وضع داكن
19-04-2024
Logo
تربية الأولاد إصدار 1994 - الدرس : 13 - التربية النفسية -4- ظاهرة الحسد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيِّدنا محمدٍ الصادق الوعد الأمين، اللهمَّ لا علم لنا إلا ما علَّمتنا، إنَّك أنت العليم الحكيم، اللهمَّ علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحقَّ حقاً وارزقنا اتِّباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

الحسد و تمنّي زوال النعمة عن الآخرين:

 أيُّها الأخوة الكرام، الظاهرة المرضيّة الثانية، ونحن في الدرس الثالث عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام، ولازلنا في مسؤوليّة الآباء حول تربية أولادهم التربية النفسيّة، وقد تحدّثنا في درسين أو ثلاثة سابقة عن ظواهر الشعور بالنقص عند الأطفال، وقد عُزيَت هذه الظاهرة إلى التعنيف والتقريع الشديدين، أو إلى الدلال المفرط، أو إلى عاهاتٍ جسديّة، أو إلى فقرٍ، أو إلى يتمٍ، وقد تمّ الحديث عن المعالجات في الدرس السابق، واليوم ننتقل إلى ظاهرةٍ مرضيّةٍ نفسيّةٍ جديدة هي ظاهرة الحسد.
 قد لا يعبأ الأب أنّ ابنه يحسد، وهذا الابن الصغير الذي يرى أنّه مهمل وأنّ الاهتمام لأخيه، هذا الطفل الصغير يصاب بمرض يأكل قلبه ألا وهو الحسد، فلذلك كلُّكم يعلم أنّ الحسد في أدقّ تعاريفه هو: تمنّي زوال النعمة عن الآخرين.

ارتباط الحسد بالإنسان المقطوع الصلة عن الله عز وجل:

 إذا رأيت نعمةً على أخيك وراقت لك هذه النعمة، وتمنّيت أن تكون لك من دون أن تزول عنه، هذا ليس حسداً هذه غبطة، وقد عبّر عنها النبيّ أحياناً بالحسد قال:

(( لا حَسَدَ إِلاّ في اثْنَتَيْنِ: رَجلٌ آتَاهُ الله مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ منهُ آنَاءَ اللّيْلِ وآنَاءَ النّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ الله القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللّيْلِ وَآنَاءَ النّهَار ))

[ متفق عليه عن أبي هريرة]

 إذا تمنيّت نعمةً أُخرويّةً على أخيك فهذا شيء طيّب وهذا من قبيل التنافس، لكن إذا تمنّيت زوال نعمةٍ عن أخيك لتصير إليك فهذا هو الحسد، والإنسان لا يحسد إلا إذا كان مقطوع الصلة عن الله عزَّ وجلَّ.
على كلٍ هذا الموضوع قد عالجته في خطبةٍ بشكلٍ تفصيلي قبل أشهر، إلا إنّي الآن أنتقل إلى الحسد لا عند الكبار، بل عند الصغار.
 وكنت أقول لكم دائماً: إنّ الدعاةَ إلى الله إذا دعوا إلى الله مخلصين اتّبعوا ولم يبتدعوا، وتعاونوا ولم يتنافسوا، وأنصفوا ولم يجحدوا، أمّا إذا دعوا إلى ذواتهم دعوةً مغلّفةً بدعوةٍ إلى الله ففي الأعم الأغلب أنهم يبتدعون ولا يتبعون، ويجحدون ولا ينصفون، ويتنافسون ولا يتعاونون.

أسباب ظاهرة الحسد عند الأطفال :

1 ـ الطفل يخاف أنّ يخطف أخوه القادم الجديد منه اهتمام أُمّه وأبيه فيقع بالحسد:

  أيُّها الأخوة، بعض العلماء حلل ظاهرة الحسد عند الأطفال، وأوّل أسباب هذه الظاهرة، أنّ الطفل إذا كان وحيداً بين أبويه ومعتنى به عناية كافية، وحين تحمل أُمُّه وسيأتي مولودٌ جديد يخشى هذا الطفل أن ينافسه المولود الجديد بالمحبّة، والعناية، والرعاية، والمودّة فيقع في الحسد، لذلك ماذا على الأب أن يفعل إذا أنجب ابناً آخر ؟
 قال علماء النفس: ينبغي أن تُضاعف العناية بالأوّل، وأن تكرمه إكراماً شديداً حتّى لا يشعر بأنّ الأضواء قد خطفها الطفل الصغير، وأن الاهتمام توجّه إلى الصغير، وكذلك العناية إلى الصغير، والتقبيل إلى الصغير، والمداعبة إلى الصغير، لئلا تنصرف الأُمُّ والأبُ إلى الصغير فقط ينبغي أن نوجّه العناية إلى الكبير.

 

على الآباء ألا ينساقوا مع رغباتهم دون رقابة فكرية كيلا يؤاثرون طفلاً على آخر:

 

 إخواننا الكرام، إذا انساق الإنسان مع رغبته من دون رقابة فكريّة فدائماً تجده يؤاثر الأفضل، والأصغر، والأجمل، والأذكى، والأكثر انطلاقاً، أمّا إذا آثر جانب الله عزَّ وجلَّ فيراعي الأب أنّه لا يُقبّل طفلاً أكثر من طفل، ولا يبتسم لطفلٍ أكثر من طفل، والحقيقة الإنسان من دون جهد يظلم، أمّا إذا أراد العدل فلابدَّ له من جهد يبذله.

 وبالطبع الإنسان يوجد لديه أذكى ومن هو أقلّ ذكاء، وعنده أجمل والأقلّ جمالاً، عنده طفلٌ منطلقٌ وآخر أقلّ انطلاقاً، وقد يكون عنده طفلٌ عنده عاهةٌ من العاهات، فلو انساق مع رغبته من دون رقابةٍ فكريّة فيميل للصغير، ويميل للجميل، والذكي، ويهمل الثاني، فيكون بذلك قد حطّمه وعقّده، لكن المؤمن صاحٍ دائماً ويقظ، المؤمن صاحب رسالة، والله عزَّ وجلَّ جعله خليفته في الأرض، فأنت أبٌ لاثنين والكمال يتطلّب الجهد والمتابعة واليقظة، أمّا النقص لا يتطلّب الجهد وهو استرخاء وتحرُّك عشوائي عفوي يجعل النقص حاصلاً.
 لذلك يرتكب الآباء والأُمّهات في حقِّ أولادهم جرائم وهم لا يشعرون، إهمال طفل.. ففي بعض الأحيان يتكلّم الطفل بالكلمة وجميع من حوله يقلّدونه فيها، ويتكلّم الطفل الآخر بكلمة فيقولون له: اخرس، فلماذا كلّ هذا اللطف والمودّة للأول والثاني لم يتكلّم سوى كلمةٍ واحدةٍ، فسمع كلمةً قاسيةً من الأب، هذه بحكم الأخلاق عمل في منتهى الفظاظة من الأب.

على المؤمن أن يتخلق بأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام:

 إخواننا الكرام، قال تعالى:

﴿ فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) ﴾

( سورة الحجر )

 وقال تعالى:

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) ﴾

( سورة الزلزلة )

  تخلّقوا بأخلاق رسول الله، ومن أخلاقه: العدل، وقد قال النبيّ عليه الصلاة والسلام:

 

(( إنّما أهلك بني إسرائيل أنّهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، و ايم الله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها ))

 

[ متفق عليه عن عائشة]

  طلبت السيّدة فاطمة من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خادمةً منه فقال لها: والله يا بنيّتي لا أُؤثرك على فقراء المسلمين.
 شيءٌ عميق النبي الكريم عدّ المؤمنين أسرة واحدة، فابنته لا تستحقّ خادماً مادام في المسلمين فقراء، فلم يعدّ نفسه من طبقةٍ أُخرى لها أن تستمتع بالحياة من دون بقيّة الناس.
 إذاً أوّل سبب من أسباب الحسد أن الطفل يخاف أنّ يخطف أخوه القادم الجديد منه اهتمام أُمّه وأبيه وعنايتهم، وعطفهم، فيقع بالحسد.

 

2 ـ الموازنة بين الأبناء من قبل الأب والأُم باستمرار:

 أخطر عمل يقوم به الآباء الموازنة بين الأبناء، أخوك أذكى منك، وأخوك أفهم منك، أنت لا تفهم، أنت كذا، هذه الموازنة تحطّم، فلا توازن أبداً، لذلك الموازنة بين الأولاد كوصف أحدهم بالذكاء والآخر بالغباء، وواحد بالاجتهاد والثاني بالكسل، وواحد بالنشاط والثاني بالخمول، وواحد بالتألُّق والثاني يقول له: اذهب من أمامي، اغرب عن وجهي، فلماذا هذا الكلام ؟ فهذا ابنك، ومن له غيرك.
 أنا كنت أقول دائماً كلمة: الأشخاص الغرباء أنت لهم وغيرُك لهم، لكنّ ابنك من له غيرك ؟؟ إذا أنت لم تأخذه إلى نزهةٍ فمن سيأخُذه ؟ إذا أنت لم تطعمه أكلةً يحبُّها فمن سيطعمه إيّاها ؟ النبيّ علّمنا أشياء كثيرة عندما كانت تقدّم للنبيّ الكريم الفاكهة في أوّل الموسم، كان يقبِّلها ويطعمها لأصغر طفل. معنى ذلك أنّ الطفل يتعلّق بالفاكهة والأب يصبر على فقدها، أمّا الطفل لا يصبر.
 الآن إلى أحد أسباب الحسد، فالسبب الأول هو: خوف الطفل أن يأتي أخٌ له يخطف منه الأضواء، والسبب الثاني هو: الموازنة بين الأبناء من قبل الأب والأُم باستمرار، فتجد بنتاً منطويةً على نفسها لأنها أقلّ جمالاً من أختها، لازم الأم دائماً تثني على الأولى أمام الضيوف وغيرهم وتهتم فيها زيادة ؟ وهذا خطأ كبير.

 

 

على الإنسان أن يعتني بابنه لأنه هدية من الله عز وجل:

 

 

 أحياناً الأب، بالطبع من دون أن يشعر، ومن دون أن يريد، يُنشئ عقداً نفسيّة في نفوس بناته وأولاده، وهو لا يشعر، وأنتم كآباء أيُّها الأخوة انتبهوا، الأب مسؤول والله جعلك خليفته في الأرض، واستخلفك على هؤلاء الأولاد، فكن عادلاً.
 الاهتمام بأحد الأولاد، كتقبيله ومداعبته وإكرامه، والابتعاد عن الثاني والازورار وعدم الاهتمام، يوجد أبلغ من ذلك، إذا تكلّم الابن غير المرضيّ عنه فيقرِّعه ويسكته، أو أحياناً يقول له: اخرج من هنا. واحد يمكث ويقعد والآخر يخرج للخارج، فأنت بذلك قد حطّمته تحطيماً من دون أن تشعر.
 فأنا أقترح على إخواننا أن تفتخر بابنك، اجعله يتعلّم منك، وأن ينزل معك، وأن يجلس مع الضيوف إذا كان عندك دعوة، خذه معك واجعله معك، واجعله رفيقاً لك، لأنّه إذا لم يرافقك سوف يرافق رفقاء السوء، فلا تستحِ من ابنك أبداً، ولا تنحرج منه، فلا أحد له غيرك فحاول أن يكون معك دائماً، وكلّما كانت جلساتك راقية، ونزهاتك راقية، و لقاءاتك راقية فسيتعلّم منك، وينشأ على طاعة الله.
 يوجد موقف غير شعوري، أنّ الأب يتسامح مع ولد محبوب وهو يؤذي، ويعنّف ولداً آخر غير محبوب وهو يحسن، فيكون يقوم بخدمتك ويحضر لك كأساً من الماء، فتقول له: لا أريد ماءً، من قال لك أن تحضر ماءً ؟ وهو قد توقّع أنّك عطشان فأحضر لك الماء فغضبت، هذا يحسن لك فتعنّفه، والآخر يسيء فتثني عليه، والله هذا الأب سوف يحاسب على ذلك، فليس الأمر أمراً سهلاً مع الله عزَّ وجلَّ، فهل حضّرت لله جواباً على فعلتك ؟ فالله قد اختار هذا الابن ابناً وجعله هديّةً لك، فيحتاج منك إلى عناية.

العاقل من يعدل بين أبنائه:

 أنا لا أرى آباء أعقل ممن يبالغون في العدالة بين أولادهم، فلا يميّز بنتاً عن بنت ولا ابناً عن ابن، بكلِّ شيء بالتساوي وحتّى بالاهتمام والابتسامة والتقبيل.
 وقد قلت لكم في دروسٍ سابقه أنّه أحياناً يكون الأب وضعه المادي متوسّطاً ويضع ابنه في مدرسة مستواها المادّي مرتفعٌ جدّاً، فبذلك يحطّم الابن، فانتبهوا فتوجد أشياء دقيقة، مع كلّ من رفاقه في المدرسة خمسمئة ليرة وأبوه يعطيه خمس ليرات، هذا معه خمسٌ والثاني معه خمسمئة فهذا غير معقول والتفاوت كبير، هذا محضر معه أشياء وحاجات وأكلات سعرها مرتفع، مئتان من الليرات، وهذا يحضر أشياء بسيطة جداً، فيعقد موازنة بينه وبين رفيقه فيتحطّم، فأنت لا تبحث عن من هو أعلى منك، ابحث عن مستواك فترتاح.

على المسلم ألا يقيم علاقات دنيويّة مع أُناس أغنى منه كي لا يحتقر نعمة الله عليه:

 يوجد قول قد قرأته: لا تصاحب من لا يرى لك من الفضل مثل ما ترى له.
 فصاحب إنساناً يحبّك، ويقدّرك، ويحترمك، ويقدّر علمك، ويقدّر أخلاقك، أحياناً يكون شخصٌ يعمل موظّفاً مثقّف ثقافةً عالية ويحمل شهادات عُليا، ويصاحب غنياً.. والغنيّ يقيّمه فقط بدخله، ويقول له كم تأخذ راتباً ؟ وبعد أن يضيف عليه التعويضات والبدلات ويكبّره، يقول له الغني: فقط ثمانية آلاف، ويقطب جبينه ويقول له: فقط ثمانية وهل يكفوك ؟ لا تصاحب الأغنياء، وبالطبع الأغنياء غير المؤمنين، فالغني المؤمن يوضع على العين والرأس، وتشتهي الغنى على المؤمن من تواضعه ومن تسامحه، وتشتهي الفقر على مؤمن فقير من تجمُّله، ومن أدبه، ومن صبره، ومن عفّة نفسه، وتشتهي كلّ حالة خاصّة على المؤمن لأنّه كاملٌ، أنا إذا قلت: غني فأقصد به غير المؤمن، من دخل على الأغنياء خرج من عندهم وهو على الله ساخط، لا تقم علاقات دنيويّة مع أُناس أغنى منك بكثير، دائماً انظر لمن هو أدنى منك فذلك أحرى ألا تحتقر نعمة الله عليك.

في الدنيا انظر لمن هو أدنى منك و في الدين وازن نفسك مع المؤمنين الكبار:

 لكن القاعدة الذهبيّة في شؤون الدّين وازن نفسك مع المؤمنين الكبار، راقب عبادتهم، وإخلاصهم، وعلمهم، ودعوتهم إلى الله عزَّ وجلَّ، وأعمالهم الجليلة، وما أجرى الله على أيديهم من خير، فقد قال تعالى:

﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) ﴾

( سورة المطففين )

﴿ لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) ﴾

( سورة الصافّات )

   أمّا في الدنيا لا تنظر إلى أُمور الدنيا، فدائماً انظر لمن هو أدنى منك، فإذا كان الإنسان في ضائقة، فيقوم بعمل زيارة لقريب أدنى منه معاشاً، يقطن هو وأولاده وزوجته في غرفة واحدة، ويقارن بينه وبين وضعه، فيجد أنّه أحسن منه حالاً لأنّه يعيش في غرفتين، فلذلك الموازنة في أمور الدنيا مع من هم دونك أفضل، والموازنة في الدين مع من هم فوقك أفضل.

 

على الإنسان أن يُعلّم ابنه على الخشونة حتّى يكون متواضعاً:

 

 كذلك أيُّها الأخوة، عندما ذكرنا في الحديث الشريف الصحيح ؛ يقول النبي الكريم:

(( اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم ))

[ الجامع الصغير قريبا من هذا اللفظ عن ابن أبي حدرد ]

  هذا أمر نبويّ، فلا تظن أن لو دللت طفلك كثيراً أو أطعمته كلّ شيء، أو ألبسته أفخر الثياب، تكون بذلك قد نفعته ؟؟ فيصبح يقرف ويُقرِّف، فعلّمه على الخشونة والأكل الخشن أحياناً، علّمه على نومةٍ خشنة أو يلبس بزة أخيه ولا يتكبّر، وأن يلبس ثياب أخيه الأكبر التي لم تصبح على مقاسه، فإن قال: لا ألبس ثياب أخي. فقل له: لماذا لا تلبس، فلا يوجد عندنا غير ذلك يا بني. علّمه على الخشونة حتّى يكون متواضعاً، لأنّ الإنسان إذا ترفّه زيادة فتجده يرفّس، اخشوشنوا فإنّ النعم لا تدوم، وتمعددوا، أي عوّد نفسك على الخشن من الطعام أحياناً.

 

على الإنسان أن يحب أولاده لأن الطفل غال على الله عز وجل:

 

  الآن إلى السّنة:
 رأيتُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يخطب، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما، وعليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران، فنزل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فحملهما ووضعهما بين يديه ثمّ قال صدق الله عزَّ وجلَّ:

﴿ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) ﴾

( التغابن: آية " 15 " )

[روى الترمذي وغيره عن عبد الله بن بريده عن أبيه رضي الله عنهما]

  نظرت إلى هذين الصبيّن، هكذا قال النبيّ، يمشيان ويعثران فلم أصبر حتّى قطعت حديثي ورفعتهما.
 فالنبيّ كان في هذا الموضع مشرّعاً، يجب أن تحبّ أولادك، وتدللهم وتضمّهم لصدرك، فالنبي أمام أصحابه، فهل سمعتم أنّ خطيباً فعلها وهو على المنبر نزل وحمل طفلاً، النبي فعلها، فعلها لكي يعلّمنا كم الطفل هو غالٍ على الله عزَّ وجلَّ.

 

 المودة و المحبة سرّ سعادة الحياة البيتية: 

 

 أحياناًً تجد البيت جنّة أيُّها الأخوة الكرام، بما فيه من المودّة، وعلى قدر ما فيه من المحبّة، وقد يكون البيت متواضعاً وفقراء الحال، والأثاث من الدرجة الخامسة، ولكن فيه محبّةٌ بين الأب وأولاده والزوج وزوجته، هذا سرّ السعادة البيتيّة، هذه المودّة، والإنسان كما ورد في السنّة، جنّة المؤمن داره.
 وأنت مسؤول، بالمناسبة مجموعة تصرّفات ذكيّة جداً، ومتتابعة تضمّ الناس إليك وتشدهم إليك، وتصرّف واحد أحمق تنفّر الناس منك، فيقول لك: لا يوجد في بيتي سرور.. فالحق على الأب، فعندما يكون الأب لا يسأل على أولاده، أمّا إذا جمعهم وجلس معهم وداعبهم وآنسهم، ومثلاً تواعدوا على تناول وجبة طعام مشتركة، وسأل أولاده، أمّا إذا لم يكن لديك الوقت الكافي للجلوس مع أولادك فتلك مشكلة كبيرة جدّاً.
 وكان عليه الصلاة والسلام يداعب الحسن والحسين رضي الله عنهما، فيمشي على يديه وركبتيه، هذا سيّد الخلق وحبيب الحق سيّدنا رسول الله والذي هو أعظم إنسان على الإطلاق، فانظروا ماذا كان يفعل في بيته.. كان يمشي على يديه وركبتيه ويتعلقان به من الجانبين فيمشي بهما، ويقول: نعم الجمل جملكما ونعم العدلان عدلكما.
 هكذا كونوا في بيوتكم يا إخوان، داعبوا أولادكم وتحبّبوا إليهم حتّى تصبح المودّة أغلى من الأكل والشرب، أغلى من الرفاه، بيوت المسلمين الآن جحيم، يطلبون المظاهر، ويريدون أثاثاً جديداً، دائماً تجد النفور فالزينة لغير الزوج، والأولاد ضائعون بين أُمّهم وأبيهم، هذا واقع المسلمين الآن، يجب أن يكون البيت جنّة.
 وإنّكم لن تسعوا النّاس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم، المال لا يسعد، أخلاقك ومودّتك ومحبّتك واهتمامك وعدالتك هي التي تسعد.

(( جاء أعرابي إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أتُقبلون صبيانكم فما نقبّلهم نحن ؟!! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: أَو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة ))

[روى البخاريُّ في الأدب المفرد عن عائشة رضي الله عنها]

  أي أنّ محبّة الصغار رحمة، والطفل غذاؤه المحبّة، كيف ما كانت نومته أو أكله مقبول ولكن لا يجد نفوراً، ولا قسوة، ولا يجد ازوراراً من أبيه.

 

علامة نجاح الأب أن يكون في منتهى المودّة مع أولاده:

 

 سوف أقول لكم نقطة: إذا كان دخولك إلى هذا البيت يملأ البيت فرحةً فأنت أب ناجح، وإذا كان دخولك إلى البيت فأصبح من في البيت عبوساً قمطريراً وكلٌ منهم هرب إلى غرفته وهذا خرج من البيت فمعنى ذلك أنّك أبٌ فاشلٌ، علامة نجاحك في بيتك أن يكون دخولك للبيت عيداً، وفرحةً كُبرى، أمّا إذا وجد النقد المستمر والتعليقات اللاذعة ويدك والضرب، ودائماً المشاكل والخناقات فهذا ليس أباً بل أباً فاشلاً، فعلامة نجاح الأب أن يكون في منتهى المودّة مع أولاده.

(( جاءت امرأةٌ إلى عائشة رضي الله عنها فأعطتها ثلاث تمرات، فأعطت كُلّ صبيٍ لها تمرة، وأمسكت لنفسها تمرة، فأكل الصبيّان التمرتين ونظرا إلى أمّهما، مازالا جائعين، فعمدت الأم إلى التمرة فشقّتها فأعطت كُلّ صبيٍ نصف تمرة، فجاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأخبرته، فقال: وما يعجبك من ذلك ؟ لقد رحمها الله برحمتها صبيّهما ))

[روى البخاريُّ في الأدب المفرد عن أنس بن مالك رضي الله عنه]

  أي لا تظن أنّه إذا كانت الأم كاملة والأب كاملاً ليس لهما أجرٌ عند الله عزَّ وجلَّ، وإن كان الأب والأم يلبّون حاجةً أساسيّة، ومع تلبية حاجة الأُبوّة والأُمومة فإنّ للأب أجراً عند الله، كنت أقول لكم هذا النص الذي ورد في الأثر أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام يقول:

 

(( أوّل من يمسك بحلق الجنّة أنا، قال فإذا امرأةٌ تنازعني تريد أن تدخل الجنّة قبلي، قلت من هذه يا جبريل ؟ قال هي امرأةٌ مات زوجها وترك لها أولاداً فأبت الزواج من أجلهم ))

 

[ ورد في الأثر]

  ففهمكم كافٍ، كم هي غالية على الله عزَّ وجلَّ لأنّها رعت أطفالها الصغار ؟

 

على كل أب أن يعدل بين أبنائه ليعينهم على برّه:

 

 أيُّها الأخوة لو عالجنا موضوع الحسد نقطةً نقطةً، لو جاء مولودٌ جديدٌ، فإخواننا الآباء يجب أن يزيدوا عنايتهم واهتمامهم وحرصهم على الأولاد الموجودين.. أي يحضروا لهم بعض الهدايا وتغيير بعض الأشياء في غرفهم، وإحضار سريرٍ جديدٍ، والاهتمام الزائد بهم، ولو أحضرت للأخ الكبير هديّة رمزيّة من أخيه المولود، وأن هذه الهديّة من أخيك الذي جاءنا مجدّداً إليك، حتّى يزيل الأب هذا الحسد بينه وبين أخيه الذي جاء متأخّراً.
 موضوع العدل بين الأولاد موضوع معروف عندكم، يقول عليه الصلاة والسلام:

((ساووا بين أولادكم في العطية ))

[ من الجامع الصغير عن ابن عباس ]

  وكنت قد ذكرت لكم في درسٍ سابق، أنّ رجلاً كان عند النبي، فجاء ابنٌ له فقبّله وأجلسه على فخذه، وجاءت ابنةٌ له فأجلسها بين يديه، فقال صلّى الله عليه وسلّم للرجل: ألا سوّيت بينهما ؟
 طبعاً إذا كان في موضوع موازنة بين الأولاد، يجب أن يكُفَّ عنها الأب فوراً، لا توازن أبداً، اجعل الوضع متساوياً وطبيعياً، وأنت عندما تعدل بين أولادك، تعينهم على برّك، وعندما لا تعدل تعين الشيطان عليهم بعقوقك، وإذا عدلت بينهم أعنتهم على الشيطان وأعنتهم على برّك، وكلّ أب يجب أن يضع هذا الحديث الشريف شعاراً له:

 

(( رحم الله والداً أعان ابنه على بره))

 

[ من الجامع الصغير عن علي ]

أنواع الحسد:

(( إيّاكم والحسد، فإنّ الحسد يأكُل الحسنات كما تأكُل النار الحطب ))

[رواه أبو داود عن أبي هريرة]

 إذا تفشّى الحسد، فأنا أذكر أنني قد عالجت هذا الموضوع بدقّة وتفصيلات رائعة قبل أربعة أسابيع أو أكثر، في خطبة جمعة قد عالجت فيها موضوع الحسد بتفصيلٍ دقيقٍ جداّ..

 

1 ـ أسوأ أنواع الحسد عندما يحمل الحسد الإنسان على أن يتحرّك للإيقاع بخصمه:

   أتذكّر أنّ أخطر أنواع الحسد: أن تتحرّك لإزالة نعمةٍ عن أخيك حتّى تصل إليك، فمثلاً إذا اشتكى أحدهم على جارٍ له وعنده بضاعة مهرّبة مثلاً، وحتّى يغلق له محلّه، هذه أصبحت جريمة، عندما يحمل الحسد الإنسان على أن يتحرّك للإيقاع بخصمه، ولتعطيله عن عمله، فهذا أسوأ أنواع الحسد.

 

 

2 ـ أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك:

  يأتي بعد النوع الأوّل، أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك دون أن تصل إليك، حتّى من أجل أن تغيظه فقط، فقط التمنّي.

 

 

3 ـ أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك على أن تصل إليك:

  والأقل من ذلك، أن تتمنى زوال النعمة عن أخيك على أن تصل إليك، أي يوجد شيء أو نوع من المصلحة.
 لكن إذا أقررت أخاك على نعمةٍ أنعم الله بها عليه، ولم تتمنّ زوالها عنه ولكن تمنّيتها لك دون أن تزول عنه، هذه غبطَة فلا مانع في ذلك.

 

 

الأحاديث التي تبدأ بكلمة " ليس منّا " أحاديث تبين أن النبي تبرّأ من أحد أتباعه:

 

 سوف أسألكم سؤالاً، توجد مجموعة أحاديث يقول عليه الصلاة والسلام: ليس منّا - والحقيقة كلمة ليس منّا فمعنى ذلك أنّها كبائر، لأنّ النبي عندما يتبرّأ من أحد أتباعه، معنى ذلك أنّه قد ارتكب كبيرة، فمن يذكر من الأحاديث تبدأ بكلمة ليس منّا - ؟؟

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ غَشَّ ))

[ مسلم والترمذي وابن ماجه واللفظ له ]

  فالغش كبيرة من الكبائر.
 ليس منّا من لم يوتر. أي صلاة الوتر.

 

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ ))

 

[ أخرجه الترمذي عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ]

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَطَمَ الْخُدُودَ، وَشَقَّ الْجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ ))

[ متفق عليه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ]

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، لَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ ))

[ أبو داود عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ]

(( لَيْسَ مِنَّا مَنْ خَبَّبَ امْرَأَةً عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ عَبْدًا عَلَى سَيِّدِهِ ))

[ أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ]

  ماذا أحضر لك زوجك على العيد ؟ فتجيبها: والله لم يحضر لي شيئاً. فتقول لها: هذا الزوج ليس عنده ذوق بالمرّة، يا خسارتك فيه، هذا إبليس نفسه.

 

(( إنّ الرجل ليتكلّم كلمةً لا يلقي لها بالاً من سخط الله تعالى يهوي بها في جهنّم سبعين خريفاً ))

 

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 ليس منّا من فرّق.

 

(( ليس منّي إلا عالمٌ أو متعلّم ))

 

[رواه الديلمي عن ابن عمر]

(( ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعان))

[الترمذي عن عبد الله بن مسعود]

 الذي يلعن كلّ شيء ويطعن بالناس دائماً.
 ليس منّا من تكلّم...؟

 

(( ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به..))

 

[رواه الطبراني عن أنس بن مالك]

  اسمعوا هذا الحديث:

 

(( ليس منّي ذو حسد ))

 

[ من الجامع الصغير عن عبد الله بن بسر ]

  إذاً الحسد، تبرؤ النبي من بعض المسلمين لذنبٍ اقترفه يُعدُّ هذا الذنب كبيرة.. ليس منّي ذو حسدٍ. فالمؤمن يغبط ولا يحسد، وإذا قلب الإنسان مليء بالحسد فليراجع حساباته لأنّ الله عزَّ وجلَّ لا يقبل عمله.

 

علامة إيمان المسلم أن يرى أنّ كلّ مكاسب المسلمين كسباً له:

 

 سوف أقول لكم كلمةً ثانية ودقيقة جدّاً، امتحن إيمانك بما يلي: إذا كان لك أخ مؤمن أكرمه الله بحصوله على شهادة عُليا، أو تزوّج قبلك، ودعاك إلى بيته، فوجدّته مرتّباً به غرفة نوم وأُخرى للضيوف وأصبح عنده زوجة، وأصبح عنده من يعتني به في المساء، ويعد له طعام الغداء والعشاء، وأنت مازلت تمكث عند أهلك، وتنام فوق السقيفة فرضاً، فإذا كنت لم تفرح بأخيك بما أصابه من خير، فهذه علامة النفاق، يجب أن تفرح لأخيك بنيله للشهادة العليا، أو إذا أكرمه الله ببيتٍ، أو أكرمه بالزواج، أو إذا قام بتأسيس مشروعٍ ونجح فيه، علامة إيمانك أن ترى أنّ كلّ مكاسب المسلمين كسباً لك، فشعار المؤمنين:
 كُلُّنا لواحدٍ، والواحد للجميع.
 المؤمنون كُلُّهم لواحدٍ منهم، والواحد كلّ إمكاناته للجميع، هذا هو التعاون فقد قال الله:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) ﴾

( سورة المائدة: آية " 2 " )

 الحسد يفسد الإيمان:

 لذلك هذا الحديث الشريف كما يقول بعضهم: يقصم الظهر، ليس منّي ذو حسد. فالذي يحسد تبرّأَ منه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

(( لا يزالُ الناسُ بخير ما لم يتحاسدوا ))

[روى الطبراني بسند رجاله ثقات عن ضمرة بن ثعلبة رضي الله عنه ]

  والحسد يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل، فالحسد يفسد الإيمان.

 

ظاهرة الغضب ظاهرة نفسيّة مرضيّة خطيرة:

 

 الآن عندنا ظاهرة ثانية نفسيّة مرضيّة خطيرة هي: ظاهرة الغضب.
 تجد طفلاً شرّيراً، ينفجر انفجاراً غير معقولٍ لأتفه الأسباب، هذا الانفجار أسبابه الضغط.. فالطفل مضغوط..الغضب له حالة طبيعيّة، وحالة أُخرى مرضيّة.
 فحالته الطبيعيّة: تغضب أنت من أجل أن تحافظ على نفسك، وعلى دينك وعلى عرضك وعلى مالك، فالغضب شعور نفسي سوي حينما يوظّف للحفاظ على الحياة والعرض والدين والمال.
 أمّا حينما يتجاوز هذا الحدّ إلى العدوان على الآخرين، انتقل الغضب من حالة طبيعيّة إلى حالة مرضيّة، طبعاً يوجد قول:
 من استُغضِبَ ولم يغضب، معناها إنّه إنسان غير سوي.

المؤمن عليه ألا يغضب إلا لله أمّا لنفسه لا يغضب ويسامح الآخرين:

 النبي كان يغضب، لكن اسمعوا كيف كان يغضب، ثبت في الصحيح أنّه عليه الصلاة والسلام قد جاءه من يشفع عنده في حدٍ من حدود الله، فغضب النبيّ وظهرت على وجهه أسارير الغضب، وقال قولته الخالدة:

(( إنّما أهلك الذين من قبلكم، أنّه إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايمُ الله لو أنّ فاطمة بنت محمّدٍ سرقت لقطعت يدها ))

[ متفق عليه عن عائشة]

  امرأةٌ مخزوميّة سرقت فجاء من يشفع لها لئلا تقطع يدها، فغضب النبي غضبته.

 

(( ما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتقم لنفسه في شيءٍ إلا إذا انتُهِكَت لله حرمة، فإذا انتُهِكَت لله حرمة كان أشدّ النّاس غضباً، وما عُرِض عليه أمران إلا اختار أيسرهما ما لم يكن فيه سخط الله عزَّ وجلَّ، فإن كان فيه لله سخط، كان أبعد النّاس منه ))

 

[أخرج الطبراني عن أنسٍ رضي الله عنه ]

  ماذا نستنبط من هذا الكلام ؟ المؤمن إذا اقتدى بالنبيّ يغضب أم لا يغضب ؟ يجب أن يغضب، لكن المؤمن لا يغضب إلا لله، أمّا لنفسه لا يغضب ويسامح، هذا شأن المؤمن، كما كان يفعل النبيّ عليه الصلاة والسلام.
 أمّا الإنسان حينما يغضب لمصلحةٍ فاتته، أو لكسبٍ ضاع منه، أو لعلاقةٍ ينتفع بها قد ضيّعها، حينما يغضب من إنسان حال بينه وبين شهواته، هذا الغضب للذّات هو الغضب المذموم وهو الغضب الذي نهى عنه النبيّ صلى الله عليه وسلم.

 

(( أنّ رجلاً قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: أوصني. قال: لا تغضب. فردَّد مراراً. قال عليه الصلاة والسلام: لا تغضب ))

 

[ أحمد عن حميد بن عبد الرحمن]

  والإنسان بالغضب ينتقل من حال إلى حال، والحلم سيّدُ الأخلاق، وكاد الحليم أن يكون نبيّاً، والذي لا يغضب يكسب لنفسه الصّحة.

 

الشدّة النفسيّة وراء أي مرض يصيب الإنسان:

 

 الآن، الشدّة النفسيّة، هي وراء أي مرض، أمراض القلب، والشرايين، والضغط المرتفع، وأمراض المعدة، والجهاز الهضمي، والقرحة، حتّى الأمراض الخبيثة، هذه الشدّة النفسيّة هي علّةُ العلل، وعندما يغضب الإنسان دخل في الشدّة النفسيّة، فقد قال تعالى:

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) ﴾

( سورة الشعراء: آية " 213 " )

  معنى ذلك أن أحد أسباب القهر، والغضب، والشقاء، والعذاب، الشرك، فالموحّد لا يغضب لعلمه بأنّ الأمر كلُّه لله عزَّ وجلَّ.
 قال أحد الصحابة وقد سرق ماله: يا رب إنّ هذا الذي أخذه، إن أخذه عن حاجةٍ فبارك له فيه، أي أنا مسامحه، وإن كان قد أخذه بطراً فاجعله آخر ذنوبه.

 

 وصحابيّ آخر قيل له: احترق محلّك. قال: لا لم يحترق. وأصر على ذلك، فلمّا ذهبوا إلى المحل وجدوا أن الذي احترق المحلّ الذي جانبه، فعادوا إليه وقالوا: كما قلت. قال: أعلم ذلك ما كان الله ليفعل، فهو واثق، فالمؤمن واثقٌ من حفظ الله عزَّ وجلَّ، ما تلف مالٌ في برٍ أو بحرٍ إلا بحبس الزكاة.

(( ما يباعدُني من غضب الله عزَّ وجلَّ ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تغضب، إنّما يباعدك من غضب الله عزَّ وجلَّ ألا تغضب ))

[ أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما]

 لأنّ الإنسان عندما يغضب يتكلّم كلاماً فيه إساءة.. إذا غضب قسا كلامه، أصبح قاسياً، إذا غضب جحد نعمةً، إذا غضب مثلاً منع خيراً، أو اعتدى، وأكثر المعاصي أسبابها الغضب، فقال له لا تغضب.

 

(( من كظم غيظاً وهو يستطيع أن يُنفِذه دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتّى يخيره في أيّ الحور شاء فليأخذها ))

 

[ أبو داود عن سهل بم معاذ بن أنس الجهني]

  أي أكرمه في الجنّة إكراماً كبيراً، من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه.

 

(( ما تعدُّون الصرعة فيكم (أي الشدّة، والقوّة، والبطولة) فقالوا: الذي لا تصرعه الرجال. فقال عليه الصلاة والسلام: ولكن الصرعة فيكم الذي يملك نفسه عند الغضب ))

 

[البخاريّ ومسلم عن ابن مسعودٍ]

  أي يسيطر على نفسه.

 

الأخلاق الحميدة ترفع الإنسان عند الله وعند الناس:

 

 بالمناسبة، الله عزَّ وجلَّ وصف النبيّ وقد قلت هذه الفكرة سابقاً.. النبي ألم يكن خطيباً لامعاً بل سيّد الخطباء، وكان عالماً وكلّ العلماء عالةٌ عليه، وكان مجتهداً، وكان مفتياً، وقاضياً، وقائداً، وسياسيّاً، وزعيم أُمّة، وكان في قمّة كلّ التفوّقات في العالم، ولكن عندما أراد الله عزَّ وجلَّ أن يمدحه، بماذا مدحه ؟؟؟
 قال تعالى له:

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) ﴾

( سورة القلم: آية " 4 " )

 الذي يرفعك عند الله لا طلاقة لسانك، ولا حدّة ذهنك، ولا جمع المعلومات الدقيقة في دماغك.. لا، الذي يرفعك عند الله وعند الناس الأخلاق الحميدة.
 لي تعليقٌ آخر.. النبيُّ عليه الصلاة والسلام أليس في اعتقاد كلّ المسلمين أنّه سيّد الخلق، وحبيب الحق، ويوحى إليه، ومعصومٌ، وأكرمه الله بالنبوّة والرسالة والقرآن ؟ ومع ذلك قال له:

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) ﴾

( سورة آل عمران: آية " 159 " )

  رغم كلّ هذه الميزات، أوّل إنسان يوحى إليه، رسول، ونبيّ، جاء بالقرآن، كلُّ هذه الميزات، ومع كلّ هذه الميزات يقول سبحانه وتعالى له: ولو كنت يا محمّد أنت بكلّ هذه المراتب العليّة التي وصلتها:

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ (159) ﴾

(سورة آل عمران)

البعد عن الانتماءات الضيقة بين المسلمين و محبتهم لبعضهم البعض:

 

 توجد آيتان فما الفرق بينهما وهما:
 قال تعالى:

﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) ﴾

( سورة الشعراء: آية " 215 " )

﴿ لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾

( سورة الحجر: آية " 88 " )

  فما الفرق بينهما ؟ فالآية الأولى: النبيّ مأمورٌ بأن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، فأحياناً يعتني الشخص بأخيه زيادة ويقول هذا من إخواننا، ولو من جماعة ثانية، فما هذه التفرفة ؟ فالنبي خاطبه الله عزَّ وجلّ فقال له: واخفض جناحك للمؤمنين، للمؤمنين عامّة فأنت انتماؤك لمجموع المؤمنين، فأيّ مؤمن مستقيم، ويعرف ربّه، ومنهجه، ويطبّق الإسلام في بيته، وفي عمله، وسمته حسن، وعقيدته صحيحة، فيجب أن تحبّه وتتعاون معه كذلك، وتكرمه، أمّا هذه الانتماءات الضيّقة، الفقاعات، هذه ترضي الشيطان.

العاقل من عالج كل سبب من أسباب الغضب على حدة ليعيش حياة هانئة مطمئنة:

 أيُّها الأخوة ينبغي أن ننهي هذا الموضوع في هذا الدرس نفسه، كلّ سبب للغضب يعالج على حدة، فإذا كان أسباب الغضب، الجوع، فالبيت المسلم يجب أن يكون الطعام فيه منتظماً، أحياناً في الصباح لا تجد طعاماً، ويخرج الطفل بلا طعام، جائعاً، يتألّم، وتضطرب أوضاعه، أمّا إذا وجد الطفل الطعام جاهزاً في الصباح، أو جاء من المدرسة وكان الطعام جاهزاً، فتقديم الطعام بشكل منتظم هذا مما يخفف من أسباب غضب الصغار.. فقد قالت امرأة لابنتها:

 

 وتعّهدي وقت طعامــه        والهدوء عند  منامـه
فإنّ حرارة الجوع ملهبة        وتنغيص النوم مغضبة

 

***

 فالنبي يقول: "كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يقوت "، عندما يقدّم الإنسان لأولاده غذاءً معقولاً وضمن إمكاناته، ويقدّم بأوقات منتظمة، ووجد العناية بالأكل، هذا من العبادة، فقد أرحت الطفل، وإذا كان الغضب مرضاً فالمعالجة مهمّةٌ جدّاً، فإذا كان الطفل يشكو من لوزاته دائماً، أو من تراكب أسنانه مثلاً، فعندما يبذل الأب عنايته الفائقة بمعالجة أولاده معالجة جيّدة، فالله يعينه ويرزقه، فالله ربُّ النوايا، وهذا عمل عظيم، أحياناً لا يهتمّ ويتفاقم المرض كأن يكون اعوجاج في العظام، أو نقصٌ في الكلس، أو ضعفٌ في الأسنان، أو تراكمٌٌ بالأسنان، أو بعض الأمراض التي تحتاج للمعالجة في وقت مبكّر، أمّا أن يكون إهمال دائم ولا يقتنع الأب بأنّ ابنه مريض، فهذا أحد أسباب الذنب، فلذلك إذا كان أسباب الغضب المرض، فعلاجه المعالجة، فالنبي قال: لكلِّ داءٍ دواء فإذا أصاب الدواء الدّاء برئ بإذن الله عزَّ وجلَّ.
وإذا كان أسباب الغضب التقريع والإهانة يجب على الأب والأم أن يكفّا عن التقريع والإهانة حتّى لا يغضب الابن.
 وإذا كان الغضب محاكاة للأب الغضوب، فإذا كان الأب غضوباً فيصبح نمط البيت كلّه غضب، إذا الأب ثائر وغاضب فأولاده سيكونون على شاكلته:

 إذا كان ربُّ البيت بالطبل ضارباً         فشيمة أهل البيت كلُّهم الرقص

 

***

 فالأب الغضوب والأم الغضوبة يجعلان الولد أشدَّ غضباً منهما يصبحون عنيفين، أمّا الأب الهادئ والأم الهادئة يشيعان الهدوء بأولادهم فالله عزَّ وجلَّ قال:

﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ﴾

( سورة آل عمران: آية " 134 " )

 وإذا كان من دواعي الغضب الدلال المفرط حتّى تضعف شخصيّة الطفل، فقد نسب لسيّدنا علي هذا القول أحبب حبيبك هوناً ما، عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، و أبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما، والحديث الشريف:

 

(( إيّاك والتنعُّم فإنّ عباد الله ليسوا بالمتنعمين.))

 

[ رواه أحمد عن معاذ بن جبل]

علاجات الغضب:

1 ـ على الإنسان أن يغير الوضع الذي هو عليه و هو غضبان:

  إخواننا الكرام، آخر قسم بالدرس النبيّ الكريم أعطانا أربعة علاجات للغضب.
 أوّل علاج: تغيير الوضع الذي أنت عليه وأنت غضبان.

 

(( إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع ))

  غيّر من وضعك

 

 

[أحمد عن أبي ذر]

 

2 ـ الوضوء:

  توجد معالجة ثانية:

 

(( إن الغضب من الشيطان، وإنّ الشيطان خلق من النار، وإنّما تُطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضّأ.))

 

[أبو داود عن عطية ]

  والبارحة قرأت مقالة عن هذا الموضوع، أنّه يوجد عصبٌ بالوجه له علاقة بالجملة نظيرة الودّيّة، فإذا تنبّه بالماء البارد خفف الغليان الداخلي، ولكنني لست متذكِّراً تفاصيل المقال، فهذا ملخّصه.

 

3 ـ السكوت عند الغضب:

  ويوجد توجيه ثالث:

 

 

(( إذا غضب أحدكم فليسكت ))

 

 

[أحمد عن ابن عباس]

  لأنّه إذا تكلّم فكل كلمة تخرج كاللغم أو متفجّرة أو كالقنبلة، اسكت إذا غضبت، أو اتفق مع زوجتك إذا أنت غضبت فلتسكت هي ولا تردّ عليك، وإذا هي غضبت اسكت أنت، فتنحلّ بذلك المشكلة، أمّا كل كلمة يرّد عليها بكلمةٍ أُخرى ينتج منها تفجُّر.
وجاء في الصحيحين:

 

[ صحيح عن سليمان بن صرد]

 

4 ـ الخروج من البيت:

 يوجد حلٌ، إذا كان قد غيّر قعوده وبقي غاضباً، وتوضّأ وظلّ غاضباً، لا يستطيع السكوت، فماذا يفعل ؟؟ أنا أنصح أن يخرج من البيت ولا يظلّ به، فربّما يصل الموضوع إلى الطلاق، اخرج لئلا يتفاقم الأمر إذا لم تستفد مما سبق، فالشيطان قد دخل بينكما، لكن التعوُّذ هذا توجيه إلهي.

 

(( ألا إنّ الغضب جمرةٌ في قلب ابن آدم، أما رأيتم حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن أحسّ بشيء من لك فليلصق بالأرض ))

 

[مسلم عن أبي سعيد الخدري]

  أي يلجأ إلى السكون، لا إلى الحركة، هذه ظاهرة الخجل والخوف، وهذان مرضان نفسيّان يصيبان الصغار.

 

أعظم مهمّة للأب تربية أولاده:

  أغلب الظّن أنّ الأسباب من الكبار، لذلك تحتاج التربية إلى علم، المربّي يجب أن يكون عالماً، وأعظم مهمّة للأب تربية أولاده، وعندما يصبح ابنك إنساناً عظيماً فسوف تنسى كلّ تعبك، وتعيش عشرين أو ثلاثين سنة وتراه أمامك ملء السمع والبصر، فهيماً وأديباً، ومتعلّماً، ويخاف من الله عزَّ وجلَّ، وإذا أصبح عالماً صغيراً ودعا إلى الله، فهذا في صحيفتك، فمن عنده أولادٌ فهذا كنزٌ، فالطفل كنز، هذا الطفل يمكن أن يسعدك إلى أبد الآبدين، اعتنِ به واتعب والتعب محفوظ ولا يضيّع الله تعبك إطلاقاً.
 فالموضوع أصبح على الشكل التالي، الأمراض الوبيلة التي تصيب الأطفال الشعور بالنقص، والحسد، والغضب، وهذه علاجها، مزيد من العناية، والاهتمام، والعدالة، والحكمة التي أكرم الله المؤمن بها، ومن يؤتَ الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.

 

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور