وضع داكن
16-04-2024
Logo
تربية الأولاد إصدار 1994 - الدرس : 18 - التربية الإجتماعية -5- حق الجار - حق المعلم
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الأخوة الكرام مع الدرس الثامن عشر من دروس تربية الأولاد في الإسلام، ولازلنا في مسؤولية الآباء عن تربية أولادهم التربية الاجتماعية وقد بدأنا بمجموعة آدابٍ متعلقةٍ بالأبوين وبالأرحام واليوم ننتقل إلى الآداب المتعلقة بحسن الجوار.

أحاديث من السُّنة الشريفة في حقِّ الجار وحسن الجوار:

 يا أيها الأخوة، لا يقبل من الجار أن يكفّ أذاه عن جاره فقط، ولا أن يدفع عنه بيده أو بجاهه أذى غيره، بل يدخل في حسن الجوار أن يجامل الجار بنحو التعزية عند المصيبة، والتهنئة عند الفرح، والعيادة عند المرض، والنصح له وإكرامه.
 إذاً كفّ الأذى أن تكف أذاك عن جارك هذا موقف سلبي، أو أن تكُفّ أذى غيرك عنه إما بيدك أو بجاهك هذا أيضاً لا يُعدّ فقط من حسن الجوار، حسن الجوار أن تعزيه إذا أصابته مصيبة، وأن تهنئه إذا أصابه خير، وأن تعوده إذا مرض، أن تقرضه، أن توصله، أن تزوره، أن تبدأه بالسلام، وأن تنصحه في دينه ودنياه، وأن تكرمه، إضافة إلى كفّ الأذى عنه، وكفّ أذى الآخرين بيدك أو بجاهك، هذا مجمل ما يعني حسن الجوار.

(( من أغلق بابه دون جاره مخافةً على أهله وماله فليس ذلك الجار بمؤمن ))

[كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ‏الخرائطي في مساوي الأخلاق عن ابن عمرو‏‏]

  لمجرد أن تخاف من جارك فهذا الجار ليس مؤمناً، الجار المؤمن تأمنه على مالك وعلى عرضك، إذا يوجد خوف أو قلق ففي ذلك مشكلة.

 

(( من أغلق بابه دون جاره مخافةً على أهله وماله فليس ذلك الجار بمؤمن ))

 

[كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، ‏الخرائطي في مساوي الأخلاق عن ابن عمرو‏‏]

(( َلَا يَدْخُلُ رَجُلٌ الْجَنَّةَ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ ))

[أحمد عن أنس بن مالك]

  قال صلّى الله عليه وسلّم:
 أتدرى ماحقّ الجار ؟ إذا استعان بك أعنته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن مرض عدته، وإن أصابه خير هنّأته، وإذا أصابته مصيبةٌ، عزيته، وإذا مات اتبعت جنازته، ولا تستطل عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهةً فأهدِ له منها وإن لم تفعل فأدخلها سراً، ولا يخرج بها ولدك ليغيظ ولده، ولا تؤذه بقتارِ قدرك إلا أن تغرف له منه. هذا الحديث أصل في الإحسان إلى الجار.
 لكنّ الشيء الذي يلفت النظر أن النبي صلّى الله عليه وسلم عدَّ إكرام الجار من لوازم الإيمان:

 

((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ))

 

[ رواه الشيخان عن أبي هريرة ]

الجيران لهم حقوقٌ ثلاثة على تباين:

 أيها الأخوة الكرام، الجيران لهم حقوقٌ ثلاثة على تباين، فأيُّ جار ولو كان غير مسلمٍ، ولو كان مجوسياً، له عليك حقُ الجوار، لكنّ الجار المسلم له عليك حقّان حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام، لكنّ الجار القريب المسلم له عليك ثلاثة حقوق: حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام وحقُّ القرابة.

(( الجيران ثلاثة، جارٌ له حق وهو المشرك، وجار له حقّان وهو المسلم، حقُّ الجوار وحقُّ الإسلام، وجار له ثلاثة حقوق مسلمٌ له رحم، فله حقُّ الجوار والإسلام والرحم ))

[روى الطبراني عن جابر رضي الله عنه]

  عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول مجاهد: كنت عند عبد الله بن عمر وغلامٌ له يسلخ شاةً، فقال: يا غلام إذا سلخت الشاة فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مراراً لأني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:

 

(( مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ))

 

[ متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

  تقول السيدة عائشة: " لا تبالي المرأة إذا نزلت بين بيتين من الأنصار صالحين إلا أن تنزل بين أبويها ".
 أي لقدسية الجار، امرأة الجار كأنّها بنت أو أخت، أي إذا الإنسان تجاوز الحد مع أيّةِ امرأة فمع امرأة الجار الإثم مئة ضعف أو ألف ضعف أحاديث بهذا المعنى.
 قال: من الإحسان إلى الجار أن تبذل له ما يطلب من نحو النار والماء والملح، وأن تعيره بعض الأواني وحاجات المنزل كالقدر والصفحة والسكين والقدوم والغربال وحمل مفسرون كثيرون قوله تعالى:

 

﴿ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) ﴾

 

( سورة الماعون آية "7 " )

  أي يمنعون هذه الحاجات عن جيرانهم، الحقيقة أن الإنسان الآن أصبح في تدابر وقطيعة، ولكن أحياناً تكون الأسرة منعقدة على الطعام ويلزمهم نصف ليمونة، أو شيء من الحاجات الأساسية بكمية قليلة، أو رغيف من الخبز أحياناً، أو وعاء، فإذا وجدت المودة بين الجيران فلا توجد مشكلة، أحياناً يكون عند الجيران ضيفٌ فتحتاج لطاولة طعام مثلاً.

 

حق الجار مقدس:

 

 الإنسان إذا كانت علاقاته مع الجيران متماسكة ومتينة جداً هو في بحبوحة كبيرة جداً لأنّ الحياة أخذ وعطاء، دين ووفاء، فإذا الإنسان كانت علاقاته مع الجيران طيبة جداً، أحياناً يضطر يلبس ثيابه ويخرج من المنزل حتى يشتري ليمونة، فهناك أطعمة تحتاج إلى الليمون، وأحياناً يحتاج إلى سلم أو منضدة أو كرسي، جاءه ضيوف أكثر من عدد الكراسي الموجودة لديه فيحتاج إلى كرسيين، إذا كان هناك مودة ومحبة تجدهم متعاونين، أنا أعرف الجيران أحياناً يصبح البيتان بيتاً واحداً إذا كان عنده لازمة أو فرح يفتحون البيتين على بعض.
 هذا الدرس في الحقيقة للصغار والكبار، فنحن نتعلّم ككبار مع الصغار، فالدرس عن تربية الأولاد لكننا إذا عرفنا حقوق الجار يمكن أن نلقنها إلى صغارنا.
 كان لعبد الله بن المبارك وهو من كبار العارفين بالله جار يهودي، أراد هذا الجار أن يبيع بيته، فقيل له: بكم تبيع البيت ؟ قال: بألفين، قيل له: دارُك لا تساوي إلا ألفاً واحداً فلم طلبت الألفين ؟ قال: صدقتم لكن ألفاً للدار وألفاً لجوار عبد الله بن المبارك.
 يريد سعراً عالياً لبيته بسبب جاره، هذا اليهودي جار كريم، طلب ألفاً لبيته وألفاً ثمن جيرة عبد الله بن المبارك، يقولون أُخبر ابن المبارك بذلك، فدعا جاره وأعطاه ثمن الدار وقال: لا تبعها.
 لولا ما لقيه اليهودي من ابن المبارك من حسن الخلق وكرم المعاملة لما وقف من بيع الدار هذا الموقف.
 رووا أيضاً عن عبد القادر الجزائري رحمه الله تعالى كان له جار مسلم ولكنَّه فقير، اضطر أن يبيع بيته فطلب فيه ثمناً، دفعوا له أقل فغضب قال: والله أنا لا أبيع جيرة الأمير بهذا المبلغ، أيضاً الأمير بلغه ذلك، ودفع لجاره ثمن بيته وقال: ابقَ جارنا.
 الجار مقدس، والإنسان إذا كان بينه وبين جيرانه محبة ومودة تجده مطمئِناً، الحياة فيها مخاوف ومفاجآت ومتاعب، الإنسان يضطر أن يسافر أحياناً، وأنا سمعت عدداً من القصص من العجيب.
 ابن الجار أصيب بحادث سيارة، والأب مسافر، الجار يعامله كابنه أخذه من مشفى إلى مشفى، ومن طبيب إلى طبيب، فحصه، وصوره، وحلل له كأنّه ابنه، جاء وعطل عمله يومين أو ثلاثة وهو يتنقل بابن جاره من طبيب إلى طبيب، ومن مشفى إلى مشفى، ومن تصوير إلى تحليل، وهو ينفق، هذا هو الجار، جاري مسافر وهذا ابنه وأنا أقرب الناس له، فعندما يسافر الإنسان ويكون له جيران ذوو أخلاق عالية، مؤمنون طيّبون يطمئن فكل الأمور تُحَل في غيبته.

أبواب حسن الجوار:

 الحقيقة عندما يكون الإنسان محسناً لجاره فالمكسب معه، فقد دخل في عالم الأمن، عالم الحب، عالم المودة، عالم تبادل المنافع، عالم العطاء.

1ـ أول أبواب حسن الجوار أن تحتمل أذى جارك:

 مرة ثانية أحد أبواب حسن الجوار أن تحتمل أذى الجار، أي يجب أن يكون عندك قدرة على امتصاص الإساءات، تجد شخصاً لا يتحمّل فوراً يرد على الإساءة بإساءة، لكنّ المؤمن عنده قدرة اسمها: امتصاص الإساءة، أي أنّ الجار أساء وكأنّه لم يسيء ولكن هذا لا يطيقه إلا مؤمن هدفه إرضاء الله عزَّ وجلَّ، هدفه إرضاء الله، فإذا أخطأ الجار أو تجاوز جهلاً أو خطأً أو غفلةً، فليس عنده هذا الحقد، تجده يمتصّ الإساءات وكأنّها لم تقع، هذا المؤمن، فأولى بنود حسن الجوار كفُّ الأذى عن الجار.

2ـ أعلى درجة في حسن الجوار أن تكف أذى الآخرين عن جارك:

  الدرجة الأعلى أن تكُّفَّ عنه أذى الآخرين، فأحياناً يوجد جار آخر سفيه وأنت الجار الأقرب، فرأيت تطاولاً فدافعت عن جارك، أو عملت وساطة، أو أصلحت بينهما، وإذا كنت قوياً تمنع جارك الثاني السيّئ منعاً قطعيّاً.

 

3ـ الباب الثالث الإحسان إلى الجار:

   الباب الثالث الإحسان إلى الجار.

 

 

4ـ الباب الرابع تجاوز أخطاء الجار:

  الباب الرابع تجاوز أخطاء الجار، فإذا أخطأ فعليك أن تتجاوز عن هذا الخطأ، فإذا أخطأ عن غير قصد فمن باب أولى أن تتجاوز عنه، وإذا أخطأ عن غير قصد واعتذر منك فالأولى أن تعفو عنه.
 أصبح هناك خطأ يجب أن تتجاوزه، وخطأ عن غير قصد أولى أن تتجاوزه، وخطأ عن غير قصد مع اعتذار فمن باب أولى أن تتجاوزه وأن تعفو عنه.
 الحقيقة أعلى المراتب، أن تحلم على من جهل عليك، وأن تحسن إلى من أساء إليك، وأن تعفو عمن ظلمك، هذه بالكلام سهلة، لكن بعالم الواقع عندما يتلقّى الإنسان إساءة من إنسان يتمنى أن يقطّعه قطعاً، أو أن يحطمه، ويتمنى أن ينتقم منه أشدّ الانتقام، أو يكيل له الصاع عشرة، هكذا النفس البشريّة، فعندما ينتصر الإنسان على نفسه ويعفو عمن أساء إليه، ويعطي من حرمه، ويصل من قطعه، ويعفو عمن ظلمه، ويحلم على من جهل عليه، هذه مرتبةٌ عاليةٌ جداً وقال العلماء: إنّها مرتبة الصدّيقيّة.

 

 

عليك بالإحسان إلى جارك لأن الإحسان يقطع اليد ويقصّ اللسان:

 

 

 قال الرسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم:

(( أمرني ربي بتسع خشية الله في السر والعلانية، كلمة العدل في الغضب والرضا، القصد في الفقر والغنى، وأن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني، وأن يكون صمتي فكراً، ونطقي ذكراً، ونظري عبرة ))

[أخرجه زيادات رزين عن أبي هريرة ]

  بالمناسبة أنت لا تعلم ماذا يعني العفو عن جارك ؟ الإنسان بحكم غريزته وبهيميته يتمنى أن ينتقم، أما لو عفا، أي أنّ أحد وسائل معالجة المسيء أن تعفو عنه أحياناً ممكن بعفوك أن تقرّبه، فسيّدنا عكرمة بن أبي جهل أهدر النبي دمه ولو تعلّق بأستار الكعبة فلمّا طلب منه أن يعفو عنه عفا عنه، صار عكرمة من أقرب الناس لرسول الله ومن أشدّ الصحابة الكرام دفاعاً عن رسول الله، فأنت إذا كان لك جار خصم وتعفو عنه، قد لا تصدّق أنّ هذا الجار المزعج أصبح أقرب الناس إليك.
 النبيّ الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم كان عنده قدرة كبيرة جداً أن يجلب إليه الناس، عنده قدرة يصبح بها أعداؤه الألدّاء أشدّ الناس حباً له، فالمؤمن من باب أولى، النبي الكريم عنده هذه القدرة وأنت مؤمن فيجب أن تحاول أن تستجلب الخصوم، ودائماً الإحسان هو الذي يجلب، فالجار السفيه بالإحسان إليه يسكت لسانه، الجار المؤذي الإحسان إليه يقطع يده، الإحسان يقطع اليد ويقصّ اللسان، فالموفّقون والأذكياء في الحياة يصلون إلى مآربهم بأسلوبٍ سهلٍ.
 مثلما أخبرتكم من قبل عن سيّدنا معاوية عندما جاءه كتابٌ من عبد الله بن الزبير يقول فيه: أما بعد، يا معاوية إنّ رجالك قد دخلوا أرضي فانههم عن ذلك وإلا كان لي ولك شأنٌ والسلام، بالطبع كان يزيد فيه دم الشباب، فلما قرأ الكتاب قال: أرى أن ترسل له جيشاً أوّله عنده وآخره عندك يأتونك برأسه، ولكن سيّدنا معاوية كتب: أما بعد، لقد وقفت على كتاب ولد حواريّ رسول الله، ولقد ساءني ما ساءه، والدنيا كلُّها هيّنة جنب رضاه، فجاء الجواب: أما بعد، فيا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك، ولا أعدمك الرأي الذي أحلّك من قومك هذا المحل.
 لاحظ لو كان قد أخذ سيّدنا معاوية برأي ابنه يزيد لحدثت حرب بينهم وقتلى وفتن لسنوات عدّة، وصلح ونقض لوقف إطلاق النار، وإطلاق نار من جديد، وتستمر لسنوات، لكن بهذا الموقف الحليم الذي فيه عفو قص به لسانه، فقط تطاول أولاً بقوله: أما بعد، يا معاوية، أما بعد ذلك قال: أما بعد، فيا أمير المؤمنين. فقد اختلف الكلام.

 

على الإنسان أن يجنح إلى العفو بدلاً من الانتقام:

 

 أنت بالإحسان بإمكانك أن تقُصّ اللسان، مجازاً، وأن تقطع اليد بالإحسان.

((ألا أدلُّكم على ما يرفع الله به الدرجات. قالوا: بلى يا رسول الله. قال: تحلم على من جهل عليك، وتعفو على من ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك ))

[روى البزّار والطبراني عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه ‏‏]

  حدثني أخ من أخواننا الكرام يسكن في بلدة بعيدة عن دمشق عن حادث قتل بين أسرتين، وتفاقم الحادث إلى قتل مقابل أخذاً بالثأر، وتهيّأ الطرف الثاني للأخذ بالثأر، وهذه العملية سلسلة لا تنتهي فقد تستمر عشرين سنة أو ثلاثين سنة، فحضر الأخ إلى الشام واستمع لخطبة وموضوعها كان عن العفو وهي من الخطب الموفّقة، فاستمع لهذا الشيء فتأثّر، فأخذ شريط الخطبة إلى بلده وأسمعه للطرفين، فما كان من الطرف المعتدي إلا أن ذهب إلى المعتدى عليه مستسمحاً ومعه هدايا وتم الصلح بين الأسرتين، وانتهت سلسلة القتل والأخذ بالثأر، ومن شدّة فرحه اشترى عدداً كبيراً من هذه الأشرطة وقام بتوزيعها في حمص بلا مقابل، نظير أن يحل العفو محل الانتقام.
 العنف لا يأتي إلا بالعنف، العنف طريق مسدود، فبعد عشرين سنة من العنف تخلّفنا مئة سنة، السِنون إلى الخلف ولا غالب أو مغلوب، فمن استفاد ؟ العدو.
 لذلك موضوع العفو هام، فأحياناً بالعفو تبني أمّة، وبالعفو تؤسس وحدة وطنية، العفو شيء مهم جداً، فأنا أتمنى أن يجنح الإنسان إلى العفو بدلاً من الانتقام.
 الانتقام يكون قد قرّب صاحبه من بهيميته، أمّا بالعفو قربه من إنسانيته، بالانتقام يصغر، أمّا بالعفو يكبر، بالانتقام يتفجر الشر، أمّا بالعفو ينطوي الشر، الشر يتفاقم بالانتقام أمّا بالعفو يتلاشى، بالانتقام تبتعد عن الله أمّا بالعفو تتقرب من الله، بالانتقام تشعر بالقلق لكن بالعفو تشعر بالأمن، فالعفو من نتائجه الأمن والطمأنينة والمحبة، وانقطاع الشر وإحلال الخير مكان الشر، طبعاً أصل هذا المعنى قوله تعالى:

 

﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) ﴾

 

( سورة فصلت: آية " 34 " )

التربية لا تنجح إلا إذا اجتمع التوجيه النظري مع التطبيق العملي:

 قال: أنت إذا ملكت نفسك عند الغضب تصبح أقوى الأقوياء، تجد أشخاصاً كثر تتفلت أنفسهم عند الغضب، ويرتكب الشخص منهم حماقات، وبعد الحماقات يضطر إلى أن يعتذر، كان بمرتبة عالية، فتحامق فأصبح بحاجة إلى أن يتذلل أمام الأقوياء، أقول لمثل هذا الإنسان أنت لا تطلع ولا تنزل، لك مستوى لو لم تتجاوزه إلى أعلى وانتقمت وتوعدت وبطشت، الآن كنت في غنى عن هذا الذل الذي وقفته أمام فلان.
 أعرف شخصاً في ساعة غضب تكلّم بكلام من دون تفكير وبالطبع سيدفع الثمن باهظاً، فوقف أمام إنسان كأنّه طفل يرجوه وبكى أمامه، وقد كنت حاضراً فقلت: كان يغنيه لو تعقّل أن لا يتجاوز قدره والآن كان يغنيه أن لا يذل نفسه، لو استعمل عقله ما كان تجاوز قدره، ولو استعمل عقله ما كان وقف هذا الموقف الذليل.
 لاحظت أن أكثر الناس المتسرعين يطلع وينزل، يتجاوز قدره، ثمّ يقف موقفاً أقل من قدره بكثير لذلك: رحم الله عبداً عرف حدّه فوقف عنده.
 أيها الأخوة، حقوق الجار يجب أن تلقّن للصغار تلقيناً، ومع التلقين يجب أن يراها الصغير عمليّاً، التربية لا تنجح ولا تكون ذات تأثير بليغ إلا إذا اجتمع التوجيه النظري مع التطبيق العملي، فالابن الصغير يقول له الأب: يا بني الجار له حق كبير، النبي أوصانا بالجار.

 

(( مَا زَالَ يُوصِينِي جِبْرِيلُ بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ ))

 

[ متفق عليه عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا]

  لكن الابن عندما يرى في اليوم التالي والده يسلّم على الجار ويعوده إذا مرض، ويعزّيه إذا أصابته مشكلة، ويشيّع جنازته، ويقدّم له بعض الطعام أحياناً، وإذا طرق الباب يريد شيئاً أو حاجةً أعطاها له على الفور، فأصبح درساً نظرياً ودرساً عملياً.
 إذا أردت لابنك الصغير أن ينشأ على توقير الجار فلقنه مبادئ حسن الجوار، وأره من سلوكك ما يؤكّد هذه المبادئ.

 

احترام المعلّم حضارة وعدم احترامه تخلّف:

 

 ننتقل إلى حقٍ آخر من الحقوق التي ينبغي أن تلقّن للصغار وهو حقُّ المعلّم، كلُّكم يعلم أنّه قبل عشرين أو ثلاثين سنة كان المعلّم إنساناً مقدّساً في الحياة، وتقديس المعلّم كان من نتائجه خير عميم، فلا يوجد أحد من هذا الجيل الذي نعيشه إلا وله أساتذة كبار أخلاقيّون، مرشدون، ناصحون، ورعون،  فالأستاذ له مكانة كبيرة، ولكن حينما تزلزلت هذه المكانة وتضعضعت، وحينما تجرّأ الصغار على المعلّم انتهى بذلك التعليم.
 أنا أقول: ما من شيءٍ يشُلّ التعليم كأن تهدر كرامة المعلّم، أو أن نسمح لطفلٍ أو لطالبٍ أن يتجاوز حدّه مع معلّمه.
 قد سمعت أنّه في بعض البلدان إذا طفل تجاوز حدّه مع معلّمه هذا سجّل في صحيفته، وتنتقل هذه الصحيفة من مدرسة إلى أُخرى، ومن مرحلة إلى أخرى، ترافقه طوال حياته، ويبنى على هذه الصحيفة قبوله أو رفضه في المدارس الأُخرى، أي أنّه شيء خطيراً جداً أن يسيء الطالب إلى معلّمه فثبت ذلك في صحيفته، وانتقل معه من مدرسة إلى مدرسة، ومن مرحلة إلى مرحلة، وكلّما طلب طلباً للانتساب إلى مدرسة أو معهد طُلب فيه صحيفة أعماله، فإذا كتب فيها إساءات يرفض.
 ليس من صالح أحد أن تهدر كرامة المعلّم، بل ليس من صالح التعليم كلّه، ولا من صالح الأمّة، ولا من صالح جيلها الصاعد أن تهدر كرامة المعلّم، لذلك احترام المعلّم حضارة، وعدم احترامه تخلّف.
 سمعت أنّه بألمانيا في الاحتفالات الرسميّة إذا وجد معلّم وعمدة البلدة فالمعلم يقدّم في كلّ شيء على عمدة البلدة، أي يوجد منصبان في هذه القرية، المعلم وعمدة القرية، والمعلّم مقدمٌ دائماً على العمدة، وفي هذا البلد ـ فيما سمعت ـ وفي أي مستوى إذا تواجد رئيس البلد ورئيس جامعة رئيس الجامعة مقدّم في التكريم على رئيس البلد، لأنّ العلم أساس التقدّم، وتكريم المعلّم حضارة، وعدم تكريمه تخلُّف، وليس من صالح أحد أن يساء للمعلّم لأن ابنك عنده.

النبي الكريم نفى انتماء من لا يعرف للعالِم حقه لأُمّته:

 الآن سأنصحكم نصيحة لا أحد من الآباء يقوم بعمل بطولة أمام ابنه على المعلم، كأن يقول لابنه: معلّمك لا يفهم ؟ ما هذه الكلمة ؟ هذه كلمة كبيرة جداً أمام ابنك هذا معلّمه.
 الأب العاقل لو شاهد أخطاء من معلّم ابنه يمتصُّها، ويبرّرها، ويغطيها، لكن لا يتجاوز حدّه مع المعلّم فهو يعد بالنسبة له أكبر كيان.
 أقول لكم: إذا أردنا أن نبني أمّةً فلا يوجد طريق إلا أن نبدأ من التعليم، لأن هذا الجيل الصغير مستقبل الأمّة به، وهذا الجيل من يعلّمه ؟! فالمعلم الضائع، والمقهور، والذليل، والجاهل، هذا لا يُعلِّم، ففاقد الشيء لا يعطيه، لذلك مهما بذلنا من أجل إكرام المعلّم فالإكرام استثمار وليس هدراً لأنّه يعود بالنتيجة على سائر الأمة.
 اسمعوا أيها الأخوة ماذا قال النبيّ عليه الصلاة والسلام في حقّ المعلّم:

(( ليس من أُمّتي من لم يجلّ كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا حقّه ))

[أخرج الإمام أحمد عن عبادة مرفوعاً]

  ليس من أمّتي، أي أنّ النبي عليه الصلاة والسلام نفى انتماء هذا الإنسان لأُمّة محمد، الذي لا يعرف لعالمنا حقّه، طبعاً المعلّم الذي يعلّمك.

 

(( تعلّموا العلم، وتعلّموا للعلم السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلّمون منه))

 

[ روى الطبراني في الكبير عن أبي أُمامة ]

  أي أن المعلّم يقدّم روحه، وكلّ خبراته، وكلّ طاقاته، وكلّ وقته، إذا وجد من الطالب الاستجابة والاحترام والتقدير والأدب، لكن لو تجاوز الحد معه بالمزاح أو الضحك أو بكلمة فيها تعليقٌ لاذعٌ فقد جرحته فلن يستطيع أن يعطيك شيئاً لأنّه بشر.

 

إنّ المعلّم والطبيب كلاهما                لا ينفعان أبداً ما لم يكرم

***

 أي بإكرام المعلم أعطيته حافزاً لأن يعطيك كلّ ما عنده من علم.
 أنا سابقاً كنت مديراً لمدرسة ثانويّة، وكان عندي مدرّسٌ للعلوم الطبيعيّة ومتفوّقٌ جداً في التدريس، في أحد المرّات تأخر ساعة لأسباب قاهرة، ومعنى ذلك ستشطب هذه الساعة من دوامه ويقابل هذا تأخير ترفيعه شهراً على مدى الحياة، وهو معلّمٌ مخلصٌ ومتفوقٌ ويقدم الشيء الكثير للطلاب، فطلب إجازة صحيّة لتغطية هذا الغياب أمامي، فقلت له: لا أراك مريضاً، فوقّع الساعة وكأنّك حضرتها وكأن شيئاً لم يحدث على الإطلاق، والله أيُّها الأخوة أعطى هذا المعلم أكثر من ثلاثين ساعة إضافيّة بعد الدوام حباً وكرامة، فقد وجدها كبيرة، فقد كان من الممكن أن يتأخر ترفيعه بسبب هذا الغياب.

على الأب أن يوفّق بين ضجر الابن وبين توجيهات المعلّم:

 إكرام المعلّم من مصلحة الأمّة، وتوفير حقوقه، وراحته، وكرامته، أنا لا أقول لكم أن تصدروا تشريعات فنحن مواطنون، ولكنّي أقول لك كأب أن لا تحاول أن تهين معلّم ابنك أمام ابنك، لا تحاول أن تتكلّم عنه كلاماً يهينه، أو أن تتأفف من مطالبه، فهذا المعلّم رمز للعطاء، فإن وجدت أخطاءً فيجب عليك أن تغطيها بطريقة ذكيّة جداً، بأن توفّق بين ضجر الابن وبين توجيهات المعلّم.

(( تعلّموا العلم، وتعلّموا للعلم السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلّمون منه))

[ روى الطبراني في الكبير عن أبي أُمامة ]

(( ثلاثةٌ لا يستخفّ بهم إلا منافق ؛ ذو الشيبة في الإسلام، وذو العلم، وإمامٌ مقسط ))

[ روى الطبراني في الكبير عن أبي أُمامة ]

  أي أنّ المعلم لا يستخفّ به إلا منافق، لأنّه يقدّم القيم والمعلومات، وهو يقدّم روح الأمّة.

 

(( اللهم لا يدركني زمانٌ لا يُتبعُ فيه العليم، ولا يُستحيى فيه من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب ))

 

[ روى أحمد عن سهل بن سعد الساعدي]

  أرأيت إلى هذا الوصف الدقيق، العليم لا يُتّبع، والحليم لا يُستحيى منه، الآن تجد أحياناً طفلاً صغيراً إذا وجد رجلاً وقوراً ماشياً فيقوم بتقليده، أو يسلّم عليه سلاماً فيه استهزاء، وإذا كان ذا بصر ضعيف يحاول أن يزعجه، فالابن غير المربى كالوحش، أما إذا كان مربّى فتجده مؤدباً ويقدّم الكبير، أحياناً تجد بالسيارة العامّة طفلاً صغيراً جالساً على المقعد لا يتجاوز وزنه الثلاثين كيلو ورجلاً كبيراً في السن ويحمل في يديه أشياء فيتركه واقفاً دون أن يهمّه ذلك الأمر.
 أنا عندما أرى شاباً يجلس في مكانٍ مريحٍ وجاء أخ أكبر منه سناً فوضعه في محله يكبر هذا الشاب بعيني كثيراً، إني أحب الأدب.
 ذات مرّة كان يجلس سيّدنا رسول الله ويجلس سيّدنا علي على يمينه، فجاء سيّدنا الصدِّيق فقام له سيّدنا علي، فقال النبي:

 

(( إنما يعرف الفضل لأهل الفضلِ ذو الفضل.))

 

[ رواه الخطيب عن أنس مرفوعاً ]

  أثنى عليهما جميعاً.
 أحياناً تجد شاباً إذا رأى شخصاً يحمل أغراضاً كثيرة يحملها عنه ويعاونه فيها، فالشاب المربّى لا يقدّر بثمن، يحترم الكبير، والمعلّم، ويحترم ذا الشيبة في الإسلام، أما تجاوز الحدود والسفاهة والتهكُّم والكلام بصوتٍ مرتفع قال عنه النبي الكريم:

 

(( اللهم لا يدركني زمانٌ لا يُتبعُ فيه العليم، ولا يُستحيى فيه من الحليم، قلوبهم قلوب الأعاجم وألسنتهم ألسنة العرب ))

 

[ روى أحمد عن سهل بن سعد الساعدي]

مواقف لبعض العلماء من أساتذتهم:

 كان عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام البخاري:

(( النبي صلى الله عليه و سلم كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد ثم يقول أيهما أكثر أخذا للقرآن فإن أشير إلى أحدهما قدمه في اللحد ))

[رواه البخاري عن أبي هريرة ]

  أي أن تكريم العلم حتّى في أثناء الدفن، الاثنان شهيدان وسيدفنان في قبرٍ واحدٍ، فيقول النبي: أيُّهما أكثر حفظاً لكتاب الله فقدموه، فحتى في أثناء الدفن كان معيار العلم هو الذي يؤخذ به.
 الإمام الشافعي كان يوقّر أستاذه كثيراً فلمّا عوتب على تواضعه قال:

 

أُهين لهم نفسي فهم يكرمونها               ولم تكرم النفس التي لا تُهينه

***

 ألاحظ في كثير من الاحتفالات والموالد تجد عالماً جليلاً قبّل يد أستاذه، هذا الشيء يرفع مقامه عند الناس، تجد له لفّة وعمامة وجبّة وهو خطيب مسجد مشهور، ودخل أستاذه الذي علّمه فتجده يضعه في محلّه ويحترمه احتراماً بالغاً ويوقره في الكلام، فلا زلنا بخير إذا وقّرنا كبيرنا ورحمنا صغيرنا وعرفنا لعلمائنا حقّهم.
 يقولون إنّ ابن عبّاس رضي الله عنه على جلالة قدره وعلوّ منزلته أخذ بركاب زيد بن ثابت الأنصاري، فلما قيل له: أتفعل هذا وأنت ابن عمّ رسول الله ؟ قال: هكذا أُمرنا أن نفعل بعلمائنا.
 الركاب: مكان يصعد به على الدابة، فأمسك الركاب وقدّمه لزيد بن ثابت الأنصاري، وهو ابن عبّاس ابن عمّ رسول الله، هذه القصص ينبغي أن تلقّن للصغار حتى يحترموا معلّميهم، وفي احترام المعلّم نجاحٌ للتعليم.
 الإمام أحمد بن حنبل قال لخلف الأحمر: لا أقعد إلا بين يديك، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلّم منه.
 الإمام أحمد بن حنبل العالم الجليل، الفقيه الكبير، المجتهد بل أحد أربع كبار المجتهدين، يقول لأستاذه خلف الأحمر: لا أقعد إلا بين يديك، أُمرنا أن نتواضع لمن نتعلّم منه.
 الإمام الغزالي يقول: لا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع، العلم نفيس.
 الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك صفحاً رقيقاً هيبةً لئلا يسمع وقعها.
 أحياناً تجد طالباً يقلّب الصفحات بصوت مسموع وعالٍ، وتجد طالباً آخر يقلّبها دون أن تسمع لها صوتاً أو جلبةً فهذا هو الأدب، وكان أدب الإمام الشافعي مع أستاذه بهذه الطريقة، فتقليب الصفحة بصوت مرتفع فيه إساءة، من الممكن أن تقلّب صفحات كتاب صفحة صَفحة دون أن تحدث صوتاً أو جلبةً.

الإنصات الكامل أهم شرط لإلقاء درس:

 أحياناً تجد الطلاّب إذا قال لهم أستاذهم: ضعوا الكتب على الطاولات يلقوه بقوّة فيخرج صوتٌ مرعبٌ، لعدم الأدب فهو يريد شيئاً يتجاوز فيه الحد.
 يقول الربيع: والله ما اجترأت أن أشرب الماء والشافعي ينظر إليّ هيبةً له.
 أحياناً أحضر عقد قران، تجد المتكلّم يتكلّم وهم يجمعون صحون الضيافة مع صوت لا يحتمل، أو يصبون القهوة، وأحياناً وأثناء إلقاء الكلمة يتشاجرون ويرفعون أصواتهم، فهذا منتهى سوء الأدب، ما دام هناك إلقاء كلمة فيجب أن لا يكون تقديم للقهوة، ولا توزيع للماء، ولا توزيع للطعام، لأنّ القاعدة: لا يجتمع درسٌ وضرس، أي إما أكل وإما سماع، إذا لم يكن الإنصات كاملاً للخطيب فلا يكون إلقاء درس.
 في الحقيقة المتكلّم إذا وجد تشويشاً وجلبة وتوزيع قهوة وماءً وتقديماً للطعام وجمعاً للصحون فقد ذهبت أفكاره كلّها، وكذلك ذهبت معنويّاته كلّها، وكذلك إبداعه، فإذا دعاك أحد إلى إلقاء كلمة فإيّاك أن تلقيها إلا وهناك إنصات تام، وإلا تفقد أربع أخماس قدراتك، وتفشل بالكلمة، وكلّ ذلك من سوء الأدب.
 قيل مرّة إن أحد أولاد الخليفة المهدي حضر عند أستاذه شريك، فابن الخليفة استند إلى الحائط وسأل أستاذه سؤالاً، فلم يجبه عليه أبداً ولا التفت إليه، فعاد فسأله مرّة ثانية فما أجابه ولا التفت إليه، فقال: أتستخفُّ بأولاد الخلفاء هذا الاستخفاف ؟! أي معقول، لا تجاوبني ولا تنظر إلي ؟ قال: لا، ولكنّ العلم أجلُّ عند الله من أن أُضيّعه.
 أي ما دمت آخذاً لراحتك فلن أجيبك، أنا والله يلفت نظري أحياناً أنه اللهمّ صلِّ عليه ما رُئي مادّاً رجليه قط، وهو سيّد العالمين، أحياناً تجد إنساناً ماداً لرجليه في الجامع من دون عذر، فلو كان بعذر فلا أتكلّم شيئاً، فالعذر على العين والرأس، والمعذور لا أحد يتكلّم به، أحياناً يكون عنده التهاب مفاصل، أو تكلُّس للمفاصل، أو حالات معيّنة، أو آلام بالفقرات فيحتاج إلى جدار ليسند نفسه، فهذا الموضوع لا دخل لنا فيه.
 أنا أتكلّم عن إنسان لا يوجد به شيء على الإطلاق، ويحاول أن يجلس جلسة غير أديبة وفيها راحةٌ تامّة وبعد ذلك تجده قد غفل، ثم كبا على وجهه، ثمّ يعلو شخيره، أي على ثلاث مراحل، إذا جلسة مريحة يصاحبها نوم، وإذا كان النوم مريحاً يصاحبه الشخير.

 

ينبغي على الطالب أن يدعو لأستاذه ويُتأدّب بآدابه باعتباره الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة:

 

 قيل: ينبغي أن لا يخاطب المعلّم بكاف الخطاب أو تاء الخطاب، كأن يقول: قلت لك، أو بدك الوظيفة، بل ينادى بـ: يا معلّمي ويا سيّدي ويا أستاذي.
 أن لا يذكر اسم معلّمه بالذات في غيبته إلا مقروناً بما يُشعِر بالإجلال والتوقير كأن يقول: قال معلِّمنا، قال أستاذنا.
 أحد الأشخاص من مصر وهو صاحب شركة ومسلم سأل أحد الأخوة الأصدقاء قائلاً: أين قبر محمد ؟ فقال له: من محمد ؟ قال له: النبي، فرد عليه قائلاً: إنه بمكة وليس بمصر !
 شخص مسلم لا يعرف أين قبر النبيّ، ويقول: قبر محمد، نحن والله يوجد عندنا أدبٌ رفيعٌ نقول: سيّدنا محمد، وليس محمد فقط، هكذا المؤمن كلّما ازداد إيمانك ازداد أدبك.
 قيل: ينبغي للطالب أن يدعو لأستاذه مدّة حياته كأن يقول: جزاه الله عنّا خيراً، ويرعى ذريّته وأقاربه من بعده وأهل ودّه، ويعتمد زيارة قبره، والاستغفار له، والصدقة عنه في كلِّ فرصةٍ سانحة، ويراعى في العلم والدين والأخلاق عادته، ويُقتدى بحركاته وسكناته، ويُتأدّب بآدابه باعتباره الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة.
 لكن توجد حالة نادرة، فأحياناً تجد معلّماً عصبي المزاج، فهو مخلص وعالم ولكنّه عصبي، فماذا يفعل المتعلّم ؟؟ هل يرفض المعلّم ؟ العصبيّة نقص في الإنسان، يضيق ذرعاً بالسؤال على الفور فقيل في ذلك: ينبغي على المتعلّم أن يصبر على سوء خلق معلمه وجفوته.
 ليس معنى سوء خلق بهذا المعنى الدقيق، لكنّه يكون ذا نمط عصبي المزاج، يضيق ذرعاً ببعض الأسئلة، فإذا كنت تستفيد من المعلّم فتحمّل بعض طباعه التي لا تروق لك، هذه من آداب المتعلّم، أن يصبر على بعض طباع معلّمه.
 مما ينقل عن بعض السلف: من لم يصبر على التعليم بقي عمره في عماية الجهالة، ومن صبر عليه آل أمره إلى عزَّ الدنيا والآخرة.
 ابن عباس يقول: ذُللت طالباً فعُزِّزت معلّماً.
 قيل لسفيان بن عيينة: إنّ قومك يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم يوشك أن يذهبوا ويتركوك ؟! فقال للقائل: هم حمقى إذا هم تركوا ما ينفعهم لسوء خلقي.
 طبعاً في هذا الكلام مبالغة، من المستحيل أن يكون الإنسان عالماً وسيّئ الخلق، لكنني أقول: عالم عصبي المزاج، بعض العلماء عندهم عصبيّة فتجده يثور سريعاً، فإذا كان عالم جليل ويفيد وهو مخلص وأنت لك مصلحة عنده فتحمّله، لكن الأكمل أن يجمع الإنسان بين حسن الخلق وبين عمق العلم، وكلّ هذا الكلام يجب أن يعلّم للصغار حتى يتأدّبوا مع معلّميهم.

من آداب المتعلم:

 قال: كذلك على المتعلّم أن يكون متجنّباً في حضرة معلّمه كلّ ما يخلّ بوقاره وينافي الأدب والحياء، فلا ينبغي أن ينظُر إليه أي يبحلق لمعلمه ولا يستحي، فمن شدّ نظره إلى معلّمه فقد ساء أدبه، وألا يعبث بيديه، أو رجليه، أو غيرهما من أعضائه، وألا يعبث بيده في أنفه، وألا يفتح فاه، وألا يقرع سنّه، وألا يضرب الأرض براحته أو يخطّ عليها بأصابعه، وألا يشبّك بيديه، أو يلعب بأزراره، أو يتكلّم مع جاره، وألا يتكلم ما يضحك بغير سببٍ فإذا غلبه تبسُّماً تبسّم من غير صوتٍ، وألا يكثر التنحنح من غير حاجةٍ، وإذا اضطر إلى العطاس فليخفض صوت عطاسه ما استطاع، ولا يضطرب لضجّةٍ، فلو فرضنا الدرس منعقد والناس كلّهم أبصارهم عند المعلّم، فلو حدث صوت تجد الكل ينظرون لمكان الصوت، وإذا حدث صوت ثانٍ من جهة أخرى لتحوّلوا إليه كذلك، معنى ذلك أنهم ليسوا ملتفتين للدرس، فمن تمام أدب الاستماع انصرافك للمعلّم وتشاغُلُك عن كلّ ضجيج أو اضطراب خارجي، وإذا اضطر إلى العطاس: تجد البعض يعطي العطسة أقصى مدى، فيرعب الحضور، كذلك يوجد فرق بي عطاس وعطاس، يوجد عطاس مع كاتم للصوت، وعطاس مع مكبّر للصوت، وإذا تثاءب وضع يده على فمه.
 ماذا قال سيّدنا علي عن آداب المتعلّم ؟؟ قال: من حقِّ العالِم عليك أن تسلّم على القوم عامّةً وأن تخصّ المعلّم بالتحيّة خاصّة، وأن تجلس أمامه، وألا تشير عنده بيديك، وألا تغمز بعينيك، وألا تقول: قال فلان خلاف ما تقول، ولا تغتابنّ عنده أحداً، ولا تطلبنّ عثرته، وإن زلّ قبلت معذرته، وعليك أن توقّره لله تعالى، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته، ولا تسارر أحداً في مجلسه، وألا تأخذ بثوبه، وألا تلِحّ عليه إذا اعتذر، وألا تشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها شيء.

على الطالب أن يدخل على معلّمه كامل الهيئة متطهّر البدن نظيف الثياب:

 يجب ألا تقول: قال فلان خلاف ما يقول، بعض طلاب العلم يترنمون فيها فقد يسمع فكرة فيقول: سيدي فلان قال عكس ما قلت، والله شيء يحيّر، يترنّم بعمل مشكلة، ويأتي بقول مخالف وفلان قال وذكر اسمه، وقد أعجبني عالم من علماء حمص الشهيرين أنّه إذا سُئل وقيل له: إنّ فلاناً قال كذا فلا يجيب السائل، ويقول له: لو قلت لي ما قولك في الفكرة الفلانيّة أجيبك أما وقد عزيتها إلى فلان لن أجيبك، حتى لا تكون فتنة، سيدي: فلان أفتى بكذا فما قولك في ذلك ؟ فلن أتكلم بأي كلمة، ولكن قل لي: ما قولك في ستر الوجه مثلاً ؟ فأقول لك الحكم الشرعي. أمّا أنت تذكر لي فلاناً وهكذا أفتى وما هو قولك ؟ فبذلك تعمل فتنة بيني وبينه. إن تكلّمت بخلافه فستقول له: سيدي فلان لم يعتبر فتواك فقد تكلّم بعكس ما قلت فتحدث الفتنة.
 يجب ألا تسارر أحداً في مجلسه: وهو جالس نعطف أنت على صديقك أو على من يجلس بجوارك وتهمس في أُذنه، وبعد ذلك تتبسمان معاً، ماذا تكلموا بينهم لكي يتبسّما، إذا كان أحد يتكلّم واثنان تهامسا وتبسّما يظن أنهما يضحكان عليه فيتألّم، وقد يكون هذا ليس له علاقة بالموضوع كأن يكون قد سأله سؤالاً أو ذكّره بقضيّة فتبسّما، ولكن المتكلّم يكون حساساً فماذا يظن ؟ يظن أنّ الهمس عليه.
 ينبغي أن يدخل على معلّمه كامل الهيئة متطهّر البدن نظيف الثياب، ولا سيّما إذا قصد مجلس العلم فإنّه مجلس ذكر واجتماع وعبادة.
 قيل أن ابن عبّاس رضي الله عنه كان يجلس في طلب العلم على باب زيد بن ثابت حتى يستيقظ، فيقال له: ألا نوقظه لك ؟ فيقول: لا، وربما طال مقامه وقرعته الشمس قال: كذلك كان السلف يفعلون.
 والله أحياناً أناس يتصلون بي في الساعة الواحدة والنصف ليلاً سؤالاً عاديّاً فما هذا ألا أنام ؟!! بأي وقت تتصل وبكل بساطة يطرق الباب، يقولون له: إنه نائم، فيقول: أيقظوه لنا. هذا الشيء غريب ويقع.
 قال عطاء: إني لأسمع الحديث من الرجل وأنا أعلم به منه، فأُريه من نفسي أني لا أُحسن منه شيئاً، وقال عنه: إنّ الشاب ليتحدّث بحديثٍ فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد.
  أحياناً تعاد قصّة مرتين فيقول: هذه القصّة سمعناها، أنت سمعتها وغيرك لم يسمعها فهذا الدرس درس عام، فلا تكن شديد المحاسبة، السماع سهل والتكلُّم صعب.

أقوال في الأدب:

 إنّ الشاب ليتحدّث بحديثٍ فأسمع له كأني لم أسمعه ولقد سمعته قبل أن يولد، أحياناً شاب يحدّثك بحديث فالإصغاء أدب فلا تقل له: هذه نعرفها، يصغي له وكأنّه لا يعرفه، أبو تمام له وصف دقيق يقول:

          مـن لي بإنسانٍ إذا أغضبته                وجهلت كان الحلم ردّ جوابه
وإذا طربت إلى المُدام شربته                من أخلاقه وسكرت من آدابه
وتراه يصغي للحديث بسمعه                وبقلبه ولعلّــــه أدرى به

 

***

 آخر شيء نختم به الدرس، قال بعض السلف، قال الحبيب بن الشهيد لابنه: يا بني اصحب الفقهاء والعلماء وتعلّم منهم، وخذ من أدبهم، فإنّ ذلك أحبُّ إليّ من كثيرٍ من الحديث.
 قال آخر لطالبٍ عن الأدب: نحن إلى كثيرٍ من الأدب أحوج إلى كثيرٍ من العلم.
 كما قال بعض السلف: يا بني، لأن تتعلّم باباً من الأدب أحبُّ إليّ من أن تتعلّم سبعين باباً من أبواب العلم.
 قال ابن سيرين: كان أصحاب النبي يتعلّمون الهدى والسمت الحسن كما يتعلّمون العلم.

الملحد والمبتدع لا يكرّم ولا يحترم ولا يلقى له بال:

 الأدب قبل العلم، إلا أنّه قيل: إنّ المعلمين الملحدين والمربّين الذين لا دين لهم هؤلاء ليس لهم مكانة في القلوب إطلاقاً، معلّم ملحد أو لا ديني يقوم ببث الرذيلة، والاختلاط، والانحراف، هذا المعلّم لا يخضع لهذه المقاييس أبداً، فالحديث عن معلّم مؤمن ذي رسالة ينصح الأمّة ويقدّم لها الآداب الراقية ويبُثُّ الإيمان في قلوب أبنائها، أما الذي يخرّب القيم والمبادئ ويبُثُّ الإلحاد هذا لا ينبغي أن يحترم، بل بالعكس ينبغي أن يقاوم حتى يقف عند حدّه.
 أحد المعلّمين قال: أين الله ؟!! فما دمنا لم نره فليس موجوداً، فقال له طالب: أين عقلك ؟ ما دمنا لم نره فليس موجوداً، فإذا تجرّأ المعلّم على بثّ الإلحاد فلا مانع لديك معك رخصة أن تردّ عليه بالمثل وأقوى منه عندئذٍ تغضب لله، فالمعلّم الملحد ليس له قيمة ولا شأن إطلاقاً، ولا يستحقّ الاحترام، ويجب أن يلقى الإهانة حتى يتراجع، باحترامك له تكون قد عززته، وكلّ إنسان مبتدع لو كرّمته تكون بذلك تدعم ابتداعه وإلحاده، فالملحد والمبتدع لا يكرّم ولا يحترم ولا يلقى له بال ولا ينبغي أن تسكت على خطئه.
 إذا بثّ إنسان فكرة غير صائبة فوجد الطلاب قد هجموا عليه فيتلملم وليتحجم، أما إذا بثّ فكرةً غير صائبة والكل صامتون فسيتجاوز حدّه، كلّ شيء قلته عن التعليم والمعلّم لا ينطبق على معلّمٍ ملحدٍ يبُثُّ الفكر الإلحادي بين الطلاب، ولا على مدرّسة تشجع الاختلاط والفسق والفجور، لأنّ هذا الكلام لا يعقل.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور