وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 82 - سورة البقرة - تفسير الآيتان 253-254، تفضيل الرسل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

من رحمة الله عز وجل أنه أرسل رُسلاً مبشرين ومنذرين :

 أيها الأخوة المؤمنون.. مع الدرس الثاني والثمانين من دروس سورة البقرة، ومع الآية الثالثة والخمسين بعد المئتين، وهي قوله تعالى:

﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾

 أولاً: بسبب رحمة الله عز وجل، وأن الله خلق الإنسـان لسـعادة أبدية، وأن الله جعل الكون مظهراً لأسمائه الحسنى وصفاته الفُضلى، وأن الله أودع في الإنسان العقل كأداة لمعرفة الله عز وجل، وأنه فطره فطرةً سليمة تكشف خطأه، ومنحه حرية الاختيار، وأودع فيه الشهوات ليرقى بها إلى رب الأرض والسماوات، فضلاً عن كل ذلك؛ فضلاً عن الكون، وعن العقل، والفطرة، والشهوة، والاختيار، أرسل رُسلاً مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق، فهؤلاء الرسل قِمَم البشرية، هم في أعلى مستوى؛ من المعرفة، والحُب، والانضباط، والبذل، والعطاء، دعوة هؤلاء الرسل واحدة.

 

فحوى دعوة الأنبياء واحدة لكن مقاماتهم متفاوتة :

 قال تعالى:

﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الأنبياء:25 ]

 دعوتهم واحدة، فحوى دعوتهم واحدة:

 

﴿ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ ﴾

[ سورة البقرة: 285 ]

 لكن مقاماتهم متفاوتة، لذلك قال علماء البلاغة: ( تلك ) تعلمون أن اسم الإشارة الذي يستخدم لمخاطبة المفرد الذكر ( ذا )، والذي يستخدم لمخاطبة الأنثى:(تي)، في هذان، وهذين، وهؤلاء، وتي، وتان، وتيْن، وأولاء، إلا أن اللام تفيد البُعد، وقد تفيد العلو، فلماذا أشير إلى هؤلاء الرسل بضمير المُفرد؟ قال علماء البلاغة: لأن دعوتهم واحدة، ما قال الله عز وجل: هؤلاء الرسل، قال:

 

﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ ﴾

 وقد فُضِّل التأنيث مراعاةً للجمع، كل جمعٍ مؤنث، فكأن الله أراد أن يقول: هؤلاء الرسل يصدرون من مشكاةٍ واحدة، ويبلِّغون رسالةً واحدة، إذاً هم على كثرتهم كواحد..

 

﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ ﴾

 واللام بدل البُعد هي للعلو..

 

﴿ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

 هنا محل الإشارة إلى أن هناك تفضيلاً.

 

الفرق بين التفضيل والمحاباة :

 هناك تفضيلٌ وهناك مُحاباةٌ، والفرق بين التفضيل والمحاباة، فمثلاً: إنسان عنده قارب أو يخت، ولهذا اليخت قائدٌ ماهر، لو أن ابنه الصغير والبحر هادئ، قال له: يا أبتِ دعني أقود هذا اليخت، أعطاه إياه، أعطاه إيّاه محاباةً، لأنه ابنه، ولأنه يحبه، ولكن لو هبَّت عاصفةٌ هوجاء، لمَن يعطي القيادة؟ للربان الخبير، حينما تعطى قيادة اليخت لربان خبير فهذا تفضيل بسبب حكمة بالغة، أما حينما يطلب منه ابنه أن يقود اليخت، هذه محاباة لحب الأب تجاه ابنه، فأنت حينما تؤثر شيئاً تعطيه ميزةً بدافع الحب والهوى فهذه محاباة، أما حينما تفضل إنساناً بميزة بدافع الحكمة فهذا تفضيل، إذاً: قد يفضَّل رسولٌ على رسول بسبب الحكمة، حكمة الله عز وجل، فـ..

﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

 لكن التفضيل كما يقول علماء العقيدة لا يقتضي الأفضلية، سيدنا موسى كلمه الله تكليماً:

﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ﴾

[ سورة النساء: 164]

 هل معنى أن الله كلم موسى تكليماً أنه أفضل من سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؟ الجواب: لا، التفضيل لا يقتضي الأفضلية، فلو إنسان أرسل ابنه إلى بلد بعيد، أعطاه مبلغاً من المال كبيراً يعينه على نفقات السفر، وابنه الذي في البيت لم يعطه هذا المبلغ، هل معنى ذلك أن هذا الذي أعطاه مبلغاً كبيراً أفضل من ابنه المقيم معه؟ لا، التفضيل لا يقتضي الأفضلية، ولكن هناك حكمةٌ بالغة اقتضت أن يفضل هذا الرسول على هذا الرسول.

 

كل نبي يكون مفضولاً تارة ومفَضَّلاً تارة أخرى والأفضلية لا تقتضي التفضيل :

 قال تعالى:

﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

 أما كلمة: بعضهم على بعض، لها معنى دقيقٌ جداً، ذلك أن هؤلاء الذين فضَّل الله بعضهم على بعض، أي أن بعض هؤلاء الرسل فضّلوا، وبعض هؤلاء الرسل مفضولون، في موقع آخر الذي كان مفضولاً صار مفَضَّلاً، معنى ذلك أن هذه العبارة في القرآن الكريم تعني أن واحداً من هؤلاء الرسل يكون مفضولاً تارةً، ومفضَّلاً تارةً أخرى.
 في حياتنا اليومية، أب عنده ابن في الشهادة الثانوية، هو بحاجة ماسة إلى أستاذ رياضيات، هذا الأب يأتي إلى بيت هذا الأستاذ ويطلب منه أن يعطي ابنه بعض الدروس، ويسأله: هل ينجح ابني؟ فالأب بحاجة إلى هذا الأستاذ، هذا الأستاذ لو أنه مرض، يأتي إلى الطبيب، والد هذا التلميذ، ويقف أمامه وقفة متأدِّبة، يا ترى الذي أشعر به بحاجة إلى عملية أم يعالج بالحبوب؟ كما أن الأب الطبيب وقف أمام أستاذ الرياضيات متأدباً وسأله: يا ترى ابني هل ينجح؟ فكل واحد منهما مفضَّل تارة ومفضول تارةً أخرى، إذاً سخَّر بعضهم لبعض، فضَّلنا بعضهم على بعض، هذه العبارة في القرآن، تعني أن الواحد يكون مفضلاً ومفضولاً في وقتٍ واحد، فـ..

 

﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾

 بعض هؤلاء كان مَلِكاً:

 

﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) ﴾

[ سورة ص: 35 ]

 بعض هؤلاء أوتي فهم لغة الطير كسيدنا سليمان، النبي عليه الصلاة والسلام كان فقيراً، فكل نبي له ظروفه، نبي أحيا الموتى بإذن الله، نبي شق البحر بإذن الله، نبي جاء بالقرآن الكريم بإذن الله، فكل نبي يكون مفضولاً تارة ومفَضَّلاً تارة أخرى، والأفضلية لا تقتضي التفضيل.

 

سيدنا موسى كليم الله :

 قال تعالى:

﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ﴾

 سيدنا موسى كليم الله:

 

﴿ إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوىً *اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى﴾

[ سورة النازعات: 16-17 ]

 إلى آخر الآيات، في آية أخرى:

 

﴿ إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي*إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَ*فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى*وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى﴾

[ سورة طه: 14-17 ]

الأفضلية التي اختص بها سيدنا موسى عليه السلام :

 خالق السماوات والأرض يكلِّمه قال:

﴿ قَالَ هِيَ عَصَايَ﴾

[ سورة طه: 18 ]

 يريد أن يطيل الحديث:

 

﴿ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي﴾

[ سورة طه: 18 ]

 ثم استحيا فقال:

 

﴿ وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى﴾

[ سورة طه: 18 ]

 كان يتمنَّى أن يقول الله له: يا موسى ما هذه المآرب الأخرى ليطيل الحديث، على كلٍ هذا النبي الكريم كلمه الله تكليماً، وهذه أفضلية اختص بها سيدنا موسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.
 ذات مرة النبي عليه الصلاة والسلام أتى بيت أحد أصحابه وهو أُبَيِّ بن كعب، وقال له: إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البيِّنة ـ نبي عظيم سيد الخلق وحبيب الحق، يطرق باب أحد أصحابه ويقول له: " إن الله أمرني أن أقرأ عليك سورة البينة "ـ فقال هذا الصحابي الجليل: أو سمَّاني الله عز وجل؟ قال: نعم.

 

[ الدر المنثور في التفسير المأثور]

 فبكى بكاءً شديداً، أن الله عز وجل يسمي أُبَيّ بن كعب، خالق السماوات والأرض، هذه أفضلية ما بعدها أفضلية.

 

 

الله تعالى لم يخاطب الكفار إطلاقاً إلا في آية واحدة لأنهم ليسوا أهلاً لذلك :

 الله عز وجل خاطب النبي الكريم قال:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾

[ سورة الأحزاب: 59 ]

﴿ يَا أَيُّهَا الرسول ﴾

[ سورة المائدة: 67 ]

 ولم يقل له: يا محمد في كل القرآن الكريم، قال: يا يحيا، وقال: يا زكريا، وقال: يا عيسى، ولم يقل: يا محمد، قال:

﴿ يَا أَيُّهَا الرسول ﴾

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ ﴾

 ثم إن الله عز وجل لم يخاطب الكفار إطلاقاً، لأنهم عطَّلوا عقولهم، واتبعوا شهواتهم، ليسوا أهلاً أن يخاطبهم الله عز وجل، لا تجد في القرآن الكريم كلِّه آيةً واحدة يخاطب بها الكفار إلا واحدة يوم القيامة:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ ﴾

[ سورة التحريم 7 ]

﴿ تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ﴾

 البيّنات أي الدلائل التي تؤكِّد أنه رسول الله، أبرأ الأكمه والأبرص، وأحيى الموتى بإذن الله.

 

الإسلام دين وسطيّ :

 أما علماء التفسير قالوا:

﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾

 هذه تعني رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه في أعلى الدرجات..

 

﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾

 فرضاً أب عنده ثلاثة أولاد، قال لواحدٍ منهم: سأهديك قلماً، وقال لواحد منهم: سأهديك ساعةً، ثم قال: وبعضكم سأهديه هديةً ثمينةً جداً، فمَن هو هذا البعض؟ هو الثالث، فكأن الله عز وجل يقول:

 

﴿ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾

 أي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما لماذا جاء رسول الله بين سيدنا موسى وسيدنا عيسى؟ فهذا الترتيب ليس ترتيباً زمنياً، هو الحقيقة سيدنا موسى، فسيدنا عيسى، فسيدنا محمد، هنا الترتيب ترتيب رُتَبِي، فدعوة النبي متوسطة، بين البُعد عن الدنيا كما عند المَسيحية، وبين المادية الساحقة كما عند اليهودية، الإسلام دين وسطيّ، دين يجمع بين الدنيا والآخرة، وبين المادة والروح، وبين القيم والحاجات، وبين المثل والشهوات، دين الفطرة، دين الواقع، فكأن الله عز وجل جعل من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الرسالة الخاتمة المتوازنة التي تجمع الأطراف كلها وهي في الوسط..

 

﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ﴾

 أي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

الاختلاف أنواع :

 قال تعالى:

﴿ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ ﴾

 هنا، أتباع هؤلاء الأنبياء ألم يقتتلوا؟ ألم يذبح بعضهم بعضاً؟ ألم يعتدي بعضهم على بعض؟ الشيء العجيب أن هؤلاء الأنبياء العظام هم كلُّهم من عند الله عز وجل، الأصل واحد، رُسُل الله، والله خالق السماوات والأرض، هل يعقل أن يقتتل أتباعهم؟ هذا هو الجهل، فقد كنت أقول سابقاً: هناك اختلاف طبيعي اختلاف نقص المعلومات، كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، أما حينما جاء الحق وزهق الباطل، وجاء وحي السماء، وأُنزلت الكُتُب، وبعثت الرسل، الأمر واضح جداً، فلماذا يختلفون؟ قال: الاختلاف الأول اختلافٌ طبيعي، اختلاف نقص المعلومات، وعلاجه أن يأتي الحق صريحاً، أما الاختلاف الثاني: اختلاف قذر، هو اختلاف الأهواء، والشهوات، والرئاسات:

 

﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾

[ سورة آل عمران: 19 ]

 فقد نختلف لنقص المعلومات، هذا اختلاف طبيعي، وقد نختلف والحق واضح، وكل شيء مُبَيَّن، هذا اختلاف قذر، هذا اختلاف التنازع، اختلاف الحظوظ، اختلاف الشهوات، اختلاف الأهواء، نعوذ بالله من هذا الاختلاف، ألا ترى إلى المسلمين؛ إلههم واحد، ونبيهم واحد، وكتابهم واحد، وسنَّتهم واحدة، ألم يقتتلوا؟ أليس كلُّ فريقٍ يطعن بالفريق الآخر؟ الخلافات بين جماعات المسلمين خلافات عميقة جداً، وهم جميعاً يرجعون إلى إلهٍ واحدٍ، وكتاب واحد، ونبي واحد، إذاً هذا اختلاف الأهواء، الحق الواضح إذا كان معه اختلاف، اختلاف الأهواء، والحظوظ، اختلافٌ على الدنيا، ألم يقتتل هؤلاء الذين انتصروا في شرق آسيا على أعتى دولة في العالم؟ انتصروا عليها، فلما حققوا النصر اختلفوا على الدنيا، هم يقتتلون من عشرين عاماً، أليس اقتتالهم وصمة عارٍ بحق المسلمين؟ هؤلاء يقتتلون على الدنيا، كيف يكون في مكانةٍ عليةٍ عند الله وهم يقتتلون على الدنيا، ويسفكون دماءهم حراماً فيما بينهم؟ هناك اختلافٌ طبيعيٌّ، وهناك اختلافٌ قذرٌ، وهناك اختلاف تنافس، هذا الاختلاف ورد في القرآن الكريم، اختلاف التنافس:

 

﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسْ الْمُتَنَافِسُون ﴾

[ سورة المطففين: 26 ]

 و

 

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ﴾

[ سورة الصافات: 61]

الدنيا دار ابتلاء وامتحان :

 قال تعالى:

﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾

 جاءتهم البينات واقتتلوا، معناها تنازع مصالح، اختلافهم ليس اختلاف عقيدة، ولا اختلاف اجتهاد، بل اختلاف مصالح، اختلاف مكاسب، اختلاف شهوات..

 

﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا ﴾

 اختلفوا على الدنيا فاقتتلوا، والدنيا امتحان:

 

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾

[ سورة العنكبوت: 2 ]

 الدنيا دار ابتلاء، دار امتحان، تُمْتَحَن، إن كنت قوياً تمتحن، هل تسخر القوة في الحق أم في الباطل؟ وإن كنت ضعيفاً تمتحن، وإن كنت غنياً تمتحن، وإن كنت فقيراً تمتحن، وإن كنت صحيحاً تمتحن، فالدنيا دار ابتلاء.

 

لا بدّ من فرز للمؤمنين عن طريق ابتلاءٍ يسوقه الله لعباده :

 قال تعالى:

﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ ﴾

 ما معنى هذه الآية؟ إذا اقتتل المؤمنون فيما بينهم لا بد من أن يكون بعضهم على حق وبعضهم على غير الحق، لأن الحق لا يتعدد، المعركة بين حقَّين لا تكون لأن الحق لا يتعدد، وبين حق وباطل لا تطول لأن الله مع الحق، وبين باطلين لا تنتهي، هنا يقول الله عز وجل:

 

﴿ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا ﴾

 ما داموا قد اقتتلوا وقد جاءتهم البينات..

 

﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾

 أي:

 

﴿ مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ﴾

[ سورة آل عمران: 179 ]

 لا بد من فرزٍ دقيق للمؤمنين، هناك مَن يدَّعي الإيمان وهو منافق، هناك مَن يدَّعي الإيمان وهو كافر، فلا بد من فرز للمؤمنين عن طريق ابتلاءٍ يسوقه الله لعباده..

 

﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾

 لكن شاء أن يقتتلوا لأن الدنيا دار ابتلاء، ولأن الدنيا دار امتحان، ولأن المال يفتن، ولأن المكاسب تفتن، ولأن الرئاسة تفتن..

 

﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾

 نحن أراد الله أن نكون في دار ابتلاء، أراد الله أن نمتحن.

 

الإسلام وسط بين انحراف دعوتين :

 أيها الأخوة... هذه الآية تبيِّن أن الأنبياء دعوتهم واحدة، ومقاماتهم مختلفة، وكل نبيِّ فضَّله الله لحكمةٍ بالغة، وبينت لكم الفرق بين التفضيل والمحاباة، ثم إن هؤلاء الأنبياء مقاماتهم مختلفة بما فضلوا، ولكن التفضيل أحياناً لا يقتضي الأفضلية، فقد يكون نبيٌّ مفضلاً في موقع ومفضولاً في موقع آخر، وجاءت دعوة النبي عليه الصلاة والسلام الدعوة الخاتمة، لذلك جاءت وسطيّة، بين المادية المَقيتة، وبين الروحانية الحالمة، بين دعوة السيد المسيح، وبين دعوة سيدنا موسى عليه السلام، طبعاً أتباع هذين النبيين حرَّفوا وبدَّلوا وغيروا، فكانت دعوة السيد المسيح دعوةً تميل إلى الصفاء والزهد في الدنيا، بينما جاء أتباع سيدنا موسى فجعلوا المادية دينهم، فجاء الإسلام كمنهجٍ وسطيِّ بين هذين التطرُّفين الذين نتجا لا من أصل دعوة النبيين الكريمين، بل من أتباع هذين النبيين الكريمين، يجب أن نفرِّق بين الإسلام والمسلمين، وبين دعوة السيد المسيح وبين واقع المسيحية اليوم، وبين دعوة سيدنا موسى وواقع اليهودية اليوم، جاء الإسلام ليكون وسطاً بين انحراف دعوتين، فقال تعالى:

﴿ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ﴾

 المعجزات الدالة على رسالته ونبوّته..

 

﴿وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ﴾

 بينت لكم أن هناك اختلاف طبيعي أساسه نقص المعلومات، وهناك اختلافٌ قذر أساسه الشهوات والمصالح والأهواء والمكاسب، وهناك اختلاف التنافس، هذا اختلاف محمود:

 

﴿ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا ﴾

 لأن طبيعة الحياة الدنيا طبيعة ابتلاء..

 

﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾

الإنسان مخلوق في الدنيا من أجل المعرفة والعمل :

 ثم يقول الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا ﴾

 أي أنتم في الدنيا من أجل العمل الصالح، واحد ذهب إلى بلد غربي لينال دكتوراه، هناك مليون خيار أمامه؛ قد يمضي وقتاً في المسرح، وقد يمضي وقتاً في الحديقة، وقد يمضي وقتاً في دار سينما، وقد يمضي وقتاً في التسلق على الجبال، وقد يمضي وقتاً في المطالعة، مطالعة القصص الهابطة، هو جاء لمهمة واحدة، أن ينال الدكتوراه بهذا البلد، فقط.
 أنتم في الدنيا من أجل شيء واحد، من أجل عمل صالح يكون ثمناً لجنة عرضها السماوات والأرض، أدق كلامٍ وأوضحه وأوجزه؛ نحن في الدنيا من أجل أن نعرف الله، وأن نستقيم على أمره، وأن نعمل عملاً صالحاً يكون ثمناً لجنة عرضها السماوات والأرض، مهمتنا الأولى المعرفة والعمل، أي بيت سكنت؟ ما مساحة هذا البيت؟ ما نوع فرش هذا البيت؟ أي مركبة تركب؟ أي دخل لك؟ أين ذهبت؟ أين سافرت؟ أين أمضيت الإجازة؟ هذا كله لا وزن له في الآخرة:

 

﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾

[ سورة الأنعام: 44 ]

 خذ مِن الدنيا ما شئت وخذ بقدرها هماً، مَن أخذ مِن الدنيا فوق ما يكفيه أخذ من حتفه وهو لا يشعر، الحقيقة لذلك لأنك مخلوق في الدنيا من أجل معرفة الله، ومن أجل العمل الصالح الذي هو ثمن الجنة، جاء قوله تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا ﴾

 الناس جميعاً يأخذون والمؤمنون ينفقون، الطبع البشري أن تأخذ، أن تجمع الأموال، أن تكدِّسها بعضها فوق بعض، الطبع البشري أن تستخدم جهد الآخرين، الطبع البشري أن تعلو على الآخرين، التكليف أن تعطي لا أن تأخذ، أن تبذل جهداً للناس لا أن تعلو على جُهدهم، الطبع البشري أن يعيش الناس لك، بينما التكليف أن تعيش للناس، حينما تؤمن بالآخرة تنعكس الموازين مئة وثمانين درجة، ذكاؤك وعقلك يقتضيان أن تنفق المال، من دون إيمان باليوم الآخر ذكاؤك وعقلك يقتضي أن تجمع المال، أن تعيش فقيراً لتموت غنياً.

 

الآية التالية شاملة شمولاً عجيباً :

 قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾

هذه الآية شاملة شمولاً عجيباً، تشمل كل شيء، أوتيت خبرةً في شيء، أنفق خبرتك، أنفق علمك، أنفق جاهك، أنفق مالَك، أنفق وقتك، أنفق عضلاتك..

 

﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾

 لا أحد يشفع لك:

 

﴿ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ﴾

[ سورة الزمر: 19]

﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ*وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ* ﴾

[ سورة عبس: 34-36 ]

﴿ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ*كَلَّا﴾

[ سورة المعارج: 14-15 ]

العمل الصالح محصورٌ في الدنيا أما بعد الموت فقد بدأ الحساب الدقيق :

 أيها الأخوة..

﴿ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ﴾

 حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، ما الشيء الذي تقدمه أمامك ليوم اللقاء مع الله عزَّ وجل؟ ماذا قدمت؟ هل قدمت جهداً؟ هل قدمت علماً؟ هل قدمت خبرةً؟ هل قدمت مالاً؟ هل قدمت دعوةً؟ هل قدمت تربيةً؟ ماذا قدمت؟ إن لم تقدِّم شيئاً فهذا هو الخاسر الأكبر، مَن لم يقدم شيئاً هو الخاسر الأكبر..

 

﴿ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ ﴾

 يوم القيامة ليس ثمة مال تنفقه، ولا مريض تعالجه، ولا فقير تطعمه، ولا جائع تطعمه، ولا فقير تعطيه من مالك، وليس هناك مجالٌ لعملٍ صالحٍ أبداً، العمل الصالح محصورٌ في الدنيا، في الدنيا وحدها هناك عملٌ صالح، أما بعد الموت فقد انتهت الأعمال الصالحة وبدأ الحساب الدقيق..

 

﴿ لَا بَيْعٌ فِيهِ ﴾

 الإنسان في الدنيا يبيع بيتاً وينفق ماله في سبيل الله، وقد يبيع نفسه لله، أما بيع في الآخرة فليس هناك.

 

نحن في دار عمل وغداً دار الجزاء :

 قال تعالى:

﴿ وَلَا خُلَّةٌ ﴾

 أصحاب، علاقات، في الدنيا شبكة علاقات، يقول لك: فلان صاحبي، وفلان صاحبي، له دعائم، له مرتكزات، هذه العلاقات ليست موجودة في الآخرة:

 

﴿وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾

[ سورة الأنعام: 94 ]

﴿ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾

 لا أحد يشفع لك، بل إن شفاعة النبي عليه الصلاة والسلام محدودةٌ لمَن مات غير مشرك، مثل إذا قلنا مثلاً: بلد فيها عشرون مليوناً، هناك ميزة يأخذها أصحاب مَن يحمل دكتوراه، هؤلاء قلائل جداً، من مات غير مشرك، مات على التوحيد، هذا مقام عالٍ جداً لأن الله عزَّ وجل يقول:

 

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴾

[ سورة يوسف: 106]

 إذا ضمنت لي أن تموت غير مشرك فأنت في أعلى درجة من الإيمان، فلو دخلت امتحان، عندك عشر مواد، نجحت في التسعة بامتياز وهناك مادة ينقصك فيها علامتان، النبي يشفع لك، أما كلها أصفار، امتحان ما قدم ولكنه يقول: اشفعوا لنا.
 يا فاطمة بنت محمد، يا عباس عم رسول الله أنقذا نفسيكما من النار، أنا لا أغني عنكما من الله شيئاً، لا يأتيني الناس بأعمالهم وتأتوني بأنسابكم، من يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾

 نحن في دار عمل وغداً دار الجزاء، نحن في دار تكليف وغداً دار التشريف، نحن في دارٍ نفعل ما نشاء، ولكن هناك دارٌ بعد حين تحاسب عن كل شيءٍ فعلته، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

 

لا يكون عملك مرضياً عند الله إلا إذا كان خالصاً وصواباً :

 أيها الأخوة الكرام.. قد يقول أحد الأخوة: وأنا أصلي لا أشعر بشيء، أقرأ القرآن لا أشعر بشيء، هذا خلل في الإيمان خطير، العلاج:

﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً ﴾

[ سورة الكهف: 110 ]

 أنت حينما تعمل عملاً صالحاً تتألَّق وتقترب من الله عزَّ وجل، فطريق الاتصال بالله، طريق السعادة في الدنيا، طريق أن تذوق طعم القُرب، طريق جنَّة الدنيا العمل الصالح، أن تعمل عملاً صالحاً وفق الكتاب والسنة، وأن يكون هذا العمل خالصاً لوجه الله الكريم. سُئل الفضيل بن عياض عن قوله تعالى:

 

﴿ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ ﴾

[ سورة النمل: 19 ]

 متى يكون العمل مرضياً عند الله؟ فقال كلمتين اثنتين؛ قال: أن يكون صواباً وخالصاً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة، فأي عملٍ وافق السنة، ولم يكن خالصاً فليس هذا العمل مرضياً عند الله، وأي عملٍ كان خالصاً لله ولم يوافق السنة فليس هذا العمل مرضياً عند الله، لا يكون عملك مرضياً عند الله إلا بحالتين، إذا كان هذا العمل خالصاً وصواباً، خالصاً ما ابتغي به وجه الله، وصواباً ما وافق السنة.
 هذه الآية أتمنى على الله عزَّ وجل أن تقع منكم موقعاً عميقاً، هذه الآية وحدها تدعوكم إلى العمل الصالح، تدعوكم إلى بذل العلم، وبذل الجهد، وبذل المال، وبذل الخبرة، وبذل الوقت، الوقت الذي تستهلكه في العمل الصالح هو وقتٌ مستثمَر وليس وقتاً مستهلكاً، بل هو مستثمر، لأن الله عزَّ وجل يقول:

 

﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾

[ سورة العصر: 1-3 ]

المؤمن يغتنم الأعمال الصالحة بينما المُقَصِّر تفوته هذه الأعمال الصالحة :

 الإنسان وهو يعيش حياته الدنيا، ينسى أنه قد يأتي يوم يندم أشد الندم على ساعةٍ مضت لم يذكر الله فيها. مرّ النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه معه بقبرٍ، فقال عليه الصلاة والسلام مما ورد في الأثر: "صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفُّلكم خيرٌ له من كل دنياكم ".
 في الدنيا شركات لها ميزانيات تزيد عن ميزانيات الدول، لو أن كل هذه الشركات لك، لو أن كل أسواق المُدن الكبرى لك، لو أن كل شركات الطيران لك، لو أن كل شركات السيّارات لك، صاحب هذا القبر إلى ركعتين مما تحقرون من تنفلكم خيرٌ له من كل دنياكم.
 يا أيها الأخوة الكرام... يجب أن تسأل نفسك كل يوم: ماذا قدمت للمسلمين؟ ما العمل الذي أرجوه عند الله؟ ما العمل الذي أدَّخره ليوم القيامة؟ لو أن الله سألني: يا عبدي، ماذا فعلت في الدنيا؟ بماذا تجيبه؟ يا ربي سكنت بيتاً فخماً، وأكلت أطيب الطعام، وذهبت إلى أجمل الأماكن، واستمتعت بالدنيا، هل هذا جوابٌ يليق بك؟! ماذا فعلت من أجل المسلمين؟ ليس هناك كذبٌ يوم القيامة:

﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾

[ سورة الصافات: 24 ]

 أي أن حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، وأبواب الخير واسعةٌ جداً، والطرائق إلى الخالق بعدد أنفاس الخلائق، في بيتك عملٌ صالح، وفي عملك عملٌ صالح، وفي الطريق عملٌ صالح، ومع أقربائك عملٌ صالح، والأعمال الصالحة مبذولةٌ أمامكم بشكلٍ غير طبيعي، ولكن المؤمن يغتنمها، بينما المُقَصِّر تفوته هذه الأعمال الصالحة.

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾

 أي أن الموت قد يأتي فجأةً، والقبر صندوق العمل.

 

العمل الصالح سرّ وجودنا وغاية وجودنا :

 قصة أرويها لكم كثيراً، فهي نموذجية، أن بدوياً في شمال جدة له أرض، فلما توسعت هذه المدينة اقتربت من أرضه، نزل ليبيعها، اشتراها منه مكتبٌ خبيث بثمنٍ بخس، بربع قيمتها، وأنشأ بناءً شامخاً يزيد عن عشرة طوابق، وهم شركاءٌ ثلاثة، أول شريك وقع من سطح هذا البناء فنزل ميتاً، فلقي جزاء عمله؛ عمله اغتصاب، واحتيال، وأكل مال الناس بالباطل، والثاني دهسته سيارة، فانتبه الثالث، وبحث عن صاحب هذه الأرض ستة أشهر، حتى عثر عليه، ونقده ثلاثة أضعاف ما دفعه له سابقاً، أي نقده الثمن الطبيعي للأرض، فقال له هذا الأعرابي: ( ترى أنت لحقت حالك ) تدارك خطأه، فهذا كلام دقيق، يجب أن نسعى، إذا فاتت الإنسان أياماً طويلة، سنوات طويلة لم يعمل بها عملاً صالحاً..

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾

 لا يوجد شفيع يشفع لك، ولا صديق يتوسَّط لك، ولا في مجال أن تعمل عملاً صالحاً تُكَفِّر به عما فاتك من أعمال صالحة..

 

﴿ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾

 إذاً أيها الأخوة، هذه الآية تدعونا إلى العمل الصالح، فهو سر وجودنا، وغاية وجودنا، وثمن جنة ربنا، وكل إنسان بإمكانه أن ينفق مما رزقه الله، والإنفاق واسع جداً.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور