وضع داكن
29-03-2024
Logo
تربية الأولاد إصدار 1994 - الدرس : 11 - التربية النفسية -2- عقدة الشعور بالنقص -1
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة والتسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وأرنا الحق حقاً وارزقنا أتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الأخوة الكرام: مع الدرس الحادي عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام.

الشعور بالنقص مرض أساسه توبيخ الأهل الطفل أمام الناس:

 

 بدأنا في الدرس الماضي موضوع التربية النفسيّة، وذكرت وقتها أنّه قد ورد في الأثر: أنّ الإنسان بنيان الله، وملعونٌ من هدم بنيان الله.
 فالأب حينما يتّهم ابنه بأنّه سارق، أو بأنّه كاذب، أو بأنّه شيطان، أو بأنّه محتال، أو بأنّه كسول، هذه الكلمات الكبيرة إذا ألقاها الأب على مسمع ابنه ولاسيّما أمام إخوته، ولاسيّما أمام أصدقائه، أو أمام أقربائه، هذه الكلمات القاسية، هذه التهم الكبيرة، هذا القذع في القول، هذا يسبب مرضاً عند الصغار اسمه الشعور بالنقص، وقد تستمرُّ هذه العقدة، عقدة الشعور بالنقص إلى آخر عمر هذا الإنسان.
 أي أنّ أخطر شيء يصيب الإنسان هي الفترة التي يكون فيها صغيراً، فالتحقير والتوبيخ والسباب والشتائم، وعدم مراعاة أنّ هذا الطفل له إخوة، ضربه وعنّفه ووبّخه واتهمه بتهمٍ كبيرة وحقّره وصغّره، هذا الأب القاسي الذي ينقع غُلّته حينما يرى تقصيراً من ابنه لا يدري أنّه حطّمه وهو لا يشعر.

أسباب الشعور بالنقص:

1 ـ نوع التربية التي يتلقّاها الإنسان حينما كان طفلاً صغيراً:

 فلذلك المرض الثالث من الأمراض النفسيّة التي كثيراً ما يصاب بها الأبناء هو الشعور بالنقص، أوّل مرض قلنا هو: الخجل، والثاني: الخوف، واليوم نتحدّث عن: الشعور بالنقص.
 الشعور بالنقص أحد أكبر أسبابه الآباء والمربّون.. هناك معلِّمون كلماتهم قاسيةٌ جدّاً فأقل كلمةٍ تذكر أمام رفاقه - حمار - توبيخ وتعنيف وتحقير، ولطم، وضرب، وركل، هذا الطفل الذي يتلقّى كلّ هذا يشعر بأنّه تافه وأنّه لا قيمة له، فماذا قال النبيّ عليه الصلاة والسلام قال: الشرف معوان.
 عندما تجعل للإنسان قيمة، وتشعره أنه ذو قيمة، وأنّه ابن عائلةٍ كريمة، وتقول له: والدك كان رجلاً عظيماً، حينما تبثُّ في روع هذا الطفل الصغير أنّه ذو قيمة.. هذا الشعور بأنّه ذو قيمة يردعه عن أن يسقط، ويردعه عن أن يفعل الفواحش، ويردعه عن أن يسرق، أنا أرى أنّ حديث النبيّ عليه الصلاة والسلام حينما قال: الشرف معوان، خير موجّه نحو المكارم والفضائل، فالمربّي الحكيم يستعين على تربية أولاده ببث معنوياتٍ عاليةٍ لهم، ببث الثقة في نفوسهم، باحترامهم، هذا الذي يرفع من قيمة الابن.
 لذلك إذا كذب مرّة سمّاه كذّاباً، وإذا لطم أخاه مرّة سمّاه شريراً، إذا كان أخذ من أخته حاجةً سمّاه محتالاً، وإذا أخذ من جيب أبيه شيئاً سمّاه سارقاً، إذا تقاعس عن تأدية عمل سمّاه كسولاً، مباشرةً يناديه تعالَ يا كسول. الكسول والمحتال والسارق وما إلى ذلك، الآباء الجاهلون يسببون لأولادهم عقداً نفسيّةً وأمراضاً لا يعلمها إلا الله، وهذه العقد والأمراض قد ترافقهم طوال حياتهم، يقول لك: عمري ثمانون سنة وعندي مركّب نقص.. أسبابه نوع التربية التي تلقّاها حينما كان طفلاً صغيراً.

 

2 ـ محاسبة الابن أمام الناس:

 الشيء الثاني: أنَّ هذا الطفل الصغير إذا قمت بتوبيخه على انفراد شيء، وإذا وبَّخته أمام إخوته شيءٌ آخر، إذا وبّخته على انفرادٍ شيء، وإذا وبَّخته أمام أقربائه شيءٌ آخر، إذا وبّخته على انفرادٍ شيء، وإذا وبّخته أمام الجيران شيءٌ آخر، هذا الذي يحطِّمه.. كلّ إنسان له شعور بالأهمّية، كلّ إنسان يحرص على سمعته، على مكانته، على شخصيّته.. فالأب الحكيم لا يحاسب ابنه إلا فيما بينَه و بينَه أي على انفراد.
 فالأب الحكيم يحفظ لابنه كرامته، ومكانته أمام الصغار، فأنت كأب كبير تقول إنّ هؤلاء رفاق ابني كلّهم صغار مثله أعمارهم ست سنوات أو ثمان فإذا غلط غلطة فيضربه ويعنّفه أمامهم.. أتعرف أنّك قد أحدثت جرحاً لا يندمل ؟ ولا في أكثر من خمسٍ وعشرين سنة، قمت بضربه ولطمه أمام رفاقه فليس له قيمة بالمرّة عنده ؟ فكم من أب يفعل هذا، فالتعنيف والضرب والسباب هذا يعدّ عملاً سيّئاً جداً ولكنّ هذا يتضاعف أضعافاً متضاعفة فيما لو فعلته أمام أصدقائه ورفقائه وجيرانه وأقربائه.. هذه هي النقطة الثانية.

 

 

حقوق الأبناء على الآباء هي:

 

1 ـ أن تحسن اختيار أمهم:

  اسمعوا أنّ سيِّدنا عمر جاءه رجل يشكو له عقوق ابنه، فأحضره عمر رضي الله عنه الرجل وابنه ثمّ بدأ يعاتب الابن على عقوقه، فقال الولد: يا أمير المؤمنين.. أليس للولد حقوقٌ على أبيه ؟ قال عمر: بلى. قال: فما هي يا أمير المؤمنين ؟ فقال عمر: أن ينتقي أمّه، وأن يحسن اسمه، وأن يعلِّمه القرآن.
 فقال الولد: يا أمير المؤمنين.. إنّ أبي لم يفعل من ذلك شيئاً، أمّا أُمّي فإنّها زنجيّةٌ كانت لمجوسيّ، وقد سمّاني جُعلاً (أي خُنفساء) ولم يُعِّلمني من الكتاب حرفاً واحداً.
 فالتفت عمر إلى الرجل وقال له: جئت إليّ تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعُقك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.
 أن ينتقي أمّه: أوّل حق من حقوق أولادك عليك.. أن تحسن اختيار أمه، أوّل حق لأولادك قبل أن يروا ضوء الحياة، قبل أن يأتوا إلى الوجود لهم عليك حق، وهو يبدأ قبل أن تتزوّج أمّهم، فحقّهم عليك أن تحسن اختيار أمهم، أن تكون أماً ديِّنة طاهرة، ومن أسرة شريفة، وتربيتها عالية، وصاحبة حياء، حصاناً، رزاناً.

 

2 ـ أن تحسن اختيار اسمه:

 الأمر الثاني أيُّها الأخوة: اختيار الاسم.. أن يكون اسماً راقياً، فالطفل عندما تناديه باسمٍ راقٍ فهذا شيء جميل جداً يعتزُّ به حتى النبيّ عليه الصلاة والسلام إذا سمع اسماً يثير السخرية كان يبدله فوراً، من أنت ؟ أنا فلان، فيقول له: بل أنت فلان، يعطيه اسماً محبّباً. قال للنبي: اسمي زيدُ الخيل. فقال له النبي اللهم صلِّ عليه: بل زيد الخير.
 قال عمر: لقد عققته قبل أن يعقّك، وأسأت إليه قبل أن يسيء إليك.. فالأُبوّة مسؤوليّة.
 ومن طرائف ما ذكر أنَّ أباً عيَّر ولده يوماً بأُمِّه وقال له: أَتُخالفني وأنت ابن أَمة (ابن جارية) !! فقال هذا الابن لأبيه: والله يا أبي إنَّ أُمِّي خيرٌ منك. قال: وكيف ؟! قال: لأنّها أحسنت الاختيار فولدتني من حُر، وأنت أسأت الاختيار فولدتني من أمة.
 هي أحسنت أن تختار وأنت لم تحسن الاختيار، فالحقُّ عليك.

 

 

على الإنسان ألا يحاسب ابنه قبل أن يعلّمه:

 

 أيُّها الأخوة... لا يوجد حل، واسمعوا هذا الكلام الدقيق، فبالطبع الابن قد يسيء، فعندما أذكر بأنّ الأب ليس له حقّ أن يتكلّم كلاما قاسياً، ويوبِّخ، ويُحقِّر، ويضرب أمام إخوة ابنه (أمام أولاده) ولا أمام أقربائه، ولا أمام جيرانه، ليس معنى كلامي هذا أنّه لا توجد إساءة من الابن، فالابن من شأنه أن يسيء، لأنّه حينما ينشأ فهو يحتاج إلى تعليم وإلى تربية، دائماً الآباء غير المتعمقين في أساليب التربية ينتظر ابنه من دون تعليم، من دون توجيه، من دون تثقيف، من دون عناية أن يكون كاملاً مكَمّلاً لا يغلط لا بكلمة ولا بحركة، ولا بإشارة، ولا بعبارة، إذاً فأنّى له أن يتعلّم ؟! فإذا لم تعلّمه أنت، فمن يعلِّمه ؟! فأنا أتمنّى أن الإنسان لا يحاسب ابنه قبل أن يعلّمه، يا بني: هكذا قُل.. هكذا تأكُل.. إذا كنت معي ودعيت إلى الطعام فكل هكذا، بعد ذلك فليحاسبه، لكن الطفل لا يعرف، فهو صفحة بيضاء، فلو طاشت يده في الإناء.
 فالنبيّ أمسك يد الغلام وقال له:

(( يا غلامُ، سَمَّ اللَّه، وكلْ بيمينك، وكلْ مما يلَيك))

[ أخرجه البخاري ومسلم عن عمر بن أبي سلمة]

  وقال صلوات الله عليه: علِّموا ولا تُعنِّفوا، فإنَّ المعلِّم خيرٌ من المُعنِّف.
 قبل أن تبدأ السباب و اللّطم والشتم فلتكن ذا بال طويل، وعلِّمه وقل له: افعل هكذا، يا بني هذه الكلمة لا يجوز أن تقولها، أو ليست جيِّدة فهي كلمة قبيحة ولا تليق بك، وهي كلمة تعني كذا، ومن يتكلّم بهذا الكلام يسقط اعتباره بين الناس، فعلِّم، طبعاً أفضل مثال هو في التربية بالإسلام فيوجد في الإسلام منهجٌ تربويٌ كاملٌ، ولكن على المؤمنين الصادقين أن يُنقّبوا من خلال التراث الإسلامي عن هذا المنهج.

 

العاقل من يربي ابنه تربية تقوم على الخلق الحسن:

 هل من المعقول أن يدخل إنسانٌ على سيِّد الخلق، على حبيب الحق، على سيِّد المربِّين، إمام المعلِّمين، نبيٍ، مرسل، عظيم فيقول له ائذن لي بالزنى. لازم يلطم لطمتين ويطرحوه أرضاً ويسوى بها فما هذا القول ائذن لي بالزنى، فأين نقعد نحن ؟

 

 

(( فتى من قريش أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ائذن لي في الزنا ـ هل تسمّونها وقاحة ؟ فوالله هذه وقاحة، وإن سميتموها تطاولاً فهي كذلك، أو قلّة أدب فهي كذلك ومع من ؟ مع سيّد الخلق، ـ فأقبل القوم عليه وزجروه فقالوا: مه مه، فقال: ' ادنه '، فدنا منه قريباً فقال: ' أتحبه لأمك ؟ ' قال: لا والله جعلني الله فداك قال: ' ولا الناس يحبونه لأمهاتهم ' قال: ' أفتحبه لابنتك ؟ ' قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال: ' ولا الناس يحبونه لبناتهم ' قال: ' أفتحبه لأختك ؟ ' قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال: ' ولا الناس يحبونه لأخواتهم ' قال: ' أتحبه لعمتك ؟ ' قال: لا والله يا رسول جعلني الله فداك قال: ' ولا الناس يحبونه لعماتهم ' قال: ' أتحبه لخالتك ؟ ' قال: لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك قال: ' ولا الناس يحبونه لخالاتهم ' قال: فوضع يده عليه وقال: ' اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وحصن فرجه '. قال: فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء))

 

[ أخرجه أحمد عن أبي أمامة الباهلي]

 فقام من بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس شيءٌ أبغض إليه من الزنى.
 هكذا تكون التربية.. فلو اعترض وقال: يا أبي من خلق الله ؟ فيثور الأب في وجهه ويلطمه كفّين ويقول له: كفرت.
 الله عزَّ وجلَّ خالق، فإذا قلت من خلقه ؟ فلم يعد خالقاً، فتفهّمه بالحسنى أنّه خالق.

 

الطفل لا يقدر لذلك على الإنسان أن يستوعبه:

 

 

 فلو سمع الإنسان سؤالاً كبيراً سؤالاً فيه تطاول، أو سؤالاً وقحاً، فالوقاحة عند الكبير وهو الذي قيَّمها وعدّها وقاحة، أمّا عند الصغير فهي براءة ولم يعرف أن يقيِّمها.
 ألم تسمعوا هذا الذي قال لربِّه من شدّة فرحه: يا ربّي أنا ربُّك وأنت عبدي، فقد قال كلمة الكفر، قال صلّى الله عليه وسلّم: لله أفرح بتوبة عبده من ذلك البدوي بناقته.
 أحياناً الطفل لا يقدّر.. فقد قال لنا أحد قرّاء القرآن أنّ أحد الأشخاص أحبّ أن يتقرَّب منه فقال له: أَحِبُّ الصالحين ولستَ منهم. فانزعج وقال له: قم عنّي، وقبّحك الله. وهذا القائل لم يقصد ذلك أبداً بل قصد أن يتقرّب منك ولكنّه لم يعرف في اللغة فبدلاً من أن يقول: ولستُ منهم - بالضم - قال: ولستَ منهم - بالفتح - ممكن الابن أن يتكلَّم بكلمة لا يقصدها ولا يعنيها، فإذا تلقّـــى على قوله ردّاً عنيفاً جدّاً.

الرد العنيف يقطع خير العلم:

 

 بالمناسبة يوجد تعليم قمعي.. فتوجد إجابة قمعيّة وإجابة تعليميّة علميّة، فإذا كان قد سأل سؤالاً غير معقول أو غير منطقي وأنت عنَّفت وزمجرت، فأنت بذلك قد قطعت خير السؤال، فيخاف أحد أن يسألك بعد ذلك، أمّا إذا كان لديك صدرٌ رحبٌ لأيّ سؤال ولو كان قاسياً و أو كان فيه جهل، وتلقيته بصدر رحب، فممكن أن تشجِع على السؤال بذلك، فيوجد أشخاص إن سُئِل سُؤالاً غير منطقي أو غير معقول فتجد عنده رداً قمعيّاً، رداً عنيفاً جدّاً، مثل هذا الرد العنيف يقطع خير العلم

(( بيناَ أنا أُصلّي مع رسول الله - أعرابي يصلّي مع رسول الله - إذ عطس رجل من القوم، فقلت له: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إلي ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أرجلهم فلمّا رأيتهم يصمِّتونني سكتت، فلمّا انتهى عليه الصلاة والسلام من صلاته دعاني، فبأبي هو وأُمّي ما رأيتُ معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فو الله ما كفرني ولا ضربني ولا شتمني ولكن قال: إنَّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس، إنّما هي التسبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ القرآن.))

[ رواه مسلم عن معاوية بن حكم السلميّ]

  فقال له أثناء الصلاة يرحمكم الله فهو لا يعرف، فقد سمع عن تشميت العاطس فشمّته أثناء الصلاة.

 

((.فقلت له: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقد زُوِر زَورة من الصحابة، فقلت: واثكلَ أُماه - أي الله يعينني على ذلك - ما شأنكم تنظرون إلي - أي لماذا تتكلّمون وتنظرون إليّ أثناء الصلاة ))

  هناك طرفة: كان أحدهم يصلّي فمرّت من أمامه قطّة فقال لها: بِس. فقال له الذي يصلّي بجواره: لمَ تتكلّم وأنت بالصلاة ؟ فهو أيضاً قد تكلّم.

 

 

(( وجعلوا يضربون بأيديهم على أرجلهم ـ أي اسكت ـ فأوّلاً قال له: يرحمك الله.. فنظروا إليه بشكل حاد. فقال لهم: ما شأنكم تنظرون إليّ ؟ فجعلوا يضربون على أرجلهم أي أن اسكت فهذه صلاة ))

  وبعدما فرغ الرسول صلّى الله عليه وسلّم من صلاته دعاني أي قال له تعالَ اقبل: وذكر له عن الصلاة وما يكون فيها ولم يعنِّفه، فهكذا يكون التعليم.. علِّموا ولا تُعنِّفوا.

 

 

الرحمة أحسن تعليماً من الشدة:

 فأنت لا تعرف قيم أنّه عندما يغلط ابنك غلطة.. فقد ذكر لي في ذات مرّة شخص يبلغ من العمر الأربعين عاماً وقال لي: أبي قد عاملني معاملة وقد كان عمري الخامسة عشرة ولا أنساها إلى أن أموت.. فقد ركب سيارة أبيه وطرقها واختفيت من البيت ثلاثة أيام، ثمّ رجع فأين سينام، ولم يتكلّم الأب معه ولا كلمة ولا عنّفه وقال له: أنا قد بعت السيّارة فلا تأكل همّ ذلك، فهو قد توقّع أن يتلقّى تعنيفاً ويطرده من البيت أو يضربه ويعمل له مشكلة، ولكن بالعكس فقد فاجأه بالمعاملة اللطيفة.. وقال لي هذا الابن وقد كان باراً بوالده: أنَّ أباه يفيق ليلاً مرّتين أو ثلاثاً ويعدّ له كأساً من العصير.
 هذه القصّة عندما كان عمره بالخامسة عشرة وإلى عمر الأربعين عاماً فهو لم ينسَها. ضرب لأبيه السيّارة ولم يتكلّم بأية كلمة (فهذا شيء قد وقع وانتهى الأمر) ولكن الابن كان مضطرباً كثيراً، والأب رحيماً فقال له لا تحمل هماً فقد بعت السيارة.
 فلا تعرف ما تفعله الرحمة إذا غلط الابن غلطة ولم تفعل معه شيئاً معه.. فهو قد عرف ذنبه، وأنت لم تفعل معه شيئاً ولكنّك احتويته.
 قال: فبأبي هو وأمّي ما رأيت معلّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فو الله ما قهرني وما ضربني ولا شتمني ولكن قال: إنّ هذه الصلاة لا يصلح فيها شيءٌ من كلام الناس إنما هي التسبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ القرآن.

 

 

العاقل من يتبع النبي الكريم في تطبيق سنته:

 

 إخواننا الذين يربّون أولادهم بالحسنى، تجد هدوءاً في البيت، فبجهد بسيط يقطفون ثماراً يانعة. وتجد بيتاً كلُّه صخب وصراخ وضرب وشتائم وهو كقطعةٍ من الجحيم، فهل رأيتم السُّنّة ؟ فالأولى أن يتّبعها الإنسان.. ليس الموضوع موضوع مبادئ ولكنَّه موضوع وقائع، هكذا فعل النبي.. قال له الشاب: ائذن لي بالزنى. والثاني في أثناء الصلاة يقول للآخر: يرحمكم الله وتكلّم قائلاً ما لكم تنظرون إليّ ؟! وكان قول النبيَّ له: يا أخا العرب إنّ الصلاة لا يصلح لها شيءُ من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن.
 من أجل أن تعرف مع من عاش النبي، النبي عاش مع أُناس لا يعرفون شيئاً وقد علّمهم.. فهل يمكن لأحد وبقدر ما كان بعيداً عن الذوق أن يدخل إلى جامع ويبول على السجاد وأمام الناس، وهو رجلٌ كبير ؟؟!
 النبي عاش مع أشخاص أي كما قال عليه الصلاة والسلام: من بدا جفا.

الإسلام دين يسر لا دين عسر:

(( أعرابي بال في المسجد فثار الناس إليه ليمنعوه، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه، أهريقوا على بوله ذنوباً من ماءٍ- أو سجلاً من ماءٍ- فإنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين ))

[أخرجه البخاري عن أبي هريرة]

 فالإنسان إذا بدأ بالتبوّل ثمّ قطعه فجأةً يصاب بأمراض.. لا تزرموا عليه بوله.. لا أعتقد بوجود إساءة للمسجد ولمن في المسجد ولمن يلقي الدرس في المسجد، أكثر منْ إنسان بالغٍ عاقلٍ راشدٍ يَبُوْل بالمسجد ومع ذلك روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، بال أعرابيٌ في المسجد فقام الناس إليه ليقعوا فيه - والنبيُّ كذلك حكيمٌ فلو لحقوه وهو يبول فالبول سيمشي محلّ ما هو ماشي، فجعله بمحلٍّ واحدٍ - فقال لهم النبي: لا تزرموا عليه بوله، وصبّوا عليه ذنوباً من الماء.
 وكذلك القصّة المعروفة لديكم عندما كان النبيّ مع أصحابه وأكلوا لحم جزور، وصدرت رائحةٌ كريهةٌ من أحد الموجودين، وأذّن العصر وعلى أصحابه أن يصلّوا مع رسول الله العصر فقال عليه الصلاة والسلام كُلُّ من أكل لحم جزور فليتوضّأ. قالوا: كُلُّنا أكلنا !! قال كلُّكم فليتوضأ.
ستراً لحال هذا الذي انتقض وضوءه. وكان يقول: لا تحمِّروا الوجوه.

 

المؤمن رفيق لطيف مُتَأنٍ ينتقي الكلمات و يمتصّ الصدمات:

 

 

 لي قريبٌ أخذته ذات مرّة إلى طبيب أطفال فخلع له ثيابه ليكشف عليه وكان طفلاً عمره أشهر فبال على صدره، أبوه خجل خجلاً شديداً من الطبيب، ولكن ماذا قال الطبيب ؟ قال: هذه مهنتنا ونحن معتادون عليها فلا تنزعجوا من ذلك. فرأيت موقفاً من الطبيب لا يقدّر بثمن، والأب ذاب من خجله.. يوجد أشخاص مهذّبون كهذا الطبيب.
 اسمعوا أيُّها الأخوة ماذا قال النبيّ عليه الصلاة والسلام في الرفق واللين ؟

(( إنَّ اللهَ رفيقٌ يُحبُّ الرفقَ في الأمر كلّه ))

[ روى البخاريُّ ومسلم عن عائشة]

  و:

 

(( إنَّ الرفقَ لا يكون في شيءٍ إلا زانه، ولا ينزع من شيءٍ إلا شانه ))

 

[رواه مسلمٌ عن عائشة]

  و:

 

((من يُحرم الرفقَ يحرم الخير كلّهُ.))

[رواه مسلم عن جرير بن عبد الله]
 المؤمن رفيق لطيف مُتَأنٍ ينتقي الكلمات، حليم، يمتصّ الصدمات، ردّ فعله لطيف مدروس، حكيم، هكذا المؤمن.

 

 

الإقناع والتعليم والحلم يحتاج إلى طاقة و جهد:

 

 فيا أيُّها الأخوة الكرام.. التعنيف والتوبيخ والضرب والشتم وإلقاء الكلمات المقذعة على الأبناء والطلاب أمامهم أو أمام أصدقائهم أو رفقائهم أو جيرانهم أو أقاربهم، هذا مما يسبب لهم عقدةً نفسيّة، وهذه العقدة النفسيّة قد ترافقهم إلى نهاية عمرهم.
 لذلك علِّموا ولا تعنّفوا، أقنعه، وبيّن، ووضّح.. بالطبع الضرب أسرع وأسهل.. لكن الإقناع يتطلّب الجهد، الإقناع والتعليم والحلم يحتاج إلى طاقة، أمّا إذا غضب الإنسان وضرب ابنه ففرّغ ما في قلبه فارتاح.. ولكنّك لم تعلِّمه بل حطَّمته.
 ويوجد آباء يرتكبون خطأً أكبر من ذلك.. يضرب ابنه ولا يعلمه لماذا ضربه فيقع الطفل في حيرة، والأحقاد تتضاعف، فبيّن له بقولك: لأنّك فعلت ذلك ضربتك، لكن من كثرة غضب الأب.. يرتكب الابن غلطاً ولكن لا يعرف أين هو الغلط.. فيأتي أبوه ويضربه ضرباً مبرحاً ومن شدّة غضبه يبقى ساكتاً ولا يقول لماذا ضربه.. هذه واحدة.

3 ـ الدلال المفرط للابن يسبب شعوراً بالنقص:

  العامل الآخر للشعور بالنقص ستُفاجؤون به، يوجد عاملٌ آخر على نقيض الأول - الذي بسببه يصاب الطفل من الشعور بالنقص بسبب الضرب والركل واللطم والشتم والتوبيخ والتعنيف – وهو الدلال المفرط، فالدلال المفرط يسبب شعوراً بالنقص.
 دائماً الطفل لا نكلِّفه بعملٍ ما، وكلّ طلباته تنفّذ فوراً، لا نحمِّله مسؤوليّة، ينام لوقت الظهيرة، المهم أن يكون مرتاحاً، وتأمين حاجات البيت كلها تقع على عاتق الأب،. أي لا نكلِّفه بعمل، ولا بالاستيقاظ باكراً، ولا بأداء عمل ولكن فقط أن يرتاح.

 

من تعود على الرفاه إنسان ضعيف جداً ولا يستطيع عندئذٍ أن يتحمّل المسؤوليّة:

 

  يوجد عند الأم والأب أحياناً حب مفرط، هذا الحب يسبب للابن مرضاً نفسيّاً هو: الشعور بالنقص.
 فإذا لم تعلِّمه ولم تجعله يمارس عملاً ما ولم تحمِّله أي مسؤوليّة ولم تكلفه بشيء، ولم يتعوّد على الخشونة.. ولكن فقط قد تعوّد على الرفاه والنوم والأكل والشرب وجميع طلباته تستجاب.. هذا الإنسان ضعيف جداً ولا يستطيع عندئذٍ أن يتحمّل المسؤوليّة فيشعر أنّه دون الناس.
في بعض الأحيان يقولون لك: إنّ هذا الطفل يتيم وبالتعبير العامي (مجرود)، فإذا أتيح له أن يبذل جهداً كبيراً في صغره فيحضر الأكل لإخوته ولأسرته فهذا يعطيه دروساً كثيرةً جداً.
 بعض الأشخاص دخل في قفص الزوجيّة ولا يستطيع شراء شيءٍ من الأسواق، ويوجد أشخاص من سنٍ مبكِّرة آباؤهم وأمّهاتهم حمّلوهم المسؤوليّة.. فالبنت المدللة زوجةٌ سيّئةٌ جداً فلا تنجح في زواجها، أمّا البنت التي تعلّمها أمّها على إدارة المنزل وعلى الطبخ وعلى تأمين حاجات البيت بشكل دقيق تنجح في زواجها، فالأب الذي يدلل أولاده هو يحطمهم دون أن يشعر.

الدلال الزائد يجعل الابن مكروهاً و منبوذاً في المجتمع:

 توجد نقطة مهمّة كنت أقولها سابقاً ففي ذات مرّة معاوية بن أبي سفيان معروف بالحلم، فجاء غلام فغمزه وهو في المسجد، فقال له وقد كان كثير الذكاء: خذ الرهن يا غلام. يبدو أنّه توجد مراهنة على حلم معاوية، فهذا الطفل غمز أمير المؤمنين ولم يحدث له شيء، وقد أعادها مع خليفةٍ آخر فقتله، فقالوا: حلم معاوية قتل الغلام. فالذي قتل الغلام ليس الخليفة الثاني بل الأوّل هو الذي قتله عندما تساهل معه.
 أحياناً تجد ابناً يصعد فوق طقم جديد من الأرائك (كنبايات بحذائه) والأب لم يتكلّم ولا أي كلمة وكذلك الأم، فهو مدلل، فلو ذهب لزيارة بيتٍ آخر كبيت خالته أو عمّته ووقف على الطقم، فيصبح بسبب دلاله مكروهاً، فإذا أردتّ أن تجعل ابنك مكروهاً ومحتقراً ومنبوذاً فقم بتدليله، أمّا إذا وجدت التربية البيتيّة الحازمة وعرف حدوده وما يجوز فعله وما لا يجوز فهذا هو الطريق، يوجد كثير من الآباء في البيت أطلقوا لابنهم كلّ الصلاحيات، فيظن أنّ كلّ بيت مثل بيت أبيه، فيقوم بإتلاف وتكسير في كل ما حوله، فهل يكرهه الناس ؟ لا بل يكرهون الأب من أجل ابنه ويكرهون كلّ زياراتهم، فمن يحبّ أن يجعل ابنه منبوذاً ومكروهاً محتقراً فليدلل ابنه.. فيعوّده للنوم لمنتصف النهار ولا يعوّده على تحمّل المسؤوليّة ولا يكلّفه بتأمين غرضٍ من الأغراض.. فقد أمّن له كلّ شيء فأصبح عضواً فاشلاً في المجتمع لم يعمل له شيئاً.

على الإنسان أن يسمح لابنه القيام ببعض الأعمال أحسن من أن يظلّ جاهلاً:

 

 سابقاً كان السلف الصالح غير دارسين لعلم التربية، ولكن كان عندهم وسائل تربويّة ناجحة جداً، أمّا الآن تجد الجيل الجديد يوجد عندهم وعيٌ تربويٌّ ودراسات تربويّة ولكن لا تجد تربيّة صحيحة، بل تسيُّباً، أي إذا لم يدرس الولد فلا شيء عليه وغير مهمٍ وإذا رسب لا يبالون - ويقولون: في السنة القادمة ينجح -.. فتجد رفاقه حصلوا على أعلى الشهادات وأصبحوا أطبّاء وهو من ورائهم، فيكبر أصدقاؤه ويتسلَّمون أعمالاً ويصبح لديهم دخلٌ ومكانةٌ اجتماعيّة وهو من وراء الناس، فعلى من ينقم ؟ ينقم على من أهمله وقام بتدليله، فالدلال المفرط ماذا يسبب ؟؟ الشعور بالنقص ومن أسباب الشعور بالنقص: القسوة ونقيضها وهو الدلال، فالحقُّ وسطٌ بين طرفين.. القسوة والدلال.
 يوجد آباء وأمّهات أحدهم لا يسمح لابنه أن يقوم بعمل أبداً.. ويقول له: إنّك لا تعرف اتركه. لا يعرف !! ولن يعرف بالتالي طوال حياته، فلا بدّ من أن يوطّن الأب نفسّه من أنّ ابنه ممكن أن يغلط، فإذا غلط وأصلحت له غلطه هذا أحسن من أن يظلّ جاهلاً لا يعرف شيئاً.

على الإنسان أن يكلف ابنه ويبيّن له ويتحمّل غلطه لكي يتعلّم:

 

 فقد أقول لكم كلمة.. فقد قلت مرّة لأحد الأشخاص يوجد هناك إنسانٌ واحدٌ لا يخطئ ؟ فقال لي: هو النبي اللهمّ صلِّ عليه. فقلت له: لا.. لم أقصد ذلك فما قلته هذا موضوعٌ آخر ولكنني قصدت الإنسان الذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل، فكلّ من يعمل يخطئ.. والخطأ بالعمل شيء طبيعي جداً.. فأقول دائماً كلمات وهي:
 ليس العار أن تخطئ.. بل العار أن تبقى مخطئاً، ليس العار أن تجهل.. العار أن تبقى جاهلاً... كلُّ ابن آدم خطّاء وخير الخطائين التوّابون.
 وطِّن نفسك أنّ ابنك سوف يغلط.. أرسلته ليحضر أغراضاً فانتقى أسوأ خضارٍ وبأغلى الأسعار.. فقل له: هذه غالية يجب أن تنتقيهم، وفاصل البائع فأسعار السوق أقل من ذلك، أمّا أن تخاف أن يغلط فلا تكلِّفه فبالتالي لن يتعلّم في حياته شيئاً.. فيجب أن تكلِّفه، وتبيّن له وتتحمّل غلطه لكي يتعلّم.

علاج ظاهرة الدلال المفرط عن طريق:

 

1 ـ أن يتعمق الأب و الأم بعقيدة القضاء و القدر:

 من علاج ظاهرة الدلال المفرط أن يتعمَّق الأب والأم بعقيدة القضاء والقدر، فيخاف الأب أن يمرض ابنه أو يرشِّح، فأنت آمن بالقضاء والقدر والله عزَّ وجلَّ هو الحافظ، يقولون: إنّه في يوم القيامة يقول ربنا عزَّ وجلَّ لعبدٍ من عبيده:
 عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ فقال: يا رب.. لم أُنفق منه شيئاً مخافة الفقر على أولادي من بعدي. قال: ألم تعلم بأني أنا الرزّاق ذو القوّة المتين ؟ إنّ الذي خشيته على أولادك من بعدك قد أنزلته بهم. ويقول لعبدٍ آخر: عبدي أعطيتك مالاً فماذا صنعت فيه ؟ يقول العبد: يا ربِّ أنفقته على كلّ محتاجٍ ومسكين، لثقتي بأنّك خيرٌ حافظاً وأنت أرحم الراحمين. قال: يا عبدي أنا الحافظ لأولادك من بعدك.

 

الله عز و جل هو الحافظ و على الإنسان أن يتوكل عليه:

 

 

 إذا سافر الإنسان فلا يتوسوس... وليقل بتوكُّل: اللهمَّ أنت الرفيق في السفر والخليفة في الأهل والمال والولد. فالله هو الحافظ ولا بد من التوكل عليه.
 فيخاف أن يكلِّفه أو أن يبعثه لمشوار أو يرسله وحيداً.. الخوف ضروري، ولكن يوجد خوفٌ مرضيّ.
 فالله عزَّ وجلّ قال:

مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)

( سورة الحديد: آية " 22، 23 " )

  أيُّها الأخوة الكرام.. أول شيء تعميق عقيدة القضاء والقدر في نفوس الآباء والأبناء والصغار حتّى يرتاح الإنسان من الوساوس ومن الخوف المفرط والدلال المفرط يرتاح منه.

 

2 ـ التدرج في التأديب:

  شيء آخر.. التدرُّج في التأديب، فمثلاً إذا كان الابن يصلُح بالنُصح فيجب أن لا تهجره، وإذا كان يصلُح بالهجران فيجب أن لا تضربه وإذا يصلُح بالضرب فلا تطرده من البيت، فيجب أن تتدرّج.. يوجد آباء لأتفه سبب يقوم بطرده نهائيّاً من البيت ويجعله خارج البيت، إذا كان ينتصح معك فانصحه أولاً.. فالنصيحة أوّلاً والهجران ثانياً والضرب ثالثاً والطرد رابعاً.

 

 

عقوبة الطرد من المنزل لا يمكن أن تكون مقبولة لأنّ البديل أسوأ:

 

 أمّا أنا الآن فموضوع الطرد من المنزل لا أُوافق عليه أبداً، وأَعُدّ أيَّ أبٍ يلجأ إلى طرد ابنه من المنزل لعلّة مشاكسته وانحرافه هذا كمن يطفئ النار بالزيت. فألف شخص يتلقون هذا الابن ويدلّونه على الانحراف والسرقة وارتكاب الفاحشة ويستغلون تشرُّده.. هذا كلام دقيق ولاسيّما في هذه الأيّام.. عقوبة الطرد من المنزل لا يمكن أن تكون مقبولة، لأنّ البديل أسوأ.
 فيجوز في الأيام السابقة كان الناس مترابطين متكاتفين، هناك من يردُّه إلى أبيه.. الآن هناك من يستقبله ويدُلّه على المنكرات والمحرّمات والفواحش والسرقات.. فأنا أعرف رجلاً طرد ابنه فانضمّ إلى مجموعة من الأصدقاء ولكنّها منحرفة، أي عصابة سرقة، فكلَّفوه أن يقف في مكان ليراقب الطريق، وقاموا هم بسرقة بيتٍ، وعندما حُكموا بمحكمةٍ ميدانيّة ذكروا اسمه معهم.. والآن قد مرَّ عليه ست سنوات وهو مسجونٌ.
 ذلك بسبب طرد الأب لابنه من المنزل وانضمامه لأصدقاء السوء ودلّوه على السرقة وأعطوه دوراً من أدوار السرقة بأن يراقب الطريق وهم يسرقون البيت ولم يعطوه شيئاً وعند التحقيق ذكروا اسمه فحبس معهم ست سنوات محكمة ميدانية.
فهذا الكلام أُعيده مرَّةً ثانية.. فمهما غضبت، ومهما أساء الابن، فتطرده من البيت فهذا شيء غير معقول إطلاقاً، فالبيت مأوى له، فإذا أردت أن تعاقبه فليكن بالبيت.. فالتدرُّج في تأديب الولد بالنصح أوّلاً والهجران ثانياً والضرب ثالثاً (والضرب غير المُبَرِّح).

3 ـ أن تُعوِّد ابنك على الخشونة والثقة بالنفس:


 الشيء الثالث الذي هو علاج لموضوع الدلال المفرط: أن تُعوِّد ابنك على الخشونة والثقة بالنفس.
 فالآباء العقلاء يعوِّدون أبناءهم على الطعام الخشن في بعض الأحيان، ففي طعام الغذاء يتناولون من الطعام ما قد حضر في البيت - حواضر - فماذا يحدث ؟؟
 وقد روت كتب السيرة أنَّ سيّدنا خالداً بن الوليد أمسك ضبّاً وأكله لماذا ؟ والنبيّ نظر إليه وقال: خالدٌ سيفٌ من سيوف الله.. وهو يأكل الضّب ليعوّد جنوده على الأكل الخشن في الصحراء، في الفتوحات.
 فيجب أن يتعوّد الابن على الأكل الخشن وعلى النوم الخشن وعلى الثياب الخشنة، ولا أقول دائماً ولكن من حينٍ لآخر.. فالخشونة تربّي النفس، والغنى مع الجهل يفسد النفس.. فأنت أطعم واسقِ ولكن من حين إلى آخر يجب أن يعرف الطفل بوجود أُناس جائعين، بعض النّاس يأكلون قطعة من الخبز مع كأسٍ من الشاي في الظهيرة، وبعضهم لا يتناولون الفواكه إلا في الشهر مرّة والبعض الآخر الحلو عندهم علبة من - الراحة فقط - فعوّد ابنك على الاخشِوشان ولو كنت غنيّاً، لأنّ المخشوشن تجد نفسه سويّة، وهذا الكلام كلام رسول الله: اخشوشنوا فإنّ النعم لا تدوم.

 

الاخشِوشان والثقة بالنفس من وسائل معالجة الشعور بالنقص:

 

 في بعض الأيام يقل دخل الإنسان فإذا كان قد عوَّد أهله على الرفاه الزائد فعنده أحد احتمالين.. إمَّا أن يأكل مالاً حراماً، أو أن يُمالئ السلطان.. أمّا إذا كان قد عوّد نفسه على الخشونة فهذا هو دخله، فإذا أراد الإنسان أن يرفّه أهله عن طريق كسب المال الحرام، أفسدهم وأفسد نفسه وهو لا يشعر.

(( إيّاكم والتنعُّم فإنّ عباد الله ليسوا بالمتنعمين ))

[روى الإمام أحمد وأبو نعيم عن معاذ بن جبل]

((علّموا أولادكم السباحة والرماية ومروهم فليثبوا على ظهور الخيل وثباً ))

[رواه البيهقي عن عمر]

 أي أنّ الاخشِوشان والثقة بالنفس من وسائل معالجة الشعور بالنقص الذي أساسه الدلال المفرط.

 

الله عز وجل جعل حياة الأنبياء خشنة ليعلم الإنسان الصبر:

 

 النبي عليه الصلاة والسلام ماذا كان يعمل في صغره ؟ قال عليه الصلاة والسلام: ما بعث الله نبيّاً إلا رعى الغنم.. نعم كنتُ أرعاها على قراريط لأهل مكّة.
 نبيٌ سيّد الخلق، جعل الله عزَّ وجلَّ له حياته خشنة.. رعى الغنم في بطحاء مكّة.
 والنبيّ عليه الصلاة والسلام كان ينقل الحجارة مع غلمان في مكّة أي أعمال سخرة شاقّة، وكان يبني أي يقوم بأعمال البناء:

(( لمّا شبَّ صلّى الله عليه وسلّم وبنيت الكعبة ذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينقل الحجارة مع أشراف قريش لبنائها، فقال العبّاس لرسول الله اجعل إزارك على عاتقك من الحجارة، فالنبيّ استحيا من الله أن يكشف عن جسمه، فقال: إزاري إزاري.. فشدَّ عليه إزاره وقال: إنّي نُهيت أن أمشي عُرياناً ))

[ رواه البخاريُّ ومسلم عن جابر بن عبد الله ]

  واستنبطوا من هذا الحديث أنّ الأنبياء معصومون قبل النبوّة.. فأثناء نقل الحجارة رفع الثوب أكثر راحة.. فقال: إزاري إزاري إنّي نُهيت أن أمشي عُرياناً. فلم يرض أن يرفع ثوبه كغيره حتى لا تظهر عورته.

 

النبي الكريم رعى الغنم ونقل الحجارة وساهم بالبنا:

 

 

 وقد سافر النبيُّ إلى الشام قبل البلوغ.. الآن يقولون لك سافر إلى السعوديّة فقد ركب طائرة وفي خلال ساعتين أصبح في جدّة.. طائرة مكيّفة وأكلٌ ساخنٌ فأي سفر هذا !! أمّا أنه سافر من مكّة إلى الشام وعلى جمل خلال شهر وساعتها قل ما هو السّفر ؟.. فالنبي سافر قبل أن يبلغ.. وسافر أيضاً بعد البلوغ في تجارةٍ للسيّدة خديجة كشريك مضارب، وكان قد سافر قبل أن يبلغ مع عمّه أبي طالب.
 فقد كانت حياته خشنة رعى الغنم، ونقل الحجارة، وساهم بالبناء، وسافر قبل البلوغ سفراً شاقاً، والسفر قطعةٌ من العذاب.
 روت كتب السيرة أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم استحلف باللات والعُزّى وهو صبي فقال للمستحلف: لا تسألني بهما شيئاً، فو الله ما بغضْتُ شيئاً بغضي لهما.
 وشارك في الحرب وهو دون الحُلُم.. فقد روت كتب السيرة أنّه عليه الصلاة والسلام كان ينبِل لأعمامه في حربِ الفُجّار، أي يعطي لهم النبل أثناء الحرب.
 وكان يقول أدّبني ربّي فأحسن تأديبي.

4 ـ المفاضلة بين الأولاد من أكبر أسباب الشعور بالنقص:

  من معالجة الشعور بالنقص.. أحد أكبر أسباب الشعور بالنقص المفاضلة بين الأولاد، لا شكّ بوجود ابنٍ ذكيٍّ وآخر أقلّ ذكاء، أو ابنٍ وسيم وابنٍ أقلّ وسامةً، ابن اجتماعي - أي بهلول- ابنٍ انطوائيٍّ، فالأب العاقل المؤمن لا يفرّق بين أبنائه، لأنّه لو أهمل الأقل ذكاء أو أهمل الأقل وسامة فقد سبب له بهذا الإهمال مرضاً نفسيّاً خطيراً وهو الشعور بالنقص.
 فلذلك يقول عليه الصلاة والسلام: رحم الله والِداً أعان ولده على برّه.

 

الأب الذي يتمنّى أن يكون أولاده في برّهم له سواء عليه أن يُسوّي بينهم:

 

 الأب رزقه الله بولد فهيم وآخر محدود، أو ولد متفوّق في دراسته، والآخر غير ذلك، أو ولد جميل الصورة وجميل الخلق وآخر به عاهةٌ دائمة.. فإذا كان الأب مؤمناً فلا يمكن أن يشعر الأدنى أنّه أدنى أبداً.
 يقول عليه الصلاة والسلام: رحم الله والداً أعان ولده على برّه.
 ويقول عليه الصلاة والسلام: ساووا بين أولادكم في العطيّة.

(( عن النعمان بن بشير أنه قال إن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: إنّي نحلت ابني هذا - أعطيته - غلاماً كان لي فقال عليه الصلاة والسلام: أَكُلّ ولدك نحلت مثل هذا ؟ قال: لا. قال: فأرجعه ))

[ أخرجه البخاري و مسلم عن النعمان بن بشير ]

  وفي روايةٍ:

 

(( قال عليه الصلاة والسلام: أفعلت هذا لولدك كلّهم ؟ قال: لا. قال: اتّقوا الله واعدلوا بين أولادكم. فرجع أبي فردّ تلك الصدقة ))

 وفي روايٍة:

 

 

(( يا بشير، أَلَكَ وَلَد سِوَى هذا ؟ قال: نعم، قال: أكلَّهُمْ وهبت له مثل هذا ؟ قال: لا، قال: فلا تُشْهِدْني إِذَنْ، فإِني لا أشهد على جَور ))

 

[ أخرجه البخاري و مسلم عن النعمان بن بشير ]

(( ثم قال: أَيَسُرُّكَ أن يكونوا إليك في البِرِّ سواء ؟ قال: بلى. قال: فلا، إِذن فسوِّ بينهم في العطاء ))

  الأب الذي يتمنّى أن يكون أولاده جميعاً في برّهم له سواء عليه أن يُسوّي بينهم.

 

الأب العاقل لا يفرّق بين أولاده أبداً:

 

 يوجد ما هو أدّقُّ من ذلك:

(( رجل كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه، وجاءته بنت له فأجلسها بين يديه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ' ألا سويت بينهم ))

[ رواه عن أنس بن مالك ]

   فقد قبّل الابن ولم يقبّل الابنة، لمَ لم تسوّ بينهما ؟
 هذه دقّة ملاحظة فأحياناً لا ينتبه الشخص.. عنده ولدان ودخل إلى البيت فحمل أحدهما وقبّله وقال للثاني: أهلاً يا أبي.. فما هذا ؟.. مثل ما قبّلت هذا فقبّل الآخر، أكرمت هذا فأكرم الآخر، حملت هذا فاحمل الثاني.. لا يجب أن يحدث هذا وإلا غرزت فيه مشكلة الشعور بالنقص.
 فمثلاً إذا كان الأب يريد أن يأتيه الذكر فرزقه الله بالأُنثى، فأهمل الأب الأنثى، فما ذنبها ؟ هل هي التي خلقت نفسها أُنثى ؟ ليس لها أي ذنب في ذلك. أو الابن معه عاهة فما ذنبه ؟ بالعكس فصاحب العاهة يستدعي كُلّ الشفقة.. طيب ابن أقلّ ذكاء ليس متفوّقاً بل محدود فماذا تفعل هل تحطّمه ؟ وابن أقلّ وسامة، ابن ليس اجتماعياً، الأب العاقل لا يفرّق بين أولاده أبداً.
 أيُّها الأخوة الكرام... أرجو الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الحقائق المستنبطة من نصوص القرآن والسنّة الصحيحة، منهجاً لنا في تربية أولادنا، وأن يكون هذا الدرس مترجماً في البيوت إلى ممارساتٍ يوميّة، ولا يوجد أب ليس عنده أولادٌ.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور