وضع داكن
28-03-2024
Logo
الدرس : 11 - سورة يونس - تفسير الآيات 42 – 51 علامة العقل الاستقامة على أمر الله
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 

العين مكان الإحساس والدماغ مكان الإدراك والقلب مكان العقل :

 

أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في سورة يونس عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام إلى قوله تعالى : ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ(42)وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴾ .

الحقيقة هذه الآية من الدّقَّة بمكان ، نبدأ بالعين ، هناك عينٌ ، وهناك دماغٌ ، وهناك قلبٌ ، وهناك اتصالٌ بين هذه الأشياء الثلاث ، فهذه الكرة تنطبع في شبكيَّتها الصور ، والعصب البصري ينقل هذه الصور إلى الدماغ ، الدماغ يُدرك ، العين تُحس ، العين مكان الإحساس ، والدماغ مكان الإدراك ، والقلب مكان العقل ، بدليل قوله تعالى :

﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)  ﴾

[ سورة الأعراف ]

أحياناً الطفل الصغير يرى ثعباناً أرقماً مخيفاً ، صورة الثعبان انطبعت على شبكيَّته ، ولكنَّه لم يُدرِك ما هو ، لذلك لا يخاف ، ولا يتأثَّر ، ولا ينفعل ، وقد يُدرِك ما هو ، وبين هذا الإنسان وبين الثعبان حاجز منيع لا يتحرَّك ، لكن إذا انطبعت صورة الثعبان في شبكيَّة العين ، وانتقلت هذه الصورة إلى الدماغ ، والدماغ بحكم التجربة والمفهومات التي حصَّلها في سنيّ حياته أدرك أنه ثعبان ، هل تعرفون ما دور العقل ؟ دور العقل هو التحرُّك لاتقاء شرِّه أو للهروب منه ، فمن لم يتحرَّك لم يعقل ، من لم يعرف الخطر لم يُدرِك ، من لم ير لم يُبصر ، فالعين تبصر ، والدماغ يُدرِك ، والقلب يعقل .

 أحياناً تُصاب الشبكيَّة بتخريب ، أو تصاب العين ، أو عدستها ، أو جسمها البلوري ، أو خلطها المائي ، أو خلطها الزجاجي ، أو قرنيَّتها ، أو قزحيَّتها بعطب ، فهناك عمىً سببه تخريب جهاز العين ، وقد تكون العين سليمةً مئة في المئة ، لكن مركز الرؤية في الدماغ يُصاب بالعطب ، هناك عمىً في الدماغ ، وإذا جاءت الشهوات فختمت على القلب نقول : هناك عمىً ثالث هو عمى القلب ، فإما أن تصاب العين بعطبٍ فتعمى ، وإما أن يصاب الدماغ بعطبٍ فيعمى ، فتتعطَّل الرؤيَّة ، وإما أن يصاب القلب الذي هو مناط العقل بعطبٍ ، أو يحال بينه وبين الحقائق فهذا هو عمى القلب ، والله سبحانه وتعالى يقول : 

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)  ﴾

[ سورة الحج  ]


التعامل بين الإنسان وبين المحيط مبنيٌّ على الإدراك والانفعال والسلوك :


أحد العلماء قال : إن قانون التعامل بين الإنسان وبين المحيط مبنيٌّ على ثلاث مراحل ؛ إدراكٌ ، انفعالٌ ، سلوك .

الإدراك أولاً من لم ينفعل فإدراكه غير صحيح ، من لم يسلك فانفعاله غير صحيح ، الناس درجات ، أُناسٌ في غفلةٍ عن حقائق الدين ، هؤلاء بعدوا عن الدين ، أناسٌ ينفعلون ، أي عندهم عاطفة دينية ، يتأثَّرون ، يتمنَّون نصر المسلمين ، لكنَّ سلوكهم في البيت هوَ هو ، لم يتحرَّكوا ، هؤلاء لا يجديهم انفعالهم شيئاً ، وعاطفتهم المتأجِّجة لا تنفعهم ، ما لم يسلك طريق الحق ويبتعد عن طريق الباطل لا يُعدُّ المسلمُ مسلماً حقَّاً ، لذلك :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)  ﴾

[  سورة الأنفال  ]

 

المعاصي حجاب بين القلب وبين عقل الحقيقة :


ربنا عزَّ وجل يقول هنا : ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ ... لم يقل : ومنهم من يسمعونك ، بل يستمعون إليك ، أي جلس ليسمع ، لكن السماع ينتقل من الأذن ، إلى الدماغ ، إلى القلب ، قلبه مغلقٌ بالشهوة .

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) ﴾

[  سورة البقرة  ]

فالختم على القلب حكمي ، لأن منافذ القلب مسدودةٌ بالشهوات ،  إذاً : ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ﴾ .. أيُّ صَمَمٍ هذا ؟ هل هو صمم الأذن ؟ لا ، الأذن سليمة تتأثَّر بأدقِّ الأصوات ، هل الدماغ أصابه عطب ؟ لا ، هذا الكلام الذي نقله غشاء الطبل إلى عُظَيْمات السمع إلى الأذن الداخليَّة إلى الدماغ أدرك الدماغ فحواه ، وسمَّاه الله أصم ، ما الذي جعله أصمَّ ؟ إن الطريق من الدماغ إلى القلب مسدودٌ بالشهوات ، فربنا عزَّ وجل قال : ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ ﴾ يا محمَّد عليه الصلاة والسلام  ﴿ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ﴾ أنَّى لهم أن يعقلوا هذه الحقيقة ما دامت الشهوة قد سدَّت منافذ القلب ؟ 

صار عندنا العين تنتقل الصور منها إلى الدماغ ، ومن الدماغ إلى القلب ، وتنتقل الأصوات من الأذن إلى الدماغ ، ومن الدماغ إلى القلب ، فقد يُصاب الإنسان بصممٍ جزئي ، أي بعطبٍ في الأذن ، أو بعمى في العين ، وقد تخرَّش أماكن الإدراك في الدماغ فيصاب الإنسان بعمىً منشؤه الدماغ ، وبصمم منشؤه الدماغ ، هذه كلِّها أشياء عضويَّة ، لكن قد يُصاب الإنسان بصمم القلب وبعمى القلب ، وصمم القلب وعمى القلب هذان مرضان منشؤهما نفسي ، أي الاستغراق في الدنيا أن تأخذ الشهوة على الإنسان مداخل قلبه ، أن تسدَّ هذه المداخل ، أن تكون الشهوة همَّ الإنسان ، شغله الشاغل ، عندئذٍ لا يعي القلب على خير :

﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) ﴾

[ سورة المطففين ]

أي الأعمال السيئة تكون حاجزاً بين القلب وبين الحقيقة ، شيء دقيق جداً .. مثلاً   أنا أضرب بعض الأمثلة : إنسان يرى غرفته ثعباناً ولا يتحرَّك ! هذا مستحيل ، قد تنطبع الصورة في العين والدماغ لا يُدْرِكُها ، وقد يُدرك الدماغ ولا يتحرَّك ، إذاً هو إنسان غير عاقل ، بل مجنون .. ﴿ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا ﴾ فالله سبحانه وتعالى سمَّى هؤلاء الكفرة وصفهم بالصمم ، ووصفهم بالعمى ، ولكن هذا الصمم وهذا العمى ليس منشؤه عضوياً ، ولكن منشأه نفسي ، انغماس الإنسان في الدنيا ، تعلُّقه بها ، ارتكابه المعاصي ، هذه المعاصي كلُّها تكون حجاباً بين القلب وبين عقل الحقيقة . 

 

من يعقل الحق يتحرك لتطبيقه :


أنا الذي أريده من خلال هذا الكلام ، أنه مهما استمعت إلى الحق ، ومهما كان الحقُّ واضحاً ، ومهما كانت الأمور واضحةً لديك ، إن لم تتحرَّك فإن الحقَّ لا يُجْدي ، أي هذا كلامٌ خطير ، كلامٌ يسمِّيه بعضهم مصيريَّاً ، أي مصيرك في الدنيا والآخرة متوقِّفٌ على تطبيقه ، فعندما يسمع الإنسان ، ويتأثَّر ، ويثني على المتكلِّم ، وهو كما هو ، نقول : إنه لم يعقل الحقيقة ، لو عقلها لسلك سلوكاً يتناسب مع عقله لها .

 النبي الكريم هكذا فهم الدين ، تأتيك المعلومات الدقيقة ، تكون جالساً ولا تبادر من فورك ، أما إذا بلغتك كل هذه المعلومات وأنت بحاجة ترى نفسك تتحرَّك ، هذا شأن الإنسان في الدنيا ، إذا بلغه أن في هذه السيَّارة مخالفة تسبِّب مصادرتها ماذا يفعل ؟ لا يفعل شيئاً حتى يزيل أسباب المخالفة .

 إذا بلغك أن هذه البضاعة سوف تُصَادَر ، وتدفع ثمانية أضعاف عن ثمنها جزاءً فماذا تفعل ؟ تبقيها في محلِّك التجاري ؟ من الممكن ألا تنام هذه الليلة ، طول الليل تعمل كي تنقلها ، عندما يكون إدراك الإنسان صحيحاً ، وينتقل الإدراك إلى القلب تجد أنه تحرَّك ، هذا مقياس لنا جميعاً ، أخي والله تباركنا بك يا أستاذ ، والله مجلس علم زاخر ، والحمد لله ، وصافحت يد الشيخ تبركاً ، ومشى الحال ، وأنت أنت في البيت والله ما عقلت شيئاً ، ولا تقدَّمت درجة ، وكلَّه وهمٌ في وهم في وهم ، حتى تتحرَّك ، حتى تغض بصرك ، وتحرِّر دخلك ، وتستِّر عيالك ، وتزيل المخالفات من البيت فالآن أنت عقلت الحق ، أما قبل ذلك فشممت رائحته ، أدركته بفكرك ، ولم ينتقل إلى قلبك .. ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ لكي يوفِّر الإنسان وقته ، كي لا يقول الإنسان : أنا بقيت عند الأستاذ اثنتي عشرة سنة ولم أتقدَّم ، والله لم أستفد شيئاً ، أنت لا تطبِّق ، الازدحام الشديد لا قيمة له عند الله عزَّ وجل .. واحدٌ كألف وألفٌ كأُف .. أي واحد عقل الحقيقة انتهى أمره ، أعرابيٌّ من الصحراء جاء النبي عليه الصلاة والسلام وقال له : " يا رسول الله عظني وأوجز ؟ " ، فقرأ عليه النبي الكريم : 

﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه(7)وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه(8) ﴾

[ سورة الزلزلة  ]

قال له : " قد كُفِيت " ، أي آية واحدة لو عقلتها قد تقرؤها ، وقد تفهمها ، وقد تسمع تفسيرها ، وقد تفسِّرها لأخيك ، ولكنَّك لم تعقلها ، دليل عقلك لها تطبيقك إيَّاها ، ودليل فهمك لها توضيحك للمعنى ، فإذا وضَّحت المعنى للآخرين فقد فهمتها ، أما إذا طبَّقتها فقد عقلتها ، وقبل العقل لا قيمة لأيِّ شيءٍ آخر .

ربنا عزَّ وجل يقول : ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ ﴾ الله عزَّ وجل سمَّاهم صُمَّاً ، لهم آذان مرهفة ، لهم دماغ تلافيفه متعرِّجة وهو ذكي ولكنَّه عند الله أَصَمَّ لأنه ما طبَّق الحق ، هذا التفكير العملي ، أما أن تُعلِّق مصحفاً في البيت ، وتضع مصحفاً على صدرك ، أو تُعلِّق مصحفاً في سيَّارتك ، تكتب على المحل : فاستقم كما أُمِرْت ، بسم الله الرحمن الرحيم ، إنَّا فتحنا لك فتحاً مبيناً ، تعلِّق صورة الكعبة في البيت ، ما دام هناك اختلاط فأنت لست عاقلاً شيئاً من الدين ، ما دام الدخل مشبوهاً فلست عاقلاً شيئاً من الدين ، ما دام هناك مصافحة للنساء و تساهلاً في الأوامر و تقصيراً في الصلاة فإنك لم تعقل شيئاً عن الله عزَّ وجل ، حتى الإنسان يوفر وقته لأن هذا الحضور من دون تطبيق ليس له قيمة .. 

﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)﴾

[  سورة النساء  ]

هذا الإنسان المقصِّر هل هو كافر ؟ لا ، ليس كافراً ، لأنه يعرف كل شيء ، أهو مؤمن ؟ لا ، ليس مؤمناً ، لأنه ليس بمطبِّق ، إنه من المذبذبين لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء . 

 

مناط العقل في القلب ومنفذا القلب السمع والبصر :


﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ(42)وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ ﴾ إذاً مناط العقل في القلب ، ومنفذا القلب السمع والبصر ، فإذا أحبَّ الإنسان الدنيا كانت غشاوةً على سمعه وعلى بصره ، هذه آية دقيقة جداً ومن الآيات المحكمات ..﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ علاقة الآية بالآية التي قبلها أنَّ الإنسان خلقه الله سبحانه وتعالى مزوَّداً بوسائل المعرفة ، أي هذه السيَّارة مزوَّدة بمصباحين متألِّقين شديدين ، فإذا أطفأ السائق هذين المصباحين ، وسار في الظلمات بلا ضوء ، وكان هناك منعطفٌ خطير لم يرَه بالعين المجرَّدة فنزل في الوادي ، نقول له : لم يظلمك أحد ، لقد ظلمت نفسك .. ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ عندما يهلك الإنسان هلاكاً في الدنيا السبب أنه ما رأى الحقيقة مع أنَّه يملك وسائلها ، مع أنه يملك وسائل الحقيقة ، لو أن وسائل الحقيقة لا يملكها الناس لكان الله سبحانه وتعالى قد ظلم الناس ، لكن الله سبحانه وتعالى قال :

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)  ﴾

[ سورة البلد  ]

 بعض تفسيرات هذه الآية : يرى بهما الآيات .. 

﴿ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) ﴾

[ سورة البلد  ]

يسأل به عن الحق ..

﴿  وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10) ﴾

[ سورة البلد  ]

طريق الخير والشر ..

﴿  فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَـة ُ(12)فَكُّ رَقَبَةٍ(13) ﴾

[ سورة البلد  ]

أي أن تفكَّ رقبتك من أسر الشهوة ، ما دامت الشهوة أكبر همِّك ومبلغ علمك فلن تعرف الحقيقة .. ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ(8)وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ(9)وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ(10)فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ(11)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ(12)فَكُّ رَقَبَةٍ(13)﴾ أي أن تفكَّ رقبتك من نير الشهوة ثمن الحقيقة ، لذلك :

(( عن أبي هريرة : تَعِسَ عبدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ ، وإنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ ، وإذَا شِيكَ فلا انْتَقَشَ ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بعِنَانِ فَرَسِهِ في سَبيلِ اللَّهِ ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ ، إنْ كانَ في الحِرَاسَةِ كانَ في الحِرَاسَةِ ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقَةِ ، إنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ له ، وإنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ . ))

[  صحيح البخاري ]

الإنسان يقيِّم نفسه بهذا المقياس ، مقدار التحرُّك ، مقدار الاستجابة العمليَّة ، مقدار التطبيق ، هو مقياس عقلك للحق . نذكر بعض الأمثلة ، لو أن أحداً قرأ الآية التالية :

﴿ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) ﴾

[ سورة الأحزاب  ]

هي كآية واضحة ، من الممكن إنسان عادي أن يفهمها ، وهذه الآية لا تحتاج إلى تفسير ، لكن إذا لم يطع الإنسان الله ورسوله ما فاز الفوز العظيم ، فشتَّان بين فهم الآية وبين تطبيقها .

من الممكن أن أحداً يقرأ بلاغَ منع التجوُّل ، يدقِّق في الخط والحروف ، ونوع الطباعة ، ونوع الورق ، شكل التوقيع ، بخط مَنْ ، يدقِّق بالصياغة ، بالرقم والتاريخ ، لكن فاته أن يطبِّق البلاغ ، فاته أن يدخل إلى البيت فوراً ، قد يهلك ، درس في هذا البلاغ أشياء كثيرة ولكنَّه غفل عن مضمونه ، إذاً ما عقله ، لو أنه عرف أن هذا البلاغ يعني أنه من يتجوَّل في الطريق يعرِّض نفسه للهلاك قبل أن تدرس الخط ، والتوقيع ، والحبر ، والورق ، وصياغة البلاغ ، ورقمه ، وتاريخه ، انظر إلى مضمونه واستجب له قبل أن يهلك الإنسان ، فالقرآن الكريم أول شيء فيه يجب أن تستجيب لأوامره ، وأن تنتهي عن نواهيه ، وإلا لا جدوى مما سوى ذلك .. ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ أحياناً قد يشتري الإنسان دواءً مبيداً لكنَّه خطر جداً ، والبائع ينصحه فيقول له : إن هذا الدواء خطر جداً ، إذا وضعته في وعاء ، ولم تغسله يمكن أن يسبب هلاك الأسرة ، وهناك من استعمل هذا الدواء في وعاء وغسل الوعاء غسلاً سطحيَّاً ، وطبخ فيه فمات أفراد الأسرة كلُّهم ، البائع بلَّغه ، حذَّره ، أخذ توقيعه ، فربنا عزَّ وجل قال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(44)وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ .. قال : هذا التعارف لا تعارف تراحم ، ولكن تعارف افتضاح وتوبيخ ، أنت دللتني على طريق المنكر لا جزاك الله خيراً ، يقول له : لا ، أنت السبب ، أنت السبب ، هناك تعارف تعارف توبيخ وافتضاح .

 

حال الكافر يوم القيامة :


شيء آخر ؛ ربنا عزَّ وجل قال : ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ ﴾ أي حينما تأزف الآزفة ، حينما يأتي يوم القيامة ، أو حينما تأتي الساعة عندئذٍ ﴿ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ ﴾ إذا أعطينا شخصاً فرصة خمس سنوات يتجوَّل في أرجاء الأرض ، ويستمتع بكل ما فيها من مباهج ، ويقترف جميع الملذَّات المباحة وغير المباحة والمحرَّمة ، وينغمس في كل الشهوات ، وينفق أبهظ الأموال ، ويعطي نفسه هواها ، وهو عاطل عن أي عمل إطلاقاً ، بل كل عمله الاستمتاع ، وبعد هذا أردنا أن نعذِّبه عذاباً أليماً ، حينما يبدأ التعذيب الجسدي ألا ينسى كل هذه الأيَّام ؟ ألا ينسى كل هذه السنوات التي أمضاها في الملذَّات ؟ هكذا حال الكافر .

﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ ﴾ عمرهم المديد قضوه بالمتع التي انغمسوا فيها ، بالملذَّات التي اقتنصوها ، بالشهوات التي مارسوها ، بالأيَّام التي استطالوا فيها ، بالليالي التي سهروها ، بالأصحاب الذين استمتعوا بصحبتهم ، بالموبقات التي انغمسوا فيها ، هذا العمر المديد الذي أمضوه في المعاصي يصغر ويصغر حتى يصبح ساعةً من النهار ، لذلك سيدنا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلَّما دخل إلى مجلس الخلافة كان يتلو هذه الآية .. 

﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207)  ﴾

[  سورة الشعراء  ]

فهذه الدنيا المديدة بشهواتها وملاذِّها ، وطعامها وشرابها ، ونسائها ، وبيوتها الفخمة ، وبساتينها ، ومقاصفها ، وذهبها وفضَّتها ، ومتعها الرخيصة وغير الرخيصة ، هذه كلُّها تصغر وتصغر حتى تصبح ساعةً من النهار .. ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ السيِّدة عائشة رضي الله عنها سألت النبي عليه الصلاة والسلام : أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة ؟ سؤال طريف ، أي إذا كان للإنسان جار ، أو له صديق ، أو صاحب ، يعرف شخصاً أعلى منه في الدائرة ، أدنى منه ، صهر مثلاً ، أخ ، أب ، إذا وقعت عين الابن على أبيه يوم القيامة هل يعرفه ؟

(( عن عائشةَ رضي اللهُ عنها : أنها ذكرتِ النارَ، فبكت، فما يبكيك ؟ !، قالت : ذكرتُ النارَ فبكيتُ، فهل تذكرون أهليكم يومَ القيامةِ ؟ ! فأما في ثلاثةِ مواطنَ ؛ فلا يذكر أحدٌ أحدًا : عند الميزان ؛ حتى يعلم أيخفُّ ميزانُه أم يثقُل ؟ ! وعند الكتابِ ؛ حين يقال : هاؤمُ اقرؤوا كتابِيَهْ ؛ حتى يعلم أين يقع كتابُه ؛ أفي يمينه أم في شماله، أو من وراءِ ظهرِه ؟ ! وعند الصراطِ ؛ إذا وُضع بين ظهراني جهنمَ . ))

[  هداية الرواة ، خلاصة حكم المحدث : إسناده ضعيف ]

 أيعرف بعضنا بعضاً يوم القيامة ؟ قال عليه الصلاة والسلام: " نعم يا أمَّ المؤمنين ، إلا في ثلاثة مواضع : عند الصراط ، وعند الميزان ، وإذا الصحف نُشِرَتْ .

ففي هذه المواضع الثلاث لا يعرف بعضنا بعضاً ، وفيما سوى ذلك لو وقعت عين الأمِّ على ابنها تعرفه تقول له : " يا ولدي ، يا بني ، جعلت لك صدري سِقاءً ، وبطني وعاءً ، وحجري وطاءً - أي فراشاً - فهل من حسنةٍ يعود عليَّ خيرها اليوم ؟ أي أمُّه تتسوَّل منه حسنة ، فيقول : يا أمَّاه ليتني أستطيع ذلك .

 السيِّدة عائشة رضي الله عنها بعد أن سمعت قول النبي عليه الصلاة والسلام :

(( يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا - قبل أن يطَّهروا ، قبل الختان- قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ !!! قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا عَائِشَةُ ، الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ . ))

[ صحيح مسلم ]

فقالت يا نبي الله : أو يرى بعضنا بعضاً هكذا ؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( يَا عَائِشَةُ ، الْأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ )) الأمر أخطر بكثير من أن يلتفتوا إلى بعضهم بعضاً .  


الأمور بخواتيمها :


إذاً : ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ ﴾ .. أروع ما في هذه الآية أنَّ نوع الخسارة لم يذكره الله سبحانه وتعالى ، نحن في الدنيا قد يخسر الإنسان محلَّه التجاري ، شقت المحافظة شارعاً مرَّ بمحله فأعطوه بدلاً عنه خمسة آلاف ليرة ، بينما فروغ محلَّه خمسمئة ألف ، أعطوه خمسة آلاف فقط ، أي خسر المحل كله ، لكن صحَّته سالمة ، وله بيت ، وله أولاد ، وله أرض ، وله محل ثانٍ ، وعنده بناء يؤجِّره ، خسر محلَّه التجاري ، أحياناً الإنسان يخسر ولدًا من أولاده ، يقولون لك : بضاعة مخلوفة ، إذا كانوا يريدون أن يواسوا الأب يقولون له : بضاعة مخلوفة ، أحياناً يخسر الإنسان بيته من جراء قرار إخلاء ، فيبقى هو وأسرته في الطريق ، يستأجر بيتًا، يدبر نفسه ، خسارة الدنيا محدودة ، لكنَّ يوم القيامة ربنا سبحانه وتعالى قال : ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ ﴾ خسروا ماذا ؟ كل شيء ، خسروا أنفسهم ، خسروا هذه السعادة الأبديَّة ، خسروا الأبد ، خسروا الجنَّة ، خسروا القُرب من الله عزَّ وجل ، خسروا كل شيء ، ابن آدم اطلبني تجدني ، فإذا وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحبّ إليك من كل شيء .

 هذه : ﴿ قَدْ خَسِرَ ﴾ ، في الدنيا الخسارة محدودة ، مقيَّدة ، خسر ماله ، خسر زوجته ، خسر أحد أبنائه ، خسر منصبه ، خسر بيته ، خسر محلَّه التجاري ، لكن يوم القيامة ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ فالأمور بخواتيمها ، من شبَّ على شيءٍ شاب عليه ، ومن شاب على شيءٍ مات عليه ، ومن مات على شيءٍ حُشِرَ عليه ، ومن هوي الكفرة حُشِرَ معهم ، ولا ينفعه عمله شيئاً .

 

الله عزَّ وجل شهيدٌ على ما يفعل العباد :


﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ﴾ أي الله عزَّ وجل شهيدٌ على ما يفعل العباد ، أأدركت ذلك أم لم تُدْرِك ، الله عز وجل:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)  ﴾

[ سورة النساء  ]

يمكن أنت تعاشر صديقاً لك ظالماً فالله عزَّ وجل يمُده ، من الممكن أن الإنسان ينتهي أجله وصديقه الوفي في أوج قوَّته ، على الله عزَّ وجل الحساب .. 

﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26) ﴾

[ سورة الغاشية  ]

أي سواءٌ عليك أشهدت نهاية الكفَّار أم لم تشهد فنهايتهم محتومة ، سواءٌ عليك أشهدتها أنت بأمِّ عينك أم لم تشهدها ، سواءٌ عليك أكان في العمر بقيَّةٌ تشهد بها مصير الكفَّار ، أم لم يكن في العمر بقيَّة تشهد بها مصير الكفَّار .. ﴿ إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25)ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)﴾ .

﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ :

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) ﴾

[ سورة النمل ]

فانظروا الفاء للترتيب على التعقيب .. 

﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) ﴾

[ سورة الأنعام ]

أما ثم فهي للترتيب على التراخي ، يمكن أن يأكل الإنسان مالاً حراماً ، ويعتدي ، ويبغي ، والله يمد بعمره إلى فترة طويلة ، فالإنسان إذا كان له صديق أو جار تجاوز الحدَّ المعقول ، لا يصلي ، وكلامه بذيء ، ورغم ذلك يزداد قوَّةً ومالاً ، فإن هذا الموقف يجب ألا يحملِك على الشك بقواعد الدين .. 

 

من تمام هداية الله عزَّ وجل أنه قيَّض لكل أمةٍ رسولاً :


﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ(46)وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ ﴾ .. من تمام هداية الله عزَّ وجل ، ومن تمام رحمته أنه قيَّض لكل أمةٍ رسولاً ، هذا الرسول يشهد لهم ويشهد عليهم ، يشهد لهم في الدنيا ، ويشهد عليهم في الآخرة ، يذكر لهم الحقيقة في الدنيا ، أي يعرِّفهم بالله عزَّ وجل ، بآياته القرآنيَّة ، بآياته الكونيَّة ، بأسمائه الحُسنى ، بمصيرهم بعد الموت ، بنشأتهم ، بجدوى الحياة ، بجوهرها ، هذا النبيّ ، النبي عليه الصلاة والسلام وكل نبي ..

﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) ﴾

[ سورة الجمعة ]

﴿ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ﴾ أي يطهِّرهم ، هذه وظيفة النبي ، ووظيفة الدعاة إلى الله من بعده .. 

 

لكل أمة رسول يبلغها :


﴿ وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ(46)وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ ﴾ .. يوم القيامة هذه الأمَّة أين رسولها ؟ يأتي رسولها ، هل أبلغتهم ؟ نعم ، إذاً يستحقُّون العذاب ، أغلب المفسِّرين حمل هذه الآية على هذا المعنى ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ ..

﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) ﴾

[ سورة الزمر ]

طبعاً : ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ﴾ أي بالعدل .. ﴿ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ ، ويقول الكفَّار : ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ .. هذا ليس استفهاماً ، علماء التفسير حملوا هذا الكلام على محمل الاستهزاء والسخرية ، هذا الوعد متى؟ استنكاراً لهذا الوعد والوعيد ، واستهزاءً به ، واستبعاداً له ، استهزاءً واستنكاراً واستبعاداً ..﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ ، ﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ﴾ أي إن كنت أنا لا أملك لنفسي التي بين جنبي نفعاً ولا ضرَّاً أفأملك هذا النفع والضُرَّ لكم ؟  


ارتباط كل شيء بمشيئة الله عز وجل :


﴿ قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ .. هذه الجملة : ﴿ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ﴾ قال العلماء : استثناء المشيئة محمولٌ على أن الأشياء ثابتة لا بذاتها ، ولكن بمشيئة الله سبحانه وتعالى ، أنت مثلاً ترى هذه الطاولة من الخشب تتركها مئات السنين تبقى على حالها كما هي ، هذا الخشب له صفات ثابتة ، أي أن قِوامه متين ، ولا يتأثَّر بالهواء ، ولا بأي شيءٍ آخر ، ماذا تظن ؟ تظن أنها ثابتة على حالها بذاتها ، يجب أن تقول : إلا ما شاء الله ، لأنها ثابتة على حالها بمشيئة الله لا بذاتها ، يوجد آية قرآنية : 

﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) ﴾

[ سورة هود ]

هذا ليس استثناء ، هذا ليؤكِّد أن الأشياء ثابتةٌ لا بذاتها ، ولكن بمشيئة الله ، أنت عمرت بيتاً في الطابق السابع مطمئن ، وهذا البيت حر مُلك ، ودفعت ثمنه ، وانتهيت ، وأسعاره ارتفعت ، تماسك الإسمنت بمشيئة الله عزَّ وجل ، وبقاء الحديد حديداً بمشيئة الله عزَّ وجل ، تقول : هذا البيت قِوامه جيد إلا ما شاء الله ، معنى إلا ما شاء الله أي ليس بذاته قائماً ، لكنَّه قائمٌ بمشيئة الله ، فلو أن الله سبحانه وتعالى غيَّر صفات الحديد لوقع البناء ، ولو غيَّر تماسك الإسمنت لوقع البناء ، ولو غيَّر استقرار الأرض لوقع البناء ، فالإنسان المؤمن الموحِّد ولو سكن بيتاً ووضع في أساساته أربعة أضعاف الكميات القانونيَّة ، والحديد بثخانة اثنني عشر ميليمتراً بمشيئة الله ﴿ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ﴾ هذا الاستثناء الذي أراده الله سبحانه وتعالى إذا تحدَّث عن شيءٍ دائم ﴿ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ ﴾ شخص دخل للجنة :

﴿ لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) ﴾

[ سورة الحجر  ]

بقاؤك في الجنَّة ليس ذاتياً بذاتك ، بل برضا الله عنك ، وبمشيئة الله التي سمحت لك بالبقاء ، فلو أن الله شاء لك غير ذلك لما بقيت فيها ، مثل موظَّف فوقه يوجد أعلى منه ، هذا الموظَّف الأدنى حر بالحركة ، والتصرُّف ، ويمارس صلاحيَّاته ما دام الذي فوقه راضٍ عنه ، وينوي أن يبقى في منصبه ، فإذا أراد الذي أعلى منه أن يُزاح عن منصبه أزيح فوراً .

 

لكلّ أمة أجل :


 إذاً : ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(48)قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ .. أي لكل واحدٍ من آحاد هذه الأمَّة أجل ، ليس المقصود أمَّة بكاملها ، لكل واحدٍ من آحاد هذه الأمَّة أجل.. ﴿ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ مجلات أحياناً تنشر مقالات مضحكة ، أنه تم اختراع دواء يُطيل العمر ، هذا الكلام خلاف القرآن الكريم ، الإنسان العاقل لا يقرأ شيئاً خلاف كتاب الله ، لأنه كلام فارغ ، وجهد ضائع ، وبذل طاقة في غير محلَّها ، وهذا المقال ينطلق من الباطل ..﴿ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ ..العناية بالصحَّة ليست سبباً لطول العمر ، لا ، ولكن العناية بالصحَّة من أجل أن تمضي هذا العمر قائماً فقط ، لكن العمر لا يزيد ولا ينقص ، سواءٌ عليك أكانت عنايتك بالصحَّة ممتازة أم سيئة ، شخص يكون معه حالات بالقلب مثلاً ، يعيش خمساً وأربعين سنة بعد هذه الحالة ، معنى هذا أن مرض القلب لا يميت ، ولا الضغط يميت ، بل لا يميت إلا الله سبحانه وتعالى ، هذا الإنسان المؤمن ، لكن إذا اعتنى بصحَّته ، أكل طعاماً معتدلاً ، اهتم بجسمه ، بحركات جسمه ، بعضلاته ، بأمعائه ، بجسمه ، بنظافته ، هذه العناية من أجل أن يستمتع بصحَّته طوال العمر الذي رسمه الله له ، أي أن يبقى واقفاً ، أي أن يبقى جنديَّاً في خدمة الحق ، أنت عندك خدمة ثابتة وخدمة مسلَّحة ، طبعاً إذا كنت بصحَّتك التامَّة فلك خدمةٌ في سبيل الله أجرها كبيرٌ جداً ..


  منتهى الغباء أن تؤمن بالشيء بعد وقوعه :


﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ ...مدينة في كولومبيا بأمريكا الوسطى ، مدينة سكَّانها يزيدون على خمسين ألفاً ، وهي في مكان جميل كما سمعت ، لم أر صورها ، بركانٌ خمد منذ مئة وخمسين عاماً ، وعَلَتْه الثلوج المتراكمة ، ثار هذا البركان ، أذاب الثلوج ، انهمرت المياه على شكل سيول فأغرقت سكَّان المدينة ، غارقون في المياه والوحل ، ثم جاءت الحُمَمُ من فوهة البركان فغطت المدينة أربعة أمتارٍ من هذه الحُمم الملتهبة ، فلمَّا حاول بعضهم إنقاذ من سمعوا له أنيناً جاءت الحُمم الأخرى فوقهم فولَّوا هاربين وكتبوا : هذه المدينة مقبرةٌ لأصحابها بإذن الله عزَّ وجل ..

﴿ وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59) ﴾

[ سورة الكهف ]

﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ(117)﴾ ، أي آيات كثيرة : 

﴿ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(58)﴾

[  سورة الإسراء  ]

وقبلها في مكسيكو أيضاً حصل زلزال ، فهذه المدينة التي في كولومبيا قالوا : خمسة وثلاثون ألفاً أُبيدوا عن آخرهم ، بدقائق ، بساعات ، ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا ﴾ .. أي أن شخص نائم مطمئن ، أغلق بابه ، وأوى إلى فراشه ، والبيت دافئ ، وصباحاً لديه مشاريع كثيرة ، ونام وهو مطمئن ، فجاءت المصيبة .. ﴿ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ استعجالهم إذاً استعجال إنكارٍ وسخريّةٍ واستبعاد .. ﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ .. أي منتهى البلاهة والغباء أن تؤمن بالشيء بعد وقوعه .

 

العاقل من يحتاط للأمور قبل وقوعها :


 غدير ماءٍ فيه سمكاتٍ ثلاثة ؛ كيَّسةٌ وأكيس منها وعاجزة ، مرَّ بالمكان صيَّادان ، نظرا في الغدير ، أبصرا ما فيه من السمك ، أُعْجِبا بالسمك ، تواعدا أن يرجعا ومعهما شباكها ليصيدا ما فيه من السمك – هذه القصَّة رمزيَّة - فسمعت السمكات قولهما ، أمَّا أكيّسهن أي أعقلهن فقالت : العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها .. هذا العاقل .. فلم تعرج على شيءٍ حتى خرجت من المكان الذي يدخل منه الماء من النهر إلى الغدير فنجت وارتاحت وأراحت ، وأما الكيَّسة أي الأقلُّ ذكاءً فبقيت في مكانها حتى عاد الصيَّادان ، فذهبت لتخرج من حيث خرجت رفيقتها فإذا بالمكان قد سُد فقالت : فرَّطت ، وهذه عاقبة التفريط ، غير أن العاقل لا يقنط من منافع الرأي ، ثم إنها تماوتت فأخذها الصيَّادُ ، فوضعها على الأرض بين النهر والغدير فوثبت في النهر فنجت ، وأما العاجزة فلم تزل في إقبالٍ وإدبارٍ حتى صيدت .. قال عليه الصلاة والسلام :

(( عن شداد بن أوس : الْكَيِّسُ - أي العاقل - مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأماني . ))

[ ضعيف الترمذي  ]

وهذا معظم حال المسلمين ، تجده يقول : الله يتوب علينا ، نحن عبيد إحسان ، ولسنا عبيد امتحان ، ماذا سنفعل ؟ حتى الله يتغمَّدنا برحمته ، كلام فارغ ، مقيم على شهواته كلها ، مقيم على معاصيه كلها ، ليس مستعدا أن يتحرَّك نحو الحق ، ليس مستعداً أن يتوب إطلاقاً ، لكن كلام لطيف ، قال :

(( عن عبد الله بن عمر  :إن اللهَ تعالى قال لقد خلقتُ خَلْقًا ألسنتُهم أَحْلَى من العسلِ وقلوبُهم أَمَرُّ من الصبرِ فَبِي حلفتُ لَأُتِيحَنهم فتنةً تَدَعُ الحليمَ منهم حيرانًا فَبِي يَغْتَرُّونَ أَمْ عليَّ يَجْتَرِئُونَ. ))

[  ضعيف الترمذي ]

الكلام ليس هناك ألطف منه أما من حيث السلوك فيأكل بعضنا بعضاً ، يستغل بعضنا بعضاً ، يسحق بعضنا بعضاً من أجل الدنيا ، وكلامهم لطيف .. ﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ ﴾ هذه العاجزة بعد أن جاءها الصيَّاد ، وألقى القبض عليها ، وبدأ يضعها على النار ليأكلها عرفت أنها مخطئة ، لكن متى ؟ بعد فوات الأوان.. 

﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) ﴾  

[ سورة الأنعام  ]

لكن الكيَّسة قالت : العاقل يحتاط للأمور قبل وقوعها ، والأقلُّ ذكاءً حينما واجهتها المشكلة احتالت لها ونجت لكن بعد أن حطَّمت أعصابها.. ﴿ ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ ..هذه الآيات القرآنية .


المذنبات آية من آيات الله عز وجل :


وأما الآيات الكونية فالناس في هذه الأيام يتحدثون عن مذنب اقترب مجيئه إلى الأرض ، هذا المذنب اسمه مذنب هالي ، له دورة إهليلجية ، الشمس تقع في طرف فلكه الإهليلجي ، في الطرف ، أي مضى عليه سبعون عاماً قبل زيارته الأخيرة .

سمي هذا المذنب مذنباً لأنه يجر وراءه ذنباً ، طوله بسيط ، ثلاثون مليون كيلومتر ، طول ذنبه ثلاثون مليون كيلومتر ، له دورة في فلكه ، فلكه كما قلنا قبل قليل على شكل إهليلجي ، أو على شكل بيضوي ، تقع الشمس هنا في طرفه المتطاول ، هذه الدورة تستغرق سبعين عاماً أو ستة وسبعين عاماً بالضبط ، لأن العلماء رأوه في أقرب نقطة له من الأرض في عام 1910 ، وبقي في هذه السنوات الستة والسبعين في طريقه إلى الأرض ، العلماء قالوا : في شهر تشرين الذي نحن فيه لا يرى بالعين المجردة ، لكن في أواخر كانون الأول يستطيع المراقب أن يراه بمنظار مكبر ، متى يراه ؟ بعد غروب الشمسوفي الأسبوع الثالث من كانون الثاني الآتي يُرى بالعين المجردة بعد الغروب من الأفق الغربي ، ثم يمر خلف الشمس ، لم يصل للمنطقة إلى هنا ، يمر خلف الشمس ويضيع ضوءه في ضوئها ، يغيب فترة ، ثم يصل إلى الجانب الآخر من الشمس حتى يصبح مرئياً قبل الفجر.

كان بعد الغروب فصار قبل الفجر ، في نهاية شهر شباط ، وفي نهاية هذا الشهر نتمكن من رؤيته بالعين المجردة قبل الشروق ، في نهاية شباط إذا صعدنا إلى سطح المنزل ونظرنا إلى الأفق الشرقي قبل الغروب نرى مذنب هالي ، متى ؟ قبل الشروق بساعة واحدة ،  ثم يُشرق المذنب أبكر فأبكر، أي قبل ساعة ونصف ، قبل ساعتين ، متجهاً نحو الجنوب ، وفي السابع من آذار بالضبط يكون على خط مساو لخط القمر ، يُرى على خط القمر ، وفي أواسط آذار سيمتد ذيله إلى سدس القبة السماوية ، أي إذا كانت القبة السماوية ستة أسداس يحتل مذنب هالي سدس القبة السماوية ، ولكن ليس عندنا في نصف الكرة الجنوبي ، في أستراليا ونيوزيلندا والأرجنتين هناك يرى ، أما نحن في المنطقة المعتدلة فنراه في الأفق الجنوبي ، وفي الحادي عشر من نيسان يصل إلى أقرب مسافة من الأرض ، وسيكون في مركز القبة السماوية من أستراليا ونيوزيلندا والأرجنتين ، وسيكون منخفضاً في الأفق الجنوبي ، في هذه الأوقات نراه إذا اتجهنا إلى الجنوب ، إلى الأفق الجنوبي نراه رؤية واضحة ولكن أهل أوروبا لا يرونه أبداً لأنه يأتي في زاوية ميتة بالنسبة لزوايا رؤيتهم .

على كلّ هذا الذيل كما قلنا طوله حوالي ثلاثين مليون كيلو متر ، أنا كنت أظن أنه يوجد مذنب أو مذنبان ، العلماء حتى الآن اكتشفوا ستمئة مذنب ، أول مجموعة تشكل مئة مذنب ، قطر مسارها مليون سنة ضوئية ، رقم مذهل ، هذه المذنبات لها سرعات كبيرة جداً ، المجموعة الثانية أربعمئة وخمسون مذنباً ، تصل الشمس كل دورة تستغرق مليوني سنة ، المجموعة الثالثة مجموعة هالي ستة عشر مذنباً ، دورتها في مدارها أقل من مئتي عام ، مذنبنا ست وسبعون سنة ، يوجد مجموعة رابعة هذه المجموعة مئة مذنب ، دورتها حول الشمس من خمس لعشرين سنة ، يوجد مذنب واحد دورته حول الشمس كل ثلاث سنوات مرة ، هذا يُرى بانتظام ، رئي في عام 1984 ، ورئي ثلاثاً وخمسين مرة قبل هذا التاريخ ، منذ ثلاث سنوات إلى عشرين سنة لمئتي سنة لمليوني سنة لمليون سنة ضوئية .

هذه المذنبات آية من آيات الله سبحانه وتعالى ، لو أنها غيرت مسارها واتجهت نحو الأرض ماذا يحدث ? طول ذنبه ثلاثون مليون كيلومتر ، نحن كل قطر أرضنا حوالي أربعين ألف كيلومتر .

 

من عرف الله واستقام على أمره فهو عالم بشهادة رسول الله :


وأما الآيات الكونية هذه المذنبات آية من آيات الله سبحانه وتعالى ، لو أنها غيرت مسارها واتجهت نحو الأرض ماذا يحدث ؟ طول الذنب ثلاثون مليوناً ، وقطر أرضنا أربعون ألف كيلو متر ، لذلك : 

﴿ وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) ﴾

[ سورة الذاريات ]

﴿ قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) ﴾

[ سورة يونس ]

الإنسان إذا عرف الله من خلال آياته يخشع قلبه ، وإذا خشع قلبه استقام على أمره ، وكما قلت قبل قليل : علامة العقل الاستقامة على أمر الله ، وقبل أن تستقيم لا يمكن أن تسمى عاقلاً ، ابن آدم أطع ربك تسمى عاقلاً ، ولا تعصه فتسمى جاهلاً ، الحديث الشريف : 

(( كفى بالمرء علماً أن يخشى الله ))

[ قاله مسروق ]

مادام مستقيماً على أمر الله فهو عالم بشهادة رسول الله ، ومن يحمل أعلى شهادة علمانية وهو يشرب الخمر ويفعل السيئات فهذا جاهل جهالة كبرى .

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور