وضع داكن
26-04-2024
Logo
رمضان 1426 - الفوائد - الدرس : 13 - ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون وبنهاره إذا الناس مفطرون
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
أيها الإخوة الكرام، أورد ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه الفوائد بعضاً من حكم ابن مسعود رضي الله عنه.
حياة المؤمن

 الحكمة الأولى: " ينبغي لحامل القرآن أن يُعرَف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يغتالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً حكيماً، حليماً سكيناً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً ولا غافلاً، ولا صياحاً ولا حديداً ".

تميز المؤمن ليس فقط بعبادته

 تلك الحكمة المتعددة منطلق لحقيقة كبيرة في حياة المؤمن، فما لم يكن المؤمن متميزاً على من حوله في استقامته، في حديثه، في علاقاته، في أمانته، في صدقه، في عفته، في وفائه، في رحمته، في إنصافه، فلن يكون مؤمناً كما أراده الله عز وجل، ولن يستطيع المجتمع أن ينمو في ظل مؤمن لا يميزه عمن حوله إلا عباداته، هذه لا تكفي، الناس لا يشدون إليك بعباداتك، يشدون إليك بمعاملاتك، لا يشد الناس إلى الدين إن رأوا إنساناً يصلي، ولكنهم يشدون إلى الدين إن رأوا إنساناً وفياً صادقاً، عفيفاً مستقيماً، وقافاً عند كتاب الله، كيف يقول الله عز وجل

 

﴿ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً﴾

 

[ سورة النصر: الآية 2]

 وأي إنسان له مظهر ديني، أو يؤدي عبادات، ويكذب، ويحتال، ولا ينجز الوعد، ولا يتقن عمله، ولا يكون منضبطاً في مواعيده، هذا يجعل الناس يخرجون من دين الله أفواجاً.
 المشكلة أيها الإخوة الكرام، أن أوسع شريحة في المجتمع لا تعرف الإسلام من مرجعياته، ولكنها تعرف الإسلام من سلوك المسلمين فقط، معظم العالم اليوم حينما يرى المسلم مقصراً متخلفاً فقيراً، لا يتقن عمله، يقدم تصريحاً كاذباً ليحتال، مثل هذا المسلم يحمل الناس على أن يخرجوا من دين الله أفواجاً، مسلم آخر يشد الناس بصدقه، بأمانته، بعفته، بورعه، بإتقانه لعمله، هذا الذي شد الناس إلى الدين.

 

المؤمن وهو صامت أكبر داعية إلى الله فكيف إذا تكلم ؟

 جعلت من هذه الحكمة منطلقاً، الفرق بين المؤمن وغير المؤمن ليس فرق عبادات شعائرية تؤدى، ولكنها فرق معاملات صارخة كاملة تظهر، لذلك قالوا كلمة رائعة: المؤمن وهو صامت أكبر داعية إلى الله، وهو صامت، فكيف إذا تكلم ؟ لا يمكن أن يغش الناس، لا يمكن أن يكذب، لا يمكن أن يقسو، لا يمكن أن يحتال، لا يمكن أن يتجاوز حده، لا يمكن أن يستعلي، لا يمكن أن يتكبر.
 فلذلك أيها الإخوة الكرام، وأنت صامت يمكن أن تكون أكبر داعية إلى الله، لأن صدقك دعوة، ولأن أمانتك دعوة، ولأن عفتك دعوة، ولأن إنصافك دعوة، ولأن رحمتك دعوة، ولأن إنجاز وعدك دعوة، ولأن وفاءً بعهدك دعوة، فإن أردتم لدوائر الإسلام أن تتنامى فطبقوا منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخلاقي، لأن الله عز وجل منحه القرآن الكريم ، ومنحه الوحي، ومنحه المعجزات، ومنحه طلاقة اللسان، ومنحه كل الخصائص التي تعين على الدعوة، قال تعالى:

 

 

﴿ سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى﴾

 

[ سورة الأعلى: الآية 6]

 أما حينما أثنى الله عليه أثنى عليه بخلقه، قال تعالى:

 

﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾

 

[ سورة القلم: الآية 4]

 فعلُ الأنبياء بالمجتمعات فعلٌ لا يصدق، وقوة تأثيرهم تفوق حد الخيال، هم بشر، وتجري عليهم كل خصائص البشر، لكن الذين حولهم رأوا العفة، رأوا السمو، رأوا الرفعة، رأوا التواضع، رأوا الزهد، فلذلك إن أردنا لدوائر الدين أن تتنامى، ولدوائر الباطل أن تضيق فلنكن على منهج النبي الأخلاقي.

 

كيف يكون المؤمن فتنة للكافر ؟

 أيها الإخوة الكرام، ما من آية تحضرني في هذا الموضوع الدقيق والخطير كقوله تعالى:

 

 

﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾

 

[ سورة الممتحنة: الآية 5]

 كيف يكون المؤمن فتنة للكافر ؟ المؤمن إذا قصر في أداء واجباته، أو إذا احتال، أو إذا أدى تصريحاً كاذباً، أو إذا أخلف وعده، أو إذا لم يفِ بعهده، أو إذا قسا في معاملاته، الكافر يعتد بكفره، ويرى أن كفره هو الصواب، من الذي أقنع الكافر بكفره ؟ المؤمن حينما رفع شعار الإسلام، وسلك سلوك المنحرفين، لذلك إن أردت لمبدأ أن تحطمه، أن تنهيه فارفع أفكاره، وأعلنها، وتحرك بخلاف هذه الأفكار، وما من مذهب تعلن مبادئه، وتخالف هذه المبادئ في السلوك إلا ويسقط، ما الذي صرف الناس عن الغرب بعد الحادي عشر من أيلول ؟ أن كل القيم التي جاء بها الغرب، ونشرها في العالم في سلوكه اليومي في بلاد وصل إليها، كان هذا السلوك مناقضاً لكل قيمه التي طرحها فسقط، وما من شيء يخالف أتباعه مبادئه إلا يسقط هذا المبدأ.

 

كيف يقوى الإسلام؟

 الآن الإسلام لا يقوى بإلقاء الخطب، ولا بإلقاء الدروس، ولا بتأليف الكتب، ولا بعقد المؤتمرات، الإسلام لا يقوى الآن أن يرى الناس مسلماً متحركاً، أن يروا صدقاً أمامهم، أن يروا ورعاً أمامهم، أن يروا عفة أمامهم، أن يروا وفاء عهد أمامهم، هذا الذي يقوي الإسلام، فلذلك: " ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس نائمون، وبنهاره إذا الناس مفطرون، وبحزنه إذا الناس يفرحون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يغتالون، وينبغي لحامل القرآن أن يكون باكياً حكيماً، حليماً سكيناً، ولا ينبغي لحامل القرآن أن يكون جافياً، ولا غافلاً، ولا صياحاً ".
 أيها الإخوة الكرام، هذه حكمة، وأنت قد لا تملك طلاقة لسان، ولا تملك علماً غزيراً تلفت به النظر، ألا تملك خُلقاً قويماً ؟ هذا الخلق القويم وحده يدخل الناس في دين الله أفواجا، وأنا ـ والله ـ أعلم أن أناساً كثيرين تابوا إلى الله، ورجعوا إليه بسبب موقف يلفت النظر من مؤمن، فقد يكون المؤمن داعية وهو صامت، فكيف إذا كان داعية وهو ناطق ؟ وبين أن يكون المسلم الذي تربى في بلد إسلامي منفراً وهو صامت، فكيف يكون منفراً وهو يتهجم على الدين ؟

 

 

المسلم متحرك ؟

 نحن الآن أيها الإخوة الكرام في أمسّ الحاجة إلى مسلم متحرك، كيف أن النبي عليه الصلاة والسلام من أدق أوصافه أنه قرآن يمشي، فالمسلم مسلم يمشي، هذه واحدة.

 

 

عدم تعظيم المرشدين مع عدم تطبيق منهجهم:

 الشيء الثاني: يوجد حكمة ذكّرتني بقول عالم جليل من كبار العلماء، إنه عبد الله بن المبارك، دخل إلى مسجده، فرأى أناساً كثيرين، وقد التفوا حوله، فقال هذا الدعاء، و الدعاء منهج، قال: " يا رب، لا تحجبني عنك بهم، ولا تحجبهم عنك بي "، كيف ؟ الإنسان أحياناً يقوى بمن حوله على حساب قربه من ربه، والإنسان أحياناً يهتم اهتماماً بالغاً لانتزاع رضا إنسان، وينسى طاعة الرحمن، فقد يكون التابع مفتوناً، وقد يكون المتبوع مفتوناً، فلذلك ابن مسعود خرج ذات يوم فاتبعه أناس، فقال لهم: " ألكم حاجة ؟ قالوا: لا، و لكن أردنا أن نمشي معك، فقال: ارجعوا، فإنه ذلة للتابع، وفتنة للمتبوع "، ارجعوا.
قد يكون لك مرشد، لك داعية، لك شيخ، لك مرجع، أنا أرى أن تطبيق منهج الله عز وجل هو الشيء الوحيد الذي يرضيه، أما تعظيمه من دون اتباع منهجه فهذا لا يرضيه، و لا يرضي الله عز وجل.
 فالإنسان يكون بأعلى درجات الوفاء لشيخه إذا طبق منهجه، يكون بأعلى درجات عدم الوفاء إذا بالغ بتعظيم شيخه، وبالغ بمخالفة منهجه، والمديح لا يكلف شيئاً، لكن الذي ينهض بهذا الدين التطبيق، فأنت تكون وفياً لمن كان سبب هدايتك، تكون بأعلى درجات الوفاء إذا طبقت هذا المنهج، وانتفعت به، وانتفعت به أسرتك، وتكون بأعلى درجات عدم الوفاء حينما تمدح ولا تطبق.

 

 

الغنى:

 يوجد نقطة ثالثة، يا ترى هل ينبغي أن أكون غنياً، أو أن أكون قوياً ؟ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

 

 

(( الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ... ))

 

[ مسلم، ابن ماجه، أحمد ]

 فلي كلمة، وهي أنه إذا كان طريق الغنى سالكاً وفق منهج الله فينبغي أن تكون غنياً، لماذا ؟ لأن الفرص المتاحة للغني في العمل الصالح كثيرة جداً، ما دمت في الدنيا من أجل العمل الصالح فالفرص المتاحة للغني ليرقى بعمله الصالح فرص لا تعد ولا تحصى.
 والله أنا أغبط الأغنياء، لأنه بإمكانهم أن يصلوا إلى أعلى درجات الجنة بمالهم، يقيم ميتماً، يزوج شباباً، يؤسس بيوتاً لسكنى الشباب المؤمن، يرعى الأيتام، يرعى الأرامل، يؤسس معهداً شرعياً، يعمل مستشفى، يعمل مستوصف، يوزع حاجات ثمينة جداً على الفقراء، فالغني بإمكانه أن  يصل إلى أعلى مراتب الجنة بماله فقط، مادامت الجنة بالعمل الصالح:

 

﴿ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾

 

[ سورة النحل: الآية 32]

 لذلك الغني أمامه فرص للعمل الصالح لا تعد ولا تحصى،

 

الشرط الشرعي للوصول للغنى:

 ولكن بشرط أن يصل إلى الغنى وفق منهج الله بالطرق المشروعة، أما إذا كان طريق الغنى على حساب دينه وقيمه فالفقر وسام شرف له.

 

 

القوة:

 إذا كان طريق القوة سالكاً وفق منهج الله عز وجل فيجب أن يكون قوياً، لأن القوي بجرة قلم يحق حقاً، ويبطل باطلاً، بجرة قلم يقر معروفاً، ويزيل منكراً، بجرة قلم يقرب مخلصاً، ويبعد منافقاً، بتوقيع، فإذا كان التوقيع يلغى به منكر، وتوقيع يُحق به حق إذاً ينبغي أن تكون قوياً،

 

 

الشرط الشرعي للوصول القوة:

 ولكن بشرط أن يكون طريق القوة سالكاً وفق منهج الله، أما إذا كان طريق القوة على حساب دينك وقيمك فالضعف وسام شرف لك.

 

 

من تطاول تعظماً حطه الله
 أيها الإخوة الكرام، ومن هذه الحكم: " من تطاول تعظماً حطه الله ".
الله عز وجل عنده عذاب مهين، وعنده عذاب أليم، وعنده عذاب عظيم، فلذلك: " من تطاول تعظماً حطه الله، ومن تواضع تخشعاً رفعه الله، وإن للملك لمة وللشيطان لمة ".
 أنا أرى بحسب النصوص أن كل إنسان معه ملك، ومعه شيطان، المَلَك يدنو منه فيأمره بالخير، ويعده بالخير، والشيطان يدنو منه فيأمره بالشر، ويعده بالشر، وأنت مخير، فإما أن تستجيب للشيطان، وإما أن تستجيب للملَك، فلا يستطيع الملك أن يجبرك، ولا الشيطان أن يجبرك، لكن الملك يلهمك، والشيطان يوسوس لك، وأنت مخير، فإما أن تستجيب للشيطان، وإما أن تستجيب للملك، فلذلك: " من تطاول تعظماً حطه الله، ومن تواضع تخشعاً رفعه الله، وإن للملك لمة، وللشيطان لمة، فلمة الملك إيعاد بالخير، وتصديق بالحق، فإذا رأيتم ذلك فاحمدوا الله، ولمة الشيطان إيعاد بالشر، و تكذيب بالحق، فإذا رأيتم ذلك فتعوذوا بالله عز وجل من الشيطان الرجيم ".

 الحِكم
 أيها الإخوة الكرام، قالوا في تعريف الحكم: إنها تجارب بشرية مكثفة جداً في كلمات قد تكون خبرة أجيال مضغوطة في كلمات، فموضوع الحكم موضوع دقيق جداً، ولعل هناك كتباً ألفت في الحكم، الحكم والأمثال، الحكم تجارب صادقة عميقة حية، تقدم لك في كلمات معدودة،  أحياناً تقرأ قصة في ألف صفحة، هناك قصص مغزاها خمس كلمات، لذلك الإنسان كلما ارتقى في سلم المعرفة لا يحتاج إلى تمييع الفكرة بألف صفحة، يأخذها مضغوطة بكلمات، والحكمة ضالة المؤمن، أينما وجدها التقطها، بل إن الله عز وجل يقول:

﴿ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً﴾

[ سورة البقرة: الآية 269]

 تجارب بشرية مضغوطة في كلمات، لكن حكم الرحمن وكلام الرحمن هذه من عند خالق الأكوان، هذه مطلقة في صحتها، مطلقة في نفعها، لذلك لو اعتمدنا الحكم التي في القرآن الكريم ، و تتبعناها لكنا من أفضل المتعلمين لأثمن ما في هذا الدين من حكم.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور