وضع داكن
25-04-2024
Logo
الخطبة : 0873 - الدروس المستفادة من الهجرة النبوية الشريفة1. حياة النبي قدوة وتشريع لكل البشر - وجوب تناصر المسلمين والتعاون فيما بينهم .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخطبة الأولى:
 الحمد لله نحمده، ونستعين به ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله سيد الخلق و البشر، ما اتصلت عين بنظر أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

حياة النبي قدوة و تشريع لكل البشر :

 أيها الأخوة الكرام، نحن في مناسبة هجرة سيد الأنام عليه أتمّ الصلاة و السلام، فحياة النبي صلى الله عليه و سلم تتميز عن حياة العظماء، عن حياة القادة و المصلحين، بأن حياته صلى الله عليه و سلم كل ما فيها من أقوال أو أفعال أو إقرار أو مواقف تعد قدوة و تشريعاً، فقد عصمه الله جلّ جلاله عن الخطأ في أقواله، و في أفعاله، و في مواقفه، فهو لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، لذلك:

﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾

[ سورة الحشر: 7]

 هذا في أقواله، أما في أفعاله:

﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾

[ سورة الأحزاب: 21]

 هو مبلغ مرتين، مبلغ مرة بأقواله و هي أحاديثه الشريفة، مبلغ مرة بأفعاله و هي سيرته المعطرة.
 أيها الأخوة الكرام، بادئ ذي بدء إن الظروف التي أحاطت بالنبي صلى الله عليه و سلم، و الأحداث التي واجهها هي ظروف، وأحداث خلقت وقدرت بعناية تامة، وبحكمة بالغة ليقف النبي صلى الله عليه و سلم منها الموقف الكامل، الذي ينبغي أن يقفه الإنسان ليؤكد إنسانيته و ليحقق غاية وجوده، إن هذه الظروف و تلك الأحداث من شأنها أن تتكرر. فالذي واجه النبي يواجه المسلمين، من شأنها أن تتكرر لأن طبيعة النفس واحدة:

﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾

[ سورة الأعراف: 189]

 و لأن معركة الحق والباطل، ومعركة الخير والشر، ومعركة الإيمان والكفر معركة قديمة، ومستمرة، وأن الإنسان هو الإنسان في أي زمان و مكان، إنه يكرر نفسه في ارتفاعه وفي انحطاطه، في قوته وفي ضعفه، في إيمانه وفي كفره، لذلك كان موقف النبي صلى الله عليه و سلم من الظروف التي أحاطت به و من الأحداث التي واجهها هو الموقف الذي يريدنا الله أن نفقهه إذا أحاطت بنا تلك الظروف، أو واجهتنا تلك الأحداث.
 إذاً هناك حالات متكررة خلقت في عهد النبي ليقف النبي منها موقف المشرع و من شأنها أن تتكرر، فإذا تكررت علينا أن نقف منها كما وقف النبي، لذلك أيها الأخوة فرق كبير بين أن تعالج مناسبة الهجرة من وقائعها، وهي معروفة تماماً لكل المسلمين، وبين أن تعالج من دروسها المستفادة.

الدروس المستفادة من الهجرة النبوية أن ظلم النفس أشدّ أنواع الظلم :

 أيها الأخوة الكرام، الدرس الأول:

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾

[ سورة النساء: 97]

 ظلم النفس أشد أنواع الظلم، ظلم النفس يعني أن تخسر الدار الآخرة، ظلم النفس يعني أن تخسر الأبد، ظلم النفس يعني أن تخسر الجنة التي خلقت لها، هذا أشدّ أنواع الظلم، فالله عز وجل يقول:

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾

[ سورة النساء: 97]

 الرد الإلهي يوم القيامة، الرد الإلهي على هذا العذر الواهي:

﴿كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ﴾

[ سورة النساء: 97]

 ويمكن أن نفهم معنى المستضعفين على نوعين: قد تكون في مجتمع ترتكب فيه المعاصي على قارعة الطرقات، أينما التفت واجهت معصية إلى أن تألف المعصية، إلى أن تراها سلوكاً طبيعياً، إلى أن تعذر العصاة، أنت في هذا المجتمع المفعم بالمعاصي والآثام والفجور والانحراف والشهوات والأهواء والنزوات، أنت في هذه المجامع ضعيف أمام نفسك، لم تستطع أن تقاوم فسقطت مع من سقطوا، لم تستطع أن تقف موقفاً آخر فانغمست مع من انغمسوا، هذا نوع من الاستضعاف، ضعيف أمام نفسك في مجامع تضج بالشهوات، تضج بالانحرافات، تضج بالضلالات، والمعنى الآخر لا تستطيع فيه أن تعبد الله، المجتمع الذي يحول بينك وبين عبادة الله إما ضعفاً من الداخل، وإما قمعاً من الخارج، هذا المجتمع ينبغي أن تغادره، لأنه حال بينك و بين عبادة الله، لأنه حال بينك وبين سرّ وجودك، لأنه حال بينك وبين علة وجودك، لأنه حال بينك وبين المهمة الأولى التي خلقت من أجلها:

﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾

[ سورة الذاريات: 56]

 حينما تصح عقيدتك، وتعلم علم اليقين أنك مخلوق لعبادة الله، وأن هذه الدنيا ممر للآخرة، وأن الدنيا فيها يدفع ثمن الجنة، لأن الله عز وجل يصف أهل الجنة فيقول:

﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾

[ سورة الزمر: 74]

 فدخلنا الجنة، ما سبب دخولها؟

﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ﴾

[ سورة الزمر: 74]

 في الأرض عرفنا ربنا، في الأرض استقمنا على أمر ربنا، في الأرض أنفقنا من أموالنا، في الأرض التقينا ربنا:

﴿وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ﴾

[ سورة الزمر: 74]

 لولا الدنيا لما كانت الجنة، فأشد أنواع الظلم أن تظلم نفسك فتخسر الآخرة:

﴿قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾

[ سورة الزمر: 15]

 فأي مجتمع يحول بينك وبين أن تعبد الله ينبغي أن تغادره، الأصل أن تصلحه، الأصل أن تغيره، فإذا كنت ضعيفاً أمامه إما ضعفاً داخلياً، وإما ضعفاً خارجياً، الضعف الداخلي أنك في مجتمع ترتكب فيه المعاصي و الآثام على قارعة الطرقات، لا تستطيع أن تقاوم و لا أن تصمت، ثم تبرر لهؤلاء العصاة، ثم تألف معصيتهم، ثم تعتذر عنهم، ثم تنغمس مثلهم، هذا مجتمع ليس مجتمعاً قمعياً، لكنك ضعفت أمام نفسك من كثرة المعاصي و الآثام، هذا المجتمع ينبغي أن تغادره، هذا المجتمع يشبه الغرب، و المجتمع الثاني يشبه بلاداً في الشرق بعيدة.

الحكمة من الهجرة :

 أيها الأخوة الكرام، حينما تكون مستضعفاً إما أمام نفسك، وإما أمام قوة قمعية، وعلة وجودك أن تعبد الله، ينبغي أن تعبده، وأن تغادر هذا المجتمع هذه حكمة الهجرة، أنت مخلوق لعبادة الله، فأي شيء يحول بينك وبين هذه العبادة ينبغي أن تزيله، إما أن تزيله و إما أن تزول عنه، إن كنت قوياً ينبغي أن تزيل هذه العقبة، وإن كنت ضعيفاً ينبغي أن تتحول عن هذا المجتمع.

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾

[ سورة النساء: 97]

 ما المكان الذي ينبغي أن تقيم فيه بنص هذه الآية و هذا كلام خالق الأكوان؟ هو المكان الذي تستطيع أن تعبد الله فيه، هو المكان الذي تستطيع أن تحجب بناتك فيه، هو المكان الذي تستطيع أن توجه أولادك الوجهة الإسلامية، هو المكان الذي تستطيع أن تصل منه إلى الجنة:

﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾

[ سورة النساء: 97]

 ما الذي شدكم إلى مجتمع ما؟ الغنى والرفاه والجمال والمغريات، هذا الذي يؤثر دنياه على آخرته فتأتيه لحظة من لحظات حياته يذوب من شدة الندم، لذلك من أقام مع المشركين برئت منه ذمة الله، وقد يقول قائل: أنا أقيم معهم ولا أتأثر بهم، نقول: إن المراهنة ليست عليك، بل على أولادك، وقد سمعت فتوى من أحد علماء العصر أنه إن لم تضمن أن يكون ابن ابن ابنك مسلماً فلا ينبغي أن تقيم في هذه البلاد، وكنا في مؤتمر في بلد غربي بعيد، و مرة في عقد قران ذكرت هذه الفتوى لهذا العالم، فقام أحد المقيمين في تلك البلاد، ونزلت من عينه دمعة قال: تقول ابْن ابن ابني، ابني ليس مسلماً، تتحدث عن ابْن ابن الابن، ابني الذي من صلبي ليس مسلماً.
 فيا أيها الأخوة الكرام، ليست القضية مبدئياً معك، ولكن مع أولادك، و لكن مع من هم امتداد لك، و لكن مع من تشقى بشقائهم و تسعد بإسعادهم، مع من هم صدقتك الجارية، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ ))

[ مسلم عن أبي هريرة ]

 ماذا تظنون أيها الأخوة أن الله توعد أولئك الذين ضعفوا أمام أنفسهم في مجتمعات الفسق و الفجور في الغرب؟ أو مع الذين ضعفوا أمام قوة قامعة في مجتمع الإلحاد في الشرق ؟ ماذا تصنع مع هؤلاء؟ ما هو الوعيد الذي توعد الله أولئك؟ قال:

﴿فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾

[ سورة النساء: 97]

 أرأيتم إلى العقاب ينبغي أن يتناسب مع عظم الجريمة، ضيعت زوجتك و ضيعت أولادك و ضيعت من حولك من أجل أن تقول: البلاد جميلة، والأسعار رخصة، والمركبات رخيصة، و الحقول خضراء، والملاعب رائعة، من أجل زخرف وبهرج، وشيء يزول بعد حين ضيعت آخرتك.

من علامات عقل الإنسان أنه ينظر إلى المستقبل البعيد :

 أيها الأخوة الكرام، يقول عليه الصلاة والسلام وهذه نعمة لا تعرفونها أبداً إلا إذا غادرتم هذا البلد الطيب، يقول عليه الصلاة و السلام في الحديث الصحيح:

(( رأيت عمود الإسلام قد سلّ من تحت وسادتي فأتبعته بصري فإذا هو بالشام، فعليكم بالشام في آخر الزمان ))

[ الطبراني والحاكم عن ابن عمرو ]

 إقبال الناس على الدين في هذه البلدة واضح لكل شخص، إقبال الناس على طاعة الله واضح وضوح الشمس، فإذا كنت في مجتمع تستطيع أن تصلي، تستطيع أن تعبد الله، تستطيع أن تستمع إلى الأذان، تستطيع أن تحضر مجلس علم، تستطيع أن تحجب بناتك دون أن يسألك أحد، تستطيع أن تقيم الإسلام في بيتك و في متجرك و في معملك، إذا كنت في مثل هذا المجتمع ينبغي أن تتحمل كل متاعبه لقاء أنه ينتهي بك إلى الجنة إن شاء الله، لا توازن بين بلد من العالم الثالث فيه متاعب كثيرة كشأن كل بلد في العالم الثالث و بين بلد متقدم رائع فيه كل شيء لكنك في هذا البلد تخسر آخرتك.
 أيها الأخوة الكرام، من علامات عقل الإنسان أن ينظر إلى المستقبل البعيد، الأغبياء يعيشون الماضي دائماً، والأقل غباء يعيشون الحاضر أعمالهم ردود أفعال، لكن العقلاء يعيشون المستقبل.
 أيها الأخوة الكرام، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أنت حينما تعيش في بلد دخلك فلكي، و البلاد جميلة لكن لا تستطيع أن تقنع ابنك بالإسلام أبداً، لا تستطيع أن تقنع ابنتك بالحجاب، لا تستطيع أن تبين عظمة هذا الدين، وازع الأرض خطير جداً، فالأب الذي على وشك أن يغادر الدنيا فيرى أولاده و بناته بعيدين بعد الأرض عن السماء عن دينهم، و عن أمتهم، و عن جنة ربهم، يصيبه من الألم ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم، نحن الآن بحاجة إلى هجرة، نحن ندعو الجاليات الإسلامية المقيمين في بلاد استمرؤوا العيش فيها أن يعودوا إلى أوطانهم، أن يعودوا إلى بلاد المسلمين، ليسهموا في حمل همّ المسلمين، ليسهموا في رفع المستوى الذي يليق بالمسلمين.

من تنازعت فيه النوازع الأرضية و النداءات السماوية عليه أن يؤثر الجانب الأسمى :

 أيها الأخوة الكرام: إذاً تعلمنا الهجرة أن الإنسان إذا تنازعت فيه النوازع الأرضية و النداءات السماوية فعليه أن يؤثر الجانب الأسمى والأبقى فلا أحد يستطيع أن ينجيه من عذاب الله، و لا عذر له:

﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾

[ سورة النساء: 97]

 أيها الأخوة: الهجرة في حقيقتها موقف نفسي قبل أن تكون رجلة جسدية، للتوضيح أيها الأخوة لك أن تسافر إلى بلاد الغرب، لك أن تطلب العلم لتنفع به المسلمين، لك أن تجمع المال الحلال لتعين به المسلمين، لكن لا ينبغي أن تنوي الإقامة الأبدية هنا المشكلة، ينبغي ألا تنوي الإقامة الأبدية، اذهب و تعلم و تاجر و عد و كن قوة للمسلمين، و لا تتخلى عن أبناء دينك و لا عن أبناء أمتك:

﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾

[ سورة آل عمران: 119]

 و هذا دليل بين أيديكم ماذا يفعلون بنا؟ مئتا رأس نووي في إسرائيل، وعندهم كل أنواع الأسلحة ذات الدمار الشامل و لا يطبقون قراراً من قرارات مجلس الأمن و لا أحد يسألهم، و بلاد أخرى تعالوا فتشوا، تعالوا انظروا، الطلبات الاستفزازية نفذت و لابد من أن تضرب:

 

 

﴿هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ﴾

[ سورة آل عمران: 119]

الهجرة موقف نفسي :

 أيها الأخوة الكرام: الهجرة في حقيقتها موقف نفسي قبل أن تكون رحلة جسدية، إنها هجران للباطل و انتماء للحق، إنها ابتعاد عن المنكرات و فعل للخيرات، إنها ترك للمعاصي و انهماك في الطاعات، إنها انتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام، قال عليه الصلاة و السلام:

((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ ))

[متفق عليه عن عبد الله بن عمرو]

 يا سيدي يا رسول الله لقد وسعت باب الهجرة، كل من هجر ما نهى الله عنه عددته مهاجراً، و أنت في بلدك من دون أن تتجشم مشقة مغادرة البلد إذا هجرت ما نهى الله عنه فأنت مهاجر، بل إن الحديث الصحيح:

((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))

[ مسلم عن معقل بن يسار ]

 أي في زمن الفتنة، إذا كانت الطرقات ممتلئة بالفتن فأووا إلى الكهف و كهف هذا الزمان مسجدك، و كهف هذا الزمان بيتك، ادخل بيتك و أقم أمر الله فيه.
 أيها الأخوة الكرام: إذا كان باب الهجرة من مكة إلى المدينة قد أغلقه النبي بعد الفتح لا معنى أن تذهب الآن إلى مكة، و أن تركب مركبة إلى المدينة، و تقول: أنا مهاجر، هذا شيء مضحك، لا هجرة بعد الفتح و لكن باب الهجرة مفتوح إلى يوم القيامة بين كل مدينتين يشبهان مكة و المدينة في عهد النبي عليه الصلاة و السلام.
 إذا كنت في زمن استعرت فيه الشهوات، و كثرت فيه الفتن، و عمّ فيه الفساد، إن عبادة الله المخلصة الصادقة في هذه الأجواء الموبوءة تعد هجرة خالصة إلى الله و رسوله.
 مرة ثانية في الحديث القدسي الصحيح الذي رواه الإمام مسلم و الترمذي:

((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ ))

[ مسلم عن معقل بن يسار ]

عبادة الله علة وجود الإنسان في الدنيا :

 أيها الأخوة الكرام: لابد من أن يكون هذا الدرس واضحاً تماماً، علة وجودك عبادة ربك، لماذا خلقت في الدنيا؟ من أجل أن تعرف الله، فإذا عرفته عبدته، و إذا عبدته سعدت به في الدنيا و الآخرة، هذا هو ملخص الملخص، تعرفه فتعبده فتسعد بقربه في الدنيا و الآخرة:

﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾

[ سورة هود: 119]

 خلقهم ليرحمهم، فأي مجتمع حال بينك و بين عبادة الله إن كنت قوياً ينبغي أن تصلحه، إن كنت قادراً ينبغي أن تزيل كل عقبة أمام عبادة الله، و إن كنت ضعيفاً ينبغي أن تغادره، إما أن تزيل هذه العقبات، و إما أن تزول عنهم، انج بنفسك.

ضعف الإنسان داخلي أو خارجي :

 أيها الأخوة الكرام: مرة ثانية أبين لكم أن هذا الضعف قد يكون ضعفاً داخلياً، و قد يكون ضعفاً خارجياً، إذا كنت في مجتمع يرتكب الزنا على قارعة الطريق قد لا تقاوم بعد حين، في هذا المجتمع تضعف أمام نفسك، فإذا سلمنا أنك نجوت ضعف أولادك و انغمسوا في الرذيلة، و في الانحراف و أولادك جزء منك و تشقى بشقائهم و تسعد بإسعادهم، فلذلك العاقل من يضمن سلامة دين أبنائه، و لا يُضمن هذا الدين لأبنائه إلا إذا كانوا في بلد فيه بقية من حياء، بقية فقط، نتحدث في زمن الفجور و في زمن الفسق و المعاصي عن البقية، بقية حياء، بقية خجل، بقية نظام أسرة، بقية رحمة، بقية عدل، بقية إنصاف، أما عندهم الأمر فاختلف كلياً، قد يرسلون سفيراً تقام له حفلة كبيرة في وزارة الخارجية ليعطى أوراق اعتماده و يحضر هذه الحفلة المدعوون و زوجاتهم فإذا بزوجة هذا السفير المعين من قبل دولة عظمى تحاول أن تسيطر على العالم اليوم شاذ جنسياً معه شريكه الجنسي و ليست زوجته؟
 أيها الأخوة الكرام: بلغ الفجور المعصية التي توعد الله عليها المرتكب بالموت في الإسلام يتباهى بها في بلاد الغرب، عدة وزراء قال: نحن شاذون جنسياً، وزير صحة في دولة غربية شريكة في العدوان، وزير في إيطاليا، سفير في دولة عظمى يقول: أنا شاذ جنسياً، فهذه البلاد فيها فسق لا يعلمه إلا الله، و فيها فجور لا يعلمه إلا الله، و فيها من زنا المحارم لا يعلمه إلا الله، و فيها من كل أنواع الموبقات لا يعلمها إلا الله، ففي مثل هذه المجتمعات قد تضعف أمام نفسك ينبغي ألا تقيم هناك، في مجتمعات أخرى تضعف أمام من يقمعك لا يسمح لك أن تحجب بناتك مثلاً، في أي ضعف، ضعف من الداخل أو ضعف من الخارج إما أن تزيل هذه العقبات، و إما أن تنجو بنفسك، هذا درس كبير من دروس الهجرة، و إن شاء الله تعالى في خطبة قادمة نتحدث عن درس آخر من دروس الهجرة.
 أيها الأخوة الكرام: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، و زنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، و اعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، و سيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيس من دان نفسه و عمل لما بعد الموت، و العاجز من أتبع نفسه هواها، و تمنى على الله الأماني، و الحمد لله رب العالمين.

* * *

الخطبة الثانية :

 الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وجوب تناصر المسلمين و التعاون فيما بينهم :

 أيها الأخوة الكرام: لاشك أنكم مع كل ما يجري حولكم، و أنكم تعلمون علم اليقين أن الضربة الظالمة على وشك الوقوع فيما تتناقله الأخبار، لابد من وضع بعض الحقائق بين أيدي المسلمين.
 أيها الأخوة: إن من ثوابت الشريعة التي لا خلاف عليها هذه الثوابت من أولاها توجب تناصر المسلمين و التعاون فيما بينهم، و تحرم اعتداء بعضهم على بعض بنفس أو عرض أو مال، إن دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم عليهم حرام كما بينه النبي صلى الله عليه و سلم في خطبة حجة الوداع التي كانت في آخر حياته قبل موته بثلاثة أشهر، قال عليه الصلاة و السلام، عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمًا أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرُبَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ))

[متفق عليه عَنْ عُقَيْلٍ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ]

 وقتل المسلم تحت أي ذريعة إثم عظيم، وحوب كبير، وجرم فادح، ولعله لم يرد من الوعيد في القرآن على ذنب بعد الشرك ما ورد في عقوبة قتل المؤمن عمداً قال تعالى:

﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً﴾

[ سورة النساء: 93]

 هل بعد هذا الوعد من وعيد، هذا الوعيد يأتي بعد وعيد الشرك بالله، وفي البخاري عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: ذَهَبْتُ لِأَنْصُرَ هَذَا الرَّجُلَ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرَةَ فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قُلْتُ: أَنْصُرُ هَذَا الرَّجُلَ، قَال:َ ارْجِعْ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ ))

[البخاري عَنْ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ]

 وفي الصحيحين عَنْ جَرِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ:

((فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ اسْتَنْصِتْ النَّاسَ فَقَالَ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ))

[متفق عليه عَنْ جرير]

 وفي البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما مرفوعاً، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا ))

[البخاري عَنْ ابن عمر]

 وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

((كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا أَوْ مُؤْمِنٌ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا))

[أبو داود عن أبي الدرداء]

 أيها الأخوة الكرام: لا يجوز للمسلم أن يشارك في قتل أخيه المسلم أو إيذائه، لا يجوز أن يشارك بكل أنواع المشاركة، ونحن والله في خير في هذه البلدة إن شاء الله، أما هؤلاء المسلمون الذين يتعاونون على قتل إخوانهم المسلمين في بلاد المسلمين فهذا عليه وعيد يأتي بعد وعيد الشرك. ويقول الله عز وجل في آيات أخرى:

﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾

[ سورة المائدة: 51]

 وهذا من باب الولاء والبراء، لا يمكن أن تعين غير مسلم على قتل مسلم، أو إيقاع الأذى به، أو سلبه ثروته، المعاونة مادية أو معنوية أو بالإقرار، كل أنواع المعاونة محرمة، وهذا من بديهيات الدين، وهذا من أولى فرائض الدين على المؤمنين.
 أيها الأخوة الكرام: ادعوا الله سبحانه وتعالى أن ينصر إخوتكم المؤمنين في كل البلاد في شرق الأرض وغربها في شمالها وجنوبها، ادعوا الله جل جلاله أن يجعل كيد هؤلاء الطغاة المعتدين في نحرهم، وأن يجعل تدميرهم في تدبيرهم، وأن يجعل الدائرة تدور عليهم إن الله سميع مجيب.

 

الدعاء :

 اللهم اهدنا فيمن هديت، و عافنا فيمن عافيت، و تولنا فيمن توليت، و بارك لنا فيما أعطيت، و قنا و اصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق و لا يقضى عليك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، و أصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، و أصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، و اجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، و اجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، و بطاعتك عن معصيتك، و بفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، و لا تهتك عنا سترك، و لا تنسنا ذكرك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، و من الخوف إلا منك، و من الذل إلا لك، نعوذ بك من عضال الداء، و من شماتة الأعداء، و من السلب بعد العطاء، مولانا رب العالمين، اللهم كما أقررت أعين أهل الدنيا بدنياهم فأقرر أعيننا من رضوانك يا رب العالمين، الله صن وجوهنا باليسار و لا تبذلها بالإقتار فنسأل شر خلقك، و نبتلى بحمد من أعطى، و ذلّ من منع، و أنت من فوقهم ولي العطاء، و بيدك وحدك خزائن الأرض و السماء.
 اللهم أصلح شؤون المسلمين في شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم احفظهم من أعدائهم، و انصرهم و عافهم و اعف عنهم يا رب العالمين، اللهم وفق ولاة المسلمين في شتى بقاع الأرض لما تحب و ترضى، اجمعهم على الحق و الرضا يا رب العالمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور