وضع داكن
25-04-2024
Logo
تربية الأولاد إصدار 1994 - الدرس : 15 - التربية الإجتماعية -2- الإيثار - العفو - الجرأة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيُّها الأخوة المؤمنون، مع الدرس الخامس عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام، ولازلنا في موضوع التربية الاجتماعيّة، أو مسؤوليّة الأب عن ابنه في موضوع التربية الاجتماعيّة.

المؤمن يتمتّع بالإيثار وغير المؤمن يتمتّع بالأثرة:

 قد تحدّثنا عن خصائص هذه التربية وهي أن يغرس الأب أو المربّي في نفس ابنه الأخوة الصادقة، والرحمة، والتقوى، والآن ننتقل إلى موضوعاتٍ أُخرى متعلّقةٍ في التربيّة الاجتماعيّة، من هذه الموضوعات الإيثار
أيُّها الأخوة، إمّا أن تؤثر، إما أن تتمتّع بالإيثار، أو بالأَثَرة، الأثرة: الأنانية. لكنّ الأنانيّة مصدر صناعي غير صحيح.
 لأنّ أيّ كلمة في اللغة العربية يمكن أن نضيف إليها ياء النسبة، فتصبح مصدراً مثال ذلك: شعب، شعبيّة، كتاب، كتابيّة، لكن لا يصاغ من الأدوات مصادر مثل: أنا، أنانيّة، هذه الكلمة غلط شائع، أو غير، غيريّة، الصواب: الأنانيّة صوابها الأثرة، والغيريّة صوابها المؤاثرة.
 بادئ ذي بدء، المؤمن من صفاته الأساسيّة الإيثار، يؤثر أخاه المؤمن في كلّ شيء، وإذا أردْت أن تفرّق بين المؤمن وغير المؤمن، فالمؤمن يتمتّع بالإيثار، وغير المؤمن يتمتّع بالأثرة، أي بأبسط حالة الكبيرة له ويأخذها، السرير بجوار النافذة له، المقعد إلى جنب النافذة بالسيّارة له، فدائماً يختار أحسن شيء، ويسبق إليه، المؤمن دائماً يفضّل أخاه عنه، فإن أردْت صفةً ثابتةً في المؤمن هي المؤاثرة، لأنّ الله عزَّ وجلَّ قال:

﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) ﴾

( سورة الحشر: آية " 9 " )

  لو تتبّعت تاريخ الصحابة الكرام، لوجدْت أنّ كلّ أصحاب رسول الله يتمتّعون بهذه الصفة بل هي صفة المؤمنين عامّةً لكن هناك نقطة دقيقة جدّاً، لا مؤاثرة في الخير، والخير كلُّه في المؤاثرة، احفظوا هذه القاعدة السابق ذكرها أي أن تؤثر إنساناً على طاعة الله فهذه المؤاثرة مرفوضة، أن تؤثر كائناً من كان على طاعة الله، من أجل فلان من النّاس تركت الصلاة حتّى لا أُزعجه، هذا كلُّه مرفوض، من أجل أن أُرضي أمّي طلّقت زوجتي، لا، هذه ليست مؤاثرة، فالمؤاثرة لا يمكن أن تقبل إذا آثرت مخلوقاً وعصيت خالقاً، إذا آثرت مخلوقاً على حساب مخلوق آخر، آثرت مخلوقاً فأكرمته، وأسأت إلى مخلوقٍ آخر، هذا الإيثار مرفوض، فدققوا: لا مؤاثرة في الخير.

 

لا مؤاثرة في الخير والخيرُ كلُّه في المؤاثرة:

 

 أنا سأجلس مع هذه الفتاة من أجل أن أهديها إلى الله، أنت جالس في معصية، هذه ليست مؤاثرة، آثرتها على ربّك ؟ لها ربُّها، هناك أُناسٌ كثيرون يتوهّمون أنّهم يؤثرون وهم في الحقيقة مع الشيطان لأنّه قيل: دع خيراً عليه الشرُّ يربو، والقاعدة الشرعيّة تقول: ترك المفاسد مقدّمٌ على جلب المنافع، أريد أن أوضّح هذه القاعدة: لا مؤاثرة في الخير، أي لا يمكن أن يُقبل منك عملٌ تحابي به إنساناً على حساب طاعتك لله، أو على حساب اتصالك بالله، أو على حساب مرضاة الله، أو على حساب إقامة أمر الله، لا مؤاثرة في الخير.
 أخوان قال أحدُهما: أنا لن أُقدّم خدمات لأُمّي حتّى أُفسح المجال لأخي أن يفعل ذلك فيرقى عند الله، هذا كلامٌ مضحكٌ، لا مؤاثرة في الخير، لا ينبغي أن تؤثر أحداً في مرضاة الله، وفي طاعة الله وفي القرب من الله، وفي إقامة أمر الله، لا مؤاثرة في الخير والخيرُ كلُّه في المؤاثرة، أي أنّ الصفة الأساسيّة في المؤمن أنّه يؤثر.
 مثلاً اثنان في سفر، المؤمن الصادق يعطي أفضل محل لأخيه، وأحسن سرير لأخيه، يقوم ويعمل ويقدِّم لأخيه، وبالتعبير الحديث: المؤمن يبني أي يبني حياته على أساس المؤاثرة، حتّى يرضي الله لأنّك إن آثرته فسيؤاثرك هو كذلك، ويصبح التنافس بالمؤاثرة لا بالأثرة، لا بدّ من تنافس، إمّا أن يقوم التنافس على المؤاثرة، وإمّا أن يقوم على الأثرة، وشتّان بين المتنافسين.
 لو فرضنا على الطعام في مودّة، أي هذه القطعة الطيّبة من الخبز قدمها إلى أخيك، وهو كذلك بشر من لحم ودم فسيقدّم اللحم لك، قدّم له المكان المريح وأجلسه فيه، أي أنّك إذا أردت أن يرضى الله عنك فاجعل حياتك قائمةً على المؤاثرة.

الأثرة صفةٌ شهوانيّة لكنّ المؤاثرة صفةٌ رحمانيّة:

 إذا عوّدت أولادك أو تلاميذك أو من عندك في العمل أن يؤثر بعضهم بعضاً فأنت في خير، هذا هو الإيمان.
 لكن إيّاك أن تفهم المؤاثرة على أن تؤثر أخاك وتعصي ربّك، أن تؤثر مخلوقاً وتعصي خالقاً، هذه مرفوضة، واحفظ هذه القاعدة: لا مؤاثرة في الخير، والخيرُ كلُّه في المؤاثرة.
 سبحان الله عندما تكون المؤاثرة موجودة، تجد المحبّة موجودة، أينما جلست فدائماً قدّم أخاك على نفسك، ميّزه على نفسك، وعندما يختار الإنسان أحسن شيء، أحسن محل، وأحسن سرير، وأخذ الكبيرة سلفاً ووضعها بجواره وأمّن عليها هذا الإنسان مكروه، و يسمّونه أنانياً، أو يتمتّع بالأثرة، والأثرة صفةٌ شهوانيّة، ولكنّ المؤاثرة صفةٌ رحمانيّة.
 لا تنسَ أنّ الله سبحانه وتعالى أثنى على أصحاب رسول الله بآيةٍ كريمةٍ تتلى إلى يوم القيامة قال:

﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) ﴾

( سورة الحشر: آية " 9 " )

 يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، فهل كان لك صديق مؤمن في ضائقة ماديّة ذات مرّة وقدّمت له شيئاً من المال وأنت في أمسِّ الحاجة إليه ؟ هكذا يكون المؤمن، هل حاولت أن تؤاثر أخاك بشيء ثمين ؟ والله أعرف شخصاً له بيتٌ هيّأه للزواج وله أخ، فوجد أنّ أخاه أكثر حاجةً منه لهذا البيت، فأخوه متزوّجٌ وأُخلي من بيته وعنده أولاد، قال له: تعال وخذ هذا البيت، هل من المعقول أنّ الله عزَّ وجلَّ يضيِّع هذا الإنسان ويجعله بلا بيت ؟ ولكنه عملٌ يتطلّب الإيمان.

 

ابنِ حياتك على المؤاثرة وعلّمها لأولادك:

 

 ابنِ حياتك على المؤاثرة، وعلّم أولادك المؤاثرة، فإذا لاحظتهم آثر بعضُهم بعضاً، فأثن ِعليهم وكافئهم، فمن يقدّم المحل الجيّد لأخيه، والأكلة الطيّبة لأخيه، أصبح البيت جنّة، تجد البعض أحياناً يتقاتلون ويتنازعون على قطعة من الحلوى، هذه لي، وهذه لك، فأنت إذا كنت بطلاً فعلّم أولادك أن يتشاحنوا على المؤاثرة لا على الأثرة، هذه لك فيعطيه الأحسن، ففي الآية السابقة التي ذكرناها قال تعالى:

﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) ﴾

( سورة الحشر: آية " 9 " )

  الله يقدّر، فكيف يقدّر ؟ قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ (20) ﴾

 

( سورة المزمل: " آية 20 " )

 يقدّر كلّ شيء، يقدّر حجم تضحيتك، يقدّر شدّة احتياجك لهذا الشيء وقدّمته لأخيك، يقدّر أنّك بضائقة ماليّة شديدة، ومعك الخمسة آلاف فقط وأخوك على وشك الزواج فقدّمتها له، فالله يقدّر ويكافئ، وما أجمل مجتمع المؤمنين كلٌ منهم يؤثر أخاه وفي النهاية الله عزَّ وجلَّ يكافئ الجميع.

 

بعض صور الإيثار من سير صحابة رسول الله:

 

 

 هذا الإيثار الطوعي، التعاطف الاجتماعي، يتجلّى في أخلاق المؤمنين، والحقيقة لا تظن أن المؤمن هو الذي يصلّي ويصوم ويؤدّي الشعائر التعبُّديّة، المؤمن الحق هو الذي تجده في المؤاثرة، في البذل، فالله عزَّ وجلَّ قال:

﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ﴾

 

( سورة آل عمران: آية " 133، 134 " )


 ألا يلفت نظركم أنّ الله عزَّ وجلَّ بدأ بصفة الإنفاق ؟ لأنّ الإنفاق فيه بذل، الإنفاق يؤكَّد الإيمان، البذل والتضحية تؤكّد الإيمان، أمّا الكلام يظلَّ كلاماً، والمواقف غير الإيجابيّة أي السلبيّة هذه لا تؤكّد الإيمان في النفس.
 الآن إليكم بعض صور الإيثار من سير صحابة رسول الله رضوان الله تعالى عليهم، ذكر الغزَاليُّ في الإحياء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أُهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رأس شاةٍ فقال: فلان أَحوج إليه منّي، فبعث به إليه، فبعثه هو أيضاً إلى آخر يراه أحوج منه، فلم يزل يبعث به واحدٌ إلى آخر حتّى رجع إلى الأوّل بعد أن تداوله سبعة.
 أي لو فرضنا قطعة لحم جاءتك فقل: والله فلانٌ أحوج منّي، وأرسلتها له، وفلان قال: فلان أحوج منّي، إذاً يوجد إيمان، فالله عز وجل يرضى عن هؤلاء المؤمنين.
 أذكر قصّة أنَّ أصحاب النبيّ رضوان الله تعالى عليهم كانوا في سفر وكانوا جائعين، وقفوا عند خيمةٍ ما عندهم إلا خبز، وبكمّية قليلة، فارتأى أميرهم أن يقسّم الرغيف إلى قطعٍ صغيرة وأن توضع بين أصحاب النبيّ ليأكلوا، فأكلوا، وأكلوا، وأكلوا ثمَّ أضاؤوا المصباح فإذا بالطعام كما هو، كان كلّ واحدٍ منهم يتظاهر بأنّه يأكل ليفسح المجال لأخيه أن يأكل، والثاني يفعل الشيء ذاته، هذا هو مجتمع الصحابة، مجتمع الإيثار.

 

 

الإسلام مواقف فأنت مؤمن بقدر ما أنت تؤثر:

 

 

 الآن تجد عند السفر للحج والكل حجيج، مئتان من الركّاب لمئتين من المقاعد بالطائرة، وتجدهم يتقاتلون على الصعود للطائرة، ولو فكّروا ثانية واحدة فالكل له مكانه، وهم حجّاج، يتنافسون، ويتدافعون، ويتضاربون أحياناً من أجل أن يصعدوا مبكّرين إلى الطائرة مع أنّه لكلّ واحدٌ منهم مكانٌ في الطائرة.
لذلك أيُّها الأخوة الكرام الإسلام ليس كلاماً، ولا ثقافةً، ولا تبجُّحاً، ولا كلاماً جميلاً هكذا يلقى، لكنّ الإسلام مواقف، فأنت مؤمن بقدر ما أنت تؤثر، آثر أخاك، إذا أردت أن توجد محبّة حقيقيّة وتتغلغل إلى أعماق الإنسان، إذا أردْت أن تشعر بعظمة الإيمان عليك أن تؤثر حتّى يشدّ الناس إليك، فالذي يؤثر النّاس يحبُّه النّاس جميعاً.
 هذه زينب الأسديّة أُمُّ المؤمنين التي كانت تلقّب بأُمِّ المساكين لإيثارها ومواساتها، فقد روى ابن سعد في طبقاته أنّ برزة بنت باتع حدّثت أنّه لمّا خرج العطاء أرسل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه نصيبها منه، فلمّا دخل عليها حامل المال، قالت: غفر الله لعمر، غيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا منّي، ظنّت أنّها كلِّفت أن تقسم هذا المال بين أخواتها، فقالوا: هذا كلُّه لك، قالت: سبحان الله واستترت منه بثوبٍ ثمّ قالت: صبّوه واطرحوا عليه ثوباً، قالت راوية القصّة: ثمّ قالت لي أدخلي يدك فاقبضي منه قبضةً فاذهبي بها إلى بني فلان، وبني فلان، من أهل رحمها وأيتامها، فقسمت حتّى بقيت منه بقيّةٌ تحت الثوب، فقالت لها برزة بنت باتع: غفر الله لك يا أُمَّ المؤمنين والله لقد كان لنا في هذا حقّ، فقالت: فلكم ما تحت الثوب، فكشفنا الثوب فوجدنا خمسةً وثمانين درهماً، من كلّ هذا المبلغ الكبير الذي جاءها من سيّدنا عمر:

﴿ وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ (9) ﴾

( سورة الحشر)

  من أعجب مواقف الإيثار وهذا الذي لا يصدّق ما روى القرطبي، قال: ذكر العدوي قال: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عمٍ لي ومعي شيءٌ من الماء، وأنا أقول إن كان به رمقٌ سقيته فإذا أنا به، فقلت: أسقيك ؟ فأشار برأسه أن نعم، فإذا برجل يتأوه، فأشار إليَّ ابن عمّي أن انطلق إليه، فإذا هو هشام بن العاص، فقلت أسقيك ؟ فأشار أن نعم برأسه، فسمع آخر يتأوه، فأشار هشام أن انطلق إليه فإذا هو قد مات، فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمّي فإذا هو قد مات، ولم يشرب أحدٌ الماء لإيثار كلِّ واحدٍ منهم أخاه وهو في آخر لحظات حياته.

 

الإيثار أحد الأسباب التي تُؤهّل الطفل أن يكون اجتماعيّاً:

 

 أخواننا الذين يعرفون في الطب، الجريح يشعر بحاجةٍ إلى الماء تفوق حدّ الخيال فمن الممكن أن يشتري الجريح كأساً من الماء بخمسمئة ليرة لشدّة حاجته للماء، فعندما ينحجم الإنسان يشعر بعطشٍ لا يحتمل، والحجامة شيء بسيط، فنقص الدم يسبب عطشاً كبيراً.
 قرأت قصّة كانت مقرّرة في الصفّ العاشر، باخرة من البواخر العملاقة غرقت في المحيط الأطلسي، وبعض ركابها الناجين ركبوا قارباً كبيراً للنجاة، وكان يوجد فيه كميّة من الماء، نصف برميلٍ فرضاً، فأمير هذا المركب أعطى أمراً أنّ كلّ إنسان ـ لأنّه في عرض المحيط الأطلسي المسافات طويلة جدّاً، فحتّى يكفي الماء للوصول إلى الشاطئ ـ له في اليوم ملعقة ماء فقط، وكان عدد الركاب يربو عن السبعين أو الثمانين راكباً، وصل إلى الشّاطئ منهم أربعة ركّاب فقط، لأنّهم قتلوا بعضهم بعضاً من أجل الماء، فعندما يغفل واحدٌ من الركّاب يلقون به في البحر، حتّى يأخذوا حصّته من الماء، وهي قصّة واقعيّة ومشهورة جداً، وهي مترجمة، ويرويها أدباء كبار، وهي مقرّرة في الكتب المدرسيّة، ثمانون راكباً قتل بعضهم بعضاً من أجل ملعقة من الماء حتّى ينالها قبل أخيه، وقد كانوا على وشك الموت وماتوا جميعاً ولم يشربوا ماءً.
 القصّة الأولى تبيّن تربية الإسلام، الإسلام لو كان كما ينبغي أن يكون بين النّاس لوجدت مجتمعاً الحياة فيه جنّة، فقد قال النبيّ الكريم:

(( إذا كان أمراؤكم خياركم، وأغنياؤكم سمحاءكم، وأمركم شورى بينكم، فظهر الأرض خير لكم من بطنها، وإذا كان أمراؤكم شراركم، وأغنياؤكم بخلائكم، وأمركم إلى نسائكم، فبطن الأرض خير لكم من ظهرها ))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

  بالطبع فكلُّكم يعلم أنّ أصحاب رسول الله من الأنصار كان أحدهم يقول لأخيه المهاجر: عندي بستانان خذ واحداً منهما، عندي بيتان خذ واحداً منهما، فكان يقول هذا المهاجر: بارك الله لك في بستانك، ولكن دُلّني على السوق.
 الأوّل بذل والثاني تعفّف، الآن يوجد اختلافٌ كبير بين الماضي والحاضر.
 إذاً الإيثار أحد الأسباب التي تُؤهّل الطفل أن يكون اجتماعيّاً، فالذي يؤثر نفسه على الآخرين هذا ليس أهلاً أن يعيش في مجتمع، أمّا الذي يؤثر الآخرين على نفسه، هذا مؤَهّل أن يكون في المجتمع محبوباً.

 

سلوك العفو من الصفات التي ينبغي أن يبثها الآباء في نفوس أبنائهم:

  قصّة أرويها دائماً، فلاح أعطوه أرضاً، حوالي عشرين دونماً، وأساسها لإقطاعي، ولهذا الفلاح شيخ، فقال له: يا سيّدي أعطوني هذه الأرض، وهي في الأصل لفلان، فقال له: لا يجوز يا بنيّ أن تأخذها فهذه أرض مغتصبة، عليك أن تردّها إلى صاحبها، أو أن تشتريها منه، وهو فرح فرحاً شديداً، وقد أذهب له شيخه هذا الفرح بقوله له: لا يجوز، وحاول أن تشتريها منه، فذهب إليه وقال له: يا سيّدي، أعطوني عشرين دونماً من أرضك، فسألت شيخي فقال: هذه حرام، فهل تبيعُني إيَّاها تقسيطاً وسأبيع حليّ زوجتي ؟ فقال له هذا الإقطاعي: والله لقد ذهب منّي مئتا دونم ولم يأتِ أحدٌ إلي ويقول مثل ما تقول إلا أنت، فهذه الأرض هديّةٌ منّي إليك، فتملّكها هنيئاً لك.
 الورع جعله يسأل، وبسبب السؤال أعطاه الله عزَّ وجلَّ إيّاها حلالاً طيّباً، فالإنسان لا يتسرّع، بل يتريّث، ويتحرّى الحلال والله موجودٌ وكريمٌ.
 الآن ننتقل إلى صفةٍ أُخرى ينبغي أن يبُثّها المربّون أو الآباء في نفوس أبنائهم وهو سلوك العفو، فالله عزَّ وجلَّ قال:

 

 

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) ﴾

 

( سورة الأعراف: آية " 199 " )

  كلمة خذ ماذا تعني ؟ خذ من الله، فكلّما كان الإنسان عظيماً وقال لك: خذ هذا، يعني هذا أنها قطعة من الألماس، أو سبيكة من الذهب، أو ورقة تملُّك، خذ، فالله عزَّ وجلَّ قال:

 

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) ﴾

 

( سورة الأعراف: آية " 199 " )

  العفو شيء ثمين جدّاً، هو يرقى بالإنسان، فالمنتقم صغير، والعفو كبير، سيّدنا النبيّ عليه الصلاة والسلام ماذا فعلت به مكّة ؟ ائتمرت على قتله، أخرجته، وناصبته العداء عشرين عاماً، ونكّلت بأصحابه، لم تدع أسلوباً يضايق النبيّ وأصحابه إلا فعلته، ثمّ فتحت مكّة وكانت في قبضة النبيّ، وكانت عشرة آلاف سيف متوهّجة تنتظر أمر النبيّ في قريش، وقال عليه الصلاة والسلام: ما تظنّون أني فاعلٌ بكم ؟ قالوا: أخٌ كريم، وابن أخٌ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

 

العفو يرقى بالمؤمنين ويزيل الأحقاد بينهم:

 

 

 يوجد كاتب للسيرة بريطاني أسلم وكتب كتاباً عن سيرة النبيّ عليه الصلاة والسلام قال: لا يسمّى العفوّ عفوّاً إلا بحالة خاصّة جداً، أن يكون هناك شخصٌ قد بالغ في الإساءة إليك، بالغ، ونكّل بك، ثمّ تتمكّن منه بحيث يصبح في قبضتك، عندئذٍ تعفو عنه، هذا هو العفو الذي يرقى بك، أن يكون إنسان قد بالغ بالإساءة إليك، وتمكّنت منه وهو في قبضتك ثمّ تعفو عنه، هذا هو العفو، أمّا عفو الضعفاء ليس عفواً.
 العفو أيُّها الأخوة، هو الذي يرقى بالمؤمنين، هو الذي يزيل الأحقاد بينهم، العفو دائماً عظيم، وكريم، ومحبوب، وليس له أعداء، أمّا لو أنّك انتقمت من عدوٍ لك، هذا الذي انتقمت منه لا ينام الليل وهو يكيد لك، أفقدك الأمن، وأورثته الحقد بانتقامك، وأورثك الحقد أيضاً بكيده لك، فالعفو يرقى، والمنتقم يسفل، العفو كبير، والمنتقم صغير، قال تعالى:

﴿ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) ﴾

( سورة البقرة: آية " 237 " )

  أحياناً يخطب إنسان فتاة، فيعقد عقده عليها والمهر مئة ألف، فيبدو له شيء، فيندم على هذا العقد، ويقول: أريد أن أنسحب من هذا الزواج، والزواج لم يستمر سوى ليلتين، فقد سهر عندهم سهرة عشاء وكلّفه ذلك دفع خمسين ألفاً مهراً لها، فالله عزَّ وجلَّ قال:

 

﴿ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى (237) ﴾

 

(سورة البقرة)

 قد عفوا عنك وسامحوك، فالله عزَّ وجلَّ توجّه لهذا الذي عفي عنه، قال تعالى:

 

﴿ وَلَا تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ (237) ﴾

 

(سورة البقرة)

  أنت كذلك قدِّم هديّة لهم، فهم قد عفوا عنك، وأنت لا تنسَ هذا الفضل، فانظر إلى التوجيه القرآني، وجّه صاحب الحق أن يعفو، وطلب ممن عُفي عنه أن لا ينسى الفضل، فقدّم شيئاً مقابل هذا العفو.

 

النبي عليه الصلاة والسلام مثلنا الأعلى في الوفاء والرحمة والعفو:

 

 الإنسان عندما يبذل ويكافئ على المعروف بمعروف آخر تتنامى هذه المودّة بين المؤمنين، فقد قال تعالى:

﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) ﴾

( سورة فصلت: آية " 34 " )

  هذه أخلاق المؤمنين، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، كلُّكم يعلم أنّ حاطب بن أبي بلتعة صحابيّ، لكن زلّت قدمه ووقع فيما يسمّى بالعرف اليوم الخيانة العظمى، أرسل كتاباً إلى قريش مع امرأة يقول في هذا الكتاب: إنّ محمّداً يزمع أن يغزوكم فخذوا حذركم، هذا العمل في أي عرف دولي يُعدُّ خيانة عظمى يستوجب الإعدام.
 جاء الوحي الأمين إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام، أخبره بهذه الواقعة، فاستدعى أحد أصحابه، وأمره أن يتبع المرأة، وأن يأخذ منها الكتاب , والقصّة طويلة، وجيء بالكتاب إلى النبيّ، وقد كتب فيه هذا الصحابيّ: إنّ محمداً يزمع أن يغزوكم فخذوا حذركم، فاستدعاه النبي وسيّدنا عمر واقف فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، سيّدنا رسول الله الوفاء الذي عنده عجيب، قال: يا عمر إنّه شهد بدراً، لم يهدر له عمله، فقال له: إنّه شهد بدراً، يا حاطب ما حملك على أن فعلت ما فعلت ؟ قال: والله يا رسول الله ما كفرت ولا ارتددت، ولكن أردت أن يكون لي عندهم يد، فليس لي هناك أهلٌ يحمونني، ولي عندهم مال، أردْت بهذا أن يكون لي عنهم يد.
 النبيّ عليه الصلاة والسلام وهو قمّة الوفاء والرحمة والعفو قال بالحرف الواحد: إنني صدّقته فصدّقوه، ولا تقولوا فيه إلا خيراً. يروي كتّاب السيرة أنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام نظر إلى صاحب الذنب فرأى لحظّة ضعفٍ طارئة ألمّت به، أراد أن ينهضه من كبوته، وأن يعينه على شيطانه، لكنّ عمر كما يروي كتّاب السيرة نظر إلى الذنب فرآه خيانة عظمى، والذي يثير العجب أنّ حاطب بن بلتعة، حسن إسلامه وصار مقرّباً من النبيّ عليه الصلاة والسلام وأرسله في مهمّةٍ خاصّة أي أصبح موفده الشخصيّ إلى بعض الملوك، فلو أنّه قطع رأسه بالحقّ قطعها ولكن بذلك أورده إلى النّار، لكن بعفوه جعل من هذا المذنب الخائن إنساناً عظيماً، وأنت لا تعرف أحياناً كم يكون العمل طيّباً إذا عفوت عن إنسان مذنب نادم، المذنب غير النادم له وضع آخر، أمّا المذنب النادم ينبغي أن تعفو عنه.

 

الكبير هو الذي يعفو والصغير هو الذي لا يعفو:

 

 عندما تروي لأولادك، أو عندما يروي المعلّم لطلاّبه هذه القصص، عفو النبيّ عن أهل مكّة.
 ذات مرّة ثمامة بن أثال وهو زعيمٌ لقبيلة وقتل عدداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقع أسيراً، والذين أخذوه أسيراً لم يعرفوا أنّه ثمامة، وجاؤوا به إلى النبيّ وقيّدوه في سارية المسجد، والنبيّ مرّ به، فقال: هذا ثمامة، ما عندك يا ثمامة ؟ فقال ثمامة: إن تقتلْ تقتل ذا دم ـ أي يستحقّ القتل لأنّه قاتل ـ وإن تعفُ تَعفُ عن شاكر، وإن أردْت المال فخذ منه ما تشاء، فتركه النبي لليوم الثاني وأمر بإحضار طعامٍ له من بيته، فأكل، وفي اليوم الثاني سأله: ما وراءك يا ثمامة ؟ فأعاد له الكلام: إن تقتل تَقتل ذا دم، وإن تعفُ تَعفُ عن شاكر، وإن أردْت المال فخذ منه ما تشاء، وفي اليوم الثالث النبيّ أمر بإطلاق سراحه، فغاب مليّاً وعاد وقد اغتسل وأعلن إسلامه وذكر الشهادتين وقال: يا محمّد والله ما كان على وجه الأرض رجلٌ أبغض إليّ منك، واليوم ما على وجه الأرض رجل أحبُّ إليّ منك، وما كان دينٌ أبغض إليّ من دينك، واليوم ما من دينٍ أحبُّ إليّ من دينك، وذكر أشياء كثيرة.
 ثمامة زعيم قبيلة على طريق الشام، ذهب إلى مكّة معتمراً، وهدّد قريشاً أن يقطع عنها القمح، لأنّها كانت تأخذ القمح من عنده، أي أنّ عفو النبيّ الكريم جعل من هذا الإنسان المجرم بطلاً، فأحياناً يغلط الإنسان معك ويسيء إليك، ولا تعلم كم يكون الخير لو عفوت عنه، مرّة ثانية: الكبير هو الذي يعفو، والصغير هو الذي لا يعفو، والعظيم هو الذي يعفو، والحقير هو الذي لا يعفو، فقد قال تعالى:

﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) ﴾

( سورة فصلت: آية " 34 " )

بعض الصور عن العفو:

 سيّدنا عمر عندما قال عن عمير بن وهب: دخل على رسول الله والخنزير أحبُّ إليّ منه، وخرج من عنده وهو أحبُّ إليّ من بعض أولادي.
 بالإسلام لا توجد عداوة أبداً، أحياناً الإنسان يكره عمل الآخرين، أمّا لو عادوا إلى الله عزَّ وجلَّ ينتهي كلّ شيء.
 بعض الصور عن العفو، قال عبد الله بن طاهر: كنت عند المأمون يوماً، فنادى بالخادم يا غلام فلم يجبه أحد، ثمّ نادى ثانياً وصاح: يا غلام، فدخل غلامٌ تركيّ وهو يقول: أما ينبغي للغلام أن يأكل ويشرب، ضجر الغلام، كلّما خرجنا من عندك تصيح يا غلام يا غلام، إلى كم يا غلام، فنكس المأمون رأسه طويلاً، قال: فما شككت بأنه يأمرني بضرب عنقه لأنه تطاول، ثمّ نظر إليّ وقال: يا عبد الله إنّ الرجل إذا حسنت أخلاقه ساءت أخلاق خدمه، وإنّا لا نستطيع أن نسيء أخلاقنا حتّى نحسن أخلاق خدمنا، أي مضطرّون أن نفعل ذلك.
 تجد أحياناً شخصاً مضيافاً فيطلب من أهل بيته إحضار قهوة وشاي، حتّى يخرج أهل بيته عن طورهم ويتكلّمون بكلام لا يحكى، فإذا حسنت أخلاق الإنسان بالمقابل ساءت أخلاق أهله.
 يروى أنّ زين العابدين بن الحسين رضي الله عنهما استدعى غلاماً له، فناداه مرّتين فلم يجبه، فقال له زين العابدين: أما سمعت ندائي ؟ فقال: بلى قد سمعت ؟ قال: فما حملك على ترك إجابتي ؟ قال: أمنت منك، وعرفت طهارة أخلاقك فتكاسلت، فقال: الحمد لله الذي أمن منّي غلامي.
 مرّة سيّدنا عمر قال له أحد الصحابة: إنّ النّاس خافوا شدّتك وبطشك، فبكى، قال: والله يا أبا ذر، لو علم النّاس ما في قلبي من الرحمة لأخذوا عباءتي هذه، لكنّ هذا الأمر لا يناسبه إلا كما ترى.

على الإنسان أن يتصرف بحسب مكانته لا بحسب ما يستوجب الطرف الآخر:

 الأمر يحتاج إلى شدّة ظاهرة، مما يروى عن زين العابدين أيضاً أنّه خرج مرّةً إلى المسجد فسبّه رجل، فقصده غلمانه ليضربوه ويؤذوه، فنهاهم زين العابدين وقال لهم: كفّوا أيديكم عنه، ثمّ التفت إلى ذلك الرجل وقال: يا هذا أنا أكثر مما تقول، وما لا تعرفه عنّي أكثر مما عرفته، فإن كان لك حاجة في ذكره ذكرته لك، فخجل الرجل واستحيا، فخلع له زين العابدين قميصه وأمر له بألف درهم، فمضى الرجل وهو يقول: أشهد أنّ هذا الشّاب ولد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
 فأنت تتصرّف بحسب مكانتك، لا بحسب ما يستوجب الطرف الآخر، بل بحسب مكانتك، اصنع المعروف مع أهله ومع غير أهله، فإن أصبت أهله أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت أهله.
 مرّة النبيّ الكريم، يبدو أنّ إنساناً تطاول على الإسلام فقال: من يقطع لسان هذا الرجل ؟ ماذا يفهم من كلمة: من يقطع لسانه ؟ أحدهم فهم أنّه يجب أن يقطع له لسانه، أمّا في الحقيقة أراد أن تقطع لسانه بالإحسان إليه.
 أحياناً الإنسان يبتلى بجار سفيه، فإذا قدّم له هديّة وأكرمه فبذلك يقطع له لسانه ولا يوجد غير هذه الطريقة وهي ناجحةً جداً فالسفيه اقطع لسانه بالإحسان إليه.
 يروى عنه أيضاً أنّ غلامه كان يصبُّ له ماءً بإبريقٍ مصنوع من الفخّار، وقع الإبريق على رجل زين العابدين فانكسر وجرحت رجله، فقال الغلام على الفور: يا سيّدي يقول الله عزَّ وجلَّ:

﴿ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ ﴾

( سورة آل عمران: آية " 134 " )

  قال زين العابدين: لقد كظمت غيظي، فقال الغلام: ويقول:

 

﴿ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ﴾

 

( سورة آل عمران: آية " 134 " )

  قال: قد عفوت عنك، فقال الغلام: ويقول:

 

﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ﴾

 

( سورة آل عمران: آية " 134 " )

  قال له زين العابدين: اذهب أنت حرٌ لوجه الله:

 

﴿ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) ﴾

 

( سورة آل عمران: آية " 134 " )

  كسر الإناء، وجرح رجله، واعتقه لوجه الله، هذه أخلاق المؤمنين.

 

من عفا ساد ومن حلُم عظُم ومن تجاوز استمال إليه القلوب:

  عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: لمّا قدم عُيينة بن الحصين، نزل عند ابن أخيه الحرُّ بن قيس، وكان النفر الذين يدنيهم عمر إذا كان القرّاء أصحاب مجلس أمير المؤمنين كهولاً كانوا أو شبّاناً، فقال عيينة: استأذن لي على أمير المؤمنين، فاستأذن له فلمّا دخل قال: يا ابن الخطّاب والله ما تعطينا الجزل الكثير، ولا تحكم بيننا بالعدل ـ أي تطاول على سيّدنا عمر ـ فغضب عمر حتّى همّ أن يوقع به، فقال الحرُّ بن قيس: يا أمير المؤمنين إنّ الله تعالى يقول لنبيّه:

 

 

﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) ﴾

 

( سورة الأعراف: آية " 199 " )

  فو الله ما جاوزها عمر حين تلاها، وكان وقّافاً عند كتاب الله عزَّ وجلَّ.
 مرّة عبد الله بن الزبير بعث إلى سيّدنا معاوية كتاباً يقول فيه: أمّا بعد، فيا معاوية إنّ رجالك قد دخلوا أرضي، فانههم عن ذلك، وإلا كان لي ولك شأنٌ والسلام، وكان عند سيّدنا معاوية ابنه يزيد، قال له: يا يزيد ما ترى في هذا الكتاب ؟ فقرأ يزيد الكتاب فاضطرب، وقال: أرى أن ترسل له جيشاً، أوّله عنده وآخره عندك يأتوك برأسه، وكان سيّدنا معاوية حليماً فقال: خيرُ ذلك أفضل، فجاء بالكاتب وقال له: اكتب، أمّا بعد، فقد وقفت على كتاب ولد حواريِّ رسول الله ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلُّها هيّنةٌ أمام رضاه، لقد نزلت له عن الأرض وما فيها، فأتى الجواب من عبد الله بن الزبير وفيه: أمّا بعد، فيا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك ولا أعدمك الرأي الذي أحلّك من قومك هذا المحل، فجاء بابنه يزيد وأطلعه على الجواب وقال له: يا بنيّ من عفا ساد، ومن حلُم عظُم، ومن تجاوز استمال إليه القلوب.
 ابن الزبير مواطن، ومعاوية خليفة، أرسل له كتاباً شديد اللهجة، قاسياً، فيه تطاول، وعبد الله بن الزبير ولد حواريِّ رسول الله سيّدنا الزبير بن العوّام فقد قال له رسول الله: أنت حواريُّ هذه الأمّة.
 كان رأي يزيد أن يرسل له جيشاً ليأتوا برأس عبد الله بن الزبير، ولكن عفو سيّدنا معاوية عنه استمال قلب ابن الزبير إليه.

 

العفو من شيم الكرام:

 

 

 كلمّا عفوت تكون كبيراً جدّاً، فالنّاس خضعوا وأحبّوا ووالوا وأيّدوا ونصروا بالعفو، العفو من شيم الكرام.
 سيّدنا أبو بكر الصدّيق كان يعطي لمسطح عطاءً وفيراً وتكلّم عن ابنته السيّدة عائشة كلاماً قبيحاً، حديث الإفك، ما زاد عن أن أمتنع عن العطاء، ولكن الله عاتبه فقال:

﴿ وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) ﴾

( سورة النور: آية " 22 " )

  إذا أحد الأشخاص تكلّم عن ابنتك وهي طاهرة أطهر من ماء السماء، تكلّم في عرضها، وأنت امتنعت عن مساعدته، فالله عاتبه من أجل ذلك، معنى ذلك فنحن مأمورون بالعفو، أمر، هذه المعاني تغيب عن بعض النّاس، تجد الحقد يأكل قلبه، ويتحرّك حركة عشوائيّة، ويبحث عن انتقام، يقول عليه الصلاة والسلام:

 

(( من كظم غيظاً وهو يستطيع أن ينفذه، دعاه الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتّى يخيّره في أيِّ الحور العين شاء.))

 

[أحمد عن سعد بن معاذ بن أنس]

  انظر، كظم غيظاً وهو قادرٌ على إنفاذه، هذا مقام كبير جداً، فمن الداخل يغلي غلياناً ومن الخارج ضابطٌ لأموره، والنبي قال:

 

(( الإيمان قيد الفتك ))

 

[ أخرجه البخاري عن أبي هريرة، وأحمد و أبو داود عن معاوية ]

  قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الطبرانيّ:

 

(( ألا أُنبّئكم بما يشرّف الله به البُنيان ويرفع الدرجات. قالوا: نعم يا رسول الله. قال: تحلُم على من جهل عليك، وتعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك ))

 

[رواه الطبرانيّ عن عبادة بن الصامت]

  هذا الخلق الخامس في الأخلاق الاجتماعيّة.

 

الجرأة أساس الحياة الاجتماعيّة الراقية:

 

 آخر خلق ينبغي أن يغرسه المربّي أو الأب في نفس ابنه الجرأة.
 الحقيقة هناك فرق دقيق بين الجرأة والوقاحة، فهناك مواقف فيها وقاحة، لكن عندما يقدّم الإنسان رأيه الصحيح الصريح من دون خجل وبأدب فهذه جرأة، والجرأة أساس الحياة الاجتماعيّة الراقية، فتوجد مواقف قد سجّلها التاريخ لبعض العلماء، ومن هذه المواقف:
 أحد العلماء اسمه أبو حازم جرت بينه وبين سليمان بن عبد الملك محاورة، قال سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت ؟ فقال أبو حازم: لأنّكم خرّبتم آخرتكم، وعمّرتم دنياكم، فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب ـ هذا أوّل جواب ـ قال سليمان: فكيف القدوم على الله غداً ؟ قال: أمّا المحسن فكالغائب يقدم على أهله، وأمّا المسيء فكالعبد الآبق يقدم على مولاه، قال سليمان: أيُّ القول أعدل ؟ قال أبو حازم: قول الحقِّ عند من تخافه أو ترجوه ـ أحياناً شخص تحبُّه حبّاً جمّاً وارتكب غلطة كبيرة أمامك، فأنت تميل إلى أن لا تتكلّم معه ولا كلمة، فالشخص كبير عظيم وله قيمته وارتكب غلطة كبيرة، وأنت تعلم أنّها سلوكٌ منحرفٌ، لكن لمكانته الكبيرة عندك، أو لخوفك منه، أو لطمعك بما عنده ترجو السلامة فتسكت، هذا السكوت خطأ كبير ـ قال سليمان: فأيّ المؤمنين أكيس ؟ ـ أي أعقل ـ قال: رجلٌ عمل بطاعة الله ودلَّ النّاس عليها، فقال سليمان: فأيُّهم أحمق ؟ قال: رجلٌ انحطَّ في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره ـ أي أنّ أندم إنسان هو من باع آخرته بدنيا غيره ـ قال سليمان: هل لك يا أبا حازم أن تصحبنا فتصيب منّا، ونصيب منك ـ نحن نعطيك وأنت تعلّمنا ـ قال: أعوذ بالله، قال سليمان: ولمَ ذاك ؟ قال: أخشى أن أركن إليكم قليلاً فيذيقني الله ضِعف الحياة وضِعف الممات، قال له سليمان وقد قام ليذهب: أوصني يا أبا حازم، قال: سأوصيك وأوجز، عظِّم ربّك، ونزّه أن يراك حيث نهاك وأن يفقدك حيث أمرك.
 هذا موقف فيه جرأة.

الجرأة تنمّي الشخصيّة والخوف والسكوت يضعفها:

 العزُّ بن عبد السلام قال مرّةً لسلطان مصر نجم الدين أيوب وكان في مجلسٍ حافل برجال الدولة: يا أيّوب ما حجّتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثمَّ تبيح الخمور ؟ فقال: هل جرى هذا ؟ فقال: نعم، إحدى الحانات يباع فيها الخمور، وتستباح فيها المنكرات، وأنت تتقلَّب في نعمة هذه المملكة، فقال: هذا ليس عملي، هذا من زمان أبي، فقال العزُّ بن عبد السلام: أنت من الذين يقولون:

﴿ بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) ﴾

( سورة الزخرف: آية " 22 " )

  أيضاً الأب والمربّي إن وجد من ابنه موقفاً فيه جرأة ينبغ ِأن يثني عليه لأنّ الجرأة تنمّي الشخصيّة، والخوف والسكوت يضعفها، فمن الجرأة أن تعوّد ابنك أن يقول الحق ولو كان مرّاً بدون وقاحة بالطبع.
 قد ذكرنا: الجرأة والإيثار والعفو، مع الرحمة في الدرس الماضي والأخوة والتقوى، ستُّ صفاتٍ إذا غرستها في نفس ابنك أو نفس من تربّيه فقد أهّلته ليعيش في المجتمع، أصبح محبوباً، وأصبح إنساناً وعظيماً، وأصبح يستقطب الناس بجرأته وإيثاره وعفوه ورحمته وأُخوَّته وتقواه، ستّ صفات.
 بالطبع الأولى أن نقول فاقد الشيء لا يعطيه، فالمربّي والمعلّم والأب عليه أن يتمثّل هذه الصفات أوّلاً، وأن يغرسها في نفس ابنه ثانياً، عندئذٍ يرى الثمار يانعةً والحمد لله ربِّ العالمين.
 الحمد لله ربِّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الصادق الوعد الأمين، اللهمّ أعنا على دوام ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وارزقنا الشوق إلى لقائك، ولذّة النظر إلى وجهك الكريم، اللهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه واجعلنا ممن يستمعون القول فيتّبعون أحسنه، أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور