وضع داكن
19-04-2024
Logo
حياة المسلم 1- إذاعة حياة إف إم- الحلقة : 045 - القلب السليم.
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع:
  بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأتم الصلاة وخير التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
 السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم مستمعينا الكرام، نتواصل في حلقة جديدة من حلقات برنامجكم مع الدكتور محمد راتب النابلسي، حديثنا اليوم عن القلب السليم، يقول ربنا سبحانه وتعالى:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

﴿ إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الصافات:84]

 أما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعلمنا:

(( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب ))

[ البخاري عن النعمان بن بشير]

 وباسمكم نرحب بفضيلة العلّامة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي، وحديثنا عن القلب السليم، لماذا هذا الاهتمام في شرعنا للقلوب السليمة؟

القلب هو الشيء الأساسي في حياة كل إنسان :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد، وعلى آل بيته الطيّبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، أمناء دعوته، وقادة ألوِيَتِه، وارضَ عنّا وعنهم يا ربّ العالمين، اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم، إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وُحول الشهوات إلى جنّات القربات.
 أيها الأخوة الكرام؛ بادئ ذي بدء، أريد أن أقدم حكاية صغيرة منتزعة من الأدب الفرنسي لها علاقة بهذا اللقاء، أو بموضوع هذا اللقاء، إنسان يقطع الصحراء على جمل تعب، جلس ليستريح، استيقظ فلم يجد الناقة، أيقن بالهلاك كلياً، ثم نام مرة ثانية واستفاق وجد الناقة أمامه، من شدة فرحه، قال: يا رب أنا ربك وأنت عبدي، أي شدة الفرح أبعدت عنه الكلام الصحيح، هذه حالة.
 الحالة الثانية: إنسان عثر على بغيته في الصحراء، الآية تقول:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

ضلّ الطريق في الصحراء، وسار وسار حتى أدركه العياء، فإذا بواحة صغيرة، نخلة وبركة ماء، هو يكاد يموت من العطش، شرب من هذه البركة حتى ارتوى، وحالت منه التفاتة فوجد إلى جانب البركة كيساً مملوءاً، وهو يظن أن فيه خبزاً، لأنه بعد أن شرب يكاد يموت من الجوع، فلما فتح الكيس وجد فيه لآلئ، لو كان في المدينة ثمنه مليارات، فصاح قائلاً: واأسفاه هذه لآلئ، المغزى أن اللآلئ ثمنها ملايين، لكن في الصحراء الشيء المهم رغيف خبز يأكله، قال: واأسفاه هذه لآلئ. فأنا أقول قوله تعالى:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴾

[ سورة الشعراء:88]

 حجم الإنسان المالي، الملايين المملينة، الأرصدة في البنوك، المركبات الفارهة، القصور الجميلة، الحدائق، الإطلالات، البيت، المسبح الرائع، كل أنواع الرفاه في الدنيا تنتهي بثانية واحدة عند الموت، الذي جمعه في الدنيا بعمر مديد مرحلة مرحلة، درجة درجة، رتبة رتبة، وبلغ قمة النجاح في الحياة يأتي ملك الموت يأخذ منه كل شيء، طبعاً إلا المؤمن، فإذا هو صفر اليدين، فهذا الذي يقطع الفيافي والقفار، وقد نال منه العطش نيلاً كبيراً رأى ماء شرب، بقي الطعام، وجد كيساً مملوءاً وهو يظن أن فيه خبزاً، فلما فتح الكيس قال: واأسفاه هذه لآلئ.
المذيع:
 في ذلك اليوم لم تنفعه اللآلئ.
الدكتور راتب :
 اللآلئ في الدنيا مليارات ثمن الكيس، في هذا اليوم لا تنفعه اللآلئ إطلاقاً، الآية الآن:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

 الشيء الأساسي الأساسي المهم الرائع المنجي العظيم أن يكون لك قلب سليم، ما تعريف القلب السليم عند كبار العلماء؟ قال: القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، و لا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، ولا يعبد غير الله.
 من أدق ما قرأت عن هذه الآية. خالق السماوات والأرض خالقنا ربنا، مربينا، مسيرنا، يقول لنا:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

 مرّ النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه على قبر، قال نصاً مذهلاً:

(( صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم خير له من كل دنياكم))

[ابن المبارك عن أبي هريرة ]

 ركعتان سريعتان، شخص يقول لك: ملك الذهب، ملك البترول، بيل كيت يملك ثمانية وتسعين مليار دولار، هذه الأموال حينما يموت ينتهي مفعولها، هذا الموت ينهي كل شيء، الموت ينهي قوة القوي، ينهي غنى الغني، وهيمنة المهيمن، وذكاء الذكي، ينهي كل شيء.

العاقل من يعدّ لساعة الموت عدتها :

أنا أقول: العقل والبطولة والذكاء والحكمة والتفوق والنجاح والفلاح، أن تعد لهذه الساعة، أنا مرة شيعت أحد أقربائي، وضع في القبر كشف عن وجهه، أداروا رأسه نحو القبلة، وضعوا البلاطة، فوق الفتحة أهالوا التراب، جاءتني ومضة إيمانية، هذه الومضة أن الذكاء والعقل والنجاح والتفوق أن تعد لهذه الساعة التي لا بد منها، ملوك يموتون، أغنياء يموتون، أقوياء يموتون، أذكياء يموتون، أغبياء يموتون، قال تعالى:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

الإيمان يسمو بالإنسان إلى أعلى درجة :

 أنا حينما أقول: القلب السليم، هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، للتفصيل البسيط، الإنسان في البدايات بعد أن يعقد التوبة النصوح مع الله، يشتهي المعاصي ولا يفعلها، لا يحاسب عليها، خواطر، تصورات، شهوات كامنة في العقل الباطن، يشتهيها، لكن الشرع ضبطه، الإيمان قيده، لا يفعلها، هذه حالة، حالة ابتدائية.
المذيع:
 هذا جيد دكتور؟
المذيع:
 جيد بعد التوبة إنه لم يفعل الحرام.
الدكتور راتب :
 يشتهي الحرام لكن لا يفعله، لكن حينما ترقى هذه النفس وترقى وترقى تصبح بمستوى الشريعة، لا تشتهي الحرام، الشهوة السابقة ليست ذنباً، الله عز وجل يحاسبك على العمل، على الحركة، أما يوجد شهوة داخلية فالشهوة لا تلغي توبتك، لكن إذا شخص قريب عهد بالتوبة ما كان يفعله قبل التوبة يشتهي أن يفعله بعد التوبة لكنه قيد نفسه، إذاً بعد حين تسمو نفسه إلى مستوى الشرع.
المذيع:
 هل يستطع الإنسان التخلص من هوى النفس؟
الدكتور راتب :
طبعاً، الإنسان عندما يذوق طعم القرب من الله يعلم أين كان، وأين صار، المؤمن يخرج من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، كما يخرج الجنين من ضيق الرحم إلى سعة الدنيا، عندما تاب إلى الله، واصطلح معه، وعرف سرّ وجوده، وغاية وجوده، عرف أن له إلهاً عظيماً، كريماً، رحيماً، قديراً، غنياً، لطيفاً، هذه المعرفة أنسته كل شيء، الآن عزف عن الدنيا بعد المعرفة، لكن حينما تاب لا تزال الشهوات كامنة فيه، لكنه ضبط نفسه، لذلك القلب السليم هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، هذه ليست سهلة، شخص تصور حالة أنه يقارب الحرام مثلاً، لا يحاسب على هذا التصور، يستغفر، أما إنسان يمقت المعصية، يكرهها، فهذا الذي نسعى إليه.
 لذلك النقطة الدقيقة أن الإيمان يسمو بك إلى درجة أنك تقترب من كمال الشريعة، هذا الكمال أكاد أقول لك: التغت المجاهدة.
المذيع:
 هذه النقطة تحتاج إلى توضيح، ومصطلح كمال الشريعة، وكيف يمكن للإنسان أن يجاهد نفسه، حينما تشغلك بالباطل اشغلها بالحق، لكن كيف نصل إلى مرحلة النفس لا تنشغل بالباطل، هذا سيكون محور حديثنا حول القلب السليم..
 أهلاً بكم شيخنا..
الدكتور راتب :
 بارك الله بكم ونفع بكم...
المذيع:

﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:89]

الدكتور راتب :
 القلب السليم هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، هذه طبعاً مرحلة متقدمة.
المذيع:
 كيف نصل لها؟

من ذكره الله منحه الأمن و السكينة :

الدكتور راتب :
أنت حينما تذوق طعم القرب من الله، هذه الصلاة الحقيقية، كلمة صلاة خمسة أوقات في اليوم، قال تعالى:

﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾

[سورة طه:14]

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ﴾

[سورة البقرة:125]

 ماذا تعني هذه الآية؟

﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾

  إنك إذا أديت الصلاة ذكرته، وأديت واجب العبودية، لكنه إذا ذكرك ماذا يكون؟ الشاهد هنا، يمنحك نعمة الأمن، هذه النعمة لا تقدر بثمن، ولا يتمتع بها إلا المؤمن وحده، قال تعالى:

﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ*الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾

[سورة الأنعام81-82]

 إذا ذكرك الله منحك نعمة الرضا، ترضى عن نفسك، ترضى عن زوجتك، عن أولادك، ترضى عمن حولك، حالة الرضا نقلت الإنسان من الشقاء إلى السعادة.

الحظوظ موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء وفي الآخرة توزيع جزاء :

 هناك إنسان ساخط على دخله، وعلى أولاده، وعلى زوجته، وعلى بيئته، وعلى ولادته من فلان، حياته كلها سخط، المؤمن حياته كلها رضا، لماذا؟ يوجد نقطة دقيقة جداً لأن المؤمن مؤمن بالآخرة، وفي الآخرة تسوى الحسابات، الحظوظ في الدنيا، معنى الحظوظ؛ المال حظ، الوسامة حظ، الذكاء حظ، المكانة حظ، التحصيل العلمي العالي حظ، معه دكتوراه، هذه كلها حظوظ، موزعة في الدنيا توزيع ابتلاء، توزيع امتحان، وسوف توزع في الآخرة توزيع جزاء، فالابتلاء محدد بالوقت، الموت ينهي الابتلاء، شخص امتحن بالغنى رسب بالامتحان، استعلى بماله وبذله على شهواته، ومنعه من الفقراء والمساكين رسب، إنسان آخر امتحن بالفقر، صبر وتعفف، وأدار أموره بحكمة بالغة، بهذا الدخل المحدود حاول بقدر الإمكان أن يغطي حاجاته الأساسية، لكن ما تضعضع أمام غني، ولا أمام قوي، وقد ورد:

(( من جلس إلى غني فتضعضع له ذهب ثلثا دينه ))

[ البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود]

 فهذا الفقير نجح بالفقر، والغني رسب، الآن بعد الموت، الفقير الذي نجح بستين سنة سينعم بجنة عرضها السماوات والأرض إلى أبد الآبدين، والثاني رسب مصيره الله أعلم.
المذيع:
 دكتور، القلب السليم، هو القلب الذي لا يشتهي شهوة لا ترضي الله.
الدكتور راتب :
 لكن هذه مرحلة متقدمة ليست مرحلة أولية.
المذيع:
 ويصل لها حينما يعرف الله حق معرفته.
الدكتور راتب :
 ويتصل به، ويذوق طعم القرب منه.
المذيع:
 هنا قلبه يملأ بمعية الله فيستغني نوعاً ما عن الحرام.

القلب السليم لا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله :

الدكتور راتب :
 هذه واحدة، لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، ولا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، يقول لك مالتوس عالم بَشَّرَ بالمجاعة العامة للبشرية، الله عز وجل قال: نحن رزقناكم، هو الرزاق، الآيات كلها تؤكد أن الرزق واصل، قال تعالى:

﴿ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ﴾

[سورة الذاريات: 23]

ورزقكم في السماء وما توعدون، أنا أذكر مرة جاءت سنوات عجاف في الشام من الأمطار، معدل دمشق مئتا ميليمتر، لم يصل المعدل للتسعين، وعلى سنتين متتاليتين، بعد حين جاءت سنة كان المعدل ثلاثمئة وخمسين ميليمتراً، الينابيع تفجرت، الأنهار سالت، انقلاب مذهل، الخير كله عند الله عز وجل، فلذلك الإنسان حينما يصل إلى القلب السليم لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، ولا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، ولا يعبد إلا الله، هذا الذي ينفعنا عند الموت، يوم لا ينفع المال بيل كيت، قال تعالى:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

المذيع:
 في هذه النقطة تحديداً بعض الناس يركز على مصطلح القلب، أن الإيمان في القلب ،وهو الشق الأول من تعريف الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، بعض الناس لا يصلي ويقول: أنا مؤمن بالله في قلبي، بعض النساء تبتعدن عن فريضة الحجاب وتقول: أنا أحمل في قلبي أخلاقاً وحباً، أهم شيء القلب، ما تعليق فضيلتك؟

الإسلام التزام و خضوع لمنهج الله :

الدكتور راتب :
 لا يوجد ضلالة كهذه الضلالة، هذه ألغت الإسلام كله، الإسلام التزام، الإسلام طاعة لله، الإسلام خضوع لمنهج الله.
المذيع:
 يقول لك فلان يصلي وقلبه سيئ.
الدكتور راتب :
 هذه ليست حجة، أنت صلِّ وقلبك جيد، عفواً إذا شخص دخل كلية الطب، ومصيره طبيب لامع جداً، وهناك طبيب كان سيئاً، لأنه يوجد طبيب سيئ يلغي كليته، حالات سيئة.
المذيع:
 لو كانت الكلية سيئة نقبل إلغاءها.
الدكتور راتب :
 الكلية لا يوجد بها شيء، الإسلام دين إلهي، دين مسعد للناس، إذا شخص استغل الدين استغلالاً حقيراً تجارياً، تاجر بالدين، لأنه يوجد منافق أنا ألغي ديني؟! إذا كان هناك طالب كسول أنا أترك المدرسة؟ أنا أتابع دراستي، الإنسان عندما يرغب أن يعصي الله عز وجل يريد حجة، الإنسان عنده حالة اسمها التوازن، عندما يعصي الله يختل توازنه، هذه نقطة دقيقة جداً، لأن المنهج الإلهي متطابق مع فطرة الإنسان تطابقاً مذهلاً، فالإنسان عندما يعصي الله عز وجل عنده حالة اسمها اختلال توازن، هو يعرف أن هذا العمل حرام لكنه يحبه، يعرف أن هذا اللقاء لا يجوز لكن يحبه، يعرف إطلاق البصر لا يجوز فلما عصى الله عز وجل بفطرته اختل توازنه، عندما اختل توازنه يصبح عنده حالة دفاع عن النفس، هذه الحالة أساسها اعتماد على فتاوى باطلة، وعلى تأويلات غير صحيحة، أو يطعن بالدين من خلال أشخاصه، من أجل أن يتوازن، كل شخص غارق بالمعاصي يقول: لا يوجد شخص جيد، كلهم كاذبون، كيف كلهم؟ عممت والتعميم من العمى، حتى يستعيد توازنه النفسي يبحث عن طريقة لاسترداد هذا التوازن، أحد هذه الطرق أن تسفه الصالحين، هذه واحدة، وأن تعتمد على فتاوى باطلة، وأن تعتمد على تأويلات باطلة، تأويل وفتاوى وأشخاص سيئون، أما إذا أراد أن يستعيد التوازن فهذا يكون بالتوبة إلى الله عز وجل.
المذيع:
 يذهب تأنيب الضمير..
الدكتور راتب :
 أبداً لأن باب التوبة مفتوح.
المذيع:
 أعود إلى الشق الأول من السؤال: هل يكفي الإيمان في القلب دون أن يترجمه عمل؟

الإيمان إقرار في القلب وتصديق باللسان وعمل بالأركان :

الدكتور راتب :
الإيمان إقرار في القلب، وتصديق باللسان، وعمل بالأركان، هذا تعريف الإيمان. القلب له عبادة، أنا صدقت أن هذا الكلام كلام الله عز وجل، والنبي رسول الله، وإقرار باللسان، أنا مسلم عفواً يكون في جلسة فيها خمر، والله أنا معي قرحة في المعدة، لا، قل: أنا مسلم لا أشرب الخمر، صرح، قال تعالى:

﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾

[ سورة فصلت: 33 ]

 أنا لا أشرب لأني مسلم، علم الناس، أريهم موقفاً أخلاقياً، لا تتستر أن معك قرحة، من أجل ألا تهتز مكانته، هو علماني، أو لمصالح.
 أول شيء: لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، و لا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، ولا يعبد غير الله.
المذيع:
 الآن لو أن إنساناً يؤمن بالله في قلبه ويوقن به، لكنه لا يريد أن يطبق هذه الأحكام، لا يريد أن يصلي مثلاً، هل هذا يقبل؟

إيمان الإنسان لا يبدو في الرخاء بل في الشّدة :

الدكتور راتب :
 الحقيقة أن هذا الإيمان غير مقبول، هذا اسمه عقيدة اعتقاد، الإنسان في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية يتلقى بعض المعلومات الدينية من التربية الإسلامية، والتربية الإسلامية مادة رسمية في كل المدارس، هذه المعلومات التي تلقاها بالإلقاء هذه لا تنتقل إلى مستوى الإيمان، لمستوى الاعتقاد، والاعتقاد لا يصمد أمام الشهوات، مادام لا يوجد شهوة، لا يوجد فرصة لاقتراف فاحشة، لا يوجد مبلغ ضخم، مادام الشهوات غير موجودة يتوهم أن حاله جيد، أما أي مبلغ غير مشروع من فوق المليون فيقلب حياته كلها، يغير بيته، يغير سيارته مثلاً، أما إذا كان هناك إيمان لو لم يملك الإنسان درهماً واحداً، وجاءته مبالغ فلكية من معصية لا يقبلها، هذا الإيمان، والإيمان لا يبدو في الرخاء بل يبدو في الشدة، والحقيقة لا بد للمؤمن من ساعة شدة، هنا يظهر إيمانه، قال تعالى:

﴿ هُنالِكَ ابتُلِيَ المُؤمِنونَ وَزُلزِلوا زِلزالًا شَديدًا ﴾

[سورة الأحزاب: ١١]

المذيع:
 لماذا كان الدعاء: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك؟ لماذا ثبت قلوبنا؟

القلب هو الأصل في كل شيء وهو جزء من اتخاذ القرار عند الإنسان :

الدكتور راتب :
 لأن الأصل هو القلب، عندما يكون القلب موصولاً بالله، والآن مضطر أن أقول لك شيئاً بأحدث البحوث العلمية تبين أن العقل في القلب، بحث طويل، القلب فيه خلايا عصبية خمسة آلاف ضعف عن خلايا الدماغ، قال تعالى:

﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾

[سورة الأعراف: 179]

 عندما بدلوا سبعين قلباً مزروعاً في أوروبا، طبعاً من قلب واحد أو من قلبين لم يبدُ معهم شيء إطلاقاً، الآن يوجد زرع قلب لكن بعدما صار عندهم سبعون حالة وجدوا صفات جديدة بالإنسان، كان يحب طعاماً ما كان يحبه، كان يكره هذا الطعام فإذا هو يحبه، صار يحب موسيقا من نوع معين لم يكن يحبها، الموضوع طويل من سبعين حالة إنسان زرع لهم قلب يوجد تبدل جذري من مشاعره وأحاسيسه وأذواقه.
المذيع:
 إذاً القلب جزء من اتخاذ القرار عند الإنسان.
الدكتور راتب :
 الدماغ مركز المعلومات، والقلب مركز الأحاسيس والمشاعر، صار القلب له دور كبير جداً، لذلك القلب السليم فيه مشاعر، فيه أحاسيس، حتى هناك حالات ركب للإنسان قلب صناعي فلم يعرف أحفاده.
المذيع:

(( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله إلا وهي القلب ))

[ البخاري عن النعمان بن بشير]

القلب مركز المشاعر والأحاسيس والمبادئ والقيم والأذواق :

الدكتور راتب :
 يبدو أن القلب مركز النفس، أليس هناك جهاز إدراكي وهو الدماغ؟ يوجد جهاز قيمي هو القلب، فالقلب ليس كما يتوهم بعض الناس أنه مضخة فقط، لا، أكبر من مضخة بكثير، المشاعر، والأحاسيس، والمبادئ، والقيم، والأذواق، فعندما بدل القلب صار هناك تبدل جذري، مرة زوجة زوجها بدل قلبه، فصار يتكلم كلمة ليس لها معنى إطلاقاً، وكان يعيدها كثيراً بعدما بدل قلبه بقلب مزروع، ذهبوا إلى صاحب القلب الذي توفي، سألوا زوجته عن هذه الكلمة التي كان يرددها، فقالت: اتفقت أنا وزوجي حينما كان حياً أن الأمور إذا على ما يرام أتكلم هذه الكلمة، مثلاً يوجد ضيوف، والأكل جاهز، الكلمة لا يفهمها الضيوف لكن الأمور على ما تتمنى، هذه الكلمة عندما سألوا زوجته الذي زرع له قلب ينطق بها وهو لا يشعر، فنقلت الأحاسيس والمشاعر وبعض الكلمات إلى القلب المزروع.
المذيع:

(( إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ))

[مسلم وابن ماجة عن أبي هريرة]

 هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، لماذا إلى قلوبكم؟

القلب مركز النفس والنفس ذات الإنسان :

الدكتور راتب :
 القلب مركز النفس، سأدخل قليلاً بالموضوع أنت وأنا مع بعضنا، أنا جسم ونفس وروح، الروح القوة المحركة بالضبط كالكهرباء، اسحب المأخذ يتوقف التسجيل، الذي يجعلها تعمل وتسمع الصوت هو الكهرباء، الكهرباء قوة محركة، العين ترى بالروح، عندما مات الإنسان هذه ليست عيناً، شيء ليس لها أي قيمة، العيون تلقى في المهملات، الروح تمد الإنسان.
المذيع:
 والنفس دكتور؟
الدكتور راتب :
 النفس ذات الإنسان، النفس هي التي خلقت، هي التي تدخل الجنة، هي المؤمنة، هي الكافرة، هي المعاقبة، هي المكرمة، هي اللطيفة، هي العنيفة، بالقرآن سميت ذات الصدور، قال تعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾

[سورة لقمان: 23]

 وسميت أيضاً، قال تعالى:

﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ﴾

[سورة الفجر: 27]

المذيع:
 أين القلب من هذه المراتب الثلاثة، الجسد والروح والنفس؟
الدكتور راتب :
 القلب مركز النفس، يوجد نفس ويوجد قلب، قال تعالى:

﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾

[سورة الأعراف: 179]

 والله لا أبالغ بعد البحث المديد عن هذا الموضوع بالذات راجعت آيات القلب، شيء لا يصدق، نفهمها فهماً آخر، أحد هذه الآيات قال تعالى:

﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:88-89]

 لو راجعنا في المعجم المفهرس في القرآن الكريم، أو بالبحث على الكومبيوتر، كلمة قلب ومشتقاتها، تجد العجب العجاب، القلب مركز النفس، الدماغ مركز المعلومات، القلب مركز المشاعر، والمبادئ، والقيم، والأذواق.
المذيع:
 كيف تطمئن القلوب؟
 

الدنيا تمدّ الإنسان بسعادة متناقصة و ليست مستمرة :

الدكتور راتب :
 هذا القلب مصمم تصميماً معيناً، أي يجب أن أقول لك كلمة دقيقة: أنت بالأصل خلقت لمعرفة الله، أي الجماد للنبات، والنبات للحيوان، والحيوان للإنسان، والإنسان لله، الله عز وجل خلقك، قال تعالى:

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ﴾

[ سورة طه: 41]

هذا الإنسان لأنه مخلوق لمعرفة الله فهو مصمم بنفسه تصميماً لا نهائياً، فأي هدف نهائي محدود أراده قبل أن يصل إليه سعيد، ينتظره فإذا وصله انتهى، دخل السأم والضجر، وهناك مليون شاهد، لا يوجد عندك سيارة، اقتنيت سيارة، بعد أسبوعين فقط تصبح عادية جداً، لست متزوجاً، تزوجت، أي شيء تطمح له تسعد به قبل أن تصل إليه، فإذا وصلت إليه رأيته بحجم أقل بكثير مما كنت تتوقع، لذلك ما سمح الله للدنيا أن تمد الإنسان بسعادة مستمرة بل بسعادة متناقصة، كل شيء يمل حتى البيت الفخم، حتى المركبة الفارهة، حتى العلاقات الإنسانية، إن لم تكن ضمن الإيمان تمل، هكذا صمم الحياة الدنيا.
المذيع:
 قوله تعالى:

﴿ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾

[ سورة الرعد: 28]

الدكتور راتب :
 هذا القلب رمز النفس البشرية، ما الذي يسعدها؟ أن تطلب اللانهائي، لأنها لا نهائية، أنا سأقول عبارة دقيقة: هناك هدف لا نهائي هو الله، لا يوجد غيره، وهناك هدف نهائي، وظيفة، صرت وزيراً، صرا ملياردير، بيل كيت يملك تسعين ملياراً، اسأله حياته عادية، ما سمح الله للدنيا أن تمد الإنسان بسعادة مستمرة بل بسعادة متناقصة، وهذا الشيء يعرفه كل الناجحين في الحياة، الناجحون في الحياة يسعدون بتوقع نجاحهم، فلما نجحوا انتهت هذه السعادة، بتعبير باللغة الدارجة سامحني به، الإنسان عندما ينجح نجاحاً كبيراً و هو بعيد عن الدين يَقرف ويُقرف، معه أموال طائلة، يأكل أطيب الطعام، عنده بيت واسع جداً، إذا زار إنساناً في بيت صغير يقول له: أنت كيف تسكن هذا البيت؟ صار عنده شعور بالاستعلاء على الناس، الغني غير المؤمن، المؤمن إنسان آخر.
المذيع:
 ممكن يكون مؤمناً وغنياً؟

خيارات العمل الصالح للقوي لا تعد ولا تحصى :

الدكتور راتب :
 ممكن ، ليس الغني الشاكر بأقل أجراً من الفقير الصابر، قال النبي صلى الله عليه وسلم:

(( المؤمن القويُّ خيْر وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ))

[ مسلم عن أبي هريرة]

 أنا أقول: إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله يجب أن تكون قوياً، لأن خيارات العمل الصالح للقوي لا تعد ولا تحصى.
المذيع:
 الإخلاص مقره القلب، وهو أساس قبول العمل.

من ازداد بحثاً عن الله ازداد يقيناً بوجوده ووحدانيته وكماله :


الدكتور راتب :

 الإخلاص عبادة القلب، الأعضاء لها عبادة، الوضوء للصلاة، وهناك عبادة الجوارح وعبادة القلب، تعبد الله بالجوارح، مخلصاً بالقلب له الدين.
المذيع:
 كيف يتحقق الإخلاص في القلب، كيف إن جاز التعبير أهذب قلبي لأكون ربانياً؟
الدكتور راتب :
 متابعة البحث عن الله، الإنسان الله عز وجل أعطاه تفكيراً، أعطاه آيات، كلما ازداد بحثاً عن الله ازداد يقيناً بوجوده، ووحدانيته، وكماله، وكلما اقترب منه ذاق طعم القرب منه، هذه كلها أشياء مترابطة ومتنامية.
المذيع:
 نصيحتكم الأخيرة في ختام هذا اللقاء لمستمعينا حتى تكون قلوبنا قلوباً نقية نقابل بها الله عز وجل علها تكون لنا لا علينا.

حاجة كل إنسان إلى حاضنة إيمانية :

الدكتور راتب :
 النصيحة الأولى والأخيرة، الآية تقول:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾

[ سورة التوبة: 119 ]

 أنت بحاجة إلى حاضنة إيمانية، بحاجة إلى أصدقاء مؤمنين، بحاجة إلى من تعيش معه مؤمناً، المؤمن يقوي إيمانك، المؤمن ينصحك، المؤمن يقوي ثقتك بالله، غير المؤمن يسفه استقامتك، أو إذا أنت أنفقت مالك يقول عنك: مجنون، لا تصاحب من لا يرى لك من الفضل مثلما ترى له.
المذيع:
 علنا نختم لقاءنا بحديثنا عن القلب السليم بدعاء أن يجعل الله عز وجل قلوبنا سليمة.

الدعاء :

الدكتور راتب :
 اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك، اللهم صن وجوهنا باليسار، و لا تبذلها بالإقتار فنسأل شر خلقك، و نبتلى بحمد من أعطى، و ذم من منع، و أنت من فوقهم ولي العطاء، و بيدك وحدك خزائن الأرض و السماء، اللهم أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارض عنا، اجعل هذا البلد آمناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين، واحقن دماء المسلمين في كل مكان، واحقن دماءهم في الشام، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين، الفاتحة.

خاتمة و توديع :

المذيع :
 بارك الله بكم فضيلة العلّامة الدكتور محمد راتب النابلسي، كنا تحت عنوان القلب السليم، إذاً القلب السليم هو عنوان لقائنا، ونسأل الله أن يتقبل من الجميع، أؤكد على ما قاله الشيخ أن القلب السليم هو قلب لا يشتهي شهوة لا ترضي الله، و لا يصدق خبراً يتناقض مع وحي الله، ولا يعبد غير الله، قال تعالى:

﴿ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾

[ سورة الشعراء:89]

 جعلنا الله وإياكم شيخنا ومستمعينا منهم، إلى هنا نصل إلى نهاية حلقتنا مع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور