وضع داكن
19-04-2024
Logo
رمضان 1426 - الفوائد - الدرس : 34 - اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله عز وجل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.
مع فائدة جديدة من فوائد ابن القيم رحمه الله تعالى.

صور عن ردع النفس عن العجب والفخر

 يقول: " ذكر ابن سعد في الطبقات عن عمر بن عبد العزيز أنه كان إذا خطب على المنبر فخاف على نفسه العجب فقطع الخطاب.
مرة سيدنا عمر بن الخطاب كان يخطب، وهو في أدق مكان في خطبته سكت، وقال: يا ابن الخطاب، كنت ترعى إبلاً على قراريط، وتابع الخطبة، هذه ليس لها علاقة، ما الذي حصل ؟ قطع البرنامج، ظهرت دعاية، يشبه هذا، ليس لها علاقة، فلما نزل من على المنبر سأله أحد أصحابه: لمَ قلت كذا ؟ قال: جاءتني نفسي فقالت لي: ليس بينك وبين الله أحد، أنت أعلى مؤمن، و أنت خليفة المسلمين، فأردت أن أعرفها حجمها، وقال: يا ابن الخطاب، كنت ترعى إبلاً على قراريط لأهل مكة، والآن أنت أمير المؤمنين، لذلك قال مرة: " كنت عميرا فأصبحت عمر، فأصبحت أمير المؤمنين ".
سيدنا عمر بن عبد العزيز يبدو أنه اقتدى به، قال: " كان إذا خطب على المنبر فخاف على نفسه العجب قطع الخطبة، وإذا كتب كتاباً فخاف وفيه العجب مزقه، ويقول: اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ".
هذا الموضوع يحتاج إلى دقة بالغة، لأنه إن صح التعبير يمس الخاصة من المؤمنين، أحياناً يجري الله عز وجل على يديك عملاً صالحاً، مثلاً: ألقيت درساً رائعاً جداً، ولك أثر كبير جداً، أنت ماذا فعلت ؟ أنت شهدت عملك، ولم تشهد فضل الله عليك، هذا أكبر خطأ في التوحيد.

القول السديد والعمل الصالح من توفيق الله عزوجل

 لذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: << اعلم أن العبد إذا شرع في قول أو عمل يبتغي به مرضاة الله عز وجل مطالعاً فيه منة الله عليه وتوفيقه، وأنه بالله لا بنفسه، ولا بمعرفته، وفكره، وحوله، وقوته، بل هو بالذي أنشأ له اللسان والقلب، والعين والأذن، فالذي منّ عليه بذلك هو الذي منّ عليه بالقول والفعل، فإذا لم يغب ذلك عن ملاحظته، ونظر قلبه لم يحضره العجب >>
من أنت ؟ الله عز وجل سمح لك أن تنطلق في خدمة الخلق، جمعك مع أهل الحق، تعرفت إلى الله من خلالهم، أعانك على الاستقامة، كلما شهدت فضل الله عليك في ما أنت فيه فأنت موحد، فإذا نسيت فضل الله عليك، وشهدت جهدك وعملك فقد وقعت في الشرك الخفي، فعَنْ شَدَّادِ بْنِ  أَوْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

(( إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَتَخَوَّفُ عَلَى أُمَّتِي الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، أَمَا إِنِّي لَسْتُ أَقُولُ: يَعْبُدُونَ شَمْسًا وَلَا قَمَرًا، وَلَا وَثَنًا، وَلَكِنْ أَعْمَالًا لِغَيْرِ اللَّهِ، وَشَهْوَةً خَفِيَّةً ))

[ابن ماجه]

 فرق كبير بين أن تشهد فضل الله عليك، وأن تشهد عملك، فمن أنت ؟

 

كنت لا شيء فأصبــحت به  خير شيء في الورى قد صنعك
كيفما شاء فكن في يده  لــك إن فرقــــك أو إن جمعـك
في الورى إن شاء خفضاً  ذقته وإذا شــاء عليهــم رفعــك
* * *

 هذه ملة طه.
 سيدنا يوسف ماذا قال لما دعته امرأة العزيز، وهي ذات منصب وجمال، وفي أكثر من خمسة عشر مرغِّبًا أن يفعل ما دعي إليه، شاب في مقتبل حياته، غريب، عبد لسيدة تدعوه، ليس من صالحها أن ينشر الخبر، فقال:

 

 

﴿ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ﴾

 

[ سورة يوسف: الآية 23]

 ماذا قال ؟

 

﴿ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾

 

[ سورة يوسف: الآية 33]

لا تنسب التوفيق والفضل إلى نفسك

 لم ير قوة إرادته، ولم ير انضباطه، ولم ير ورعه، ولم ير طاعته، لكنه رأى فضل الله عليه أنه حفظه من أن يقترف هذا الإثم، فكلما شهدت فضل الله عليك فأنت موحد، وكلما شهدت قدرتك وقوتك واستقامتك، وإرادتك القوية، وعزمك فأنت في شرك خفي، نعوذ بالله منه.
الموضوع دقيق جداً، مرة التحق شاب بمسجد، وتفوق باستقامته، وفي إقباله على الله، له أب، ولهذا الأب فضل على ابنه كبير، زوجه، وقدم له أشياء كثيرة، الأب ليس منضبطاً انضباط الابن، فكان الابن يستعلي على أبيه، ويراه ليس مستقيماً، يراه كذا، فإذا بهذا الابن تنهار مقاومته، ويطلق بصره في الحرام، أتاني مرة ما كنت أفهم كيف أعالج هذه الحالة، إلى أن عرفت الحقيقة، هو استعلى على أبيه، ولم ينسب استقامته إلى فضل الله عليه، ولا إلى معونة الله له، نسبها إلى إرادته القوية، وإلى انضباطه، والله عز وجل عاقبه بأن ضعف مقاومته، فانهارت إرادته، لذلكم إذا اعتدّ الإنسان باستقامته كبراً يعالجه الله معالجة صعبة جداً، ويضعف مقاومته.
لذلك قال بعض العارفين بالله: " رب معصية أورثت ذلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً ".
إذا كنت مستقيماً فهذا فضل من الله كبير، يا رب أنا أحقر عبيدك، شرفتني بمعرفتك والدعوة إليك، من أنا ؟ لقد كرمتني يا رب، وحفظتني، وألهمتني الرشد والصواب، وجمعتني مع أهل الحق، وأعنتني على طاعتك، أعنتني على محبتك، أعنتني على حب الخيرات.
الفكرة الدقيقة في هذا الدرس، إما أن تشهد فضل الله عليك، وإما أن تشهد عملك، إما أن تشهد فضل الله عليك فأنت موحد، وإما أن تشهد عملك فقد وقعت في الشرك الخفي.
قال: << فإذا غاب عن تلك الملاحظة فوقع العجب، ففسد قوله وعمله.

نتائج العجب والشرك الخفي

 

 الآن دققوا في نتائج هذا العجب والشرك الخفي.
 قال: << فتارة يحال بينه وبين تمام عمله، ويقطع عليه، ويكون ذلك رحمة به حتى لا يغيب عن مشاهدة المنة والتوفيق ـ لا يوفق بعلمه ـ وتارة يتم له، ولكن لا يكون له ثمرة، وإن أثمر أثمَر ثمرة ضعيفة غير محصلة للمقصود، وتارة يكون ضرره عليه أعظم من انتفاعه، ويتولد له منه مفاسد شتى بحسب غيبته عن ملاحظة المنة والفضل والتوفيق >>.
 ثمة أشياء دقيقة في علاقتك مع الله عز وجل، إن أكرمك الله بمعرفة، باستقامة، بانتماء إلى مجلس علم تثق به، إذا أكرمك الله بطاعة لله بمال حلال، بمهنة راقية شريفة، إذا أكرمك الله بعمل ينفع العباد، وقلت: أنا خططت، وأنا درست، وأنا تراكمت خبراتي فقد وقعت في الشرك، وقد  قيل: رقصت الفضيلة تيهاً بفضلها فانكشفت عورتها، أما إذا قلت: هذا من فضل الله علي، هذا من توفيق الله، هذا من معونة الله، هذا من إكرام الله نجحت، لكن أن تقوله كلامًا حقيقيًّا، وليس كلامَ تواضعٍ، قال إبليس: أنا خير منه فأهلكه الله، قال قوم بلقيس:

﴿ نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ ﴾

[ سورة النمل: الآية 33]

 فأهلكهم الله.
 قال فرعون:

 

﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ﴾

 

[ سورة الزخرف: الآية 51]

 فأهلكه الله.
 قال قارون:

 

﴿ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾

 

[ سورة القصص: الآية 78]

 الموضوع ألاّ ترى عملك، أن ترى عملك توفيقاً من الله، وفضلاً منه ومنة عليك، لذلك إذا أراد ربك إظهار فضله عليك خلق الفضل ونسبه إليك، لا تقل: أنا، قل: هذا من تمام فضل الله علي، لذلك النبي عليه الصلاة والسلام حينما التقى الأنصار قال:

(( ألم تكونوا ضلالاً ))

 ـ ما قال: فهديتكم ـ قال: فهداكم الله بي ؟ دقق:

(( ألم تكونوا ضلالاً فهداكم الله بي ))

[أحمد عن أبي سعيد الخدري]

 وقوله:

(( يَا أُخَيَّ أَشْرِكْنَا فِي شَيْءٍ مِنْ دُعَائِكَ، وَلَا تَنْسَنَا ))

[ابن ماجه]

 يا رب، هذا جهد مقلّ، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، كلما ازددت تواضعاً مع الله عز وجل رفع شأنك، وكلما استعليت، ونظرت إلى عملك وإلى إنتاجك حجبك عنه، أنت كمؤمن أنا أقول لك كلاماً دقيقاً: الله أكرم وأجل وأعظم من أن يشمت بك عدواً، لكن يؤدبك تأديباً لطيفاً بينك وبينه، فيحجبك عنه، تصلي فلا تشعر بشيء، تقرأ القرآن فلا تشعر بشيء، تذكر فلا تشعر بشيء، لأنك محجوب، فكل إنسان شهد عمله يحجب عن الله عز وجل ، لذلك يمكن أن أقول هذا الكلام الدقيق الدقيق: إن في تجربة المسلمين الصحابة الكرام تجربتين، تجربة بدر وحنين،  الصحابة الكرام نخبة الخلق، إن الله اختارني واختار لي أصحابي، في بدر قالوا: الله، فانتصروا، قال تعالى:

 

﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾

 

[ سورة آل عمران: الآية 123]

 في حنين قالوا: لن نغلب من قلة، نحن كثر، قال تعالى:

 

﴿ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾

 

[ سورة التوبة: الآية 25]

 هذان الدرسان تحتاجهما كل ساعة، قل: الله يتولّك، قل: أنا، يتخلّ عنك، أنت بين التولي والتخلي، إن وحدت تولك، إن أشركت تخل عنك، طبعاً هذا عقاب لطيف، يحجبك عنه، وعملك لا ينتج، كأن تعمل مع رجل سنة ثم يقول لك: هذا الطريق، ما أعجبني عملُك، ما استفدت شيئاً، لا توفيق، ولا إنجاز، ولا ثمرة، هناك إحباط، لأنك ترى عملك، لأنك تقول: أنا، إذاً الله عز وجل إما أن يصلح أقوال العبد وأعماله، ويعظم له ثمرتها، أو أن يفسدها عليه، ويمنعه من ثمرتها، فلا شيء أفسد للأعمال من العجب، ورؤية النفس، لو لم تذنبوا لخفت عليكم ما هو أكبر، ما هو الذي هو أكبر من الذنب ؟ قال: العجب، ما الذي أهلك إبليس ؟ العجب، قال: أنا خير منه
<< فإذا أراد الله بعبده خيراً أشهده منته وتوفيقه، وإعانته له في كل ما يقوله ويفعله، فلا يعجب به، ثم أشهده تقصيره فيه، وأنه لا يرضى لربه به، فيتوب إليه، ويستغفره، وإن لم يشهد فضل الله ومنته، ولم يشهد تقصيره، بل شهد عمله، فكان عمله هذا، ولو كان صالحاً حجاباً بينه وبين الله، ولم يحقق الهدف منه >>.
 أيها الإخوة الكرام، هذه كلمات لطيفة ودقيقة وعميقة ومؤثرة في علاقتك بالله، هذا الكلام ينتفع به من يسير إلى الله، من هو على طريق معرفة الله، وطريق القرب منه، والإقبال عليه، وحد ولا تر عملك، بل انظر إلى فضل الله عليك، لذلك المؤمن الصادق قبل أن يقدم على أي عمل يقول: اللهم إني تبرأت من حولي وقوتي، والتجأت إلى حولك وقوتك، يا ذا القوة المتين.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور