- (008) سورة الأنفال
- /
- (008) سورة الأنفال
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.
الله عز وجل يخفف عن رسوله تكذيب قريش له:
أيها الأخوة الكرام... مع الدرس التاسع عشر من دروس سورة الأنفال، ومع الآية الثانية والخمسين وهي قوله تعالى:
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
أيها الأخوة، كلمة،
﴿ كَدَأْبِ ﴾
أي كعادة، الدأب هو العادة، هو الاستمرار على شيء، كأن الله يخفف عن رسوله تكذيب قريش له.
يقول له: يا محمد هذا الذي أنت فيه هكذا عادة الكفار، فرعون وقف من سيدنا موسى هذا الموقف، فالذي حصل معك حصل مع من قبلك من الرسل، ﴿ كَدَأْبِ ﴾ كعادة
﴿ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ﴾
طبعاً الذين من قبلهم قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح ، وقوم لوط أيضاً كذبوا رسلهم وأنبياءهم، لذلك الله عز وجل عاقبهم، فأهلكهم، واستأصلهم، أو عذبهم، أو أغرقهم، أو خسف بهم الأرض، قانون، قوم يكذبون النبي ويستخفون بآيات الله، ولأنهم كذبوا، ولأنهم اعتدوا، عاقبهم و أهلكهم.
حينما تؤمن بالدنيا وتكفر بالآخرة لابدّ من أن تأخذ ما ليس لك وتعتدي على أموال الناس وأعراضهم:
﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾
لو أن الإنسان كذب، ولم يفعل سوءاً، قد يقول قائل ماذا فعل ؟ لا، أنت حينما تكذب بالحق لابدّ من أن تفعل سوءاً، حينما تؤمن بالدنيا وتكفر بالآخرة لا بد من أن تأخذ ما ليس لك، لا بد من أن تعتدي على أموال الناس، على أعراضهم، لا بد من أن تتنافس تنافساً غير بريء.
للتوضيح: لو أن التصور لا علاقة له بالسلوك تصور ما شئت، لو أن الاعتقاد لا علاقة له بالسلوك اعتقد ما شئت.
أوضح مثل: شفاعة النبي الكريم لأهل الكبائر من أمته، لو سمع هذا الحديث إنساناً وهو يبيع المواد الغذائية، وبإمكانه أن يغشها دون أن يُكشف أمره، يرى أن هذا الحديث:
(( شفاعتي لأهل الكبائر مِنّ أمَّتي ))
يغطي سلوكه العدواني، لأنه اعتقد أن النبي سيشفع لمن يفعل الكبائر من أمته، يرى له مبرراً أن يعتدي على الآخرين.
أي اعتقاد تعتقد به أو تقتنع به لا بدّ من أن يجسد إلى سلوك:
الفكرة الدقيقة أن العلاقة بين التصور وبين السلوك معدومة، نقول لك: اعتقد ما شئت لكن لا بدّ من أن ينعكس التصور إلى سلوك.
مثل آخر: لو أن طالباً قال لزميله: الأستاذ في آخر العام نقدم له هدية ثمينة فيعطينا الأسئلة، ودعك من الدراسة، هذه الفكرة مريحة، انتهى من الدراسة، والوظائف، والمذاكرات، وأمضى العام الدراسي ببحبوحة، وبسهر مع الأصدقاء، وبارتياد دور السينما، ونوم إلى الظهر، في آخر العام طرق باب الأستاذ وعرض عليه هدية ثمينة ليعطيه الأسئلة، فتلقى صفعة منه، وطرده.
فأي اعتقاد، أي تصور، أي قناعة تعتقد بها، أو تقتنع بها لا بد من أن تجسد إلى سلوك.
أي اعتقاد باطل لكنه مريح يقبله الإنسان من دون دليل:
الآن ما النظرية السائدة في العالم ؟ نظرية دارون، نظرية دارون تتناقض مع الدين تناقضاً كلياً، في القرآن الكريم آدم وحواء، بدأ الله البشرية بنبي كريم، وفي نظرية دارون الإنسان انحدر من قرد، والقرد من، ومن، ومن، الحياة بدأت بخلية واحدة، وتطورت إلى أن أصبحت إنساناً سوياً، هذه النظرية تلغي وجود الخالق، تلغي وجود إله سيحاسب، تلغي وجود إله سيعاقب، تلغي الإيمان بالدار الآخرة، هناك نظرية مريحة جداً، هذه الدول التي تقصف دول أخرى، تحل بلاداً، تقتل الآلاف، تقتل الملايين، هذه الدول القوية التي تستبيح لنفسها أن تنهب ثروات الآخرين، أن تهدم البيوت، أن تقتل الشباب، ما الذي يغطيها عقائدياً ؟ نظرية دارون .
ماذا يقول دارون في نظريته ؟ إن الفأرة تُخلق من الخرق البالية، وإن الضفدع يُخلق من الوحل، وإن الدود ينشأ من تفسخ اللحم، ويقول دارون: وإن العلم إن لم يثبت نظريتي فهي باطلة، هو الإنسان الوحيد الذي تنبأ بسقوط نظريته إن لم يثبت العلم ما ذهب إليه، لكن عندما كشفوا في الأحافير وجدوا كائنات، وحشرات، وأسماك، وأطيار، موجود شكلها الكامل ضمن الأحافير، حينما يأتي رماد بركاني، ويغطي مدينة بأكملها، بعد مئات من ملايين السنين الكائن العضوي يتلاشى، يبقى آثاره كأحافير، المفاجأة التي نقضت هذه النظرية أن كل الأحافير التي عُثر عليها قبل خمسمئة مليون عام تشبه المخلوقات التي رأينا شكلها في الأحافير، تشبه الكائنات التي تعيش اليوم، إذاً لا يوجد مخلوق مرحلي، إذاً النظرية باطلة.
فالإنسان أحياناً يعتقد بشيء باطل لكنه مريح، فأي اعتقاد باطل لكنه مريح يقبله الإنسان من دون دليل.
أنا أضرب مثلاً ذكرته كثيراً: أن إنساناً أراد أن يشتري سيارة، لكنه لم يشترِ وإنساناً آخر أراد أن يشتري سيارة لكنه اشترى، سرت إشاعة في البلد أن هناك تخفيض رسوم، بمقدار خمسون بالمئة، الذي ما اشترى يصدق هذه الإشاعة من دون دليل، لأن هذه الإشاعة مريحة له كثيراً، والذي اشترى يكذبها من دون دليل.
الله عز وجل يعاقب لا لمجرد التكذيب:
أنا أُحذر الأخوة الكرام أن تتسرب إليهم تصورات، أو أفكار، أو معلومات، أو عقائد باطلة لكنها مريحة.
المفهوم الساذج للشفاعة، النبي الكريم يوم القيامة يسجد، يقول الله له: ارفع رأسك، فيجيبه: لا أرفع حتى أُشفع، قال له: ارفع وتشفع، فالعملية سهلة.
الآن أنت بالتعليم هناك وظيفة من لم يكتبها لا يعامل كالذي كتبها، لأنه في اليوم التالي لا أحد يكتب، والذي كتب أحمقاً، بذل جهداً، وسهر للساعة الثانية عشرة على المسائل وحلها، وثاني يوم الذي ما كتب مثل الذي كتب.
فالموضوع دقيق، الله عز وجل يعاقب لا لمجرد التكذيب، لأن التكذيب من لوازمه الانحراف، الدليل القوي: ﴿ وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ ﴾، أي تصور يقتضي سلوكاً، فإذا كان التصور صحيحاً فالسلوك صحيحاً، وإن كان التصور خطأ فالسلوك خطأ.
في كل شيء له آية تدل على أنه واحد:
لذلك الله عز وجل أهلك قوم فرعون، أهلك من قبلهم قوم نوح، قوم هود، قوم صالح، قوم لوط، بعضهم أهلكوا هلاك استئصال كلي، وبعضهم عُذبوا، وبعضهم أُغرقوا ، وبعضهم خُسف بهم، لأنهم كفروا، لماذا كفروا ؟ قال: كفروا بآيات الله الكونية، هذا الكون ، وكفروا بآيات الله التكوينية، بأفعاله، وكفروا بآيات الله الإعجازية، وكفروا بآيات الله القرآنية.
فالله عز وجل أهلك فرعون، وأهلك من قبلهم قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط، أهلكهم إهلاك استئصال، أو إهلاك غرق، أو إهلاك تعذيب، أو إهلاك خسف.
قال تعالى:
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾
كفروا بآيات الله، الآيات العلامات، الله عز وجل له آيات كونية هذا الكون بشمسه، بقمره، بنجومه، بكواكبه، بمذنباته، بمجراته، بأرضه، بجباله، بسهوله، بوديانه، بأسماكه، بأطياره، بنباتاته، بطعامه، بشرابه، وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد.
﴿ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾
أي آياته الكونية، وعندما وضع سيدنا إبراهيم في النار و لم تحرقه، هذه آية إعجازية لأن الآية الكونية لها قوانين، أما هذه الآية فيها خرق للقوانين، هذه آية إعجازية.
صنعوا باخرة، أعظم باخرة في عام 1912، باخرة تيتانيك، وجاء في نشرتها: إن القدر لا يستطيع إغراقها، وفي أول رحلة لها من أوربا إلى موسكو، فيها حلي بالمليارات، هذه الباخرة عملاقة، لها جدران، وقواطع أرضية، فأي مكان خُرق تغلق الفتحات، فالباخرة في سلام، وشاءت حكمة الله أن تغرق في أول رحلة لها، هي كانت مدينة، مدينة عارمة، فقال بعض القساوسة: إن غرق هذه الباخرة درس من السماء إلى الأرض.
من كفر بآيات الله الكونية و التكوينية و القرآنية و الإعجازية فمصيره الهلاك:
لذلك الله له آيات كونية، وله آيات إعجازية، العصا تصبح ثعباناً مبيناً.
﴿ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾
ضرب الأرض بعصا فأصبحت طريقاً يبساً، ناقة خرجت من الجبل، إذاً هناك آيات كونية خلقه، وفق القوانين والأنظمة الآيات الإعجازية خرق لهذه القوانين:
﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ﴾
هناك آيات تكوينية أفعال الله عز وجل، وهناك آيات كونية كلامه، الله عز وجل قال:
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾
كفروا بآيات الله كلها، كفروا بآياته التكوينية، والكونية، والإعجازية، والقرآنية، كأن الله عز وجل يقول: يا محمد هؤلاء الذين يكذبونك الآن شأنهم كشأن فرعون حينما كذب موسى، لكن مصير هؤلاء الهلاك كمصير الأمم التي كذبت رسلها، هذا الموقف مشابه لموقف فرعون من سيدنا موسى، والذين يكذبونك الآن أين هم ؟ الآن أين هو أبو جهل ؟ من منكم ذهب إلى مكة فوجد مقاماً لأبي جهل ؟ أين أبو جهل ؟ أين أبو لهب ؟ أين هؤلاء أعداء الله عز وجل ؟ هم الآن في مزبلة التاريخ، الشباب الفقراء الضعاف الذين آمنوا به أين هم الآن ؟ كان الصحابة يقولون: إذا ذُكر الصديق نقول: هو سيدنا وأعتق سيدنا، أي بلالاً، القرشيون الأصلاء من أرومة أصيلة هؤلاء يقولون عن سيدنا بلال: سيدنا، الصديق سيدنا وأعتق سيدنا، أي بلالاً.
فالله عز وجل رفع هؤلاء الذين آمنوا برسول الله، وكانوا فقراء، وضعاف ومرضى، الله عز وجل قال:
﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾
آثار فرعون تفوق حدّ الخيال لحكمة بالغة:
أيها الأخوة:
﴿ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾
كلها، الكونية، والتكوينية، والإعجازية ، والقرآنية، ومصير هؤلاء كمصير الأقوام السابقة، إغراق، أغرقناهم، فجاءتهم صواعق فأغرقتهم، خسف الله بهم الأرض، لكن لحكمة بَالغةٍ بالغةٍ بالغة أبقى الله آثار فرعون، يأتي الناس من كل أطراف الدنيا الآن لرؤية هذه الآثار، آثار فرعون تفوق حدّ الخيال، حجر يزن خمسين طناً، ليس هناك روافع هيدروليك، ولا حاملات، ولا شاحنات ضخمة جداً، ولا بواخر عملاقة، ولا رافعات عملاقة، كيف جيء بهذه الأحجار من أسوان ؟ كيف انتقلت عبر نهر النيل؟ وكيف نقلت إلى موقع الأهرام ؟ وكيف صنفت ؟ وكيف صفت ؟ الفراعنة وصلوا إلى شيء شبه مستحيل الآن، فرغوا الهواء بين حجرين، فلما فرغوا الهواء بين حجرين أصبح الحجران كحجر واحد، لو أمكن أن تضع لوحين من البلور فوق بعضهما دون أن تبقي ولا ذرة هواء يصبح اللوحان لوحاً واحداً، هذا فعله الفراعنة.
الأهرام فيها نافذة لا تسمح هذه النافذة بدخول الشمس إلى داخل الهرم إلا في يوم واحد من السنة هو يوم وفاة هذا الفرعون، بأي زاوية هناك دراسة هندسية مذهلة، أن الشمس لا يمكن لأشعتها أن تدخل إلى داخل الهرم إلا في يوم واحد هو يوم وفاة هذا الفرعون، هذا فوق طاقة البشر.
كنت في باريس وجدت مسلة مأخوذة من مصر، كنت في ألمانيا وجدت آثاراً مذهلة مأخوذة من مصر، فهناك مسلات، وهناك أهرامات، حتى هذه اللحظة كيف فرعون مصر كما هو الآن، أنا عرضت صورته ببعض الفضائيات كما هو، بلحمه، بشحمه، بعظمه، بملامح وجهه، ما هذا التحنيط ؟!.
رأيت خبزاً في الأهرامات، أنا زرت الأهرامات المصنوعة من ستة آلاف عام، وجدت قطعاً من اللحم من ستة آلاف عام، وجدت فرعون كل أصابعه ملبسة بالذهب، كل أصابعه ذهب مخيف، وجدت عربة بالأهرام حتى هم يعتقدون أن هناك حياة أخرى، لذلك يحتاجون إلى عربات، ويحتاجون إلى طعام، وإلى شراب، حتى القمح الذي أستخرج من أهرامات مصر ومضى عليه ستة آلاف عام زُرع فأنبت، معقول رشيم يعيش ستة آلاف عام ؟! الألوان التي طليت بها المعابد لم تتغير حتى الآن.
الله عز وجل ما أهلك قوماً إلا وذكّرهم أنه أهلك من هم أشد منهم قوة:
أيها الأخوة، الله عز وجل لحكمة بالغةٍ بالغة أبقى هذه الأهرامات، المسلات، التحنيط، النوافذ التي تدخل الشمس في يوم واحد فقط هو يوم وفاة فرعون، الذهب، تحنيط الخبز، تحنيط الأشخاص، تحنيط القمح، هذا كله في الأهرامات، لذلك الله عز وجل ما أهلك قوماً إلا وذكرهم أنه أهلك من هم أشد منهم قوة.
في بعلبك ستة أحجار، وزن الحجر مئتا طن، عندما وقعت بعض الأحجار عملت شبه زلزلة ببعلبك، هذا الحجر كيف نُقل، كيف نُحت، كيف نُصب، ما أهلك قوماً إلا وذكرهم أنه أهلك من هم أشد منهم قوة.
أيها الأخوة، قال تعالى:
﴿ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾
﴿ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ﴾
الأهرامات، وقال عن ثمود:
﴿ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ ﴾
هذه في السعودية الآن، هل تصدقون مدينة بأكملها منحوتة في الجبال ؟ والأنباط كذلك في الأردن، مدينة بأكملها منحوتة في الجبال، غرف استقبال، ونوم، وجلوس، بالبتراء صالة بحجم هذا المسجد على مرتين فيما أعتقد، محفورة من الجبل، والخطوط مستقيمة ، والصخر منحوت نحتاً كاملاً، أي أربعة جدران وسقف وأرضية كأنها بلاط، هي فراغ من الجبل نُحت، مع الزخارف والأقواس والتيجان.
الله عز وجل لحكمة بالغةٍ أبقى آثار الفراعنة ليكونوا درساً لكل الأمم القادمة:
لذلك الله عز وجل لحكمة بالغةٍ بالغة أبقى آثار الفراعنة ليكونوا درساً لكل الأمم القادمة، والآن هناك تقدم مذهل، ومع ذلك ومع هذا التقدم المذهل هناك تخلف أخلاقي مذهل، فكل هذه الحضارات ما استطاع أصحابها أن يبقوا عليها، لأنهم خالفوا منهج الله عز وجل.
كنت مرة في اسطنبول زرت مرة مسجداً، الأخ الذي معي قال: تفضل إلى المحراب، ما فهمت ماذا يريد، وصلت إلى المحراب وجدت عمودين، قال لي: بإمكانك أن تدير العمود فأنا أمسكته ودرته فدار معي، هذا له قاعدة وله تاج، هناك فراغ ميلي واحد، الجامع مضى على بنائه سبعمئة عام، ميلي واحد دليل أن الحسابات دقيقة جداً، العمود يدور بيديك، أي أن الله عز وجل أعطى الأمم السابقة قوى جبارة، اليوم تجد بناء ضخماً من الأسمنت، لا يوجد حجار إسمنت، يُجبل الإسمنت ويصب فيتجمد، لكن في القديم ليس هناك مواد بين الأحجار، ليس هناك رافعات، ولا شاحنات، ولا أشياء عملاقة، أمور كلها بسيطة ومع ذلك بلغوا ما بلغوا.
تفوق عاد الأولى في شتى المجالات:
أيها الأخوة، لكن الله عز وجل أبقى نموذجاً لأمة طاغية قوم عاد، قال:
﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ ﴾
أي تفوقت في شتى المجالات.
﴿ وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ﴾
حفروا مدينة بالجبل.
﴿ وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ ﴾
أي هناك قصف وهناك إفساد، أي هناك بنتاغون يقصف، وهوليود تقصف، واضح تماماً ؟
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا ﴾
لا في بلدهم ولكن
﴿ فِي الْبِلَادِ ﴾
﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾
وقال: إنه أهلك عاد الأولى، معنى هذا أن هناك عاداً ثانية، نعيش اليوم أخبارها.
الله عز وجل جعل قوم عاد نموذجاً للأمم الطاغية:
الله عز وجل وصفهم بالتفوق العمراني:
﴿ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ﴾
تفوق عمراني، تفوق صناعي.
﴿ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ ﴾
تفوق عسكري.
﴿ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴾
تفوق علمي، ومع التفوق العمراني، والصناعي، والعسكري، والعلمي، هناك غطرسة، استعلاء، كبر، احتقار للآخرين، وكانوا مستكبرين، أي تغطرسوا، وقالوا:
﴿ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾
فلذلك الله عز وجل جعل قوم عاد نموذجاً للأمم الطاغية، فهؤلاء القوم
﴿ الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾
ما العذاب الذي أهلكهم الله به ؟
﴿ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾
بالأعاصير:
﴿ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ﴾
المؤمن ممتلئ تعظيماً لصنعة الله عز وجل وغير المؤمن ممتلئ تعظيماً لصنعة خالق البشر:
أخواننا الكرم، معنى كفر أي غطى، والكفر في بعض اللغات السامية هو الغطاء، ومعنى كفر أي غطى حقيقة، أغفل حقيقة، حجب حقيقة، فكلمة كفر تعني أن هناك شيئاً عظيماً غُطي، هناك شيء عظيم حُجب عن النظر.
فلذلك في قوله تعالى:
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾
أي هذه الآيات الدالة على عظمة الله حُجبت عن الأنظار، اجلس مع إنسان يحدثك ساعة عن السيارات، وموديلاتها، وأسعارها، وألوانها، وخصائصها، يحدثك عن الموبايلات، عن الهواتف، عن الشبكة العنكبوتية، يحدثك ساعات طويلة عن شيء صنعه البشر، وقلما يحدثك عن شيء صنعه خالق البشر، مع أن الآيات الدالة على عظمة الله تفوق حدّ الخيال.
أقول لكم هذه الكلمة: المؤمن ممتلئ تعظيماً لصنعة الله عز وجل، وغير المؤمن ممتلئ تعظيماً لصنعة خالق البشر، من علامة إيمانه أنه يحدثنا ساعات طويلة عن آيات الله الدالة على عظمته، ومن علامة استغراق الإنسان في الدنيا أن يحدثك ساعات طويلة عن دقائق صنع الإنسان.
فلذلك
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾
لا تصدق ما يقال أحياناً من أناس لم يتحققوا مما يقولون، أن الله كتب الكفر على الإنسان قبل أن يولد، فلما جاء الإنسان للدنيا حقق مراد الله فكفر، فأودعه الله في جهنم لأبد الآبدين، تقول الآية الكريمة:
﴿ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ﴾
رجل شارب خمر جيء به لسيدنا عمر، قال: والله يا أمير المؤمنين إن الله قدر عليّ ذلك، فقال سيدنا عمر: أقيموا عليه الحد مرتين، مرة لأنه شرب الخمر، ومرة لأنه افترى على الله، قال له: ويحك يا هذا ! إن قضاء الله لم يخرجك من الاختيار إلى الاضطرار، أي إذا ألغيت الاختيار ألغيت الوعد والوعيد، ألغيت الثواب والعقاب، ألغيت الجنة والنار، ألغيت المسؤولية، ألغيت حمل الأمانة، ألغيت التكليف، ألغيت الدين كله.
أنت تصور مدير مدرسة في أول يوم من أيام العام الدراسي، في أول يوم جمع الطلاب في الباحة ومسك قائمتين، وقال: هؤلاء الناجحون في آخر هذا العام، وهؤلاء الراسبون، الطالب لم يداوم، ولم يعرف اجتهاده من ضعفه، هؤلاء كتبتُ عليهم أن ينجحوا، وهؤلاء كتبتُ عليهم أن يرسبوا، هل تقبلها من مدير المدرسة ؟.
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له: إياكَ إياك أن تبتل بالماء
* * *
الإنسان مخير و ليس مجبراً:
الله عز وجل قال:
﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾
أنت مخير ولست مجبراً.
﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾
﴿ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾
أما الآية الأصل في ذلك:
﴿ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ ﴾
أي تكذبون، لذلك لو أن الله أجبر عباده على الطاعة لبطل الثواب، ولو أجبرهم على المعصية لبطل العقاب، ولو تركهم هملاً لكان عجزاً في القدرة، إن الله أمر عبادة تخييراً ونهاهم تحذيراً، وكلف يسيراً، ولم يكلف عسيراً، وأعطى على القليل كثيراً، ولم يعصَ مغلوباً ولم يطع مكرهاً.
الإنسان مهما تطاول هو في قبضة الله عز وجل:
﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ﴾
كلها، والكفر هو الغطاء، وكفر أي غطى، كلمة كفر تعني أن هناك شيئاً قد غُطي، أنت ممكن أن تدخل لغرفة لا يوجد فيها شيء إطلاقاً، بلاط وأربعة جدران، تضع غطاء حتى تستر شيئاً، لا يوجد شيء تستره أساساً، عندما قلنا كفروا أي غطينا حقيقة، غطينا وجود،
﴿ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾
المتانة مقاومة قوى الشد، والقساوة مقاومة قوى الضغط، أمتن عنصر في الأرض الفولاذ المضفور، وأقسى عنصر الألماس، فلذلك الألماس يقاوم قوى الضغط، أما الفولاذ المضفور يقاوم قوى الشد، فالمصاعد تتحرك بالفولاذ المضفور والتل فريك كذلك، بينما الحفر يحتاج إلى رأس ألماسي أو قريب من الألماس، الله عز وجل قال:
﴿ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ ﴾
أي الكافر مربوط بحبل مهما تحرك، مهما تنطع، مهما تطاول، هو في قبضة الله.