وضع داكن
26-04-2024
Logo
تربية الأولاد إصدار 1994 - الدرس : 23 - التربية الإجتماعية -10- أدب المجلس
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
 أيها الأخوة الكرام لازلنا مع تربية الأولاد في الإسلام، ولازلنا في الآداب الخاصّة التي أدّب بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صحابته الكرام، ونحن مع الدرس الثالث والعشرين من دروس تربية الأولاد في الإسلام، وننتقل الآن إلى أدب المجلس.

آداب المجلس:

 المجالس لها آداب، ودائماً وأبداً كلّما رأى الصحابة الكرام من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذلك الأدب الرفيع وذلك الخلق الكريم كانوا يسألونه: ما هذا الأدب يا رسول الله ! فيقول عليه الصلاة والسلام:

(( أدبني ربّي فأحسن تأديبي.))

[رواه العسكري عن علي رضي الله عنه]

  تأديب الله للنبي من خلال التوجيهات القرآنيّة، وقلت لكم في درسٍ سابق التأديب إمّا أن يلقى عليك توجيهٌ معيّن، وإمّا أنّ اتصالك بالله يكسبك هذا الخلق الرفيع، إمّا تنطلق من ذوق، أو من معلومات، هذه حرام لا تفعلها، أو إذا سمت نفسك باتصالها بالله عزَّ وجلَّ تتأدّب بالأدب الإسلامي الرفيع.

 

1ـ المصافحة:

  نحن الآن مع أدب المجلس، الأدب الأول إذا دخلت إلى مجلس عليك أن تصافح من في المجلس.

 

 

((إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما ))

 

[رواه أبو داود عن البراء]

  أي أنّك كلّما التقيت بأخيك المسلم وصافحته وسلّمت عليه باشّاً، طليق الوجه، الله سبحانه وتعالى يرضى عنكما ويغفر لكما، فالمصافحة جزءٌ أساسي من توجيهات النبيّ عليه الصلاة والسلام.

 

(( ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يفترقا ))

 

[ رواه الترمذيّ عن البراء رضي الله عنه]

  كأنّ الله سبحانه وتعالى يحبّنا مجتمعين، ويحبّنا متعاونين، ويحبّنا أصفياء وأخلاّء، يحبّنا مخلصين ومتسامحين، وهذا السلام الحار، المودّة البالغة التي تمنحها لأخيك هذا من الأعمال الصالحة التي يرضى الله عنها، وتعبيرك عن حبّك لأخيك يبدو بهذا السلام الحار، وفي حديـثٍ ثالث في الموطّأ:

 

(( تصافحوا يذهب الغل، وتهادوا تحابّوا وتذهب الشحناء ))

 

[ مالك عن عطاء الخرساني ]

  المصافحة تنمّي المحبّة وتذهب الغل والحقد، والهديّة تزيل الحقد بين الأخوين، فهذه نصيحةٌ نبويّة، كلّما رأيت في قلبك غلاً لأخٍ ما أو رأيت في قلبه غلاً تجاهك، بادر إلى إكرامه:

 

(( تَهَادَوْا فَإِنَّ الْهَدِيَّةَ تُذْهِبُ وَغرَ الصَّدْرِ ))

 

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

2ـ أن تجلس حيث أشار لك صاحب البيت:

  الآن الأدب الثاني في المجلس أن يجلس الزائر في المكان الذي يخصصه له ربُّ البيت، وربُّ البيت أدرى ببيته، فيوجد مقعد ليس أمامه شيء، وآخر أمام نافذة والنافذة على ممشى، والممشى فيها نساء، فإذا قال لك صاحب البيت: تفضّل بالجلوس هنا، لا ينبغي أن تعترض أبداً لأنّ الأمكنة في البيت مدروسة، فكل مكان له ميزة، ربما جلس هو في مكان يرى خارج الغرفة، أمّا إذا جلست أنت مكانه كشفت أهـل البيت، فالأدب النبوي أن تجلس حيث يشير لك صاحب البيت، من دون مراجعته بقولك هنا أريح لي أو أنشط، فهذا ليس من أدب المسلمين، أينما أجلسك اجلس، فربُّ البيت أدرى بالذي فيه، أهل مكّة أدرى بشعابها وقد ورد في الحديث الشريف:

 

(( من دخل دار قومٍ فليجلس حيث أمروه، فإنّ القوم أعلم بعورة دارهم.))

 

[الطبراني في الأوسط، وابن عساكر عن أبى هريرة]

  إذاً المصافحة، ثم أن تجلس حيث أشار لك صاحب البيت.

 

3ـ الجلوس في محاذاة القوم لا في وسطهم:

  الأدب الثالث أن تجلس في محاذاة القوم لا في وسطهم، فأحياناً تكون المقاعد على شكل صفوف، أو على شكل حلقة، وهو يحب أن يجلس في مكان وجيه ولا يوجد محل فيجلس منفرداً في المنتصف، ظهره إلى النصف، ووجهه إلى النصف الآخر، هذا المكان منهي عن الجلوس فيه، لذلك على الإنسان أن يجلس في محاذاة الناس لا في وسطهم فقد روى أبو داود بإسنادٍ حسن عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنّ:

 

 

(( رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لعن من جلس في وسط الحلقة.))

 

[أبو داود عن حذيفة بن اليمان]

  روى الترمذيّ أنّ رجلاً قعـد وسط الحلقة فقال حذيفة:

 

(( ملعونٌ على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم من جلس في وسط الحلقة.))

 

[الترمذي عن حذيفة بن اليمان]

  أي كن مع الناس، ولا تكن في الوسط، أحياناً تكون في ضرورة أو حرج، فإذا كانت هناك ضرورة فالضرورات تبيح المحظورات، فقد قال تعالى:

 

﴿ وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس فأقيموا الصلاة ﴾

 

( سورة الحج: آية " 78 " )

4ـ ألا تجلس بين اثنين إلا بإذنهما:

  الآن الأدب الرابع، ألا تجلس بين اثنين إلا بإذنهما، قد يكونا أخوين، أو شريكين، أو جارين، أو زميلين، وبينهما حديث فإذا جلست بينهما فقد أسأت، ألا تجلس بين اثنين إلا بإذنهما، فقـد روي عـن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:

 

(( لا يحلُّ لرجلٍ أن يفرّق بين اثنين إلا بإذنهما. ))

 

[رواه أبو داود والترمذي عن أسامة بن زيد الليثي]

(( لا يُجلَس بين رجلين إلا بإذنهما. ))

[أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده]

 إذا كانا اثنين فليس لك أن تجلس بينهما ولاسيما إذا كانا أخوين أو قريبين أو شريكين أو صديقين أو جارين فبينهما حديث.

5ـ أن يجلس القادم حيث ينتهي به المجلس:

  الآن الأدب الخامس، أن يجلس القادم حيث ينتهي به المجلس.
 النبيّ عليه الصلاة والسلام من شمائله النبويّة أنّه إذا دخل يجلس حيث ينتهي به المجلس، فقد كان الشيخ بدر الدين رحمه الله يطبّق هذه السنّة، أينما دخل يجلس حيث ينتهي به المجلس.

 

(( كنّا إذا أتينا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم جلس أحدنا حيث ينتهي ))

 

[أبو داود والترمذي عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما ]

  هذا إذا كان الشخص القادم شخصاً عادياً، لكن هناك استثناء، أنت كصاحب بيت الآن أي كمضيف، فإذا قدم عليك إنسان من أهل العلم ينبغي ـ وأنت صاحب البيت ـ أن تضعه في المكان الذي يليق به وهذا من السنّة لقول النبيّ عليه الصلاة والسلام:

 

(( أنزلوا الناس منازلهم ))

 

[أبو داود عن ميمون عن أبي شديد رضي الله عنهم ]

  وفد عبد قيس قدموا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، رحّب بهم وأوسع لهم وقرّب زعيمهم المنذر بن عائد إليه وأقعده عن يمينه، بعد أن رحب به وألطفه، هذا من السنّة، أي إذا وجد شخصاً من علية القوم، ودائماً نقول لكم نحن لا نعظّم أرباب الأموال ولا الأقوياء غير المنضبطين، بل نعظّم الذين لهم اتصال بالله عزّ وجلَّ، الذين لهم أعمال طيّبة حتى إذا كان ميسوراً ولكن له أعمالاً طيّبةً جداً هذا إذا أكرمناه تشجيعاً له، فالتكريم هو تكريم أهل العلم والفضل وهذا من السنّة.

 

6ـ ألا يتناجى اثنان دون الثالث فإنّ ذلك يحزنه:

  الآن من آداب المجالس أيضاً ألا يتناجى اثنان دون الثالث فإنّ ذلك يحزنه، مثلاً نحن ثلاثة، اثنان أسروا بينهم الحديث، فهذا الثالث ظن بأنهم يتحدثون عنه، أولاً هذا يحزنه يجعله خارج القوس، ثانياً لعلّهم يتحدثون عنه، فإذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإنّ ذلك يحزنه.
 بالمناسبة أيّها الأخوة الكرام أنا أتألّم جداً حينما نكون في الصلاة أو في صلاة السنّة وتجد أخوين يتناجيان في الحرم وبصوت مرتفع فأقول: أين أدب المجلس ؟ فهذا بيت الله، حتى لو انتهى الدرس المفروض إذا تحادثنا أن نتحدث بصوت منخفض، والأكمل أن نتحادث خارج الحرم وفي الصحن، ونحن من فضل الله مسجدنا له ميزة، هذا الصحن يتسع لكل الحاضرين في الحرم، فلهم أن يقفوا وأن يتكلّموا وأن يتسامروا وأن يعدوا بعضهم بعضاً لكن في الحرم لا، فالحرم له قدسيّته، وبالطبع إذا أردتم الكلام بعد الدرس وبصوت منخفض فلا مانع، ولكن أثناء الصلاة أو أثناء قراءة القرآن والكلام بصوت مرتفع فهذا لا يجوز.

 

7ـ من خرج من مجلسه لحاجةٍ ثم رجع فهو أحقُّ بمجلسه:

  من خرج من مجلسه لحاجةٍ ثم رجع فهو أحقُّ بمجلسه، فقد شاهدت مئات المرّات وبعقود قران وبحفلات كبيرة عندما قام الخطيب ليلقي كلمة جلسوا مكانه، فلمّا انتهت كلمته أحرج، فإذا قام من أحد من مجلسه ووجدت آخر سيجلس مكانه فقل له: هذا المكان لفلان، لا مانع، إذا قام رجل من مجلسه لحاجةٍ فهو أحقُّ بهذا المجلس إذا رجع، فالحديث النبوي الشريف:

 

(( إذا قام أحدكم من مجلسٍ ثم رجع إليه فهو أحقُّ به.))

 

[رواه مسلم عن قتيبة بن سعيد]

8ـ الاستئذان قبل الخروج من المجلس:

  الأدب الآخر من آداب المجالس أنّ على الإنسان أن يستأذن قبل انصرافه من المجلس.
 فأنا أُعاني من قضيّة سأقولها لكم: يكون أحد الأخوة الكرام طالباً مني قضيّة أو حاجة وليس في بيته هاتف ولا أعرف عنوان بيته، ويأتي إلى الدرس، وعندي له مفاجأة سارّة ولا يسلّم، فكيف أتّصل به ؟ نحن جعلنا السلام سريعاً حتى لا يستغرق وقتاً، ولكن أحياناً أنت صاحب مصلحة وليس لديك عمل في هذا الوقت، ويريد أخ تركيب ألمنيوم مثلاُ، أو أخ يريد نجّاراً وأنت تعمل في النجارة ولا عمل لديك، وقد استنصحني إنسان، فأردت أن أنصحه فيك ولكنني لم أستطع أن أراك، فالسلام لو استغرق من الوقت عشر دقائق أفضل لأن كلمة أحياناً تحلّ مشكلة.
 النبيّ الكريم هكذا علّمنا أنّ على الإنسان أن يستأذن قبل انصرافه من المجلس لقول النبيّ عليه الصلاة والسلام كما روى الشيخان:

 

(( إنّما جعل الاستئذان من أجل البصر ))

 

[أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن سهل بن سعد]

  الحقيقة هذا المقصود به إذا كنت في بيت وأردت أن تخرج منه فهل من المعقول أن تخرج دون معرفة صاحب البيت ؟ فلعل النساء خارج الغرفة، أو عند الباب الخارجي، فليس لك الحق إطلاقاً أن تخرج من البيت إلا عن طريق صاحب البيت، إلا أن تستأذنه، وقد أضفت إلى هذا، إذا كنّا في المسجد والباب مفتوح، ولكن هذا السلام السريع يحلّ مشكلة كبيرة جداً، أليس لي الحق في أن أتفقّد أخواني ؟ أليس هذا من السنّة، فالنبي الكريم علّمنا أنّ الإنسان يجب أن يتفقّد أصحابه، ذات مرّة سألت أحد الأخوة عن عدم رؤيتنا له منذ شهر تقريباً ! فقال لي: أنا أحضر دوماً ولكنني أجلس في صحن المسجد وأنصرف على الفور، فما ذنبي ؟! أنا عندي علم بأنّه لم يحضر الدروس، فإذا جلس الإنسان في هذا الجو الحار خارج حرم المسجد وأراد أن ينصرف فالأولى أن يسلّم، والأكمل أن يسلّم، فأولاً السلام يحدث المودّة بيننا، والسلام يحدث الطمأنينة، ويحدث شعوراً بأن الأخ الفلاني مواظبٌ على الحضور، فهو يغيب عندي ولكنّه لا يغيب عن الدروس فلمّا عاتبته وجدته يحضر كلّ الدروس وذكر لي موضوعاتها ولكنّه يخرج على الفور، فالأكمل أن تصير هذه المودّة بهذا السلام.

 

9ـ دعاء كفارة المجلس:

  الآن، إذا انتهى المجلس ووقفنا لنغادر فالنبي الكريم علّمنا دعاء كفّارة المجلس، فقد كان عليه الصلاة والسلام يقول:

 

 

(( سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. فقال رجل يا رسول الله: إنّك لتقول قولاً ما كنت تقوله فيما مضى. قال: كفّارةٌ لما يكون في المجلس.))

 

[أبو داود والنسائي والحاكم من طريق الحجاج بن دينار]

  أي حدثت كلمة، أو إشارة، أو عبارة، أو تعريضٌ بإنسان، أصبح يوجد خطأ، فإذا قمنا ووقفنا قلنا: أستغفر الله، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أنّ لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، هذا الدعاء كفّارة ما كان في المجلس.
 إذاً آداب المجلس أن تصافح من تلتقي بهم في المجلس واحداً وَاحداً، أحياناً يكون مجلس العلم في بيت مثلاً والمتكلّم يتكلّم والجميع منصتون، الأكمل في هذه الحالة أن تدخل وتجلس من دون سلام لوجود مجلس العلم، أمّا إذا كانت الجلسة عاديّة والحديث مفتوح أو معايدة، ولا أحد يتكلّم فقل: السلام عليكم، وصافحهم واحداً وَاحداً، هكذا السنّة، وأن يجلس في المكـان الذي يشير إليه صاحب البيت، وأن يجلس في محاذاة الناس لا في وسطهم، ألا يجلس بين اثنين إلا بإذنهما، أن يجلس القادم حيث ينتهي به المجلس إذا كان إنساناً عاديّاً، وإذا كنت إنساناً غير عادي فاجلس أنت حيث ينتهي بك المجلس ولكن إذا أحبّ أن يكرّمك صاحب البيت بسبب فهذا كرم منه، ولا تفرض عليه أنت ذلك، كأن تقول: ألا يوجد مكان بصدر المجلس فالسلام عليكم أنا سوف أعود، فهذا ليس وارداً على الإطلاق، أنت اجلس حيث ينتهي بك المجلس، فلو أنّ صاحب البيت لم ينتبه لذلك فلا مانع وهكذا النبي علّمنا حتى لا تأخذ على خاطرك، فمن أنت أمام رسول الله ؟! فإذا دخلت فاجلس في المقعد الأوّل فإذا كان صاحب البيت يعرف قيمتك ولك مهمّة أو لك كلمة فوضعك في مكان آخر لائق فلا مانع فقد كرّمك وهو مكلّف أن يكرّمك من قبل النبي، السنّة علّمته، وأنت كزائر مكلّف أن تجلس حيث ينتهي بك المجلس، وألا يتناجى اثنان دون الثالث فإنّ ذلك يحزنه، لكن قالوا إذا كانوا أربعة أشخاص أو ستّة فلا مانع من المناجاة، وأحياناً نكون بانتظار الطعام ولا يوجد حديث، وتكلّمت مع أخيك والحضور ثمانية فلا مانع من ذلك أمّا ثلاثة فلا يجوز أن تناجي من بجوارك.

 

ائتلاف القلوب و اجتماع النفوس عند التحدث عن الله عز وجل:

 

 بالمناسبة أيّها الأخوة الكرام، لاحظت شيئاً له أثر سلبيّ كبير، فماذا تعمل ؟ فرضاً تعمل تاجراً فليس لك مصلحة أن تتحدّث عن عملك أمام جماعة لا يعملون في التجارة فقد تحزنهم بكلامك، أو أنت تحمل شهادة عليا وبالمجلس أناس لم يحصلوا على هذه الشهادات فليس لك الحق أن تتكلّم عن ميّزات شهادتك وعن علاماتك، أي أنّ كلّ كلام يسبب الحزن للآخرين هذا ليس من السنّة، أحياناً الإنسان يتكلّم بكلام يطيّب قلوب الحاضرين، أحياناً أرى شخصاً لم يدرس أبداً فأقول له: كفى بالمرء علماً أن يخشى الله.
 إنني أؤمن أنّ الإنسان لو كان مستقيماً فهذا يعتبر أكبر عالم ولا أقول هذا الكلام مجاملةً، فالإنسان المستقيم عالم، فكفى بالمرء علماً أن يخشى الله، فلو كان أحدكم يحضر دروساً للعلم في المسجد ولمدّة عشر سنوات وثلاثة دروس في الأسبوع، والجامعة أربع سنوات وتأخذ الليسانس في أربع سنوات، فكل أسبوع تفسير وفقه وسيرة وتوجيهات عامّة ومكارم أخلاق فبالطبع هذا علم، فهل يجب أن تكون معك شهادة معلّقة على الحائط ؟ ليس هذا من شروط التعلّم.
 إذاً يجب دائماً أن تتكلّم كلاماً يجبر خاطر الحاضرين، إذا كان الحديث عن الدنيا فالدنيا تفرّق ولا تجمع، أمّا عن الله الحديث يجمع، كلّما تحدّثت عن الله عزَّ وجلَّ ائتلفت القلوب واجتمعت النفوس، وظهر البشر على الوجوه، أمّا حدثهم عن دخلك، وأنّك قمت بنزهة لأوروبا وتكلّفت مبلغاً كبيراً من المال، فما فائدة هذا الكلام ؟! كلام فيه من التبجُّح، والعلو، والافتخار، فلا تحاول أبداً أن تعلو على الناس، استمع إلى هذه الآية الكريمة:

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(83) ﴾

( سورة القصص: آية " 83 " )

الحديث عن الدنيا يفرِّق بينما الحديث عن الله تعالى يجعلنا نرتقي ونسمو:

 هناك أشخاص من حديثهم يحبّون العلو في الأرض، يفتخر بماله، بتجارته، بهندامه، بشكله، إذا كان يلبس لباساً أنيقاً ولم يتكلّم أحد بكلمة مديح له، أو يثنِ على ملابسه يتضايق ويتكلّم هو ويقول: هذه البذلة كلّفتني كذا من المال، أو هل لونها مناسب ؟ أو كيف وجدتموها ؟ يريد أن يستجدي المديح، واستجداء المديح من ضعف الإخلاص.
 إذا أردت أن تكون بطلاً يجب أن تجعل كلامك كلّه تذكيراً بالله عزَّ وجلَّ، تكلّم عن رسول الله فالنفوس تشتاق إليه، تحدّث عن الصحابة الكرام نجعلهم قدوةً لنا، حدّثنا عن كتاب الله، عن سيرة رسول الله، حدّثنا عن العلماء المخلصين العاملين، فالموضوعات كثيرة، ولو تحدّثت بهذه الموضوعات يمكن أن نرتقي ونسمو، في بعض الموضوعات يحدث النفور، كقضيّة استعلاء، أو عرض للعضلات، أو قضيّة حبّ الظهور، أو قضيّة كبر، بهذه القضايا دخل الشيطان وانتهى الأمر.
 في الحقيقة المتحدّث المؤمن يتحدث حديثاً يجمع كلّ الحاضرين، فلا يترك أحداً خارج الموضوع، فما هي الموضوعات التي تجمع ؟ الموضوعات التي عن الله عزَّ وجلَّ، أما عن الدنيا فتفرّق.
 كنا ذات مرّة في جلسة فقال أحد الحضور للآخر: إذا كان معك عملة سوريّة فإيّاك أن تحتفظ بها وعلى الفور بدّلها بعملّة صعبة، وأغلب الموجودين لا يملكون قرشاً واحداً زائداً ليشتروا به عملةً صعبة، فما هذا الكلام الذي ليس له معنى ؟ هل هذه نصيحة ؟ نصيحة لاثنين ويوجد أكثر من خمسة عشر حاضراً في المجلس، ودخلهم على قدر مصروفهم، فهذا الكلام ليس له معنى.
تتمة آداب المجلس أن يستأذن قبل انصرافه، وأن يقرأ دعاء كفّارة المجلس.

آداب الحديث:

 

 الآن ننتقل إلى أدبٍ آخر وهو أدب الحديث، الحقيقة الحديـث له آداب كثيـرة.

1ـ عدم قطع حديث المتكلم:

 قد يقطع أحدهم حديثك أكثر من مئة مرّة ويقول لك، بلا مقطوع عن حديثك، لا يجعلك تتكلّم بكلمة واحدة، ويستلم الحديث طوال الجلسة.
 ذات مرّة أراد أن يزورني أحد الأشخاص ليستمع إلي، ولكنني لم أستطع أن أتكلّم بكلمة واحدة وهو يتكلّم طوال الجلسة، ثم استأذن وخرج.

 

2ـ التحدث بلغة مفهومة وقريبة من الفصحى قدر الإمكان:

  الحديث له آداب كثيرة جداً، ويجـوز هذا الشيء فوق طاقة أخواننا الحاضرين ولكن ممكن أن تتكلّم بلغة ليست هي بالفصحى، وليست بالمغرقة في العاميّة مثلاً: " خوش أنا ما بدي أروح "، فما هذه الكلمة ؟ أي بيد أنّه، أو لكنّه، قل: لكنني، أو لكن، وتوجد كلمات أخرى كثيرة، فالكلمات العاميّة والمغرقة في العاميّة تذهب برونق الكلام، فإذا تمكّن الإنسان من أن يتكلّم لغة فصحى مبسّطة فهذا شيء جميل جداً.

 

 

(( أقبل العبّاس رضي الله عنه إلـى النبي صلّى الله عليه وسلّم وعليه حُلّتان وله ضفيرتان وهو أبيض فلمّا رآه تبسّم، فقال العبّاس: يا رسول الله ما أضحكك أضحك الله سِنّك ؟ فقال: أعجبني جمال عمِّ النبيّ. فقال العبّاس: ما الجمال ؟ قال: اللسان ))

 

[رواه الحاكم في مستدركه عن عليّ بن الحسين رضي الله عنهما]

  على عكس ما فهمنا نحن أنّ عليه حلّتين وله ضفيرتين وهو أبيض اللون، وعند العسكري: الجمال في الرجل فصاحة لسانه.
 إذا حاول الإنسان أن يتكلّم بكلام فصيح، وأنا لا أُحمِّلكم فوق طاقتكم، لكن ابتعد عن العاميّة المغرقة، مثلاً: أين هي ؟ فيجيب قائلاً: ليكوك، كلمات غريبة جداً، وأحياناً تجد شخصاً مثقّفاً كبعض المدرسين يلقون درساً في الرياضيّات وباللغة العامية، أو بالفيزياء باللغة العاميّة، هذه مشكلة كبيرة، لأن الدعوة إلى الله تحتاج إلى لغة، وتعلُّم اللغة من الدين أيها الأخوة، فقد قال سيّدنا عمر رضي الله عنه: "تعلّموا العربيّة فإنّها من الدين."
 إذا كان عندك كتاب في النحو أو في الصرف، أو سمع درساً في النحو أو سأل سؤالاً، أو اقتنى معجماً صغيراً، أو قرأ نصاً أدبياً وتفاعل معه فهذا شيء جيّد وجميل، فإذا أراد الإنسان أن يتكلّم عن الله عزَّ وجلَّ فالعربيّة جزء من الدين، وأحياناً أسمع عن أخواننا بأنّهم يتدارسون معاً دروساً في اللغة العربيّة، فاللغة العربية هي الإطار، فهل تستطيع أن تشرب عصيراً أو أنفس الشراب في كيلة أو كأس صدئ، فالوعاء غير النظيف غير الجميل يُنَفِّرك من الشراب الذي بداخله، فإذا كان المعنى عميقاً، المعنى قرآنيّاً واللغة عاميّة فقد شوّهت المعنى، فبقدر الإمكان تعلّم اللغة العربيّة.

 

(( قلنا يا رسول الله ما رأينا أفصح منك ! فقال: إنّ الله تعالى لم يخلقني لحّاناّ، اختار لي خير الكلام كتابه القرآن ))

 

[رواه الشيرازي والديلمي عن أبي هريرة رضي الله عنه ]

  قال النبي عليه أفضل الصلاة والسلام ذات مرّة:

 

(( أنا أفصح العرب بيد أنّي من قريش.))

 

[رواه السيوطي في المزهر]

  بيد أنّي أي إلا أني وكأنّه سيذمُّ نفسه، وقريش أفصح قبيلة، قيل هذا الأسلوب أسلوب تأكيد المدح فيما يشبه الذّم، كقول الشاعر:

 

ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم             بهنّ فلولٌ من قراعِ الكتائبِ

***

 كقولنا: فلان كريم لكن شجاع، هذا اسمه تأكيد المديح بما يشبه الذّم، هكذا النبي قال:

(( أنا أفصح العرب بيد أنّي من قريش.))

[رواه السيوطي في المزهر]

  في الحقيقــة قد تعلّمنا في الجامعة أنّ أفصح كلامٍ على الإطلاق هو القرآن الكريم، وأفصح كلامٍ بعده على الإطلاق كلام النبيّ عليه الصلاة والسلام، فإذا قرأ الإنسان القرآن وقرأ الحديث فقد ملك بهما الفصاحة.
 حينما كنّا ندرس في الجامعة كان عندنا أستاذ تفكيره غير إسلامي، وغير علمي إطلاقاً، وغير ديني، لكنّه كان يقول: لا تستقيم ألسنتكم إلا إذا قرأتم القرآن كلّ يوم بصوت جهوريّ.
 القرآن يعلّم الفصاحة، والحديث الشريف يعلّم الفصاحة، فإذا أردت الفصاحة والبلاغة فعليك بكتاب الله وحديث رسول الله.

 

3ـ التمهُّل في الكلام حتى يفهم المستمع المراد منه:

 من أدب الحديث التمهُّل في الكلام حتى يفهم المستمع المراد منه، فكل إنسان في بدايته يتكلّم كلاماً كثيراً في وقت قليل، كلام سريع، فالنصيحة أن تتكلّم نصف الذي ينبغي أن تقوله بهدوء وبإشارات وبتعليقات أفضل بكثير من أن تلقي كماً كبيراً بأسلوب سريع غير متروٍ، روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنهـا قالـت:

 

 

(( ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسرد الحديث كسردكم هذا، يحدِّث حديثاً لو عادّه العادُّ لأحصاه ))

 

[ متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها ]

  كان عندنا أستاذ في الجامعة وقد كنا مئتين وعشرين طالباً، ففي بعض الدروس يكون الحضور خمسة طلاّب، وبدرسه كنا نحضر جميعاً وبعضنا على الواقف، إذا تكلّم الأستاذ فلا نحتاج أن نقرأ الدرس مرّة أخرى في البيت لوضوحه وبساطته وكلامه البليغ، تخرج من المحاضرة حافظاً لكل الدرس، ولا تحتاج أن تقرأه في البيت إطلاقاً، لذلك من السنّة أن تقول كلاماً متمهّلاً دون سرعة، حتى يحدث الاستيعاب:

 

(( ما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يسرد الحديث كسردكم هذا، يحدِّث حديثاً لو عادّه العادُّ لأحصاه ))

 

[ متفق عليه عن عائشة رضي الله عنها ]

(( كان كلامه صلّى الله عليه وسلّم فصلاً يفهمه كلُّ من سمعه ))

[ أبو داود عن عائشة أيضاً رضي الله عنها]

4ـ الابتعاد عن الثرثر والإطناب الممل والإيجاز المخل:

  يوجد وصف من أمّ معبد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقد مرّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصاحبه أثناء طريق الهجرة بمنازل خزاعة ودخلا خيمة أمِّ معبد فاستراحا بها قليلاً ولما خرج من عندها قيل لها: صفيه لنا يا أُمّ معبد، فقالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخَلق، وسيماً قسيماً، إذا صمت علاه الوقار، وإذا تكلّم سماه وعلاه البهاء، فهو أجمل الناس وأبهاهم من بعيد، وأحسنهم وأجملهم من قريب، حلو المنطق، فصلٌ، لا نزرٌ ولا هزرٌ، كأنّ منطقه خرزات نظمٍ يتحدّرن، ربعةٌ لا يأس من طولٍ ولا تقتحمه عينٌ من قصر، غصنٌ بين غصنين فهو أنضر الثلاثة منظراً، وأحسنهم قدراً، له رفقاء يحفُّون به، إن قال أنصتوا لقوله، وإذا أمر تبادروا لأمره، محفودٌ محشود لا عابسٌ ولا مفنِّد، فقال لها زوجها أبو معبد: هو والله صاحب قريش، ولقد هممت أن أصحبه، ولأفعلنّ إن وجدت إلى ذلك سبيلاً.
 لا نزرٌ: أي لا تسحب الكلام منه سحباً، بعض الأشخاص ذوو كلام نزر إذا قلت له: ماذا تمّ ؟ يقول لك: ماشي الحال، هل أخذت موافقة ؟ فيجيبك بالإشارة برأسه، ولا تفهم منه كلمة، قل: أخذت الموافقة، هذا النزر.
لا هزرٌ: أي كثير الكلام، لتّات، يعمل من الحبّة قبّة.
 كأنّ منطقه خرزات نظمٍ يتحدّرن: أي كلامه مثل عقد اللؤلؤ، كان حلو المنطق لا نزرٌ ولا هزرٌ، البلاغة بين الإيجاز المخلّ، والإطناب الممل، فالإطناب الممل ليس من البلاغة ولا الفصاحة، والإيجاز المخلّ أيضاً عيبٌ في الكلام.

 

5ـ الابتعاد عن التقعُّر والتكلُّف:

 النبيّ صلّى الله عليه وسلّم نهى عن التكلُّف في الفصاحة، التكلُف في الفصاحة: أي فيه تقعُّر، والتقعُّر هو تكلُّف الفصاحة، فأجمل شيء في الحياة الفصاحة، والشيء الطبيعي، أما من قال هذه العبارة:
  ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكُئِكم على ذي جنّة، افرنقعوا عنّي.
 هذا الكلام تكلُّف وليس من الفصاحة، تكأكأتم: أي تجمّعتم، وهذا من التكلُّف الذي ينهى عنه النبيّ، وكقول الشاعر:

 

 

إن كنت كنتَ كتمت الحبَّ كنت               كما كنّا ولكن ذاك لم يكُنِي

***

 ألغاز وأحاجي وكلمات متكررة هذا التكلُّف نهى عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

(( إنّ الله عزَّ وجلَّ، يبغض البليغ من الرجال الذي يتخللُ بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها ))

[ رواه أبو داود والترمذيّ عن ابن عمر رضي الله عنهما]

  التكلُّف، والتقعُّر نهى عنه النبي صلّى الله عليه وسلّم.

 

(( كان إذا تكلّم بكلمةٍ أعادها ثلاثاً حتى تفهم عنه، وإذا أتى على قومٍ فسلّم عليهم، وكان صلّى الله عليه وسلّم يتكلّم بكلامٍ فصلٍ لا هزرٍ ولا نزرٍ ويكره الثرثرة في الكلام والتشدُّق به أي التكلُّف ))

 

[ في الصحيحين عـن أنسٍ رضي الله عنه]

  هذا من آداب الحديث، ابتعد عن اللغة العاميّة، وعن السرعة في الكلام، ابتعد عن الثرثرة والإطناب الممل والإيجاز المخل، وابتعد عن التقعُّر والتكلُّف هذا كلُّه نهى عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.

 

6ـ التكلّم بكلامٍ يناسب ثقافة القوم:


 من أدب الحديث أيضاً أن تتكلّم بكلامٍ يناسب ثقافة القوم، أنت تحمل مرتبة الدكتوراه وتجلس مع أناس بسطاء، وتتكلّم في النظريّة النسبيّة وعن رأي أينشتاين في الفراغ هل هو مستقيم أم منحنٍ ؟ والبعد الرابع للأجسام، وهم لا يفهمون شيئاً مما تقول، فهذه تعتبر كمن يعرض عضلاته على الغير، لكن البطولة أن تتكلّم بكلام يفهمه كلّ الحضور، فتأتي بمثل يوضّح هذه القضيّة المعقّدة، فأحياناً قضايا معقّدة جداً توضّح بمثال بسيط.

 

 

الابتعاد عن الكلام المليء بالشطحات و التجاوزات:

 

 

 ذات مرّة سألني أحد الأخوة وقد كان واقعاً في إشكال بين العقل والنقل وقد دخل في متاهات، فأراد أن يفهم مني عن ذلك الموضوع فذكرت له مثالاً ألهمه الله لي فقلت له: نفرض أنّ لدينا بقّالية أو صيدلية وبها من الأصناف ما يربو عن العشرة آلاف صنف ولكن كلّ هذه الأصناف لا تقل عن الخمسين غراماً ولا تزيد عن الخمسة كيلو من الغرامات، فاشترى صاحب هذه البقاليّة أعظم ميزان وثمنه ثلاثمئة ألف وهو إليكتروني ومعه ذواكر، وأراد أن يزن سيارته، فهل من المعقول أن يستخدم هذا الميزان بوزن سيّارته ؟ فقال لي: لا، وإلا كسر الميزان، فإذا كسر الميزان فهل يكون ذلك خطأ من الشركة ؟ لا، الخطأ من سوء استعمالك للميزان، فقلت له: هذا العقل الله عزَّ وجلَّ خلقه وأعطاه مهمّة وقال لك: فكّر في هذا الكون فتعرف الخالق، أمّا إذا أردت أن تستخدم العقل فـي معرفة ذات الله، فهذا من المستحيل، فإذا أقحمت عقلك لمعرفة ذات الله فعقلك لا يستطيع، فكلّما دخلت في الغيبيّات كلّما حُلَّت مشكلة نشأت مشاكل، لأنّ عقلك ليس مجهّزاً لهذه المهمّة، فقد قال النبيّ الكريم:

(( تفكروا في خلق الله، ولا تفكروا في الله فتهلكوا ))

[ أخرجه ابن حبان عن أبي ذر ]

  البطولة أن تفكّر وفق المنهج، أمّا إذا أردت أن تعرف وزن سيّارتك فاسأل المعمل، والمعمل لا يكذب، فكل شيء عجز عقلك عن إدراكه الله أخبرك به وانتهى الأمر.
 نحن عندنا في الدين إخباريّات أو مسموعات وعندنا معقولات، فالإيمان بالله، والإيمان بالنبي، والإيمان بالكتاب من المعقولات، أمّا بالدار الآخرة مسموعات وكذلك بالأزل، وبذات الله، فقد ورد في الحديث:

 

(( حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله ؟ ))

 

[البخاري عن علي رضي الله عنه]

  عندما قال الحلاّج: ليس في الجبَّة إلا الله، من أفتى بقتله ؟ الإمام الجنيد، وهو شيخٌ كبير، لأنّ هذا الكلام يسبب فتنة كبيرة، وقد يحتاج لشرح طويل، ولكن هذا الكلام غلط، فقد ترى شطحات في كتب التصوّف مثل: من وحّد فقد ألحد، فليس هذا معقولاً، أو معبودكم تحت قدمي، قيل أنّ تحت قدمه كان كنز من الذهب، فمن يعرف أنّ تحت قدمه كنزاً من الذهب فقد قال: معبودكم تحت قدمي، فهذا كلام يسبب الفتن، والنبي ما قال وما فعل مثل هذا أبداً، فكل كلام فيه شطحات أو صدمات أو تجاوزات هذا كلام ممنوع أن نقوله لذلك لا يجوز أن تقرأ كتاباً فيه مثل هذه الشطحات، لأنّك ستضيع وهذا خلاف السنّة.

 

على الإنسان أن يبقى وفق سنّة النبيّ فيتكلّم كلاماً واضحاً لا لبس فيه:

 

 

 اقرأ سنّة النبي الكريم كلّ ما فيها واضح فقد قال صلّى الله عليه وسلّم:

(( تركتكم على بيضاء نقية ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ))

[رواه أحمد وابن ماجه عن العرباض بن سارية]

 قال تعالى:

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ(6) ﴾

 

( سورة البقرة: آية " 6 " )

  في أحد التفاسير الذي به شطحات قال: هؤلاء هم المؤمنون، كفروا في الدنيا.
 تجد أسلوباً فيه تكلُّف أما الآية واضحة، إن الذين كفروا أي الذين كفروا أما أن يطلعوا في هذا التفسير هم المؤمنين فهذه من الشطحات، وهذه التجاوزات، مثل قولهم: معبودكم تحت قدمي، وليس في الجبّة إلا الله، ومن وحّد فقد ألحد، هذا كلام خلاف السنّة، ونحن نقول أنّ هذا الكلام خلاف السنّة، ولعلّ من حسن الظن أنّ صاحبه لم يقله، لعلّ الذين عُزي إليهم هذا الكلام لم يقولوه، فالأولى أن تبقى وفق سنّة النبيّ أي تتكلّم كلاماً واضحاً لا لبس فيه.

 

(( رسول الله صلى الله عليه وسلم كلم إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا فلان هذه زوجتي صفية، فقال: يا رسول الله من كنت أظن فيه فإني لم أكن أظن فيك، فقال: إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.))

 

[البخاري و أبو داود عن أنس بن مالك]

  كيف كان النبي حريصاً على سلامة صدر أصحابه، كذلك المؤلّف العالم ينبغي أن يكون حريصاً حرصاً بالغاً على أن لا يقع القارئ في إشكال أو إرباك، بأن يخلق له مشكلة يحتاج حلّها إلى عشرين صفحة، فقد كنت غنياً عن إيراد مثل هذه المشكلة كلّها، فأنا أحاول وبفضل الله عزَّ وجلَّ أن لا آتي بشبهة أنتم في غنى عنها، ثمّ نقوم بتحليلها، فإذا سئل الإنسان فعليه أن يجيب عليهـا، أمّا أن يأتي هو بالمشكلة ويحللها ويشرحها فأنتم في غنى عن ذلك، يوجد جواب لكلّ قضيّة لو سألتم، إذاً المخاطبة على قدر الفهم، قال عليه الصلاة والسلام:

 

(( أُمرنا معاشر الأنبياء أن نحدّث الناس على قدر عقولهم.))

 

[روى نافع عن ابن عمر]

  إذا قعدت مع أُناس بسطاء تجد أجمل شيء يذكر هو قصّة مؤثّرة تبيّن حكماً شرعياً، وكيف أنّ إنساناً قد جاوز حدّه فعاقبه الله.

 

السهولة دليل الرقيّ والدين لا يحتاج إلى تعقيد ولكن يحتاج إلى تبسيط:

 

 أسلوب القصّة هو أبلغ أسلوب علـى الإطلاق، فالقصّة تستوعب كلّ الناس، كلّ الحاضرين، تروي مثلاً قصّة واقعيّة ومدروسة وذات مغزى واضح تماماً فيتأثّر الناس منها، فلست في حاجة أن تدخل في متاهات علم المنطق وعلم الكلام وأقوال الفلاسفة، فمن رأيي تبسيط الإسلام لأن الدين ليس معقّداً، الدين بسيط، فهو دين الله عزَّ وجلَّ.
 انظر إلى المركبات كلّما كانت أرقى في الصنع كانت سهلة في القيادة، والسهولة دليل على الرقي الكبير، ويسمّى بالسهل الممتنع، فإذا كانت السيّارة ذاتيّة الحركة فتكون قيادتها ذات سهولة بالغة أمّا وراء هذه السهولة يوجد تعقيد بالغ، فالسهولة دليل الرقيّ، والدين لا يحتاج إلى تعقيد ولكن يحتاج إلى تبسيط.
 مثال: من هم الأولياء ؟ يجيبك: يوجد أولياء أبدال ونقباء وأقطاب، لا، فقد قال تعالى:

﴿ أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ(62)الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63) ﴾

( سورة يونس )

  هذا تعريف القرآن الكريم، هذا هو الولي، فكل من عرف الله واستقام على أمره فهو ولي، فلا تتطلب لفّة خضراء، أو كرامات، أو أن يمشي على الماء، أو أن يطير في الهواء، فأعظم كرامة هي العلم، أن تكون عالماً، وأعظم كرامة كذلك هي الاستقامة، فالاستقامة عين الكرامة، فإذا كنت عالماً ومستقيماً فأنت مكرّم، لا تحتاج أن تعرف ماذا في بيت رفيقك أو ماذا يطبخ اليوم، وتقــول له: أنت طابخ الطعام الفلاني، فقد شممت رائحته ولا يحتاج ذلك إلى شطارة منك، أو ماذا أكل ؟ ويقولون: هذا كشف، أو أنت اليوم فعلت الشيء الفلاني في منزلك، فهذه ليست ولاية، فالولاية كما قال الله تعالى:

 

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(63) ﴾

 

( سورة يونس: آية " 63 " )

  سُئل الجنيد: لعلّ الولي الذي يمشي على وجه الماء ؟ قال: لا. قالوا: الذي يطير في الهواء ؟ قال: لا، الوليُّ كلُّ الولي الذي تجده عند الحلال والحرام، أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفتقدك حيث نهاك.

 

لا تقبل شيئاً غير منطقي فالعقل أساس كل شيء:

 

 نحن من أنصار تبسيط الدين، دين الله عزَّ وجلَّ لا يحتاج إلى تعقيد، بسّط الأمور فهي واضحة جداً، عقل وتطبيق تكن أكبر داعية في العالم.
 بسّط الأمور واجعلها معقولة أي وعقلٍ، أي لا تقبل شيئاً غير منطقي، فالعقل أساس، وطبّقها تكن أكبر داعية.

(( حدّث الناس بما يعرفون، أتحبّون أن يكذّب الله ورسوله ؟ ))

[ صحيح البخاري عن عليّ موقوفاً ]

  قال لي أحد الأشخاص أنّ الأستاذ فلان وليّ كبير في المغرب ذهب إلى الحجّ ولم يطف حول الكعبة، فقلت له: هل هذا معقول أن لا يطوف بالكعبة فطواف الإفاضة ركن ؟! قال لي: الكعبة هي التي طافت حوله.
 هذه لا أعرفها ولا تقل ذلك لأحد حتى لا يضحك علينا، دائماً لا تتكلّم بكلام غير معقول، وأنصح أخواننا الكرام بترك الكرامات والمنامات، فالكرامات والمنامات يدخلوننا في متاهة كبيرة جداً، فنحن الكرامة لا نرويها ولا ننكرها، فالكرامات وردت في القرآن، ولكن لا أصدّق كرامة إلا إذا ورد بها نصّ صحيح.
 السيّدة مريم لها كرامة عند الله فقد أنجبت من دون زوج، وأهل الكهف لهم كرامة عند الله فقد بقوا في كهفهم ثلاثمئة عام، فهذه كرامة ولكن فيها نص صحيح أمّا أنا لست مضطراً أن أصدّق كل شخص، فقد استمعت إلى كرامات بأشكال مختلفة وعجيبة ولست مضطراً أن أصدّقها، ولا مكلّفاً أن أقوم بتصديقها على الإطلاق والأولى كما قال العلماء: " الكرامة ليست خاضعةً للنشر."

كثرة التكلم عن الكرامات توقع الناس في المتاهات:

 من يتباهى بكرامته فقد كرامته، أمّا المعجزة للتحدّي، فهي للنبي والنبي معصوم أمّا أنت لست معصوماً، فإذا ذكرت كرامة وأقنعتهم بها ولكن سلوكك غير منتظم عندها تربكهم، ويظهر لهم أنّ الدين دجلٌ وتدجيل، فالكرامة لا ينبغي أن تروى إطلاقاً، فإذا كنت رويتها لأخ يحبّك فلا مانع من ذلك ولكن على انفراد، أمّا تتخذها دعاية وتقول: هكذا حدث معي، وهكذا فعلت، فهذا غير وارد، ولا تنكرها لعلّها وقعت، أوكل إلى الله ما إذا كانت وقعت أو لم تكن قد وقعت، قال:

(( حدثوا الناس بما يفهمون، أتريدون أن يُكَذَّب الله ورسوله ؟ ))

[البخاري عن علي رضي الله عنه]

  ذُكِر أنّه دخل أحد الأشخاص على الإمام الشعراني ليتفقد أحد أقاربه فقال له: أين فلان ؟ فقال له: الآن كان هنا، ووجدوا على الأرض بقعة من الماء، فقال له: هو هذا الماء، وبقدر ما صار له من الحب ذاب وأصبح ماء، هذه القصّة وردت في كتاب وربما لم يقلها إطلاقاً، وقد تكون من دسّ الزنادقة، ولا يمكن أن نقبل كلّ شيء ذكر في الكتب، فإذا بالغنا في ذكر الكرامات فقد أوقعنا الناس في متاهات، وفي مقدّمة صحيح مسلم:

 

(( ما أنت بمحدّثٍ القوم حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة ))

 

[صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه ]

(( لا تحدّثوا أُمّتي من أحاديثي إلا ما تحمله عقولهم فيكونُ فتنةً عليهم ))

[ الديلمي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما ]

  إن شاء الله في درس قادم نتابع هذا الموضوع من آداب الحديث فهو موضوع دقيق لأنّ الحديث نشاط أساسي في حياة المؤمن، ولا سيّما المؤمن، وكلّ مؤمن يطمح أن يكون داعية، فالحديث له شروط وخصائص وله آداب، وكلّ هذا الذي ذكرناه في توجيهات نبويّة واضحة جداً، فدائماً يجب أن تبقى مع الكتاب والسنّة.
 أكبر ناحية في هذا الدرس هي الحق يجب أن يجتمع فيه النقل الصحيح، مع العقل الصريح، مع الفطرة السليمة، مع الواقع المتوازن، فشروط الحق: العقل، والنقل، والفطرة، والواقع، الفطرة لا تأباه، والعقـل يقرّه، والواقع يؤكّده، والنقل يثبته، نقل، عقل، فطرة، واقع، فحاول أن تتكلّم بما يجمع بين هذه الصفات كلّها.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور