وضع داكن
20-04-2024
Logo
حياة المسلم 1- إذاعة حياة إف إم- الحلقة : 143 - العدل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

المذيع:
  بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، يا ربنا صلّ وسلم، أنعم وأكرم على نبينا ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أهلاً ومرحباً بكم مستمعينا الكرام إلى حلقة جديدة من برنامجكم مع الدكتور محمد راتب النابلسي، حياكم الله شيخنا وأستاذنا الكريم .
الدكتور راتب :
 بارك الله بكم، ونفع بكم إن شاء الله.
المذيع:
 أهلاً وسهلاً بكم دكتور محمد، حلقتنا لهذا اليوم نتحدث فيها عن: " العدل "، ونبدأ بقول الله سبحانه وتعالى:

﴿ وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً﴾

[ سورة النساء: 58]

 شيخنا الكريم نبدأ بتوضيح المصطلح.

العدل :

الدكتور راتب :
 قيمة أخلاقية كبيرة جداً تقتضي أن تعدل بين من حولك، بالمفهوم التربوي.
أنا عندي ابن بالجامعة، وابن بالابتدائي، ليس من المعقول أن أعطي الابتدائي مثل الجامعة، وهو بحاجة لتاكسي، فالعدل أن تعطيه حاجته، وأن يكون المقياس واحداً، وأخطر شيء بالعدل أن تعتمد مقياسين في موضوع واحد.
 مثلاً أمضى السهرة كلها يتهكم على أم زوجته، والزوجة تخاف ساكتة، في اليوم التالي تكلمت كلمة عن أمه فأقام عليها الدنيا، حينما تستخدم مقياسين بآن واحد، وقعت في ظلم شديد، والإنسان صار عنصرياً، مثلاً ممكن أن تكتب كلمة على مسؤول بأمريكا فينهي حياته من شدة ألمه، ممكن الغرب يسمح بظلم بعض البلاد، وهو عنده ببلاده الشيء يكون مستحيلاً، فعندما نأخذ نحن الأمور بمكيالين، بمقياسين، سقط هذا الإنسان من عين الله.
المذيع:
 إذاً العدل دكتور هو إعطاء كل إنسان حقه، هل العدل مقترن بالمساواة دكتور؟

العدل شيء و المساواة شيء آخر :

الدكتور راتب :
 حق الفيتو، لا يوجد عدل، يكون القرار إنسانياً، إنقاذ أمة من الدمار، والهلاك، والإبادة، شخص يقول لك: أنا أستخدم حق الفيتو، التغى القرار، هذا لا يوجد به عدل أبداً، القيم كلها معطلة بحق الفيتو.
المذيع:
 هل شيخنا العدل مقترن بالمساواة؟
الدكتور راتب :
 لا، أنا قلت قبل قليل: ابن بالجامعة، يحتاج إلى مبلغ معين، أما ابنك بمدرسة ابتدائية، و مدرسته بجانب البيت، فيحتاج إلى شطيرة، وحوالي ليرة أو ليرتين، أكثر لا يجوز، فالمساواة شيء، والعدل شيء آخر، العدل يأخذ حاجته.
المذيع:
 ولا يفترض بالإنسان أن يشعر في لحظة من اللحظات أن عدم التساوي أنني أنا قد ظلمته.
الدكتور راتب :
العدل يأتي بالميراث، يأتي بالتركات، يأتي بالوصايا، الأب وصى للأولاد بالتساوي، عمل وصية بحياته بالتساوي، حتى هناك ملمح دقيق؛ الهدية بالتساوي ليست على أحكام الميراث، بحياته أحب أن يشتري لكل ولد بيتاً، عنده ابنان وابنتان، لكن ابن بيت، و لكل ابنة بيت.
المذيع:
 هذا إذا كان مقتدراً شيخنا أم أن هذه قاعدة؟
الدكتور راتب :
 نقول: مقتدر، وأحبّ أن يقدم هدية لأولاده بالتساوي.
المذيع:
 لنفترض عفواً شيخنا، أنا عندي ولد وبنت، وقدرتي المالية لا تسمح إلا بشراء شقة واحدة، هل أنا مجبر لشراء بين للطرفين أم أشتري للولد باعتبار البنت زوجها يشتري لها؟
الدكتور راتب :
 لها زوج طبعاً ترضى البنت.
المذيع:
 هل يعتبر هذا عدم عدل؟
الدكتور راتب :
 لا، لا، هذه فيها حكمة بالغة، لأن الأخت تحب أخاها، الأخت لها زوج، بالنهاية ساكنة ببيت، وأخوها سكن ببيت، لكن البيت على الرجل، وأخوها رجل.
المذيع:
 لأجل ذلك هنا نقول: هذا عدل، وليس مساواة، العدل إعطاء كل صاحب حاجة حاجته.
الدكتور راتب :
 أما إذا جاء للأب دخل إضافي فيخصها بمبلغ من المال، بدل البيت الذي اشتراه لأخيها، بحياته هدية، بعد مماته ميراث.
المذيع:
 يجب أن يعطيها شيخنا بنفس المقدار الذي أعطاه للولد الذكر؟
الدكتور راتب :
 الهدية بالتساوي، إلا إذا نوى أن يوزع ثروته كميراث مسبقاً فيجوز، حسب الأحكام سوف أوزع الآن أموالي على أساس الميراث، ممكن.

﴿ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾

[ سورة النساء: 11]

 أما أنا أعطي هدايا، الهدايا بالتساوي، والميراث وفق قواعد الإرث.
المذيع:
 يجب أن تكون الهدايا بالتساوي دكتور؟ هل من الممكن أن الأب مرات يقدر أحداً من الأولاد أكثر من الابن الآخر، فهو يريد مثلاً أن يعزز جانباً ما.
الدكتور راتب :
 يجب أن يكون معه جواب لله، مثلاً عنده أربع بنات، ثلاث بنات متزوجات من أزواج أغنياء جداً، وآخر بنت زوجها فقير جداً، فاشترى لها بيتاً.
المذيع:
 أو لم تتزوج مثلاً شيخنا.
الدكتور راتب :
 أخذ لها بيتاً، لكن معه لله جواباً، هي من أين تأخد.
المذيع:
 هذا في الدنيا لا يسمى مساواة؟
الدكتور راتب :
 لا أبداً.
المذيع:
 لكنه تحت بند العدل.
الدكتور راتب :
 بالحكمة، وهو معه لله جواب، هنا نقطة دقيقة، شخص تزوج فتاة شابة، وفرضت عليه أن يكتب بيتاً لابنها.
المذيع:
 وحرم أولاد الزوجة الأولى هذا يعتبر ظلماً.
الدكتور راتب :
 ظلم كبير جداً، إذاً العدل هو أعلى مكانة من المساواة، مرات المساواة تكون ظالمة، كما تفضلتم إذا ابن بالابتدائي، وابن بالجامعة، التساوي بالمصروف بينهم، هذا أصلاً ظلم، هذه نقطة بالغة الأهمية.
 شيخنا، أسألك هذا السؤال وكثيراً من الناس يطرحوهن: هل عدل سبحانه وتعالى في الدنيا مطبق؟

 

عدل الله في الدنيا مطبق جزئياً لا كلياً :

الدكتور راتب :
 يوجد نقطة دقيقة: عدل الله في الدنيا مطبق جزئياً، لا كلياً، أما يوم القيامة فقد قال تعالى:

﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ﴾

[ سورة مريم: 71]

 ما منكم واحد إلا وسوف يرد النار، العلماء قالوا: ورود النار غير دخولها، ورودها للموعظة.
المذيع:
 حتى أهل الجنة؟
الدكتور راتب :
دقيقة، عندنا وزير داخلية، أنشأ سجناً حضارياً، غرف جيدة، طعام جيد، جاءه وزير داخلية بريطاني، يريد أن يري وزير الداخلية البريطاني حضارتنا الاسلامية، يأخذه لهذا السجن، هل يعد هذا الوزير البريطاني سجيناً؟ هذا زائر. قال:

﴿ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا﴾

  ورود النار غير دخولها، دخولها عقاباً وإلى الأبد، أما ورودها فللموعظة، فأسماء الله الحسنى في الدنيا كلها محققة، إلا اسم العدل محقق جزئياً، كما ترى سيدي، مواطن يتمتع بحقوق تفوق حدّ الخيال بالدول الغربية، ومواطنون يقتلون بلا سبب، أين العدل؟ مطبق جزئياً.
 لذلك يرد الإنسان النار ليرى من فيها من الظلمة والطغاة ليرى عدل الله المطلق.
المذيع:
 هذه القضية شيخنا حساسة كثيراً مرتبطة بعقيدة الإنسان، الله عادل سبحانه وتعالى من صفاته العدل.

 

الدنيا دار ابتلاء و ليست دار جزاء :

الدكتور راتب :
 مع العدل حكيم، مع عدله حكمة، إن من عبادي من لا يكفيه إلا الفقر، إن أغنيته أفسدت عليه دينه، الله خبير، ومربّ.
المذيع:
 الإنسان عليه أن يرضى بالواقع الذي هو فيه؟
الدكتور راتب :
 لا، إذا كان بوضع سيئ يجب أن يبحث عن وضع أفضل، إذا بذل كل طاقاته ولم يتمكن أن يصل للأفضل يكون هذا قضاء الله وقدره.
المذيع:
 لكن يسأل الناس دكتور، يقول لك أحدهم: أين العدل عندما يولد إنسان في عائلة تمتلك مئة مليون.
الدكتور راتب :
 نحن لسنا بدار جزاء، نحن بدار ابتلاء، هذا الجواب الدقيق، نحن في دار ابتلاء ولسنا بدار جزاء.
المذيع:
 إذاً أعود للعبارة التي ذكرتموها شيخنا، أن ربنا لم يجعل العدل كاملاً.
الدكتور راتب :
 هذا الحائط بعد مترين، ثلاثة أصفار ألف، ثلاثة أخرى مليون، ثلاثة ثالثة ألف مليون، ثم مليون مليون، واحد بالأرض وأصفار للشمس، مئة و ستة و خمسون مليون كيلو متر أصفار، كل ميلي صفر، هذا الرقم إذا نسب للانهاية صفر، فأنت مخلوق للانهاية، ماذا تساوي الدنيا؟ سبع و ستون سنة، ثمانون سنة، لا شيء إطلاقاً، دار ابتلاء ليست دار جزاء هي للأسف، لماذا دار جزاء؟

﴿ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾

[ سورة آل عمران: 158]

المذيع:
 نعود للنقطة الأساسية أن ربنا لم يجعل الدنيا فيها عدلاً مطلقاً.
الدكتور راتب :
 لا ، لا يوجد أبداً.
المذيع:
 بعض الناس تشكك حتى في إيمانها بوجود الله، يقول ما يحصل في بعض الدول والحروب والقتل، أين عدل الله؟

 

بطولة الإنسان في المصير الذي يؤول إليه :

الدكتور راتب :
 الجواب دقيق، مريضان عند الطبيب، الأول معه التهاب معدة حاد، فالطبيب أعطاه أمراً بحمية قاسية جداً، حليب ستة أشهر، والثاني معه سرطان منتشر بكل جسمه، قال له: ماذا آكل؟ قال له: كُلْ ما شئت، أيهما أفضل؟ شخص يخضع لحمية قاسية جداً، لأن هناك أملاً بالشفاء، والثاني قال له: كُلْ ما شئت.

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ ﴾

[ سورة الأنعام: 44]

 ليس باباً، بل أبواباً، ليس أبواب شيء بل كل شيء.

﴿ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً ﴾

[ سورة الأنعام: 44]

 فالبطولة في المصير.

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾

[ سورة الغاشية: 25 -26]

 الإنسان عندما تصيبه مصيبة ويصبر دون أن يفهم حكمتها، الآية تقول:

﴿ مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ ﴾

[ سورة التغابن: 11]

إلى حكمتها، الله يريه حكمتها، لذلك قالوا: ربما منعك فأعطاك، وربما أعطاك فمنعك، وإذا كشف لك الحكمة في المنع عاد المنع عين العطاء.
 نشأ يتيماً، لا يوجد معه أموال، درس، اهتم، أخذ دكتواره، صار أستاذ جامعة، والثاني نشأ ببيت فيه غنى كبير، لم يدرس، مات والده، الثروة توزعت، صرف كل ما يملك بقي شحاذاً، يوجد قصص من الصعب أن تصدقها.
 الخليفة الأموي عمر عبد العزيز ترك ثمانية عشر درهماً فقط، أخذوا من المبلغ سبعة دراهم لتشييعه بقي لكل أولاده أحد عشر درهماً.
 خليفة آخر ترك أموالاً تفوق حدّ الخيال، له أربع زوجات، أعطوا كل زوجة مئة ألف غير الضيع والبراري، وما انتهى أولاده إلا فقراء.
 ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك.
المذيع:
 جميل! الله يفتح عليكم يا دكتور، كلام طيب، وكلام جميل، الله يجزيك الخير يا شيخنا.
 في هذا الموضوع إذاً النقطة العقدية التي يفترض أن يفهمها كل إنسان كما تفضلت دكتور أن العدل هو صفة لله عز وجل، وهو في الدنيا موجود بشكل غير كامل لحكمة من الله عز وجل، وبالتالي ما يحصل من تجاوزات، من ظلم واعتداء الله يعلمه ويراه، ولله حكمة في بقائه في الدنيا.

 

عدل الله عدل مطلق :

الدكتور راتب :
 يوجد قصة دقيقة: أنا أمشي مرة بأحد أسواق دمشق، خرج شخص من محله التجاري ودعاني لفنجان قهوة في محله، والله لبيت الدعوة، قال لي: لي عندك سؤال، لكن لا يوجد عندي جواب له، قلت له: تفضل، قال لي: شخص جاء إلى سوق مدحت باشا بالشام، وهو سوق مثل سوق الحميدية، عنده محل أقمشة، سمع إطلاق رصاص، مدّ رأسه جاءت رصاصة في عموده الفقري فأصيب بالشلل فوراً، قال لي: هذا ما ذنبه؟ طلب العمل والرزق أليس فريضة على الإنسان؟ قلت له: بلى، و لكن لا أعلم، أنا أعلم أن الله أخبرني أنه عادل، إيماني بعدله من إخباره لي بالقرآن:

﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾

[ سورة الكهف:49]

 أما أفهم تفاصيل العدل فلا أستطيع إلا يكون معي علم كعلم الله، كلامي دقيق، أنا مكلف أن أصدق ربي، وذكر لي أنه عادل.

﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ﴾

المذيع:
 هل معنى هذا الكلام وكأنك شيخنا تشك بهذه القضية؟
الدكتور راتب :
 أنا لا أملك وسائل، أنا أفهم العدل المطلق.
المذيع:
 لكن أنت في داخلك تمتلك يقيناً كاملاً بهذا الإخلاص.
الدكتور راتب :
 مليار بالمئة، لكن لا يوجد معي التفاصيل، قال لي: ماذا فعل هذا الشخص؟ قلت له: والله شي يحير، جاء لمحله التجاري، سمع إطلاق رصاص، أصيب برصاصة أدت إلى شلله، وانتهى الأمر.
 مضى عشرون يوماً، عندي أخ كريم مدير معهدي، قال لي: عندنا جار يسكن فوقنا، عنده محل بسوق مدحت باشا، يبيع أقمشة، سمع إطلاق رصاص مدّ رأسه أتته رصاصة أصبح مشلولاً.
المذيع:
 هل يتكلم عن نفس الإنسان؟
الدكتور راتب :
 قال لي: هذا الشخص توفي أخوه، وترك بيتاً مؤجراً، تقاضى هو الأجرة، البيت لأخيه المتوفى، وعنده ستة أولاد أيتام، طالبوه يا عم نريد الأجرة، نريد أن نعيش منها، لم يعطهم شياً، شهر، شهران، ثلاثة، سنة، فشكوه إلى عالم كان شيخ قراء الشام، حسين خطاب رحمه الله، استدعاه، قال: لن أعطيهم شيئاً، هذا الحاضر بوقاحة، قال: يا بني هذا عمكم، و ليس من اللائق أن تشكوه للقضاء، اشكوه لله، هذا الساعة التاسعة مساءً، كان التاسعة صباحاً مشلولاً.
 أنا أعرف ألف قصة من آخر فصل ليس لها معنى، أعرف خمس، ست، عشر قصص من أول فصل، أنا أقيس ألف قصة على خمس، الله وكيلك يوجد عدل مطلق بالحياة، أنا أعرف آخر فصل دائماً.
المذيع:
 لكن أحياناً شيخنا يوجد إنسان ظالم، وآكل أموال أيتام من أقاربه، ويبقى مرغداً في هذه الحياة.
الدكتور راتب :
 طبعاً يبقى مرفهاً.
المذيع:
 سيقول لك شخص: أين العدل؟ لماذا عوقب هذا وذاك لم يعاقب؟
الدكتور راتب :
 إذا كان فقط للدنيا، السؤال وجيه، إذا كان فقط للدنيا فالدنيا صفر أمام الآخرة، صفر، صفر سيدي، إذا كان للأبد، فما الأبد؟ مليار، مليار، مليار، حتى ينقطع نفسنا.
المذيع:
 إذاً هنا يأتي السؤال وأتمنى أن أستمع للإجابة الشافية من فضيلتكم بعد الفاصل لماذا ربنا يحاسب أناساً في الدنيا ولا يحاسب آخرين، ونستمع لجواب كامل من شيخنا الجليل الدكتور النابلسي.
 شيخنا الكريم قلت في بداية الحلقة إن الله عدل، وعدله مطلق وكامل سبحانه وتعالى يوم القيامة، يجعل كل إنسان يرى العدل الكامل، وتكشف له الحكمة الكاملة بكل تفاصيلها، الله لم يجعل العدل مطبقاً بشكل كامل في الدنيا، لحكمة متعمدة منه، السؤال لماذا؟

 

الحكمة من عدم تطبيق العدل في الدنيا بشكل كامل :

الدكتور راتب :

﴿ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾

[ سورة الأحزاب: 72 ]

 أي الكون كله.

﴿ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾

[ سورة الأحزاب: 72 ]

 الإنسان قبِل حمل الأمانة، ما الأمانة؟ أن يترك له إدارة نفسه، ما الدليل؟

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾

[ سورة الشمس: 9 -10 ]

 أنا أحمل أمانة، إدارة نفسي، أفلح إذا زكيتها، لمعرفة الله، وطاعته، والتقرب إليه، وخدمة عباده، وأحرمها هذه السعادة إذا ابتعدت عنه، واتبعت شهوتي، ومصالحي، وغرائزي، فريق في الجنة، وفريق في السعير، فالإنسان عندما قبِل حمل الأمانة هو وعالم الجن.

﴿ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ ﴾

[ سورة الرحمن: 33 ]

 قبلا حمل الأمانة أعطيا حرية الاختيار، الدليل:

﴿ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ ﴾

[ سورة الكهف: 29 ]

﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً ﴾

[ سورة الإنسان: 3 ]

 فيأتي الإنسان يتعرف إلى الله من خلال آياته الكونية، الكون، التفكر، والتكوينية، أفعاله بالنظر، والقرآنية كلامه بالتدبر.

﴿ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ ﴾

[ سورة الجاثية: 6 ]

 فعرف الله من خلال آياته، وعرف منهجه، وطبق منهجه، فسلم وسعد في الدنيا والآخرة معاً، الآخر اتبع شهوته ومصالحه وغرائزه، فشقي وهلك في الدنيا والآخرة.
المذيع:
 لكن شيخنا لماذا ربنا مثلاً يعاقب أحياناً بعض المخطئين كما تفضلتم في بداية الحلقة؟
الدكتور راتب :
 مثلما قلنا:

﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾

[ سورة الأعلى: 9]

 ويعاقب من يمكن أن يستفيد من العقاب، أما إذا كان:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ﴾

المذيع:
 لماذا لا يعاقب كل المخطئين شيخنا؟
الدكتور راتب :
 سيدي، كل واحد له خاصة، كل واحد نسيج لوحده، الله فرد، وهذه الصفة منحها للإنسان، كل واحد له تركيبة خاصة، فالله عز وجل هناك إنسان يناسبه الإكرام، يكرمه، إنسان يناسبه أن يعاقبه فيعاقبه، هذه حكمة إلهية، أما يوم القيامة فيبدي لخلقه جميعاً الحكم التي وراء ما فعل الله بهم، يأتي الجواب:

﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة يونس: 10 ]

المذيع:
 لو ربنا سبحانه وتعالى جعل عقاب كل مخطئ في الدنيا شيخنا عقاباً فورياً وللجميع هل يلتغي التكليف الشرعي هنا؟ مثلاً كل إنسان يعق والديه بنفس اللحظة مثلاً يتعرض للشلل؟

 

إلغاء التكليف الشرعي يلغي اختيار الإنسان :

الدكتور راتب :
 التغى التكليف كلياً.
المذيع:
 فلذلك لا يعاقب كل الناس كلياً.
الدكتور راتب :
انظر لتجمع من ألف شخص، كل واحد يقول: لا إله إلا الله أعطيه ألف دولار، سوف تجد جميع البشر قالوا هذه الكلمة.
المذيع:
 بغض النظر أكانوا مقتنعين أم لا سيقولونها طمعاً بالجائزة.
الدكتور راتب :
 التغى الاختيار، أو كل واحد ينظر لهذه المرأة يفقد بصره، فالكل غض بصره، إذا جاء العقاب بعد الذنب مباشرة، أو الثواب بعد العطاء مباشرة، التغى الاختيار، أما ممكن أن تطيعه لأمد طويل ولا ترى شيئاً استثنائياً، وممكن أن تعصيه لأمد طويل، ولا ترى شيئاً استثنائياً، هذا الاختيار، لو العقاب يأتي فوراً لم يبق هناك اختيار، التغى الاختيار كلياً.
المذيع:
 أعود لنقطة تحدثنا ولو بشكل سريع في الحلقة الأولى شيخنا، وأتوسع مع فضيلتكم فيها، فيما يجري من ظلم المسلمين اليوم، وظلم البشرية في العموم ليس فقط المسلمون، دول كاملة تباد، شعوب تنهار، أين العدل؟

الحكمة المطلقة لله متعلقة بالخير المطلق :

الدكتور راتب :
 سأقول كلمة: ما نزل بلاء إلا بذنب، الله غني عن تعذيبنا.

﴿ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ﴾

[ سورة النساء: 147 ]

 هل هناك أوضح من هذه الآية؟

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾

[ سورة الأنعام: 44]

 هذا اسمه الاستدراج، أولاً الله عز وجل لا يمكن أن يسوق شيئاً بلا هدف، وبلا حكمة مطلقة، لذلك قالوا: كل شيء وقع أراده الله، في الكون، من آدم إلى يوم القيامة أراده الله، أي سمح به، لم يأمر به، ولم يرضه، وكل شيء أراده الله وقع، معكوسة، وإرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق.
 أخي الكريم، بارك الله بك على هذه الأسئلة، لا يوجد شر مطلق بالكون، الشر المطلق أي الشر الشر، لأنه يتناقض مع وجود الله، ولكن يوجد شر موظف للخير.

﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾

[ سورة السجدة: 21]

 هذا الشر الذي يهدف إلى الخير.
المذيع:
 شيخنا، هل معنى هذا أن كل شعب تعرض للقتل والاضطهاد والظلم كان يعمل مصائب وذنوباً وهذا بالتالي عقاب من الله؟
الدكتور راتب :
 عندي الجواب الدقيق: إذا كان العقاب:

﴿ فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى ﴾

[ سورة الأعلى: 9]

 إذا هذه المشكلة ساقها الله لأمة وانتفعت بها لا بد من أن يسوقها الله إليها، أما إذا بلغت من الكفر حداً لا رجعة فيه إطلاقاً:

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾

.
المذيع:
 ستجد دولتين متجاورتين، كلاهما يقع في نفس الذنوب والمعاصي، ونفس المستوى من الحرام لديهم، دولة تعرضت لحروب، وإبادة، ودولة آمنة بشكل جيد، فيسألك أحدهم: أين العدل الإلهي هنا شيخنا؟
الدكتور راتب :
 أنا عندي جواب دقيق: أراده الله أي سمح به، لم يأمر به، ولم يرضه، كل شيء أراده الله، معكوسة، الآن إرادة الله متعلقة بالحكمة المطلقة، الذي وقع لو لم يقع لكان الله ملوماً، والذي وقع لو لم يقع لكان نقصاً في حكمة الله.
المذيع:
 حاشا وكلا .
الدكتور راتب :
 والحكمة المطلقة متعلقة بالخير المطلق، إذاً لا يوجد شر مطلق بالكون .
المذيع:
 هل هذه الحكمة المطلقة نحن كبشر نطلع عليها دوماً ونعرفها؟
الدكتور راتب :
 لا، ليس دائماً.
المذيع:
 يمكن أن يكون هناك أشياء غامضة، شيخنا: نحن عندما نقول: إن هذا البلاء وقع، أي هؤلاء يستحقون العقاب؟

 

من خصائص العبد ألا يحكم على المستقبل يقيناً :

الدكتور راتب :
 هي كمبدأ ، لكن أنا ممنوع أن أنزل حكماً على كائن، على معين، أنا ممنوع أنزل قضاء الله على معين، على شعب معين، وشخص معين.
 مثلاً صحابي جليل غزا مع النبي وجاهد معه، وكان له مكانة كبيرة، توفاه الله، فجاء النبي يزور أهله قبل دفنه ، سمع امرأة تقول: هنيئاً لك أبا السائب لقد أكرمك الله.
المذيع:
 عن زوجها؟
الدكتور راتب :
 نعم ، لو سكت النبي لكان كلامها صحيحاً، لكن النبي وحده، أقواله سنة، أفعاله سنة، وإقراره سنة ، قال لها: ومن أدراكِ أن الله أكرمه ؟
المذيع:
 وهو صحابي ؟
الدكتور راتب :
 قولي: أرجو أن يكرمه، وأنا نبي مرسل لا أدري ما يفعل بي ولا بكم، ليس من خصائص العبد أن يحكم على المستقبل يقيناً.
المذيع:
 إذاً القاعدة الشرعية أن ربنا سبحانه وتعالى لم يجعل الابتلاء دائماً امتحاناً ، فقد يكون عقاباً، أو اختباراً من رب العباد.
الدكتور راتب :
 حكمة مطلقة عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.
المذيع:
 وكما تفضلت شيخنا لا يمكن للمسلم أن يقول: إن هؤلاء ربنا عاقبهم لأنهم يرتكبون المعاصي، يذكرهم بالاسم البلد والشعب، هذا مرفوض، لأنك لا تعلم لِمَ كان امتحان الله لهم؟
الدكتور راتب :
 هنيئاً لك أبا السائب، ولا المديح، ومن أدراكِ؟ أنا عبد عليّ ألا أحكم على المستقبل يقيناً.
المذيع:
 إذاً دولتان متجاورتان، كلاهما بنفس المستوى من المعاصي والذنوب، وربنا سبحانه وتعالى له حكمة قد نجهلها كبشر، في أن يعاقب الشعب الأول ولا يعاقب الشعب الآخر، لكن ليس معنى هذا أن هؤلاء ربنا راض عنهم، وهؤلاء غضبان عليهم.
المذيع:
 لا، هناك حكمة بالغة، حينما تكتشف نخضع لله.
المذيع:
 هي تخضع للعدل المطلق.
الدكتور راتب :
 ونذوب محبة له.

﴿ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾

[ سورة يونس: 10]

المذيع:
 إذاً هي تخضع للعدل المطلق الإلهي، لكن يشترط أن نفهم نحن التفاصيل، أو لماذا في ظاهرها خير إن جاز التعبير.

 

من الأدب مع الله أن تقول لا أدري :

الدكتور راتب :
 لذلك نصف العلم لا أدري، أنا أقول: من الأدب مع الله أن تقول لا أدري.
المذيع:
 لمَ لا تدري؟
الدكتور راتب :
 لأنني أنا لا أقدر أن أنزل حكماً مطلقاً على شخص معين، ولا على إنسان معين.
المذيع:
 هذه القضية مهمة جداً شيخنا.
 هل العدل هو اسم من أسماء الحسنى أم هي صفة من صفات أسماء الله الحسنى؟

الدنيا دار ابتلاء فالعدل فيها جزئي :

الدكتور راتب :
 طبعاً من أسمائه الحسنى.
المذيع:
 وهو غير موجود بشكل كامل في الدنيا شيخنا؟
الدكتور راتب :
 لأنها دار ابتلاء.
المذيع:
 لكن لا قيمة لها.
الدكتور راتب :

(( ولو كانت الدنيا تَعْدِلُ عند الله جَناح بعوضة ما سَقَى كافراً منها شَربة ماء ))

[ مسلم وأبو داود عن جابر بن عبد الله ]

المذيع:
 فلذلك لم يكن عدله مطلقاً فيها كي يكون هنالك فرصة اختيار بين الصواب والخطأ، وبالتالي الظلم والتقصير، حتى يحاسبوا بعدل.
الدكتور راتب :
 ولأن الله فرد جعل عباده أفراداً، وكل فرد له خصائصه.
المذيع:
 هذه نقطة بالغة الأهمية، وهذه نقطة مهمة جداً.
 شيخنا الكريم كنا نتحدث في بداية الحلقة عن ارتباط العدل بمفاهيم أخرى، وتحدثنا أن العدل هو أشمل من المساواة، والمساواة المطلقة مرات يكون فيها ظلم، وضربت مثالاً الابن الذي بالمدرسة والابن الذي بالجامعة، والمساواة بينهما بدخل واحد ظلم، العدل والفضل دكتور، ما هو الفارق بين المفهومين شيخنا؟

 

الفرق بين العدل و الفضل :

الدكتور راتب :
 فكرة دقيقة: إنسان تزوج امرأة، وفي الشهر الخامس من زواجه بها كان حملها في الشهر التاسع، مفهوم، العدل أن يطلقها، أن يفضحها أمام لأهلها، أن يقيم عليها الحكم الشرعي.
المذيع:
 لو طلقها، أو قاضاها هذا يسمى عدلاً، لأنه أخذ حقه منها، وهي أسأت إليه.
الدكتور راتب :
لكن القصة أنا تأثرت بها تأثراً بالغة جداً، جاء لها بولّادة وولدت.
المذيع:
 هذه قصة حقيقية شيخنا.
الدكتور راتب :
 بالشام وقعت، بالسنجقدار، بجامع الورد، جاء لها بولّادة وولدت، حمل المولود تحت عباءته، وقف أمام باب جامع الورد في حي السنجقدار في دمشق، حتى نوى الإمام الفرض، لم يبق أحد، كلهم استقبلوا القبلة، دخل ووضعه وراء الباب والتحق بالمصلين، فلما انتهت الصلاة، بكى هذا الصغير، تحلق المصلون حوله، هو ابتعد، حتى ضمن أن معظم المصلين تحلقوا حول هذا المولود، ثم اقترب، قال: ما القصة؟ خير! قالوا له: لقيط، قال: أنا أكفله لكم، أخذه أمام أهل الحي بأكملهم على أنه لقيط، ورده إلى أمه، فإمام وخطيب هذا المسجد - والقصة أنا أصدقها مليار بالمئة لأنه يوجد معرفة- رأى رسول الله في المنام، قال لك: قل لجارك فلان إنه رفيقي في الجنة.
 رفيقه بالجنة، هو يستطيع أن يطلقها، ويفضحها، ويسحقها بقدمه.
المذيع:
 قلنا: هذا عدل، هذا حقه.
الدكتور راتب :
 الإحسان، الله ماذا قال؟

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ ﴾

[ سورة النحل: 90]

 قدم العدل على الإحسان، بالعدل والإحسان، الإحسان أرقى بكثير، ممكن أن تأتيك إساءة من إنسان تقبلها بصبر، وتقابله بإحسان فيذوب.
المذيع:
 إذاً شيخنا، هذا الرجل العدل وهو حقه أن يفضحها، أو يقاضيها، ولا يعتبر ظالم، وهذا حقه، لكن الإنسان ومرتبة الفضل أنه ستر عليها وردها إلى الله وردّ ابنها إليها، هذا له مكانة الفضل هنا أعلى من العدل.
الدكتور راتب :
 بكثير.
المذيع:
 جميل، إذاً الإنسان يمكن أحياناً يكون له دين على أحد.
الدكتور راتب :
 ذكي جداً، وضعه بمكان، بعدما نوى الإمام، لم يره أحد، وابتعد حتى تحلق الناس حوله، وأخذه أمام أهل الحي كله، هذا أخذ اللقيط وأعطاه لامرأته، هو أعطاه لأمه.
المذيع:
 وكأنها تربي يتيماً وهي أمه الحقيقية، حتى لا يفضحها بين الناس.
الدكتور راتب :
 لأن الله ستير، يحب كل ستير، تخلقوا بأخلاق الله، هو ستير.
المذيع:
 ونعمة بالله رب العالمين.
 شيخنا، أنتقل معك إلى داخل البيوت، كثير من الأولاد والبنات يشعرون بنوع من أنواع عدم العدل بمعاملة الأب والأم.

العدل بين الأولاد :

الدكتور راتب :
 بخلاف الشرع، اعدلوا بين أولادكم في القبل، ما قولك؟ لا تستطيع أن تقبّل الأول دون أن تقبّل الثاني.
المذيع:
 الابن الأول شيخنا تحبه، والثاني؟
الدكتور راتب :

((هذا قَسْمي فيما أملك فلا تَلُمني فيما تَملك ولا أَملك))

[أبو داود والترمذي والنسائي عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها]

 هذا لا أملكه أنا، ابنه الثاني أذكى.
المذيع:
 ما المقصود؟

((هذا قَسْمي فيما أملك))

 شيخنا؟
الدكتور راتب :
 أنا مكلف أن أعطي الاثنين نفس المبالغ.
المذيع:
 أو تقبّل أولادك الاثنين.
الدكتور راتب :
 بالتساوي، بالتساوي التام.
المذيع:
 وإذا لم تفعلها؟
الدكتور راتب :
 عندنا عدل تام، وعدل مطلق، المطلق بالنفس، هذا لا تملكه أنت، هذا كيف النبي غطاه؟ قال:

((هذا قَسْمي فيما أملك. فلا تَلُمني فيما تَملك ولا أَملك))

 يوجد طفل أذكى من الثاني، وودود لأبيه أكثر، فالأب يحب الأول الودود أكثر، أما بالعدل فيجب العدل في المعاملة، كله بالتساوي.
المذيع:
 أي الإحساس بالقلب شيخنا لا نؤاخذ عليه؟
الدكتور راتب :

((هذا قَسْمي فيما أملك فلا تَلُمني فيما تَملك ولا أَملك))

المذيع:
 أما ما يبدر عنا من عطايا، ولو بالقبل فأنت مسؤول أن تساوي بغض النظر عن الإحساس، هذا العدل جميل، هذا شيء مهم جداً، حتى الأب شيخنا لو لم يعدل بين أولاده فهو مسؤول أمام الله.
الدكتور راتب :
 مسؤولية كبيرة جداً.
المذيع:
 حتى لو الأولاد لم يشكوه إلى الله، أي لم يقل الابن حسبي الله في والدي، يمكن الابن يسامح والده.
الدكتور راتب :
 إذا سامحه تخف المسؤولية، إذا شخص ارتكب جريمة، وأهل القتيل عفوا عنه يوجد مسؤولية عامة، لأنه يوجد نائب عام.
المذيع:
 يبقى شيئاً مخيفاً، قوانين العدل أيضاً شيخنا، وحديثنا عن يوم القيامة، و كيف أن الله يعدل سبحانه وتعالى بين الخلق عدلاً كاملاً، لأن الإنسان يمكن ألا يعاقب في الدنيا.

 

كمال الله مطلق و رحمته مطلقة :

الدكتور راتب :
العدل المطلق.
المذيع:
 أي في الدنيا قد لا يأخذ حقه.
الدكتور راتب :
 يأتي قاض بالدنيا يحكم تسعمئة و خمسين حكماً في ثلاثين سنة، وكان مثلاً ستون حكماً منهم خطأ، يسمى عند أهل الأرض: القاضي العادل، وهذا بشر، أما الله فمطلق، لا يمكن أن يكون هناك واحد بالمليار من الظلم، الله مطلق، أي كماله مطلق، عدله مطلق، رحمته مطلقة.
المذيع:
 كيف يستحل الإنسان شيخنا إذا وقع في ظلم لأحد من الآخرين ولم يعدل، أنا مثلاً مرة حكمت بين اثنين، أو إنسان ظلم موظفاً، ولم يعدل في حقه، ودارت الأيام، والآن أشعر بتأنيب ضمير.

ردّ الحقوق لأصحابها :

الدكتور راتب :
 يجب أن أعتذر منه، إن كان العدل بالمال يجب أن أعطي هذا المال بعد موته لأولاده الأيتام.
المذيع:
 يبقى حقاً في رقبتي، هذا الموظف أنا ظلمته، حقه في رقبتي.
الدكتور راتب :
 أنا قال لي موظف: كنت آخذ الرشوة كثيراً، ماذا أفعل؟ أخذت نقوداً من حوالي ألفي شخص، والله حيرني بهذه الفتوى، الله ألهمني هذه الفتوى، قلت له: أنت ملزم بدفع معونات للجمعية الخيرية، فإذا أنت دفعت هذه المبالغ التي جمعتها بشكل دقيق، ودفعتها للجمعيات الخيرية، كأنك أنت قمت بدور الدولة للجمعيات، وأغلب الظن الله يعفو، الجمعية الخيرية تأخد دعماً من الدولة، هي تقوم بإطعام المساكين، والفقراء، والمحتاجين، فإذا أنت أخذت المبالغ من المواطنين خلال عشرين سنة، وقدرتهم مثلاً بمئة ألف، والآن أنت وضعك المادي جيد، ادفع مئة ألف لجمعيات خيرية، كأن المال ردّ إلى الشعب.
المذيع:
 لأنه من الصعب أن يصل لكل الأفراد، أو أن يعرف صاحب المال بشكل مباشر لأن هذا حق له.
الدكتور راتب :
 مرة قال لي أحدهم: دخل شخص لمحلي ببيع الكاتو، دفع لي عشر ليرات وهرب، يبدو أن أحدهم عرفه، فعلمنا أن أكل من أربع سنوات قطعة كاتو و لم يدفع ثمنها، الله ما كلفك أن تفضح نفسك، حوالة من محسن، أخطأت معك منذ وقت بعيد، وأكلت طعاماً من دون أن أدفع ثمنه، هذا هو المبلغ.
المذيع:
 لو كانت هذه الحقوق كثيرة شيخنا، واستيقظ الإنسان متأخراً، مبالغ كثيرة، حقوق نفسية أحياناً.
الدكتور راتب :
 يدفع أكثر ما يستطيع، والله يتولى الباقي إن شاء الله.
المذيع:
 لكن تبقى حقوقاً.

أنواع الحقوق :

الدكتور راتب :
 أبدأ، أهم شيء، أريد أن أقول كلمة دقيقة: يوجد ثلاثة حقوق ، حق نحو الله، مغفرته سهلة جداً، وحق مع العباد، وحق آخر مع الشرك، المشرك لا يغفر له، الذي له واجبات تجاه العباد، الأداء أو المسامحة، والله الصلحة بلمحة، إذا كان الحق مع الله فهذه سهلة جداً، الحق مع البشر أداء أو مسامحة، الحق بالشرك لا يوجد مغفرة.

المذيع:
 طبعاً هذا إذا مات على شركه، أما إذا كان مشركاً ثم أسلم فإسلامه يجب كل هذا الشرك.
الدكتور راتب :
 أبداً، أعوذ بالله.

(( إذا رجع العبد إلى الله نادى منادِ في السماوات والأرض أن هنئوا فلاناً فقد اصطلح مع الله ))

المذيع:
 عكس العدل شيخنا هو الظلم، المظلوم له مكانة عجيبة بالقرب من الله.

(( وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ))

[الطبراني عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه]

 أقسم الله عز وجل لدعوة المظلوم.

 

المضطر و المظلوم دعوتهما لا ترد :

الدكتور راتب :

((اتَّقِ دعوةَ المَظْلومِ، فإنَّهَا لَيْسَ بَيْنَهَا، وَبَينَ اللهِ حِجَابٌ))

[الترمذي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما]

 والمضطر.
المذيع:
 أي مظلوم شيخنا؟
الدكتور راتب :
 طبعاً أي مظلوم.
المذيع:
 ولو كان كافراً أو مشركاً؟
الدكتور راتب :
 لا علاقة للدين بذلك. إن الله ينصر الأمة الكافرة العادلة.
المذيع:
 المعيار أي إنسان مضطهد، مضطر، مظلوم، هو قريب من الله.
الدكتور راتب :
 يوجد شخص ثان، ليس المظلوم، المضطر، هو ليس مستقيماً، لكنه اضطر لمبلغ من أجل ليعالج ابنه، لإجراء لعملية جراحية، يا رب لا يوجد غيرك.

﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ﴾

[ سورة النمل: 62 ]

 المظلوم والمضطر.
المذيع:
 لماذا لهم هذه المكانة القريبة جداً من الخالق شيخنا؟
الدكتور راتب :
 لأن الله عادل، أقول لك كلمة أدق من هذه؟ الله له اسم أعظم، اختلفوا حوله، بعضهم قال: الله، بعضهم قال: الرحمن، يوجد رأي ثالث أنا أتبناه، الفقير؛ اسم الله الأعظم له المغني، والمظلوم اسم الله الأعظم العدل، والفقير؛ المغني، والمظلوم؛ العدل، والخائف؛ الأمن، الله عنده الأمان، فأنت لك اسم من أسماء الله يناسبك، المظلوم عدله، خائف أمنه، ضعيف قوته.
المذيع:
 سبحان الله! ما هو أجر من يحاول أن ينشر العدل بين الناس؟

 

السكينة و السعادة جزاء من ينشر العدل بين الناس :

الدكتور راتب :
 يا سيدي، يوجد طبيب عندي بالجامع بالشام، طبيب معه بورد، متفوق جداً، ماذا يفعل؟ يأتي إلى المستشفيات الوطنية التي لا يوجد فيها اهتمام إطلاقاً، يبقى المريض أسبوعاً و لا يوجد أحد يعالجه، فهذا الطبيب يقوم بمعالجة هذا المريض وكأنه درجة أولى، المرنان، والتصوير الطبقي المحوري، قال لي: أشعر و كأني أسعد إنسان بالأرض، لأن هذا الشخص ليس له أحد إلا الله.
 يوجد أبواب لله عز وجل عجيبة جداً، طبيب متفوق، يعمل في مستشفى وطني حكومي، حيث يوجد إهمال يفوق حدّ الخيال، يأتي للإنسان الفقير الذي لا يملك شيئاً، يعالجه، إن احتاج إلى مرنان، أو صورة شعاعية، يقوم بهذا وهكذا.
المذيع:
 المسؤول والعدل شيخنا.

((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسؤْولٌ عن رَعِيَّتِهِ))

[متفق عليه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما]

 هل الحاكم في بلد معين هو المسؤول عن حوائج كل فرد موجود في بلدته؟

 

كل راع مسؤول عن رعيته :

الدكتور راتب :
 أبداً، والله لو تعثرت بغلة في العراق، لحاسبني الله عنها، لِمَ لم تصلح لها الطريق يا عمر؟
 والله شيء يخيف.

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾

[ سورة الحجر:92-93]

 الله كبير، والله عنده أمراض، عنده أمراض تشعر الإنسان أنه يموت كل يوم مئة ميتة.
 أعرف شخصاً كان ظالماً، الله أصابه بمرضين، دواء هذا المرض يزيد هذا المرض، ودواء هذا المرض يزيد هذا المرض.
المذيع:
 هذا من عقاب الله عليه شيخنا دون أن يخصص لإنسان معين؟
 والعياذ بالله، إذاً العدل قضية خطيرة، ومن يسير في الظلم شيخنا متعمداً؟ من وقع في الظلم شيخنا دون قصد؟

 

لكل ظالم فرصة يستطيع من خلالها أن يكفر عن ظلمه بأساليب عدة :

الدكتور راتب :
 مغفور له، سيدي الظالم يستطيع أن يكفر عن ظلمه بأساليب عديدة، إما أن يتصدق، إذا ما عرف من هو المظلوم، يبيع بيعة فيه غلط مثلاً، لا يعرف من اشتراها، يتصدق، بالصدقة يسترضى الله عز وجل.
المذيع:
 لو أراد شيخنا أن يحق الحق لكن يتسبب الحق بأذيته هو؟

إحقاق الحق دون الإصابة بأي أذى :

الدكتور راتب :
 ليس مكلفاً بالأذى.
المذيع:
 أنا مثلاً عملت حادثاً، وتمت عقوبة إنسان آخر، اشتبهوا به خطأ، إن ذهبت و تكلمت سأسجن أنا، لأنني أنا من عمل هذا الحادث.
الدكتور راتب :
 لا، ابعث رسالة بمبلغ لمن حكموا عليه هدية منك، و قل هذا الشخص لا علاقة له، هذه مني، ادفع له مبلغاً.
المذيع:
 مثلاً لو كان فيها مسؤولية قانونية وسجن يفترض أنا أتحمل المسؤولية.
الدكتور راتب :
 هو عليه أن يعلن عن نفسه.
المذيع:
 لو سمح أن يسجن مظلوم.
الدكتور راتب :
 أعوذ بالله لا يقدر.
المذيع:
 هنا أصبح هو شريكاً في الظلم.
الدكتور راتب :
 والله أعرف شخصاً ضرب سيارة أحدهم بالليل، خاف، أعرفه ورعاً جداً، فكتب رسالة أنني أنا بالخطأ ضربت سيارتك وهذا رقمي، هو ضربها ضربة والخطأ ليس منه، لأن الرفراف كان لامعاً جداً، فدفع لصاحب السيارة مبلغاً و لكن صاحب السيارة أعاده له.
 شخص تزوج من امرأة، دون أن تعلم زوجته الأولى، مات، الزوجة الأولى أرسلت للثانية حقها من النفقة، هو لم يقل لها، لكن كانت ذكية جداً فلم تبلغه أنها تعرف، فعندما توفي بعثت للزوجة الثانية الصداق الخاص بها، فقالت لها الزوجة الثانية: والله أنا مطلقة، لا يوجد لي عندكم شيء، مجتمع الإسلام مجتمع كبير جداً.

المذيع:

أعاننا الله على العدل، وجنبنا الظلم، نختم حلقتنا بالدعاء.


الدعاء :


الدكتور راتب :

اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحةً لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم لا تؤمنا مكرك، ولا تهتك عنا سترك، ولا تنسنا ذكرك، أعطنا ولا تحرمنا، أكرمنا ولا تهنا، آثرنا ولا تؤثر علينا، أرضنا وارضَ عنا، اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخياً رخياً وسائر بلاد المسلمين، واحقن دماء المسلمين في كل مكان، واحقن دماءهم في الشام، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم.


خاتمة و توديع :


المذيع:

الحمد لله رب العالمين، بارك الله بكم فضيلة العلّامة الأستاذ الدكتور محمد راتب النابلسي، مستمعينا إلى هنا نصل معكم إلى ختام حلقتنا، كان " العدل " عنوانها، جعله الله نوراً لنا ولكم في حياتنا.

سبحانك الله وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور