وضع داكن
26-04-2024
Logo
رمضان 1426 - الفوائد - الدرس : 24 - قوانين النفس البشرية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين.

إذا أحب الله عبداً اصطنعه لنفسه:

 أيها الأخوة الكرام، قد نغفل أحياناً عن خصائص النفس البشرية يستنبط هذا من قوله تعالى:

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾

 

( سورة الشمس )

 فكما أن هذا الجسم له قوانين، وفيه أجهزة، وفيه نسج، وفيه طريقة في عملها عجيبة جداً، كذلك بنفس الإنسان قوانين قد نكتشف بعضها، من هذه القوانين مثلاً أن النفس البشرية تحب الكمال في كل شيء، تحب البيت الفخم الواسع الجميل، تحب الزوجة الجميلة، تحب المركبة الفارهة، هكذا فطر الإنسان لكن هذه الفطرة حيادية يمكن أن تكون سلماً ترقى به، أو دركات تهوي بها، لماذا في الدنيا تحب الكمال ؟ تحب أعلى دخل، أجمل بيت، أجمل زوجة، أجمل سيارة، لماذا في أمر الآخرة تريد الدرجة الدنيا ؟ هنا المشكلة، لذلك إذا أحب الله عبداً اصطنعه لنفسه، قال  تعالى:

 

 

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾

 

( سورة طه )

بطولة الإنسان أن يطلب النجاح في الاّخرة:

 الإنسان العادي يصلي، و يصوم، و يحج، و يزكي، و يؤدي الفرائض، و يعمل، و يكسب المال، و يستمتع بالمال، و لا شيء عليه، هذا شأن أصحاب اليمين لكن شأن السابقين السابقين:

﴿ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيم ِ﴾

( سورة الواقعة)

 فلماذا في الدنيا تحب الدرجة العلمية العليا ؟ لا ترضى بالليسانس تريد الدكتوراه، و تريد أن تكون مؤلفاً، و تريد أن تكون عالماً، و إذا كنت في الجامعة تريد أن تكون أستاذاً ذا كرسي، و لماذا في شأن الآخرة تريد الدرجة الدنيا ؟ طبيعة النفس تحب الكمال، تحب قمة النجاح، لكن  البطولة أن تطلب النجاح في الآخرة، لذلك هناك السابقون السابقون:

 

﴿ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ﴾

 

( سورة الواقعة)

 و هناك أصحاب اليمين، أصحاب اليمين ناجون لكنهم ليسوا في أعلى درجة، لذلك حينما تقرأ هذه الآية يخاطب الله بها أحد أنبيائه الكبار أولي العزم سيدنا موسى، يقول له:

 

﴿ وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي

 

( سورة طه )

 من هذا القبيل سأل أحدهم عالماً كم الزكاة يا سيدي ؟ قال: عندنا يا بني أم عندكم ؟ قال: كم دين يوجد ؟ أنا أعلم أن هناك ديناً واحداً، قال له: عندكم اثنان و نصف في المئة، أما عندنا العبد و ماله لسيده.
 طبعاً ها المعنى ليس بعيداً عن كتاب الله:

﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾

( سورة الأنعام )

 كل حياته، و كل ذكائه، و كل ملكاته، و كل قدراته، و طلاقة لسانه، و خطابه، و بيانه، و وقته، و عقله في خدمة الحق، هذه مرتبة عالية لماذا لا نطمح إليها ؟

 

من كان صادقا أعانه الله في إنجاز أعمال لا تتناسب مع قدراته أبداً:

 يوجد موضوع أخواننا الكرام أحدث نفسي به من وقت طويل يلفت النظر، أنك إذا كنت صادقاً مع الله أعانك الله، و أنجزت أعمالاً لا تتناسب مع قدراتك أبداً، و لكن تتناسب مع صدقك لأن الله عز وجل يقول:

 

﴿ كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً﴾

 

( سورة الإسراء )

 أي الإنسان يعيش أقل من خمسين سنة قبل ألف سنة يترك مؤلفات هي في كل بيت، لبعد ألف سنة هي في كل بيت، الإمام النووي ترك الأذكار، ترك شرح مسلم، ترك كتباً من أجمل الكتب، رياض الصالحين، القرطبي ترك تفسيراً بعد ألف عام قلما تجد طالب علم ليس عنده هذا التفسير، ابن القيم صاحب الفوائد علماء المسلمين عالة عليه، تارك مئات المؤلفات، الآن يوجد كومبيوتر، يوجد أرشيف، وسائل المعرفة مسهلة جداً، كان كله كتابة باليد تشعر أن الذي أجراه الله على أيديهم يفوق طاقة البشر معونة من الله، الله عز وجل يعينك على قدر همتك، و على قدر إخلاصك، و على قدر صدقك، فلماذا في الدنيا نحب المكانة العلية و الدرجة العلمية العالية و المنصب الرفيع ؟ تريد أن تكون المدير العام لا تقبل معاون مدير، لو لك إمكانات جيدة، و عرضوا عليك معاون مدير لا تقبل إلا أن تكون المدير العام، أحياناً لا تقبل أن تكون معاون وزير إنما تريد أن تكون وزيراً، لماذا في الدنيا تحب أن تكون في المقدمة و لماذا لا تكون في الآخرة كذلك ؟ لذلك الصحابة الكرام تنافسوا في الآخرة فالذي ظهر منهم يفوق حدّ الخيال، و الله كأنهم بشراً ليسوا كالبشر، إنهم ملوك الدار الآخرة، الإنسان كل ما يملكه يقدمه للدعوة، قال له: يا أبا بكر ماذا أبقيت لنفسك ؟ قال: الله و رسوله، نحن الآن نطالب الإنسان أن يأتي إلى المسجد فقط، أن يحضر درس علم فقط، نطالب الإنسان أن يؤدي واجباته فقط، أن يضبط لسانه، أن يكف أذاه عن الناس فقط، ونعده ولياً صالحاً.

 

 

المحروم من بخل بالدعاء والطلب :

 فذلك أيها الأخوة أنا أرى أن المحروم من بخل بالدعاء، من بخل بالطلب، ملك الملوك قل له: أريد بيتاً يعطيك قصراً، أريد مركبة يعطيك طائرة، أريد قلم رصاص يعطيك قلم رصاص، قال تعالى:

 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾

( سورة التوبة)

 الخالق العظيم يقول لك: هذا طموحك هذا منتهى أملك، يوجد أشخاص أنا أعدهم تافهين جداً، ليس له هدف في الحياة إلا بيت، ملك يقول لك: بعد ثلاث وثلاثين سنة أخذنا بيتاً ـ الحمد لله ـ قبو شمالي بحي من أسوأ أحياء دمشق، ليس له هدف ثان إلا أن يتملك بيتاً، أحياناً تأمين، تعويض إضافي، هذا منتهى طموحه، لكن علو الهمة من الإيمان، لو أنك تعرفت إلى الله لارتقت أهدافك، قل لي ما الذي يفرحك أقل لك من أنت، المؤمن يفرح بفضل الله، يفرح برحمة الله، يفرح إذا أطلق الله لسانه في نشر الحق، يفرح إذا أجرى الله الخير على يديه، يفرح فيما يعطي لا فيما يأخذ، وهذا مقياس دقيق جداً، هناك من يفرح إذا أخذ وهناك من يفرح إذا أعطى، زارني أخ قال لي: والدي ترك ألف مليون، أنا تأثرت ألف مليون كيف جمعها ؟ يحتاج إلى قدرات عالية جداً في التجارة، وفي بناء البيوت، وفي العقود، وفي البيع والشراء، مرة أخ تمنى عليّ أن أعزي بشخص توفي وترك خمسة آلاف مليون، مات في فندق بسكتة قلبية، وعمره لا يزيد عن خمسة وخمسين عاماً، وجمع هذا المبلغ من بلد بيت الله الحرام، ولم يصلِ ركعتين في حياته، ولم يحج، ولم يعتمر، والله أيها الأخوة هذا الخبر ترك في نفسي صدمة، إنسان يجمع خمسة آلاف مليون دون أن يأخذ من أبيه شيئاً، بجهده الشخصي، كم شركة هو وكيلها ؟ نوع إدارته، نوع ضبطه للأمور، ببساطة بالغة وهو في فندق احتشاء قلب، سكتة قلبية، ينتهي كل شيء، حياة تافهة تقول: أنا، أنت ميليمتر وربع قطر شريانك التاجي إذا أًغلق انتهت كل أملاكك، انتهت كل مكانتك، أحياناً يكون ملكاً أعتقد أن الخثرة الدماغية لا تساوي رأس دبوس في شريان فقد حركته، فقد نطقه، انتهى بمكان يفقد ذاكرته، يدخل عليه ابنه يقول له: من أنت ؟ يخرج من معمله متجهاً إلى بيته، بقي ساعتين في الطريق لا يذكر أين بيته، بقدر رأس الدبوس من الدم لو تجمد في أحد أوعية الدماغ انتهى الإنسان، انتهت مكانته، انتهت هيمنته، تقول: أنا، من أنت ؟ أنت لا شيء.

 

كنت لا شيء فأصبحت به  خير شيء في الورى قد طبعك
لا تؤمل من سواه أملاً  إنما يسقيك من قد زرعـــــك
***

 

انظر في شأن دنياك إلى من هو أدنى منك فذلك أحرى ألا تحتقر نعمة الله عليك:

 يا أيها الأخوة لما لا تكن همتنا عالية ؟ لما نرضى في شأن الآخرة بالدون ؟ النبي عليه الصلاة والسلام علمنا قال: " انظر في شأن دنياك إلى من هو أدنى منك فذلك أحرى ألا تحتقر نعمة الله عليك ".
هناك أمراض تجعل حياة الإنسان جحيماً لا يطاق، الله عافاك هذه نعمة كبيرة، دائماً المؤمن بالإيجابيات لا بالسلبيات، يفكر فيما أعطاه الله، أعطاك سمعة طيبة، لست ملاحقاً، لست متهماً، أعطاك زوجة سمعتها جيدة لا تستحي إنها زوجتك، والله مرة إنسان في هذا المسجد استوقفني وبكى كالأطفال، قلت له: خير إن شاء الله، قال لي: ابنتي حاملة من ابني وكلاهما في السجن والله هذه مصيبة، الذي عنده أولاد لا أقول أولياء لكن سمعتهم طيبة، الذي عافاه الله من الأمراض الخبيثة العضالة نعمة كبيرة، انظر لمن هو أدنى منك فذلك أحرى ألا تحتقر نعمة الله عليك.

 

في أمر الأخرة ينبغي أن توازن نفسك مع المتفوقين:

 أما في شأن الآخرة لا ينبغي أن تنظر إلى أراذل الناس وتقول: أنا ولي، في أمر الآخرة ينبغي أن توازن نفسك مع المتفوقين، مع أصحاب رسول الله، مع المؤمنين الصادقين، من أجل أن تشحذ الهمة، كي تكون في مصافهم، ولذلك قالوا: علو الهمة من الإيمان، بقدر ما تكون مؤمناً تكون عالي الهمة.
هناك شيء أساسي في هذا الدرس أحياناً يجري الله على يديك عملاً صالحاً عظيماً لا يتناسب أبداً مع قدراتك، ولكن يتناسب مع إخلاصك، ومع صدقك، ومع إلحاحك في الطلب، فاسأل الله من فضله، ولو سألت هؤلاء الخبراء في شأن المال تجدهم كانوا فقراء، وكانوا فقراء فقراً مدقعاً،  لكنهم أصروا على أن يكونوا أغنياء فصاروا من كبار الأغنياء، لو أن هذا الطلب كان في أمر الآخرة في المعرفة، قال تعالى:

 

﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ﴾

( سورة النساء)

 لماذا ؟ لأنه منقطع عند بيت رائع، يجب أن تعلم أنه لا بدّ من أن تغادره في أحد الأيام دون أن ترجع إليه، هذه حقيقة، كلما دعيت إلى تعزية في أرقى أحياء دمشق، والبيت ثمنه خمسون مليوناً، سبعون مليوناً، أتعظ موعظة بالغة، صاحب هذا البيت هو الذي صمم هذه التزيينات، هو  الذي صمم هذه الكسوة، هو الذي اشترى هذا الأثاث، أين هو ؟ في القبر، لذلك ابدأ من النهاية قال تعالى:

﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾

( سورة الملك الآية: 2 )

 كان عليه الصلاة والسلام إذا استيقظ يقول: "الحمد لله الذي رد إليّ روحي ـ يعيش يوماً بيوم ـ وعافاني في بدني، وأذن لي بذكره ".

 

على الإنسان ألا يجعل همته العلية في الدنيا زائلة:

 أيها الأخوة: الدنيا ساعة اجعلها طاعة، والنفس طماعة عودها القناعة، اثنا عشر متكلماً توفاهم الله عز وجل كان شخصاً صار خبراً، النعوات بالطريق، كان شخصاً ملء السمع والبصر بقي خبراً، مرة كنت راكباً في طائرة من المغرب إلى دمشق، في تونس مع العفش أو الحقائب هناك تابوت، هذا ذهب إلى الرباط على أنه رجل، معه هوية، وجواز سفر، رجع بضاعة، هذا يخلص في الجمرك تماماً، له أوراق، فالإنسان يسافر إنساناً يرجع بضاعة لا تعرف.
 أيها الأخوة ملخص هذا الدرس قوله تعالى:

 

 

﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾

 

( سورة طه )

 كن من السابقين السابقين، لا تجعل همتك العلية في الدنيا، الدنيا زائلة فلينظر ناظر بعقله أن الله أكرم محمداً أم أهانه حين زوى عنه الدنيا ؟ فإن قال: أهانه فقد كذب، وإن قال: أكرمه فقد أهان غيره حيث أعطاه الدنيا.

 

من أحب دنياه أضر باَخرته ومن اَحب اَخرته أضر بدنياه:

 هذه الدنيا ؛ القصور، المركبات، الطائرات، هذه ما أتيحت لأحباب الله، ما أتيحت لنبيكم عليه الصلاة والسلام، إذاً لا قيمة لها عند الله، نشأ في الصحراء، وعندما فتح مكة ركز رواء النصر عند قبر السيدة خديجة.
 أيها الأخوة من أحبّ دنياه أضر بآخرته ومن أحبّ آخرته أضر بدنياه، هناك صفقة كبيرة جداً، ربحها ثمانون مليوناً، لكن المادة محرمة، أو طريقة التعامل محرمة، فالحلال صعب، ودخله قليل، أما الحرام سهل، ودخله كبير، وهذه حكمة أرادها الله عز وجل، فأرجو الله عز وجل أن يجعلنا من الذين عرفوا الحقيقة، نحن أحياناً نتحدث عن الحقيقة بحدث واحد نريد الحقيقة المطلقة، عرفوا سرّ وجودهم، وغاية وجودهم.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور