وضع داكن
19-04-2024
Logo
الخطبة : 1065 - أسباب زيادة الرزق3 ، التقوى - الإنفاق من مال حلال من أعظم القربات عند الله .
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الخــطــبـة الأولــى :

     الحمد لله نحمده، ونستعين به، ونسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق والبشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِ وسلم، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه، ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

أسباب سعة الرزق :

تقوى الله عز وجل:

     أيها الأخوة الكرام، لازلنا في سلسلة خطب تتحدث عن الرزق، وصلنا اليوم إلى أسباب سعة الرزق، ولا أعتقد واحداً منا لا يحرص على سعة رزقه، لأن الرزق قوام الحياة، ولكن هذا الرزق له أسباب ذكرها القرآن الكريم، وأوردتها بعض الأحاديث في السنة المطهرة، وهناك أسباب تمنع الرزق، ففي هذا اللقاء وهذه الخطبة الحديث عن أول سبب من أسباب زيادة الرزق وهي تقوى الله عز وجل.

 

تعريف التقوى :

 أيها الأخوة، التقوى أن تتقي غضب الله، وأن تتقي عقابه، بأن تجعل بينك وبينه ستراً يحول دون أن تعاقب أو دون أن تدمر، هذا الستر هو التقوى، وفي القرآن الكريم ما يزيد عن ثلاثمئة آية تتحدث عن التقوى، لذلك بتعريف جامع مانع هي القيام بأمر الله وترك ما نهى الله. التقوى ليست هيئة معينة، لباس معين، حركات معينة، إيماءات، كلمات، إيحاءات، إنما هي تطبيق لأوامر الله وترك لما حرم الله. ليس الولي الذي يطير في الهواء، ولا الذي يمشي على وجه الماء، ولكن الولي كل الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، أن يراك حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك.
     من أدق تعريفات الولي القرآنية:

﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) ﴾

( سورة يونس)

     أن تعرف الله، وأن تحمل نفسك على طاعته، وأن تتقرب إليه بالعمل الصالح، والتقوى لا يمكن أن تكون دعوى، إنما هي حقيقة مع البرهان عليها، البرهان عليها الطاعة، أما ادعاؤها لا يقدم ولا يؤخر.

كل يدعي وصلاً بليلى      وليلى لا تقر لهم بذاكا
* * *

     عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: يفسر قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾. في قوله تعالى: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِه ﴾. قال: أن يطاع فلا يعصى وأن يشكر فلا يكفر وأن يذكر فلا ينسى.

[الحديث موقوف رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما رجال الصحيح والآخر ضعيف]

من كمال التقوى البعد عن الشهوات :

     أيها الأخوة، لو دخلنا في التفاصيل، من كمال التقوى البعد عن الشهوات لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:

(( إن الحلال بين، والحرام بين، وبينهما شبهات، من توقاهن كن وقاءً لدينه، ومن توقع فيهن يوشك أو يواقع الكبائر، كالمرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه، لكل ملك حمى ))

[رواه أبو يعلى وفيه موسى بن عبيدة وهو متروك]

     وفي رواية أن يرتع فيه.
     أيها الأخوة، ولا زلنا في التفاصيل يدخل في تعريف التقوى الكاملة فعل الواجبات، وترك المحرمات والشبهات، بل ربما دخل فيها أيضاً فعل المندوبات، وترك المكروهات، وهي أعلى درجات التقوى، لذلك العبد التقي يتنزه عن كثير من المباحات التي يخشى أن تنقله إلى بعض الشبهات.

(( إن الرجل لا يكون من المتقين حتى يدع ما لا بأس به حذرا لما به بأس ))

[ هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، قال فيه الذهبي: صحيح عن عطية السعدي]

لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال :

     من صفات المتقين أنهم يدعون ما لا بأس به حذراً مما به بأس، من تمام التقوى أن يتقي العبد الله حتى يتقيه في مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراماً حجاباً بينه وبين الحرام.
     وقال بعض العلماء إنما سمي المتقون متقين لأنهم اتقوا ما لا يتقى عادة. الشيء الذي لا شيء عليه عند معظم الناس يدعه ورعاً.

(( وركعتان من رجل ورع أفضل من ألف ركعة من مخلط ))

[ أخرجه الشيرازي و البيهقي عن أنس ]

     إني لأحب أن أدع بيني وبين الحرام سترة لا أخرقها، يعني ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس، وقال بعضهم: لا يسلم للرجل الحلال حتى يجعل بينه وبين الحرام حاجزاً من الحلال. يعني في حلال يجعله بين الحلال وبين الحرام هذا الحلال هو هامش الأمان.

 

من يتق الله يجعل له من كل ضيق فرجاً :

  أيها الأخوة، كيف يتقي الإنسان ربه ؟ ببساطة ما بعدها بساطة كيف تعالج نفسك لا سمح الله ولا قدر من ارتفاع الضغط ؟ حينما تعلم أن ضغطك مرتفع فلابد للتقوى من العلم، كيف تقع في الشبهات ؟ توهماً من أنها مباحات، كيف تقع في المحرمات ؟ جهلاً بحرمتها، فلذلك الطريق الوحيد إلى التقوى أن تطلب العلم الشرعي وأنت بالكون تعرفه و بالشرع تعبده وطلب الحلال فريضة بعد الفريضة، وطلب الحلال حتم واجب على كل مسلم.
     أيها الأخوة، الآية الأولى في هذه الخطبة والتي ذكرت لكم من قبل أن زوال الكون أهون على الله من ألا تحقق نتائجها مع أي مؤمن من دون استثناء:

﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾

( سورة الطلاق )

ضاقَت فَلَمّا اِستَحكَمَت حَلَقاتُها      فُرِجَت وَكُنتُ أَظُنُّها لا تُفرَجُ
***

     أحياناً تسد عليك كل سبل الرزق، لا في سفر، ولا في وظيفة، ولا في تعيين، ولا في شراكة، ولا في استثمار، كل السبل مغلقة، إذاً اتقِ الله حتى يجعل الله لك من هذا الضيق فرجاً.

 

من علامة أنك تتقي الله أن تأتيك الأرزاق من حيث لا تحتسب :

     أيها الأخوة، المخرج النجاة من الفقر، وكاد الفقر أن يكون كفراً، وإذا كان بالإمكان أن أتوسع بهذه المقولة التي تعزى للإمام علي رضي الله عنه وكاد الفقر أن يكون إرهاباً أحياناً، وكاد الفقر أن يكون نهباً وسلباً، وكاد الفقر أن يكون وقوعاً في الشبهات، من هنا يقول الإمام علي رضي الله عنه: قوام الدين والدنيا أربعة رجال: عالم مستعمل علمَه، وجاهل لا يستنكف أن يتعلم، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه، فإذا ضيع العالم علمه استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بماله باع الفقير آخرته بدنيا غيره.
 ومن علامة أنك تتقي الله أن تأتيك الأرزاق من حيث لا تحتسب، من جهة غير متوقعة من جهة ما كانت تخطر في بالك.
     أيها الأخوة، الآيات الداعمة، الآية الأصل:

﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾

( سورة الطلاق )

     أنا أخاطب الشباب، المستقبل يقول لك مجهول يا ترى أتمكن من دخول الجامعة ؟ أتمكن من دخول اختصاص نادر أعيش منه ؟ أتمكن أن أشتري بيتاً ؟ أتمكن أن أتزوج ؟ إله الكون، خالق السماوات والأرض الذي بيده كل شيء كن فيكون زل فيزول.

(( يَا عِبَادِي، لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ))

[ مسلم عن أبي ذر]

     أي اذهب إلى البحر، واركب قارباً، وامسك بإبرة، واغمسها في ماء البحر، واكتب لي نسبة هذا المال الذي حملته الإبرة إلى ماء البحر كله، هذا من وصف النبي عليه الصلاة والسلام، قال:

(( فَمَنْ وَجَدَ خَيْراً فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ عَزّ َوَجَلّ،َ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلا يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ ))

[ رواه مسلم عن أبي ذر ]

َمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا :

     أنا أخاطب الشباب، أخاطب من سدّت أمامه سبل الرزق، من كان رزقه قليلاً، من شكا من قلة الرزق، من شكا من التعسير.

﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾

( سورة الطلاق )

     لكنك لا تقنعني أنك تتقي الله، أقنع نفسك، بإمكانك أن تقنعني فتحرجني، أنا أتقي الله، دقق هل أنت على ما ينبغي أن تكون ؟ هل توجهت لله عز وجل ؟ هل تركت كل شبهة ؟

﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾

( سورة الطلاق )

زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعود هذه الآية لكل شاب مؤمن :

     مرة ثانية زوال الكون أهون على الله من ألا يحقق وعود هذه الآية لكل شاب مؤمن في أي مكان وفي أي زمان، طبعاً أحياناً الله عز وجل يعقب على قصة تعقيباً يجعلها قانوناً:

﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ ﴾

( سورة الأنبياء)

     التعقيب: 

﴿ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾

( سورة الأنبياء)

     في أي عصر، في أي مصر، إله أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام هو إلهنا، وهذا الإله العظيم الذين تصلون له بيده كل شيء، بيده الأقوياء، بيده ماء السماء، بيده رزق الأرض، بيده أعداؤنا، بيده أصدقاؤنا، بيده من فوقنا، بيده من تحتنا.

 

الله عز وجل ثبت ملايين الأشياء و حرك الرزق و الصحة لتربية الإنسان :

﴿ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) ﴾

( سورة هود)

     من الآيات الداعمة:

 

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾

( سورة الأعراف الآية: 96 )

     الله عز وجل ثبت ملايين الأشياء، ملايين القوانين، ثبت حركة الأفلاك، ثبت خصائص المواد، ثبت قوانين الفيزياء، قوانين الكيمياء، قوانين الحركة، ثبت مليارات القوانين لكنه حرك الرزق وحرك الصحة، أنت لا تملك صحتك، لا تدري ماذا يكون غداً ولا تملك رزقك، كأن الله عز وجل أراد حينما حرك الرزق والصحة معاً أن يكونا سببين لتربيتنا.

 

الرزق المحدود مع بركة الله عز وجل يكفي الإنسان و يغطي نفقاته :

     أيها الأخوة الكرام، سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه: قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(( يا أيها الناس اتخذوا تقوى الله تجارة يأتكم الرزق بلا بضاعة ولا تجارة. ثم قرأ: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } ))

(رواه الطبراني وفيه إسماعيل بن عمرو البجلي وهو ضعيف عن معاذ بن جبل)

 أقول لكم مرة ثانية أيها الشباب أنتم مُقْدمون على حياة، أنت بحاجة إلى زواج مع هذا الفساد العريض، أنت بحاجة إلى بيت مع ارتفاع أسعار البيوت، أنت بحاجة إلى حرفة تدر عليك رزقاً يحفظ لك ماء وجهك، أنا أعلم علم اليقين ما من شاب إلا ويطمح إلى عمل وزواج وحرفة وبيت، اتقِ الله.
     أيها الأخوة الكرام، نحن ما أدخلنا بحساباتنا ما يسمى بالبركة، أحياناً يأتيك رزق محدود مع بركة الله عز وجل، يكفيك ويغطي كل نفقاتك، وأنت في راحة، وفي بحبوحة، وقد ينطبق عليك قول: أحدهم الاقتصاد في المعيشة خير من بعض التجارة، التي فيها أخطار، فيها إثم، فيها قهر. 

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ ﴾

( سورة الأعراف الآية: 96 )

     مرة في بعض بلاد الخليج نزل مطراً ما ينزل على دمشق في عام بأكمله، وفي مدينة في إفريقيا كنت فيها نزل في ليلة واحدة ما ينزل من أمطار على دمشق في عامين، إذا أعطى أدهش، ولا يمكن أن يكون تقنين الله تقنين عجز بل تقنين تأديب. 

﴿ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ﴾

( سورة الحجر )

الله عز وجل إذا أعطى أدهش :

     أيها الأخوة الكرام، آية ثالثة داعمة للآية الأصل:

﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾

( سورة الطلاق )

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ﴾

( سورة المائدة الآية: 66 )

     وما أنزل إليهم من ربهم، القرآن، الله عز وجل أحياناً يعطينا مثلاً في بعض السنوات نجني من القمح ما يساوي ستة ملايين طن، وحاجة بلدنا كله إلى مليون طن ست أضعاف حاجتنا، في سنوات لا يكون مجموع القمح فوق الخمسمئة ألف فقط، إذا أعطى أدهش.

 

من آثر طاعة الله على هوى نفسه قلل الله همومه و نزع الفقر من قلبه :

     آية رابعة:

﴿ وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا ﴾

( سورة الجن )

     قال بعض العارفين: إذا ضاق على فقير أمر معيشته فليسأل الله تعالى في تيسير رزق حلال مما قسمه الله عز وجل.
     وقال سفيان الثوري: اتقِ الله فما رأيت فقيراً محتاجاً. كلام رائع.

 

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ (147) ﴾

( سورة النساء)

     ورد في بعض الآثار القدسية: وعزتي وجلالي وعظمتي ما من عبد آثر هواي على هواه، أي آثر طاعة الله على هوى نفسه، إلا أقللت همومه، وجمعت عليه ضيعته، ونزعت الفقر من قلبه، وجعلت الغنى بين عينيه.
     وحديث آخر:

(( من أصبح وأكبر همه الآخرة جعل الله غناه في قلبه، وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن أصبح وأكبر همه الدنيا جعل الله فقره بين عينيه، وشتت عليه شمله ولم يؤتيه من الدنيا إلا ما قدر له ))

[ أخرجه ابن ماجة عن أنس بن مالك ]

طاعة الله عز وجل خير من الدنيا و ما عليها :

     أيها الأخوة الكرام، عن الإمام علي رضي الله عنه أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم: من نقله الله عز وجل من ذل المعاصي إلى عز التقوى أغناه بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس، ومن خاف الله أخاف الله تعالى منه كل شيء، ومن لم يخف الله أخافه الله تعالى من كل شيء، ومن رضي من الله باليسير من الرزق رضي الله تعالى منه باليسير من العمل.
     أيها الأخوة الكرام:

(( جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أوصني. قال: ' عليك بتقوى الله فإنه جماع كل خير ))

[رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري]

     يعني عليك بطاعة الله.

أطع أمرنا نرفع لأجـلك حجب     نا فإنا منحنا بالرضا من أحـبنـــا
و لذ بحمانا واحـتــم بجنابنا      لنحميك مما فيه أشرار خلقــنــا
و عن ذكرنا لا يشغلنك شاغـل      و أخلص لنا تلقَ المسرة والـــهنا
و سلم إلينا الأمر في كل ما يكن      فما القرب والإبعاد إلا بأمــــرنا
* * *

 

من أوتي رزقاً مادياً و حرم رزقاً روحياً فهذا استدراج من الله تعالى :


     أيها الأخوة الكرام، الإنسان أحياناً يؤتى رزقاً مادياً ويحرم رزقاً روحياً، علق الأمل على كل أنواع الأرزاق، معرفة الله رزق عظيم، طاعته زرق عظيم، أن تشعر بالخشوع في الصلاة رزق عظيم، أن تقرأ القرآن فيخشع قلبك رزق عظيم، وأن يعطيك الله مالاً تغطي به حاجاتك هذا أيضاً رزق، لذلك قال تعالى:

﴿ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) ﴾

( سورة البقرة)

     ومما رزقناهم من علم، أو من جاه، أو من قوة، أو من خبرة، أو من مال.

(( إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة، يُعطى بها في الدينا، ويُجزي بها في الآخرة))

[أخرجه مسلم عن أنس بن مالك]

عطاء الله ابتلاء وحرمانه دواء :

     لكن والعياذ بالله إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه مما يحب فإنما هو استدراج، إذا كانت الدنيا تأتي من أوسع أبوابها والإنسان ليس على طاعة الله فهذا استدراج يعقبه قصم شديد.

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) ﴾

( سورة الأنعام الآية: 44 )

﴿ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ (56) ﴾

( سورة المؤمنون )

﴿ فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَن * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾

( سورة الفجر )

     الرد الإلهي: 

﴿ كَلَّا ﴾

( سورة الفجر الآية: 17 )

     ليس كذلك، ليس عطائي إكراماً، ولا منعي حرماناً، عطائي ابتلاء، وحرماني دواء.

 

من اتقى الله عز وجل رزقه الله من حيث لا يعلم :

     أيها الأخوة الكرام، الرزق قوام الحياة، وما من إنسان إلا بحاجة إلى مال يغطي به نفقاته، فإذا اتقى الله عز وجل هيأ له رزقاً وقد يكون كفافاً، فإذا كان الرزق كفافاً لا تحزن بل استبشر لهذا الحديث الشريف: اللهم من أحبني فاجعل رزقه كفافاً.
     فإذا سألت أخاً كريماً عن رزقه قال لي مستورة، أقول له إذاً أصابتك دعوة النبي عليه الصلاة والسلام، قلة المال أمر صعب جداً وكثرة أمر صعب جداً.

(( بادروا إلى الأعمال الصالحة ما ينتظر أحدكم من الدنيا إلا غِنَىً مُطْغِياً، أو فَقْراً مُنْسِياً، أو مَرَضاً مُفْسِداً، أو هَرَماً مُقَيِّداً، أو مَوْتاً مُجْهِزاً ؛ أو الدجال، فالدجال شرُّ غائِبٍ يُنْتَظَر ؛ أو السَّاعَةُ، والساعة أدهى وأَمَرّ ))

[ أخرجه الترمذي عن أبي هريرة ]

     كاد الفقر أن يكون كفراً، الغنى الذي يحملك إلى المعصية من أكبر المصائب لذلك الله عز وجل كما قال بعض العلماء: علم ما كان، وعلم ما يكون، وعلم ما سيكون، وعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
     ليس في الإمكان أبدع مما كان، وإذا كشف الله لك الحكمة فيما ساقه إليك، وما أقامك فيه من بحبوحة، أو من ضيق يوم القيامة، ينبغي أن تذوب شكراً لله على ما ساقه إليك من أشياء قد تكون في الدنيا قد كرهتها.

 

﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216) ﴾

( سورة البقرة)

المعاصي أحد أكبر أسباب قلة الرزق :


أيها الأخوة الكرام، في الخطبة القادمة إن شاء الله الحديث عن المعاصي التي تمنع الرزق، قد يحرم المرء بعض الرزق بالمعصية، تقوى الله أحد أكبر أسباب زيادة الرزق.

﴿ وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا ﴾

( سورة الطلاق )

     وهناك مجموعة معاصي أحد أكبر أسباب قلة الرزق، هذا موضوع الخطبة القادمة إن شاء الله تعالى.
     أيها الإخوة الكرام، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، واعلموا أن ملك الموت قد تخطانا إلى غيرنا، وسيتخطى غيرنا إلينا، فلنتخذ حذرنا، الكيّس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني، والحمد لله رب العالمين.

 

* * *

الخــطــبـة الثانية :

     الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الله عز وجل يرزق العبد على قدر نيته :

     أيها الأخوة الكرام، من مسلمات الإيمان أنك إذا سألت الله عملاً صالحاً يحتاج إلى مال فإن الله عز وجل يرزقك رزقاً يعينك على هذا العمل الصالح، أما حينما تقول اللهم هبّ لنا عملاً صالحاً يقربنا إليك، هناك أعمال صالحة تحتاج إلى مال، فلذلك ينطوون على نوايا حسنة، وعلى رغبة في خدمة الخلق، لعل الله يرزقهم رزقاً يكافئ نواياهم، يعني الشيء الذي ينبغي أن يقال اخرج من نفسك إلى خدمة الخلق، عندئذ يمكنك الله من خدمتهم ولو أن خدمتهم كانت تحتاج إلى أموال، الله عز وجل يرزق العبد على قدر نيته، فالذي ينوي خدمة أمته، وحلّ مشكلات فقرائها، ومعاونة المرضى، ومعاونة من هو بحاجة إلى زواج، الله سبحانه وتعالى يرزقه من حيث لا يحتسب، ما في قاعدة للرزق.

ولو كانت الأرزاق تجري مع الحجى      هلكن إذن من جهلهن البهائم
* * *
     أحياناً الله عز وجل يفتح لك باب رزق واسع، المؤمن يسأل الله رزقاً حلالاً طيباً يعينه على عمل صالح يقربه إليه، يعني: (( لا حَسَدَ إِلاّ في اثْنَتَيْنِ: رَجلٌ آتَاهُ الله مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ منهُ آنَاءَ اللّيْلِ وآنَاءَ النّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَآنَاءَ النّهَار )).

[ البخاري عن أبي هريرة]

حجم كل إنسان عند ربه بحجم عمله الصالح :


 هناك أعمال صالحة يصعب العقل تصورها ممكن أن تنشئ ميتماً، مؤسسة تعليمية تعلم الدين، مستشفى، أن تبني بيوتاً للشباب، أن تغدق مالك على الفقراء والمساكين، أن تقيم مشاريع حضارية تعزز هذه الأمة، الطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، وأنت في الدنيا حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، والإنسان حينما يأتيه ملك الموت لا يندم إلا على شيء واحد ؛ على عمل صالح:

﴿ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا ﴾

( سورة المؤمنون الآية: 100 )

(( صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم خير له من كل دنياكم ))

[ ورد في الأثر ]

     والإنسان حينما يموت بثانية واحدة يفقد كل شيء، الذي جمعه في عمر مديد يخسره في ثانية واحدة، لمجرد أن يقف قلبه انتهى، كل أمواله لغيره، لمجرد أن يقف قلبه انتهى، كل أمواله لغيره، وأندم الناس من عاش فقيراً ليموت غنياً، وأندم الناسِ من دخل ورثته بماله الجنة، ودخل هو بماله النار.

 

أعظم الأعمال الصالحة أن تنفق مالاً حلالاً لحلّ مشكلات المسلمين :

     أيها الأخوة الكرام، تُسأل عن حياتك، وعن عمرك، وعن شبابك، وعن علمك، إلا عن مالك تسأل سؤالين من أين اكتسبته وفيما أنفقته ؟ والمال قوام الحياة، وبطولة المؤمن أن يعرف كيف يكسب المال الحلال وكيف ينفقه في وجوهه الصحيحة، لبعض الصحابة الكرام كلمة رائعة: حبذا المال أصون به عرضي وأتقرب به إلى ربي.
     يعني خيارات الإنسان الذي جمع مالاً حلالاً في العمل الصالح لا تعد ولا تحصى، من هنا إذا كان طريق كسب المال الحلال سالكاً وفق منهج الله ينبغي أن تسلك هذا الطريق، لأنك إن أصبحت غنياً من مال حلال، من طريق مشروع، خيارات العمل الصالح أمامك لا تعد ولا تحصى، أما إذا كان كسب المال على حساب دينك، وعلى حساب مبادئك وقيمك، فاعتقد اعتقاداً جازماً أن الفقر وسام شرف لك، لذلك قالوا: هناك فقر الإنفاق، يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك ؟ قال: الله ورسوله، ومن أعظم الأعمال الصالحة أن تنفق مالاً حلالاً جمعته من كدٍّ حلال ومن كسب حلال لحلّ مشكلات المسلمين، ورب درهم سبق ألف درهم.

الدعاء :

     اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام، وأعز المسلمين، انصر المسلمين في كل مكان، في العراق، وفلسطين، وفي شتى بقاع الأرض يا رب العالمين، اللهم أرنا قدرتك بأعدائك يا أكرم الأكرمين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

اللغات المتوافرة

إخفاء الصور