وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 29 - سورة الأنفال - تفسير الآية 72 ، الإيمان عدة مراتب فيجب على المؤمن اتباع هذه المراتب حتى يصل إلى أعلاها
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألويته، وارضّ عنا وعنهم يا رب العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

الإيمان مرتبة علمية وأخلاقية وجمالية :

أيها الأخوة الأكارم... مع الدرس التاسع والعشرين من دروس سورة الأنفال، ومع الآية الثانية والسبعين وهي قوله تعالى: ما من آية في القرآن الكريم يحتاجها المسلمين اليوم كهذه الآية

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾

أيها الأخوة الكرام، ما من آية في القرآن الكريم يحتاجها المسلمين اليوم كهذه الآية.
بادئ ذي بدء:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

الإيمان مرتبة علمية، وأخلاقية، وجمالية، ذلك لأن المؤمن عرف الحقيقة العظمى، عرف الله جلّ جلاله، عرفه خالقاً، ومربياً، ومسيراً، عرفه موجوداً، وواحداً، وكاملاً، عرف أسماءه الحسنى، وصفاته الفضلى، معرفة الله أصل الدين، إنك إن عرفت الله عرفت كل شيء، وإن فاتتك معرفة الله فاتك كل شيء.

(( ابن آدم اطلبني تجدني، فإذا وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا أحبّ إليك من كل شيء )) .

[ مختصر تفسير ابن كثير]

المؤمن يعرف سرّ وجوده و غاية وجوده :

لذلك كلمة

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

المؤمن يعرف سرّ وغاية وجوده
هذا الإنسان عرف سرّ وجوده، عرف غاية وجوده، عرف منهجه في الأرض، عرف أن الدنيا ممر، وليست مقراً، عرف أن الدنيا دار عمل، وليست دار أمل، عرف أن الدنيا دار تكليف، وليست دار تشريف، عرف أن الدنيا زائلة، وأن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن الدنيا سبب دخول الجنة، طبعاً حينما يدخل المؤمنون الجنة:

﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ ﴾

[ سورة الزمر الآية: 74 ]

أي جئنا إلى الدنيا، وعرفنا ربنا، وعبدنا ربنا، وتقربنا إليه بالعمل الصالح، فكان هذا العمل بشقيه الاعتقادي والسلوكي سبب دخول الجنة.
فكلمة:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

للتقريب والفرق من الأرض إلى السماء: الآن بالمجتمعات المدنية، إذا قلت: دكتور، أي بالحد الأدنى يحمل ابتدائية، إعدادية، ثانوية، لسانس، دبلوم عام، دبلوم خاص، ماجستير، دكتوراه، بالحد الأدنى.
كلمة

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

أنت قد عرفت الله خالقاً، مربياً، مسيراً، موجوداً، واحداً، كاملاً، عرفت أسماءه الحسنى، عرفت صفاته الفضلى، عرفت أن الدنيا مزرعة الآخرة، أن الدنيا ممر وليست مقراً.

 

إدعاء الإيمان شيء سهل :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

إدعاء الإيمان شيء سهل
السؤال: كل إنسان يتوهم أنه مؤمن، نسأله متى آمنت؟ متى تفكرت في خلق السماوات والأرض؟ متى قرأت القرآن؟ متى فهمت ـ فهمت تفسيره ـ؟ متى قرأت السنة؟ متى اطلعت عليها؟ فهمت فحواها، متى درست أحكام الفقه؟ متى عرفت تاريخ الإسلام؟ تاريخ الصحابة الكرام؟ متى؟ كل إنسان ما بذل ولا جهد، ولا تجشم حضور درس، ولا تجشم قراءة كتاب، ولا متابعة موضوع علمي، يقول لك: أنا مؤمن، وإيماني أقوى من إيمانك، وأنا إيماني بقلبي، وهو غارق بالمعاصي والآثام.
إدعاء الإيمان شيء سهل، لكن سبحانك يا رب! لا يستطيع إنسان أن يقول أنا طبيب ولو قال: أنا طبيب، ووضع لوحة على باب داره، يعاقب أشد العقاب، الطب يحتاج إلى شروط، طبيب أي معه ابتدائي، إعدادي، ثانوي، دخل كلية الطب، درس علوم عامة، درس علم التشريح، علم الفيزيولوجيا، علم الأمراض، علم الأدوية، بعد دراسة سبع سنوات يعطى إجازة في الطب، لا تقدم ولا تؤخر، يعمل دبلوم عامة، ودبلوم خاصة، وماجستير، ودكتوراه من بلده، معه دكتوراه بالطب لا تقدم ولا تؤخر، و إذا لم يذهب لبلد بعيد و يأتي بالبورد، لا يستطيع أن يكتسب من حرفته، قال لك: طبيب، كلمة طبيب للتقريب كل الشهادات، طبيب، معي بورد، أي درست ببلاد بعيدة، ودرست سبع سنوات، حتى يقول: أنا معي بورد يحتاج إلى أربعين سنة، هذا الواقع.
كلمة مؤمن أكثر بكثير، مؤمن أي عرف الله، عرف سرّ وجوده، عرف غاية وجوده، عرف لماذا هو في الدنيا، عرف ما يصلح له في الدنيا.

 

الإيمان إن لم ترافقه حركة فلا قيمة له :

لذلك قال تعالى:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

الآن أنت آمنت، أي إيمان لا ترافقه حركة لا قيمة له.
الإيمان إن لم ترافقه حركة فلا قيمة له
إنسان على وشك أن يموت عطشاً، قال له آخر: في هذا المكان نبع ماء، لم يتحرك، ولم يتوجه إليه، ولم يشرب منه، ومات، هذا يموت مع الحسرة، لأنه عرف وانحرف، عرف ولم يطبق، لذلك قال تعالى:

﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ ﴾

 

[ سورة الفاتحة ]

من هم المغضوب عليهم؟ الذين عرفوا وانحرفوا، وأي مسلم يعرف سرّ وجوده وغاية وجوده، ويعرف الآخرة، ولا يتحرك، والله لا من باب التشاؤم، ولكن من باب الحقائق المرة، ترى الناس يتوهمون أنهم مؤمنون بالآخرة، ولو آمنوا بالآخرة ما اغتصبوا بيتاً، ولا أكلوا درهماً حراماً، ولا اعتدوا على الآخرين، لا على أموالهم، ولا على أعراضهم، تجد في قصر العدل سبعمئة ألف دعوى، عدوان، هؤلاء يتقاضون في قصر العدل يصلون، ويصومون، ويحجون، ويزكون، فكيف أكل بعضهم أموال بعض؟.

 

 

الإيمان الشكلي بالآخرة لا قيمة له إطلاقاً :

إذاً الإيمان بالآخرة، الشكلي، اللفظي لا قيمة له إطلاقاً، أحياناً تأتيك رسالة من دائرة البريد، تعال استلم رسالة مسجلة غداً الساعة العاشرة، لا تتحرك فيك شعرة، وقد تذهب، وقد لا تذهب، تأتي رسالة من جهة قوية، تعال غداً الساعة العاشرة، لا تنام ولا دقيقة، والله لم أفعل شيئاً! تعرف من هو الثاني، ماذا يملك الثاني من سلطة عليك، قد تدخل ولا تخرج.
إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في معرفة طاعة الآمر
لو عرفنا ربنا كما يعرف بعضنا بعضاً لحلت مشكلاتنا، إله:

﴿ وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ﴾

[ سورة الحجرات الآية: 12]

سهرة كلها غيبة، إله يقول:

﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ﴾

[ سورة البقرة الآية: 188 ]

لذلك أنا أقول أيها الأخوة: إذا عرفت الآمر ثم عرفت الأمر تفانيت في معرفة طاعة الآمر، أما إذا عرفت الأمر ولم تعرف الآمر تفننت في التفلت من أمره، وهذا حال المسلمين اليوم.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

متى آمنت؟ أي درس حضرته؟ أي تفسير قرأته؟ أي كتاب حديث اقتنيته؟ أي مجلس علم داومت عليه؟ هناك إنسان يستطيع أن يقول: أنا معي شهادة ثانوية ولم أنتسب لأية مدرسة؟ يستطيع أن يقولها، هذا النظام المدني، أما هل يستطيع أن يقول: أنا معي لسانس ولم أدخل الجامعة؟ طبعاً لا، أما الإيمان كلأ مشاع، كلٌّ يدعي وصلاً بليلى.

 

المؤمن إنسان مستقيم و منضبط بمنهج الله عز وجل :

أيها الأخوة، إذا قال الله عز وجل

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

المؤمن إنسان مستقيم ومنضبط بمنهج الله عز وجل
أي عرفوا الله، عرفوه خالقاً، مربياً، مسيراً، عرفوه واحداً وكاملاً، عرفوا أسماءه الحسنى، مطالعة أسماءه الحسنى صوتاً أو نصاً جزء من إيمانك، عرفوا صفاته الفضلى، عرفوا الدار الآخرة.
أنت لو سافرت لبلد مجاور في أثناء الذهاب وجدت تفتيشاً غير معقول، لابدّ من أن يفتشوا كل شيء معك، سافرت إلى هناك والعودة في اليوم الثاني، هل تشتري حاجة رأيتها بعينك، كيف تحاسب؟ مستحيل !.
لو تعاملت مع الله كما تتعامل مع الأقوياء في الدنيا، لاستقمت على أمره، لذلك قال تعالى:

﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾

[ سورة الطلاق ]

أنت حينما توقن أن علمه يطولك.

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ ﴾

[ سورة غافر الآية: 19 ]

مثل دقيق جداً: طبيب مسلم يفحص امرأة، سمح الشرع له أن ينظر من جسمها إلى موضع المرض، فاختلس نظرة إلى مكان آخر، هل في الأرض كلها جهة بإمكانها أن تضبطه بهذه المخالفة؟. يجب أن تعلم أن علم الله يطولك وقدرته تطولك

﴿ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾

[ سورة غافر]

علمه يطولك، علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون،

﴿ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً ﴾

علمه يطولك، وقدرته تطولك، لو أن إنساناً قوياً علمه يطولك وقدرته تطولك لا يمكن أن تعصيه.
اسأل أخواننا التجار المستوردين بالذات، حينما تستورد بضاعة تذهب نسخة من إجازة الاستيراد إلى المالية، فإذا أغفلت هذه البضاعة في حساباتك أُهدرت كل حساباتك، أنا لا أتصور تاجراً بالأرض يخفي عن المالية صفقة، لماذا؟ لأن المالية تعلم من خلال نظام الاستيراد.
فأنت مع إنسان تنضبط، ومع خالق الأكوان لا تنضبط؟

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾

مؤمن أي مستقيم.

 

الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله لا تستطيع أن تقطف ثماره :

لذلك اسمحوا لي بهذا المثل: دائرة كبيرة كل من قال: أنا مؤمن، والله موجود ضمن الدائرة، وقد يرتكب الكبائر، لكن هذا الإيمان كإيمان إبليس لا يقدم ولا يؤخر، ولا ينفع، قال:

﴿ فَبِعِزَّتِكَ ﴾

[ سورة ص الآية: 82 ]

إبليس، قال:

﴿ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ ﴾

[ سورة الأعراف الآية: 12 ]

آمن به خالقاً، ربي

﴿ فَبِعِزَّتِكَ ﴾

آمن به رباً وعزيزاً.

﴿ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾

[ سورة الأعراف ]

الإيمان الذي لا يترجم إلى سلوك والتزام لا قيمة له إطلاقاً
آمن بالآخرة، ومع ذلك هو إبليس، فالإيمان الذي لا يترجم إلى سلوك، لا يترجم إلى التزام، لا يترجم إلى مواقف، لا يترجم إلى حركة باتجاه الخير، لا يترجم إلى أن يراك حيث أمرك، ويفتقدك حيث نهاك، لا قيمة له إطلاقاً، لا تقول الحمد لله على الإيمان، أي إيمان؟ لم تطبق بالإسلام شيئاً، صدق ولا أبالغ وهذه حقيقة مرة، وهي أفضل ألف مرة من الوهم المريح، الإيمان الذي لا يحملك على طاعة الله، لا تستطيع أن تقطف ثماره إطلاقاً.
لذلك هذه الدائرة الكبيرة كل من قال: أنا مؤمن، والله موجود ضمن الدائرة، لكن إن لم يطبق منهج الله دخلنا بدائرة ثانية ضمنها، ضمن الدائرة الثانية كل إنسان آمن بالله، واستقام على أمره صار بالدائرة الثانية، الآن كل إنسان خارج الدائرة الكبيرة، ملحد، هناك إنسان ضمن الدائرة الكبيرة، من قال: الله موجود، لكن لم يطعه، وهناك إنسان ضمن الدائرة الداخلية، هذا الذي آمن بالله، واستقام على أمره، ولعل مركز هذه الدائرة الأنبياء، هؤلاء المعصومون في دائرة، إذاً هناك أشخاص خارج الدائرة، و هناك أشخاص داخل الدائرة الكبيرة، و هناك أشخاص داخل الصغيرة، وفي المركز النبوات.

 

على كل إنسان أن يوقع حركته وفق منهج الله عز وجل :

أيها الأخوة الكرام، الآية الكريمة:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ﴾

الهجرة أي الإنتقال من حرفة لا ترضي الله إلى حرفة ترضي الله
هاجروا تعني الحركة، مطلق الحركة، أي إن كان يكتسب رزقاً من حرفة لا ترضي الله، فلابدّ من البحث عن حرفة أخرى، حركة، يقيم في مكان لا يستطيع أن يطيع الله فيه، فتركه هذا المكان لمكان يطيع الله فيه، يفهم من هنا الهجرة حركة، تحرك أي انتقل من مكان إلى مكان، من مجموعة أصدقاء إلى مجموعة مؤمنين، من مكان يصعب أن يطيع الله فيه إلى مكان يستطيع أن يطيع الله فيه.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ﴾

الهجرة هنا الحركة التي تجسد الإيمان.

﴿ وَجَاهَدُوا ﴾

الجهاد هنا بذل الجهد لأن الشرع سمي بالتكاليف، والتكاليف تعني أن الأخذ يحتاج إلى كلفة، إلى جهد، فإطلاق البصر سهل، لكن غضّ البصر يحتاج إلى جهد، سهل أن تبقى نائماً إلى الساعة العاشرة جهاد النفس هو أن يوقع المؤمن حركته وفق منهج الله
لكن الاستيقاظ على صلاة الفجر يحتاج إلى جهد، سهل أن تتحدث عن كل شيء، غيبة، نميمة، بهتان، كذب، سخرية، استخفاف، مزاح رخيص، أما ضبط اللسان يحتاج إلى جهد، فضبط اللسان، ضبط العين، ضبط الأذن، هناك أشياء لا ترضي الله، ضبط اليد، ضبط الحركة، في مكان لا يرضي الله، هذا كله يحتاج إلى جهد.
معنى جاهدوا أي أوقعوا حركتهم وفق منهج الله، هذا الجهاد، الله عز وجل أودع فينا الشهوات، وبالشهوات يمكن أن تتحرك مئة و ثمانين درجة، لكن مسموح لك بمئة درجة، فالجهاد أن توقع حركتك نحو المرأة ضمن المئة درجة، هناك زواج، هناك محارم، علاقة المؤمن بالمرأة علاقة زواج، أو محارم، لكن لا يوجد في الإسلام خليلة إطلاقاً، ولا عشيقة، ولا صديقة حميمة، هناك حيز مسموح به، وحيز محرم.
بكسب المال، الربا، التجارة، الإرث، لكن لا يوجد بالإسلام سرقة، ولا نهب، ولا غش، ولا تدليس، فحركتك في العلاقة بالمرأة مضبوطة بالشرع، وحركتك في علاقتك بكسب المال مضبوطة بالشرع، هذا معنى جاهدوا،

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا ﴾

الهجرة تحتاج إلى جهد وإرادة قوية وتجشم مصاعب :

أخواننا الكرام، الهجرة تحتاج إلى جهد للابتعاد عن ما نهى الله عنه

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا ﴾

بالمعنى الواسع:

(( العِبَادَةُ في الهرج كهجرة إليَّ ))

[أخرجه مسلم والترمذي عن معقل بن يسار ]

المهاجر من هجر ما نهى الله عنه، صديق منحرف تركه من الهجرة، عمل لا يرضي الله تركه من الهجرة، علاقة لا ترضي الله تركها من الهجرة، بلد لا يرضي الله تركه من الهجرة، مطلق الحركة.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا ﴾

هناك جهد، هناك إرادة قوية، هناك تجشم مصاعب.

(( ألا إن عمل الآخرة حزن بربوة، ثلاثاً، وإن عمل النار سهل بشهوة ))

[أخرجه إسحاق بن راهويه عن عبد الله بن عباس ]

الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق :

﴿ وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ ﴾

في كل آيات القرآن المتعلقة بالجهاد قدم الله جهاد المال على جهاد النفس
بذل أمواله في سبيل الله، بذل ماله ليتعلم، بذل ماله ليتقرب إلى الله.
" حبذا المال أصون به عرضي، وأتقرب به إلى ربي ".

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ ﴾

وفي الجهاد

﴿ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾

جاهد بماله، ونفسه.
في كل آيات القرآن الكريم المتعلقة بالجهاد قدم الله جهاد المال على جهاد النفس، لأن بذل المال أهون، الله بدأ بالأهون، بذل المال أهون من بذل النفس، إلا بآية واحدة: في كل آيات القرآن المتعلقة بالجهاد قدم الله جهاد المال على جهاد النفس

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ ﴾

[ سورة التوبة الآية: 111 ]

الله بدأ بالأهم،

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ ﴾

طبعاً أنفق من ماله الزكاة، أنفق من ماله الصدقة، أنفق من ماله مبلغاً لإنشاء ميتم، لإنشاء مستوصف، لإنشاء مستشفى، لإنشاء معهد شرعي، لإنشاء جمعية خيرية، لإطعام الأيتام، لإطعام الفقراء، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق.
سمعت عن إنسان يريد أن يفعل شيئاً له قيمة، هو إفريقي، قال لي: في نيجيريا مئة و تسعون مليون مسلم، فقراء جداً، ماذا يفعلون؟ يرسلون أولادهم للتسول، هو فكرته أن يعطي الأب بدل الدولار الواحد الذي يجمعه ابنه من التسول خمسة دولارات، على شرط أن يعلم ابنه، يعلمه الدين، يعلمه حرفة، يعلمه فيصبح مهندساً أو طبيباً، وهذا عمل عظيم.
وأنا أقول لكم أيها الأخوة: أي محسن فكر بطالب متفوق ينفق عليه ليأخذ أعلى شهادة، يكون قد خدم الأمة، الأمة تحتاج إلى علماء، أي محسن فكر بإرسال طلاب إلى جامعات عريقة في العالم ليأتوا باختصاصات مفيدة جداً للأمة، هذا قدم صدقة جارية، وهذا أراه الآن من أعلى مستويات الإحسان.

 

الكم القليل من العلماء سبب تخلف الدول النامية :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ ﴾

الكم القليل من العلماء سبب تخلف الدول النامية
هناك حقيقة مرة سأقولها لكم: تمّ قتل ثلاثة آلاف و ثمانمئة عالم بالعراق ، أي عالم، مسلم، غير مسلم، سني، شيعي، مسيحي، يجب أن يبقى هذا الشعب قطيع، من يقود الأمة؟ العلماء، الأمة بعلمائها، لا أقصد علماء الدين فقط، لا، علماء، خبراء اقتصاد، خبراء حقوق، خبراء بالتجارة، خبراء بالصناعة، الأمة بعلمائها، العالم الغربي سبب تفوقه الكم الكبير من العلماء، والعالم المتخلف سبب تخلفه الكم القليل من العلماء.
وحينما كنت في الجزائر، فرنسا حينما دخلت إلى الجزائر نسب المتعلمين تقترب من سبعين بالمئة فلما خرجت كانت نسبة المتعلمين عشرة بالمئة.
دائماً الدول التي تستعمر تناهض العلم، فأنا أقول: من أعظم الأعمال الآن طالب متفوق، عنده ملامح تفوق، تنفق عليه لينال دكتوراه في اختصاص ما.
كنت مرة في جائزة قرآن كريم في بلد خليجي، اقترحت على المسؤولين أن نعطي الطالب الحافظ مليون ليرة، لا، نعطيه منحة دكتوراه، كل إنسان حفظ كتاب الله صار عالماًَ، أي إنسان حفظ كتاب الله ينال منحة دكتوراه حتى نهاية الدراسة، هذا عطاء.

 

حجم الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح :

حجم الإنسان عند ربه بحجم عمله الصالح
فيا أخوان، موضوع العمل الصالح، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، والله هناك أعمال صالحة لا تعد ولا تحصى.
مرة التقيت بأخ ـ توفي رحمه الله ـ قال لي: أرجو منك أن تدلني على فتيات صالحات جداً، تقيات، حافظات كتاب الله، ما أتيح لهن الزواج، لأنه خطر في باله مشروع أن يعمر بناية صغيرة، وكل بنت حافظة لكتاب الله يكتب لها بيتاً، صار هناك عروض خاصة، و صارت البنت مرغوبة، وفعلاً كلهن تزوجن.
أنواع العمل الصالح لا تعد ولا تحصى، لذلك تقرب إلى الله بعمل صالح، أنا علقت تعليقاً من يومين: تجد أخاً يحضر دروساً بالمسجد من خمس و ثلاثين سنة، و مع ذلك لا يقدم شيئاً، لا يتحرك حركة، لا يتكلم كلمة، أنا لا أريد هذا، الإنسان يتعلم بعد ذلك يلقي، يُخدم بعد ذلك يَخدم، هل من المعقول إنسان ليس له عمل فقط حضور الدروس؟ والله من دون عمل لا تقدم ولا تؤخر، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح،

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا ﴾

العلاقة بين المؤمنين أمتن علاقة في المجتمع البشري :

أحياناً يأتي طالب علم من بلد فقير، يعيش حياة صعبة جداً، والله هناك أسر بالشام أنا أثني عليها، تحتويه، تعطيه غرفة مفروشة، هناك أناس يتهافتون على الإنفاق على طلاب العلم، هذا الذي آوى طلاب العلم، ونصرهم، وأكرمهم، وأطعمهم، له عند الله أجر عظيم.
إذا ربطنا الإيمان بالعمل الصالح عندها نستطيع قطف ثمار الدين
مرة دعاني أحد طلاب العلم الأفارقة إلى بيته، الوقت شتاء، والبرد قارس، لا يوجد عنده مدفأة، ولا سجادة، لا يوجد بيت بالشام إلا وعنده حاجات ليس بحاجة إليها، منزعج من وجودها، فكر إذا كان عندك حاجات لا تستخدمها هناك طلاب علم، أحياناً سرير، سجادة، مدفأة، شيء ثمين جداً، تحرك حركة، قدم شيئاً، قدم حاجة، قدم قطعة أثاث، قدم مبلغاً من المال، قدم محاضرة، قدم كتاباً، قدم دعوة، قدم إكراماً، قدم مالاً، من دون عمل الإيمان وحده لا تقطف ثماره، الآية واضحة:

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا ﴾

العلاقة بين المؤمنين هي أمتن علاقة في المجتمع البشري
أحياناً يأتي أخ من حلب، هناك أخ يدعوه على العَشاء، والله هذا عمل عظيم، وجد نفسه محبوباً، جاء من حلب، يسمع درس الجمعة، يذهب إلى الفندق ويتعشى هناك، لا، خذه إلى البيت و قدم له الطعام، يطمئن، ويحس أن هناك علاقة أخوة كبيرة جداً، هذه معنى:

﴿ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾

العلاقة بين المؤمنين هي أمتن علاقة في المجتمع البشري.

﴿ أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾

أنت وليه، تنصحه، ترشده، تدعوه، تكرمه، تعينه، وهو ينصحك، ويرشدك، ويكرمك، ويعينك، هذا معنى

﴿ أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾

المؤمنون بعضهم لبعض نصحة متوادون ولو ابتعدت منازلهم، والمنافقون بعضهم لبعض غششة متحاسدون ولو اقتربت منازلهم.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾

حجم الإنسان عند الله بحجم بذله وتضحيته :

الآن هناك حالة ثانية، مؤمن لكن لا يتحرك، ولا يقدم، ولا يؤخر، ولا يدفع، ولا يطلب كلمة، ولا يأمر بالمعروف، يقول لك: الناس لا يُخدمون، هذه آية أم حديث؟ هذا كلام الشيطان، والله هناك مصطلحات جاءتنا من العصور الوسطى والله هي الكفر بعينه، امشِ بجنازة ولا تمشي بزواج، من قال لك هذا الكلام؟ أفضل شفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح، يا أخي ساهم في تزويج شاب وفتاة، فتاة مؤمنة، طاهرة، حافظة كتاب الله، عاونها، دلّ عليها، يقول: لا دخل لي، حتى لا يأتيه وجع رأس.
حجم الإنسان عند الله بحجم بذله وتضحيته
بالمناسبة: أحياناً يمكنك الله عز وجل من أن تزوج شاباً مع شابة، فيغيب خمس سنوات، ولا تسمع أية كلمة عنه، وعندما يتشاجر مع زوجته يأتي لعندك، يا أخي! عندما كنت مسروراً منها لماذا لم تأت و تشكرني؟ أفضل شفاعة أن تشفع بين اثنين في نكاح.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا ﴾

ليس مستعداً لأن يتحرك، يقول لك: هذا أفضل، تكلفه بعمل ينسحب باعتذار، تكلفه بمهمة ينسحب منها، تطلب منه أن يأتي إلى الدرس يأتي، لأن هذه لا تكلفه شيئاً:

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا ﴾

حجمك عند الله بحجم التزامك، حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، حجمك عند الله بحجم بذلك، وتضحيتك، هذا الحجم:

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾

التعاون بين الناس إما على البر والتقوى أو على الإثم والعدوان :

أخواننا الكرام، هناك مفاجأة كبيرة جداً، وقد لا ننتبه إليها:

﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾

[ سورة الأنفال ]

تعانوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان
يتعاونون، يعقدون مؤتمرات، يبذلون جهوداً جبارة ليكيدوا للمسلمين، والطرف الآخر يتعاونون، التعاون إما أن يكون على البر والتقوى، أو على الإثم والعدوان، قال تعالى:

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾

[ سورة المائدة الآية: 2 ]

الطرف الآخر يتعاون على الإثم والعدوان، أي يعتدي، أو يقصف، أو يفسد بالأفلام، كلام دقيق

﴿ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ ﴾

الإثم انحراف أخلاق، والعدوان إيذاء،

﴿ وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ ﴾

أخواننا الكرام، هذه الآية كما بدأت بها من أخطر آيات القرآن الكريم، ولا أتصور أن المسلمين في أشد الحاجة إلى شيء كما هم بحاجة إلى هذه الآية، لكن فيها عقدة، وفيها حل، هذا في الدرس القادم إن شاء الله.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور