا يصلي ، ولا يوجد عليه شيء إطلاقاً .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور