وضع داكن
19-04-2024
Logo
الدرس : 15 - سورة يونس - تفسير الآيات 74 – 82 إرسال الأنبياء والمرسلين إلى البشر دليل رحمة الله - جهاز المناعة من آيات الله الكونية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

إرسال الأنبياء والمرسلين إلى البشر دليل رحمة الله سبحانه وتعالى :


أيها الإخوة المؤمنون ، وصلنا في الدرس الماضي إلى قوله تعالى بعد أن وردت قصَّة سيدنا نوحٍ عليه وعلى نبيّنا أفضل الصلاة والسلام ، وكيف أنَّ قومه كذَّبوه فأغرقهم ، قال الله سبحانه وتعالى : ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ ..

الحقيقة أنَّ خلق السماوات والأرض يدلُّ على أسماء الله الحُسنى ، ومن بين هذه الأسماء الحُسنى قوّته ، وغناه ، وعلمه ، وحكمته ، وإرسال المُرسلين إلى البشر يدلُّ على رحمته بالعباد :

﴿ وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) ﴾

[ سورة الأعراف ]

أبٌ إن كان له ابنٌ شاردٌ لا يدَّخِرُ وسعاً في نصحه وإرشاده صباحاً مساء ، ليلاً نهاراً ، فإرسال الأنبياء والمرسلين إلى البشر دليل رحمة الله سبحانه وتعالى ..﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ ﴾ أي :

﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) ﴾

[  سورة الرعد  ]

وبعضهم فهم هذه الآية فهماً موسَّعاً ، لكل إنسان طريقةٌ يهتدي بها ؛ هذا يهتدي بالإقناع ، وهذا يهتدي بالتضييق ، وهذا يهتدي بالخَوْف ، وهذا يهتدي بمصيبةٌ تصيب ماله ، وهذا يهتدي بالمرض : ﴿ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)﴾ ، ولكل قومٍ رجلٌ يدعوهم إلى الطريق الصحيح ، إذاً : ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ ...أي الشيء البارز في دعوة الأنبياء الوضوح ، قال عليه الصلاة والسلام :

(( عن العرباض بن سارية : وعظَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّمَ مَوعظةً ذَرَفَتْ منها العيونُ ووجِلَتْ منها القلوبُ فقلنا يا رسولَ اللهِ إنَّ هذه لموعِظَةَ مُوَدِّعٍ فماذا تعهَدُ إلينا ؟ فقال : تركتُكم على البيضاءِ ليلِها كنهارِها لا يزيغُ عنها بعدي إلا هالِكٌ ، ومن يَعِشْ منكم فسَيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بما عرَفتُم من سُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ المهدِيِّينَ الرَّاشدينَ . وعليكم بالطاعةِ وإن كان عبدًا حبشيًّا عَضُّوا عليها بالنَّواجذِ فإنما المؤمنُ كالجملِ الأَنِفِ كلما قِيدَ انقَادَ . ))

[ أبو داود ، ابن ماجه ورجاله رجال الصحيح  ]

﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

(( ما اتخذ الله وليَّاً جاهلاً لو اتخذه لعلَّمه .  ))

 

سمات دعوة الأنبياء : 


من سمات دعوة الأنبياء البارزة الوضوح ، الأمور واضحةٌ جداً ، هناك تفسيرٌ كاملٌ للكون ، تفسير للحياة ، للموت ، للبعث من بعد الموت ، لما قبل الحياة ، لما بعد الحياة ، تفسير للعمل ، تفسير لكل شيء ، الأنبياء يقدِّمون تفسيراتٍ متكاملة لكل مظاهر الحياة ، بينما النظريَّات الأخرى تقدِّم تفسيرات مجتزأة ، مبتورة ، ناقصة ، غير كاملة ، لا تشفي الغليل ، الحق يثبت والباطل يبطُل أي يزول .. 

﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81) ﴾

[ سورة الإسراء ]

لأن هذه النظريَّة الوضعيَّة ليست مستندة إلى أساسٍ متين ، لذلك لا تقف على قدميها ، تتلاشى سريعاً ، تتداعى سريعاً .. 

 

تفسير معنى البينات :


﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ بعضهم فسَّر البينات بالمعجزات ، والمعجزة دليلٌ قاطع على أن هذا الإنسان عند الله ، لأن إحياء الميت لا يستطيعه أحد من بني البشر ، فإذا أحيا سيدنا عيسى ميّتاً فهذا بإذن الله ، إذاً هو رسول الله ، أن تنقلب العصا إلى ثعبانٍ مبين هذا لا يستطيعه بشر ، لابدَّ من أن هذا الذي فعل ذلك هو رسول الله ، الذي جعل البحر طريقاً يبساً هذا ينبغي أن يكون رسول الله ، الذي جاء بهذا التشريع المُعْجِز الذي لم يغادر صغيرةً ولا كبيرة هذا أيضاً رسول الله ..﴿ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ إذاً بعض تفسيرات البيِّنات المعجزات التي أيَّد الله بها أنبياءه .

وبعضهم قال يضيف إلى هذا المعنى : البينات الحجج القاطعة ، كيف يُقال : إن محمداً سحر أصحابه ؟ بماذا سحرهم ؟ بالمنطق ، بالحق الذي لا يُرَدُّ عليه ، ماذا قال بعض الأعراب ؟ والله ما قال النبي شيئاً وقال العقل خلاف ذلك ،  فإذا استخدم الإنسان عقله استخداماً صحيحاً لحظةً واحدة ، وأجرى محاكمةً منطقيَّة سَعِدَ إلى الأبد ، فإذا عطَّل عقله أو أساء استخدامه شقي إلى الأبد ، مناط السعادة والشقاء .. بك أعطي ، وبك آخذ .. استخدام العقل بشكلٍ صحيح مناط السعادة ، ومناط الشقاء تعطيله أو إساءة استخدامه .

 

علامة المتبع لرسول الله أنه يدعو على بصيرة :


﴿ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ ﴾ الآن المؤمن له من هذه الآية نصيب .. 

﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) ﴾

[  سورة الأنعام ]

مؤمن ، مخلص ، صادق ، معه حجَّة ، يمشي على بيّنة .. 

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾

[  سورة يوسف  ]

علامة المتبع لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم أنه يدعوك على بصيرة ، الأمور عنده واضحةٌ تماماً .. 

 

فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ لهذه الآية مجموعة تفسيرات :


﴿ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ﴾ لهذه الآية مجموعة تفسيرات ، أوجه هذه التفسيرات أن الكفر هو هُو ، قديماً وحديثاً ، كل أمةٍ كفرت بربها لها موقفٌ من الحق ثابت هو التكذيب ، التكذيب في الأمم جميعاً مهما اختلفت عصورها وأمصارها..﴿ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا ﴾ هذه الصيغة أشدُّ أنواع النفي ، لا تنفي الحَدَث إنما تنفي الشأن ، قلت هذا كثيراً سابقاً : إذا قلت : فلان لم يسرق ، نفيت عنه الحدث ، أما إذا قلتَ : فلان ما كان له أن يسرق ، نفيتَ عنه إمكانيَّة السرقة ، فهذا الذي يمشي مع شهواته ، وينغمس في الباطل ، ويعتدي ، ويطغى ما كان له أن يؤمن ، أي إذا أمضى الإنسان كل وقته في الملاهي ما كان له أن يكون طبيباً ، لا ننفي عنه حيازته لهذه الشهادة بل ننفي عنه إمكانيَّة أن يكون طبيباً ، هذا تقريب للواقع ، فهؤلاء الأقوام : ﴿ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ ﴾ هذا الذي كذَّب به أسلافهم هم سيكذِّبون به ، ولم يؤمنوا ، ولن يؤمنوا ، لأن إمكانيَّة الإيمان وهم على ما هم عليه معدومة ، كأن تنظر إلى إنسانٍ غارق في ملذاته وفي شهواته ثم يقول لك : سأكون مهندساً ، تقول له : ما كان لك أن تكون مهندساً ، إنَّك في وادٍ والعلم في وادٍ آخر ، فهذا النفي المراد منه أشدُّ أنواع النفي ، المبالغة في النفي ..

 

المعتدي إنسان منقطع عن الله وعمل كل إنسان مبنيٌّ على اختياره :


﴿ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ .. أي الإنسان أحياناً لضيقٍ في أفقه أو لسرعةٍ في فهمه يظنُّ أن الله سبحانه وتعالى ختم على هذا القلب فلا يهتدي أبداً ، يقول لك : الأمر بيد الله ، فعلاً بيد الله ، هذه كلمة حق ، لكن إذا قلت في مَعْرِض الهداية ، إذا اعتذرت بعدم هدايتك أن الأمر بيد الله فهذه كلمة حقٍّ أريد بها باطلٍ .

أودُّ أن أضرب لكم بعض الأمثلة : إذا دخلت إلى بيت صديقٍ لك يحمل الدكتوراه ، وهذه الشهادة معلَّقةٌ على الحائط ، فقرأتها فإذا فيها : لقد منح مجلس الجامعة فلاناً الفلاني درجة الدكتوراه في الطب ، أو في الهندسة ، ونال حقوق هذه الشهادة وامتيازاتها ، أنت في هذا العصر هل تفهم من هذا الكلام أن رئاسة الجامعة طرقت أحد الأبواب ، وقالت لفلان : تعال لنعطيك الدكتوراه أم هذا الذي مُنحَ هذه الشهادة كان أهلاً لها ؟ أُلِّفَتْ لجنةٌ للإشراف على أطروحته ، ونُوقِشت هذه الرسالة ، وقد مضى على تأليفها سنواتٌ عدَّة ، وكان قبلها قد حاز الماجستير ، وقبلها قد حاز الليسانس ، وقبلها قد حاز الثانويَّة بعلاماتٍ مرتفعة ، وقبلها ، وقبلها ، فهل تفهم أيها الأخ الكريم من كلمة : منح مجلس الجامعة فلاناً الفلاني الدكتوراه ؟ هل تفهم من هذه الكلمة أن هذا المنح بلا مقابل ؟ بلا استحقاق ؟ بلا جهد ؟ بلا تعب ؟ بلا كسب ؟ بلا أهليَّة ؟ بلا اصطفاء ؟ 

﴿  إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ(33) ﴾

[ سورة آل عمران ]

بالمقابِل إذا قرأت في بعض البلاغات : يُحْرَم فلان الفلاني من التقدُّم للامتحان ، أي مجلس الجامعة هل يحرم طالباً بلا سبب ؟ بانقطاعه عن الدوام ، بتطاوله على بعض المدرِّسين ، بإساءته للنظام ، فكلمة مُنِحَ وكلمة حُرِمَ بالبديهة من دون تعقيد مقابلها أعمال قام بها هذا الذي مُنْحَ الشهادة ، وأعمال سيَّئة قام بها هذا الذي حُرِمَها ، إذاً عندما يقول ربنا عزَّ وجل : ﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ لا ينبغي لك يا أخي الكريم أن تفهم كلمة نطبع بمعنى أن الله عزَّ وجل شاءت إرادته أن يختم على قلب فلان فلا يهتدي ، لا ، إذا كان إنسان من بني البشر يترفَّع عن ذلك ، لا يَحْرِم ، ولا يعاقب ، ولا يفصل ، ولا يطرد ، ولا يمنح إلا ذا استحقاق ، فهل يُعقَل أن الله سبحانه وتعالى لا ندري ما السبب طبع على قلب فلان ؟  إذاً ربنا عزَّ وجل إذا عزا الفعل إليه معنى ذلك أن هذا الفعل من حيث التنفيذ بيده ، أما من حيث السبب بيد فلان ، كأن تقول : المعلِّم رَسَّبَ فلاناً الفلاني ، قرار الترسيب بيد المعلِّم ، وهو الذي كتب رَسَبَ في صفِّه ، وهو الذي وقَّع ، لكن هذا الطالب رسب باستحقاق ، لأنه كسول ، فإذا رأيت فعلاً في القرآن قد عُزِيَ إلى الله لا يذهبنَّ بك الظن إلى أن الله شاءت إرادته أن يفعل بفلانٍ كذا وكذا من دون اختيارٍ منه ، نحن مخيَّرون في إرادتنا ، ومسيَّرون في أعمالنا ، وتسييرنا لما اخترنا .

تسيير الله عزَّ وجل يُحْمَلُ على ثلاثة احتمالات ، إما أن يسيّرنا الله سبحانه وتعالى لتحقيق اختيارنا ، فهذا التسيير تجسيدٌ لاختيارنا ، وإما أن يسيّرنا لتشجيعنا على نوايا طيّبة أو عملٍ طيّب ، إكرام ، وإما تسييرٌ ليؤدِّبنا فيه على تقصيرنا ، إما تجسيد ، أو تشجيع ، أو تأديب ، وعمل الإنسان مبنيٌّ على اختياره ، والإنسان مخيَّر ، لكنَّه إذا اختار معصية الله عزَّ وجل يسيِّرُهُ الله لتحمُّل نتائج عمله ، كما لو أن مواطناً اختار أسلوباً خاطئاً في التعامل ، والقوانين تحظِّر هذا الأسلوب مثلاً ، هو اختار ذلك ، بعد أن اختار ذلك ليس مخيَّراً بعدها في ألا يلقى نتائج أعماله ، لابدَّ من أن يلقى نتائج أعماله بحسب اختياره ، فكلمة : ﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ إذا عُزِيَ الطبع إلى الله عزَّ وجل فلأسبابٍ تعود كليَّةً إلى العبد لقوله تعالى : 

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) ﴾

[ سورة الصف  ]

هناك معنى آخر يُستنبط من هذه الآية ، هو أن الذي يعتدي بالمعنى الواسع ، الكلمات في القرآن الكريم تأخذ معنىً ضيّقاً ومعنىً واسعاً ، فالعدوان في القرآن بمعناه الواسع كل تجاوزٍ للحقوق ، لو تجاوز الإنسان على حقِّ إنسانٍ ما فقد اعتدى عليه ، لو جعلت إنساناً ينتظر بلا سبب ساعةً فقد اعتديت على وقته من دون سبب ، إذا سمحت لنفسك أن تأخذ من ماله فوق ما تستحق فقد اعتديت على ماله ، إذا نظرت إلى امرأةٍ لا تحلُّ لك فقد اعتديت على زوجها ، هذه عِرْضُهُ ، واعتديت عليها ، واعتديت على نفسك فَحَرَمْتَها الإقبال على الله عزَّ وجل ، فالعدوان بهذا المعنى واسعٌ جداً ، إلقاء نظرةٍ على امرأةٍ لا تحلُّ لك نوعٌ من أنواع العدوان .. 

﴿ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(7) ﴾

[  سورة المؤمنون  ]

تجاوَزَ الحد ، إذا أساء إنسانٌ إليك فرددت عليه بإساءةٍ أكبر فأنت معتدٍ .. 

﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)﴾

[  سورة الشورى  ]

الملخَّص : المعتدي لا يهتدي ، لماذا ؟ ما تفسير ذلك ؟ لأنه بعدوانه منقطعٌ عن الله عزَّ وجل ، وأنت تعرف الله بنور الله ، وتهتدي إلى الله بالله ، ولا ملجأ من الله إلا إليه ، فالمعتدي بعدوانه محجوبٌ عن رَبِّه ، وإذا حُجِبَ عن الله عزَّ وجل حُجِبَ عن أنواره ، أنَّى لأنوار الله عزَّ وجل أن تدخل إلى قلبه ؟! .. ﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ ﴾ .

 

المعتدي لا يهتدي :


لذلك : 

﴿  أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ(1)فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ(2) ﴾

[ سورة الماعون ]

هو نفسه .. 

﴿ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)  ﴾

[ سورة القصص ]

﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10) ﴾

[ سورة العلق ]

انتهت الآية ، أي هذا الذي ينهاك عن الصلاة لا تُجَشِّم نفسك مشقَّة سماع كلامه إطلاقاً ، وليكفك منه أن تنظر إلى أفعاله الدنيئة ، إلى انحرافاته ، إلى شذوذه ، إلى أنانيَّته ، إلى حبِّه لذاته ، إلى استعلائه ، إلى بناء مجده على أنقاض الآخرين ، إلى بناء غناه على فقرهم ، إلى بناء حياته على موتهم ، هذا الذي ينهاك عن الصلاة لا تنظر إلى كلامه ، لا تنظر في فحوى كلامه ، بل انظر إلى أفعاله ، أفعاله تؤكِّد لك أنه ليس على الحق ، لو أنه على الحق لأمرك بالصلاة .. ﴿ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى(9)عَبْدًا إِذَا صَلَّى(10)أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11)أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)﴾ انظر إلى أخلاقه ، إلى ورعه ، إلى عفَّته ، إلى كماله ، إلى شجاعته ، إلى كرمه ، انظر ، لو لم يكن للمؤمن لسان فَعَمَلُهُ ينطق بأنه مؤمن ، ولو بقي الكافر صامتاً فَعَمَلُهُ وحده ينطق بأنَّه كافر ، فيه لؤم ، يقابل الإحسان بالإساءة ..

أعلِّمه الرماية كل يـــومٍ           فلمَّا اشتدَّ ساعده رماني

وكم علَّمته نظم القوافي          فلمَّا قال قافيةً هـجـــــاني

***

فلذلك : ﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾   بمعنى أن المعتدي لا يهتدي ، لذلك لا تُحمِّل نفسك مشقَّة مناقشة المعتدي لأنه لن يهتدي .. 

﴿  فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتْ الذِّكْرَى(9) ﴾

[ سورة الأعلى ]

ولكن شَمِّر لهداية المُستقيم فإنه قريب المأخذ ، سريع التأَثُّر ، سريع الاستجابة . 

 

مَن أمر بمعروفٍ فليكن أمره بمعروف :


﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ .. من فرعون ؟ ماذا قال فرعون ؟ قال فرعون : 

﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) ﴾

[ سورة القصص ]

هذا قاله في المرة الأولى ، قال مرَّة ثانية :

﴿ فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) ﴾

[  سورة النازعات  ]

 فربنا عزَّ وجل قال : 

﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى(25) ﴾

[ سورة النازعات  ]

 يعجب المفسِّر لماذا بدأ الله بالآخرة وثنَّى بالأولى مع أن الترتيب المنطقي الأولى والآخرة ؟ لأن قوله الآخر الثاني كان أشدَّ كفراً من قوله الأول ، فالله سبحانه وتعالى بدأ بالأقوى ﴿ فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى(25)﴾ ..

﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51)﴾

[  سورة الزخرف  ]

﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43)فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا  ﴾

[  سورة طه  ]

نبيٌّ كريم ، سيدنا موسى ، يأمره الله سبحانه وتعالى أن يُلين القول لمن قال : ﴿ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى(24)﴾ ولمن قال : ﴿ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ﴾ فأنت أيها الأخ الكريم المؤمن إذا كان فرعون على ما هو عليه من الكفر يجب أن تقول له قولاً ليناً فما قولك إذا دعوت إنساناً إلى الله عزَّ وجل ؟ هل تقسو أنت عليه ؟ 

يروي التاريخ أن أحد الأمراء جاءه واعظ فقال له : أيها الأمير سوف أعظك بغلظة  ، فقال هذا الأمير : ولِمَ الغلظة يا أخي ؟ لقد أرسل الله مَن هو خيرٌ منك إلى من هو شرٌّ مني ، أرسل موسى إلى فرعون فقال له : 

﴿ فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44)  ﴾

[  سورة طه ]

إذاً : مَن أمر بمعروفٍ فليكن أمره بمعروف .. 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)  ﴾

[ سورة آل عمران  ]

ولن تستطيع أن تؤثِّر في قلوب الناس إلا بإحسانك قبل لسانك ، وقلوب البلاد المفتوحة فُتِحَت للمسلمين قبل أن تُفْتَح بسيوفهم .. لذلك التودُّد إلى الناس ، لين القول ، الرحمة ، العمل الطيّب ، الخدمة ، هذه رسل الهدى ، قبل أن تنصحه بالصلاة أَرِهِ من شخصك مثلاً أعلى في التعامل ، كن صادقاً معه ، كن رحيماً به ، كن عطوفاً عليه ، ابذل من وقتك ومالك لخدمته حتى يهتدي بهداك . 

إذاً : ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ حتى الكافر ، لو يعلم الكافر انتظاري لتركِ معاصيه لتقطَّعت أوصاله من حبّي ، و لمات شوقاً إليّ ، هذه إرادتي بالمعرضين فكيف إرادتي بالمقبلين؟

 

الآيات التالية تعلمنا اللطف في الدعوة إلى الله :


﴿ اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ ﴾ هذه الآيات تعلِّمنا الأدب ، تعلمنا اللطف في الدعوة إلى الله ، والآية الكريمة تكفي .. ﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ .

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنَّ أعرابيًّا جاء إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لَيَسْتَعِينَهُ في شيءٍ قال عِكْرِمَةُ : أَرَاهُ قال : في دَمٍ فَأعطاهُ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ شيئًا ، ثُمَّ قال : أَحْسَنْتُ إليكَ ؟ قال الأَعْرَابِيُّ : لا ولا أَجْمَلْتَ . فَغَضِبَ بَعْضُ المسلمينَ ، وهَمُّوا أنْ يَقُومُوا إليهِ ، فأشارَ رسولُ اللهِ إليهِم : أنْ كُفُّوا . فلمَّا قامَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وبَلَغَ إلى منزلِه ، دعا الأَعْرَابِيَّ إلى البيتِ ، فقال لهُ : إِنَّكَ جِئْتَنا فَسَأَلْتَنا فَأَعْطَيْناكَ ، فقُلْتَ ما قُلْتَ . فَزَادَهُ رسولُ اللهِ شيئًا ، وقال : أَحْسَنْتُ إليكَ ؟ فقال الأَعْرَابِيُّ : نَعَمْ ، فَجَزَاكَ اللهُ من أهلِ عشيرةٍ خيرًا . قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : إِنَّكَ جِئْتَنا تسَأَلْتَنا فَأَعْطَيْناكَ ، فقُلْتَ ما قُلْتَ ، وفي أنْفُسِ أَصْحابي عليكَ من ذلكَ شيءٌ ، فإذا جِئْتَ فقلْ بين أَيْدِيهِمْ ما قُلْتَ بين يَدِي ،حَتَّى يَذْهَبَ عن صُدُورِهِمْ . قال : نَعَمْ . فلمَّا جاء الأَعْرَابِيُّ قال : إِنَّ صاحبَكُمْ كان جاءنا فَسألَنا فَأَعْطَيْناهُ ، فقال ما قال ، وإنَّا قد دَعَوْناهُ فَأَعْطَيْناهُ فَزعمَ أنَّهُ قد رضيَ ، كذلكَ يا أعرابِيُّ ؟ قال الأعرابِيُّ : نَعَمْ ، فَجَزَاكَ اللهُ من أهلِ عشيرةٍ خيرًا ، فقال النبِيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ : إِنَّ مَثَلِي ومَثَلَ هذا الأَعْرَابِيِّ كَمَثَلِ رجلٍ كانَتْ لهُ ناقَةٌ ، فَشَرَدَتْ عليهِ ، فَاتَّبَعَها الناسُ فلمْ يزيدُوها إلَّا نُفُورًا ، فقال لهُمْ صاحِبُ النَّاقَةِ : خَلَّوْا بَيْنِي وبينَ ناقَتِي ، فَأنا أَرْفَقُ بِها ، وأعلمُ بِها . فَتَوَجَّهَ إليها وأخذَ لها من قتامِ الأرضِ ، ودعاها حتى جاءتْ واسْتَجَابَتْ ، وشَدَّ عليْها رَحْلَها وإنَّهُ لَوْ أطعتُكُمْ حيثُ قال ما قال لدخلَ النارَ . ))

[  ابن كثير  : تفسير القرآن العظيم ، خلاصة حكم المحدث : ضعيف   ]

هذه رحمته صلَّى الله عليه وسلَّم . قال أعرابي جلف للنبي : والله ما عدلت يا محمَّد ، فقال عليه الصلاة والسلام وقد نبض عرقٌ في جبينه ، وكان هذا العرق إذا غضب ينبض ، قال له : ويحك فمن يعدل إن لم أعدل ؟ . مَنْ في الأرض يعدل إن لم أعدل ؟  ﴿ ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ ﴾ .. ليس فرعون وحده هو المقصود بل عليَّة قومه ، هؤلاء هم الذين قدوة للناس ، يميل الناس حيث يميلون ، سيدنا عمر رضي الله عنه كان إذا أراد إنفاذ أمرٍ جمع أهله وخاصَّته قبل كل شيء وقال : إني قد أمرت الناس بكذا ، ونهيتهم عن كذا ، والناس كالطير ، إن رأوكم وقعتم وقعوا ، وايم الله لا أوتينَّ بواحدٍ وقع فيما نهيتُ الناس عنه إلا ضاعفت له العقوبة لمكانه مني ، فعلَّق بعضهم على هذه القصَّة فصارت القرابة من عمر مصيبة ، مصيبةٌ كبيرة أن تكون قريباً من عمر ، لأن العقاب سوف يتضاعف ، المقصود إذاً فرعون وملئه .

 

الكِبْر أحد عوامل الكفر والتواضع من علامات المؤمن :


هؤلاء الذين ينظر الناس إليهم ﴿ بِآيَاتِنَا ﴾ الدالَّة على الرسالة والنبوَّة ؛ العصا ، وشقُّ البحر ، واليد البيضاء ، ﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ .. أحد عوامل الكفر الكِبْر ، ومن علامات المؤمن التواضع ، وتواضعوا لمن تتعلمون منه وتواضعوا لمن تعلِّمونه ، والتواضع لابدَّ منه في التعلُّم والتعليم ، وقال أحد العارفين بالله لبعض تلامذته وقد تجاوز حدَّه قال له : يا فتى نحن إلى أدبك أحوج منَّا إلى علمك ، الله سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) ﴾

[ سورة الشعراء ]

اخفض جناحك ، كان عليه الصلاة والسلام يُكْرِمُ أصحابه كثيراً ، كان يحبُّهم ، كان يثني عليهم ، كان يعرف أقدارهم .. " والله يا معاذ إني لأحبُّك " .. سيدنا سعد : " هذا سعدُ ، هذا خالي أروني خالاً مثل خالي ".

 سيدنا أبو عبيدة أمين هذه الأمَّة ، كل صحابيٍّ جليل أعطاه النبي عليه الصلاة والسلام وصفاً يليق به .. " لو كان نبيٌّ بعدي لكان عمر " ، هكذا يجب أن تحبَّ من تعلّمه ، أن تحبَّهم ، أن تعرف أقدارهم ، أن تنزلهم منازلهم ، أن تقدِّر أعمالهم ، تضحيَّاتهم ، ورعهم ، استقامتهم حتى يحبُّوك ، أمَّا فرعون وملؤه فقد استكبروا ، والكِبْر مدمِّر .. 

(( عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا يدخلُ الجنَّةَ من كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ مِن كِبرِ ولا يدخلُ النَّارَ مَن كانَ في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ فقال رجلٌ يا رسولَ اللَّهِ الرَّجلُ يحبُّ أن يَكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنةً فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ إنَّ اللَّهَ جميلٌ يحبُّ الجمالَ إنَّ الكبرَ مَن بطِرَ الحقِّ وغمَصَ النَّاسَ . ))

[ مسلم ]

ما من فاتحٍ على وجه الأرض فتح بلدةً إلا وأخذه التيهُ ، وأخذته الغطرسة والاستعلاء والعلو ، وما شاكل ذلك ، إلا النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتح مكَّة دخلها مطأْطِئَ الرأس ، فلمَّا جمعهم وكان بإمكانه أن يقضي عليهم وَاحداً واحداً ، هؤلاء الذين كذَّبوه ، هؤلاء الذين أخرجوه ، هؤلاء الذي ائتمروا على قتله ، هؤلاء الذين عذَّبوا أصحابه ، هؤلاء الذين قتَّلوا أصحابه ، هؤلاء الذين حاربوه ليستأصلوا شأفته ، هؤلاءِ هؤلاء لمَّا كانوا في قبضته وكان بإمكانه أن يقضي عليهم ، وأن يدمِّرهم عن آخرهم قال لهم : ما تظنُّون أني فاعلٌ بكم ؟ ، قالوا : أخٌ كريم وابن أخٍ كريم ، قال : اذهبوا فأنتم الطُلقاء . هكذا الرحمة ، هكذا الحكمة .

 أبو سفيان قُبيل إسلامه قال له : والله ما أعقلك ! ما أحكمك ! ما أرحمك ! ما أوصلك! ، قال عليه الصلاة والسلام : من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، أي أن هذا زعيم قريش ، أي جعل له شأناً ، من دخل الكعبة فهو آمن ، ومن دخل بيته فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ، فلمَّا عَلِمَ أبو سفيان قال : ما أعقلك ! ما أرحمك ! ما أحكمك ! ما أوصلك ! . 

﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ عدي بن حاتم عندما رأى النبي يكلِّم امرأةً مسنَّةً ، ضعيفةً ، فقيرةً ، وقف معها طويلاً قال : والله ما هذا بأمر ملك ، هذا ليس ملكاً ، دخل إلى البيت ليس في بيت النبي الكريم إلا وسادة من أدمٍ محشوَّةً ليفاً ، قال له النبي : اجلس عليها ، قال : بل أنت ، قال : بل أنت ضيفنا ، قال : فجلست عليها وجلس هو على الأرض .

 يا محمَّد أتحبُّ أن تكون نبيَّاً ملكاً أم نبياً عبداً ؟ قال له : بل نبيّاً عبداً أجوع يوماً فأذكره وأشبع يوماً فأشكره .. 

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾

[  سورة الأحزاب ]


  أكبر جريمة أن يكون الإنسان مجرماً بحق نفسه :


﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ ﴾ .. أي كلمة جريمة لا يوصف بها إنسان لم يدفع فاتورة الهاتف أبداً ، هذا يقال له : مُقَصِّر، إن لم يدفع الفاتورة يقطعوا عنه التيار ، يدفع الغرامة مع الفاتورة ، هل تصف إنساناً خالف القانون مخالفة طفيفة بأنه مجرم ؟ لا ، أما كلمة مجرم للقتل ، لعمل كبير ، لعمل له مضاعفات خطيرة ، تقول : هذه جريمة يا أخي ، هذا مجرم قتل إنساناً بريئاً ، يجب أن يُقْتَل ، فإذا وصف الله سبحانه وتعالى إنساناً ما بأنَّه مجرم فمعنى هذا أنَّ جريمته كبيرةً جداً ، وهل مِن جريمةٍ أكبر من أن تكون مجرماً بحقِّ نفسك ؟ هذه النفس التي ملَّكَكَ الله إيَّاها جعلها أمانةً بين يديك ..

﴿  قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا(9)وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(10) ﴾

[  سورة الشمس  ]

إنسان حضر مجلس علم ، تعرَّف إلى الله ، تعرَّف إلى شرع الله ، تعرَّف إلى أحكام القرآن ، تعرّف إلى هذا الدين الصحيح ، وطَبَّقه ، والتزم به ، فسعِد وأسعد ، هذا زكَّاها ، أما هذا الذي بقي جاهلاً ، وتاه في شهواته ، وانغمس في ملذَّاته ، وأكل من مالٍ حرام ، واعتدى وطغى وبغى ، ونسي المبتدى والمنتهى هذا مجرم ، ما قتل قتيلاً ، ما آذى أحداً ولكنه لَحِقَ شهواته ، هذا مجرمٌ بحقِّ نفسه ، هذه النفس بدل أن تَخْلُدَ في الجنَّة جعلها تخلد في جهنَّم ، وهل من جريمةٍ أكبر من أن يكون الإنسان مجرماً بحقِّ نفسه ؟ يكفي ألا تصلي ، ألا تذكر الله سبحانه وتعالى ، يكفي أن تدع نفسك وما تشتهي ، يكفي ألا تحاول تطهير نفسك من عيوبها ، فأنت بحقِّ نفسك مجرمٌ هكذا .

 

القرآن الكريم كتاب هداية من عند خالق الكون :


﴿ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ(75)فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا ﴾ مِنْ عند مَنْ ؟ من عند خالق الكون ، خالق السماوات والأرض ، رافع السماء بلا عمد ، من عند الذي إذا أراد شيئاً أن يقول له : كن فيكون..

(( عن أبي ذر الغفاري  قال اللهُ تعالَى : يا عبادي ! إنِّي حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي وجعلتُه مُحرَّمًا فلا تَظالموا ، يا عبادي ! إنَّكم تُخطِئون باللَّيلِ والنَّهارِ وأنا أغفِرُ الذُّنوبَ جميعًا ولا أُبالي فاستغفروني أغفِرْ لكم ، يا عبادي ! كلُّكم جائعٌ إلَّا من أطعمتُ فاستطعِموني أُطعِمْكم ، يا عبادي ! لم يبلُغْ ضُرٌّكم أن تضُرُّوني ولم يبلُغْ نفعُكم أن تنفعوني ، يا عبادي ! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإِنسَكم اجتمعوا وكانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ منكم لم يُنقِصْ ذلك من مُلكي مثقالَ ذرَّةٍ ، ويا عبادي ! لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وجِنَّكم وإنسَكم اجتمَعوا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني جميعًا فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ منهم مسألتَه لم يُنقِصْ ذلك ممَّا عندي إلَّا كما يُنقِصِ المَخيطُ إذا غُمِس في البحرِ ، يا عبادي ! إنَّما هي أعمالُكم تُرَدُّ إليكم- ذلك لأن عطائي كلام وأخذي كلام- فمن وجد خيرًا فليحمَدْني ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلَّا نفسَه . ))

[ صحيح مسلم ، حلية الأولياء : صحيح ثابت ]

﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا ﴾ من عند الذات العَلِيَّة ، مِن عند الرحمن الرحيم ، من عند الحكيم العليم ، من عند الغني ، من عند القوي ، من عند العزيز ، من عندنا ، لذلك قال بعضهم : لا تنظر إلى صِغَر الذنب ، ولكن انظر على من اجترأت ..﴿ فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ قالوا عن سيدنا موسى بأنه ساحر ، وقالوا عن سيدنا رسول الله : إنَّه ساحر ، وشتَّانَ بين المعجزتين ، تشابهت قلوبهم وتشابهت أقوالهم .

مرَّةً طُلِبَ من بعض البلاد الإسلاميَّة أن تُوفِد إلى عاصمة أوروبيَّة بعض المنشدين وبعض قُرَّاء القرآن ليُتلى في هذه العاصمة الأوروبيَّة على أنَّه فولكلور أي مثل الرقص الشعبي ، تشابهت قلوبهم ، سحر ، تقاليد ، عادات ، ﴿ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ ﴾ هذا سحر ؟! كتاب هداية يقال له : سحر ؟ لو عرفه البشر لآمنوا به ولسعدوا به ، سحر ؟! ..﴿ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾. . هكذا تقولون ؟ حقٌّ واضحٌ كالشمس ، دلائل واضحة ، حجج قاطعة ، معجزات ، هذا سحر ؟ ﴿ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ ﴾ .

 

المؤمن يلين في الدنيا أما في أمور الدين فلا يلين :


استمعوا الآن إلى حجَّتهم في ردِّ الحق : ﴿ قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ ..أي أنت يا موسى هدفك أن تغيِّر عاداتنا وتقاليدنا ، أن تغيّر معالِم البيئة ، أن تغير طبيعة العلاقات فيما بيننا ، وهذا كلامٌ يقوله الناس اليوم ، هكذا نشأنا يا أخي ، هكذا رُبّينا ، أنت مِن أين جئت بهذا الدين الذي يفرِّق بيننا ؟ الإنسان المُعْرِض يحب أن يستمر على خطئه ، على ضلاله ، المفكِّر ليس له حق في أن يتقبَّل البيئة إلا إذا تطابقت مع كتاب الله ، ما هذه الدعوة الباطلة ؟ بيئة ، محيط ، تراث ، معطيات ، المحيط الخارجي ، المؤثِّرات ، التفاعل بين البيئة والمحيط ، لا يوجد إلا الحق :

﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) ﴾

[ سورة يونس ]

جلس شاب مسلم على كرسي إلى جانب زوجته الشابَّة أمام مئتي امرأةٍ في أبهى زينة ، ما هذا ؟ عادات ، هكذا الأصول ، حتى يجلس أمامهم ، لا يجوز ؟! يتكلمون عنه أن به عيباً ، يجب أن نري الناس أنَّ عندنا عريساً جيداً ، أتعبد البيئة ؟ أتعبد التقاليد ؟ أتعبد العادات ؟ يجب أن تكون التقاليد غير الإسلاميَّة تحت أقدامنا ، أترتدي زوجتك هذه الثياب التي تبيّن خطوط جسمها ؟ هكذا الموضة ، أتعبدها من دون الله ؟ لا يجوز ، المسلم لا يبالي لا بتقاليد ، ولا بعادات ، ولا بأعراف ، ولا بأساليب أنماط معيشة ثابتة ، لا يبالي إلا بما في الحق من حق ، إلا بما في كتاب الله من دلائل ، هذا لا أفعله .

 قالت له : يا بني – أمه - إن لم تكفر بمحمَّد لن أذوق الطعام حتى أموت ، فقال سيدنا سعد : يا أمي لو أنَّ لكِ مئة نفسٍ فخرجت واحدةً وَاحدةً ما كنت لأكفر بمحمَّد ، فكلي إذا شئتِ أو لا تأكلي ، بعد ذلك أكلت .

 طلبت منه زوجته حاجةً لم يفعلها النبي عليه الصلاة والسلام فقال لها : والله يا فلانة إن في الجنَّة مِنْ الحور العين ما إنْ أطلَّت إحداهن على الأرض لغلب نور وجهها ضوء الشمس والقمر ، فَلأن أضحّي بكِ مِن أجلهن أفضل مِن أن أضحي بهنّ مِن أجلكِ ، هكذا المؤمن ، حازم ، مواقفه صلْبَة ، مواقفه واضحة ، لا يلين ، يلين في الدنيا أما في أمور الدين فلا يلين .

 

المفسد لا يمكن له أن يحقِّق النجاح في الحياة :


﴿ قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ(77)قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ﴾ أخي هذه تقاليد موروثة ، هكذا أصول الاحتفال بالزواج ، هكذا فعل آباؤنا وأجدادنا ، من أنت ؟ ﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ ﴾ .. ظنَّ فرعون وملؤه بموسى الظنون ، ظنُّوه مثلهم يحبُّ الكِبْر ، لا ، إن الطيور على أشكالها تقعُ ، الإنسان دائماً يظنُّ ما في نفسه ، الكذَّاب لا يُصدِّق الصادق ، يظنّه كذَّاباً ، والصادق يصدِّق الكاذب ، ويظُّنه صادقاً ، وإن الطيور على أشكالها تقع ، ففرعون اتهم سيدنا موسى بأنه إنما جاء بهذه الدعوة لينازعه على الكبرياء في الأرض ..﴿ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ(78)وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ ﴾ ..أي فرعون هذه الدعوة إلى الله ، هذه البينات ، هذه المعجزات حوَّلها تحويلاً آخر ، ووصفها بأنَّها سحر ، أي هذه الدعوة العظيمة كما يقال : فرَّغها من مضمونها ، ووصفها بوصفٍ ساذج ، هذه سحر ، وأنا عندي سحرة وسوف يردُّون عليك ..﴿ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ(79)فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ(80)فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ ..أي لا يمكن المفسد أن يحقِّق النجاح في الحياة ، المفسد لن يحقِّق النجاح لهذه الآية :﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ هؤلاء السحرة أرادوا إفساد هذه الدعوة الإلهيَّة فَسِحْرُهُم باء بالإخفاق ، سحرهم أبطله الله سبحانه وتعالى ، طبعاً القرآن الكريم من إعجازه أن الآية القرآنيّة الواحدة لها معنى في السياق ، فإذا نزعتها من بين أخواتها أصبحت مبدأً عاماً ، قاعدة ثابتة ، دعنا من هذه القصَّة كلِّها ، وانزع هذه الآية وحدها ، واكِّتبها على لوحة ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ﴾ كل عمل هدفه الإفساد تدفع أنت الثمن ، تبوء بالإخفاق ، لن يُصلِح الله عملك ، ما دامت النوايا سيئة ، ما دام الهدف دعم الباطل ، ما دام الهدف تبديد نور الله عزَّ وجل ، إطفاء نور الله لن يُصْلِح عملك ، لماذا ؟ لأنك تخالف سنَّة الكون .

 

الحق ثابت منذ الأزل وإلى الأبد والباطل زائل لا محالة :


ما معنى الحق ؟ الشيء الثابت ، ما معنى الباطل ؟ الشيء الذي سوف يبطُل ، لا يقف على قدميه ، سرعان ما يتهاوى .. ﴿ وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾ ..أي من صفات الباطل الثابتة الزهوق ، الزهوق والباطل مترابطان ترابطاً وجودياً ، هذه فكرة دقيقة جداً ، الطائرة مثلاً تقول : صف لي الطائرة ؟ تقول لي :  كبيرة ، هناك بيت كبير أيضاً ، هناك بناء كبير ، هناك ساحة كبيرة ، هذا وصف غير صحيح ، ليس وصفاً جامعاً مانعاً ، صفها أيضاً ؟ تقول لي : فخمة ، هناك بيت فخم ، هناك أثاث فخم ، هناك سيَّارة فخمة ، هذا الوصف ليس صالحاً ، لازلت تقول كذا وكذا ، إلى أن تقول : تطير ، كلمة تطير هذه صفةٌ مترابطة مع الطائرة ترابطاً وجوديَّاً ، فإذا أُلغي الطيران أُلغيت الطائرة ، القرآن الكريم عبَّر عن هذه الحقيقة ، عن الترابط الوجودي بفعل كان التام .

 فعل كان له معنيان ، توجد عندنا كان الناقصة : كان الجو ماطراً ، أصل الجملة الجو ماطرٌ ، تركيب اسمي إسنادي ، إذا قلت : كان الجو ماطراً ، فأنت بهذا نقلت هذا التركيب الاسمي إلى الزمن الماضي ، فكان أفادت معنى المضي فقط ، ولم تفد معنى الحدث ، من هنا قالوا : فعل ماض ناقص ، لكنْ هنا كان ذات دلالة أخرى ، وهي كان التامَّة قلَّما ينتبه لها الناس ، ما كان الإنسان ليظلم أخاه ، هذه بمعنى ما وُجِدَ الإنسان . الآن :﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾ أي منذ أن وُجِدَ الباطل صفته اللازمة المترابطة معه ترابطاً وجوديَّاً أنه زاهق ، فإذا كنت مع الباطل عقيدةً فأنت زاهقٌ معه ، إن كنت مع رجل مُبْطِل فأنت زاهقٌ معه ..﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا(81)﴾ .

﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) ﴾ أي الحق ثابت منذ الأزل وإلى الأبد ، وكلمات الله سبحانه وتعالى تبَيِّن الحق وتُحِقُّه وتوضِّحه ، وسوف نتابع هذه القصَّة إن شاء الله في درسٍ قادم .

*      *      *

 

جهاز المناعة من آيات الله الكونية :


من آيات الله الكونية أن الله سبحانه وتعالى خلق في أجسامنا جهازاً بالغ الخطورة هو جهاز المناعة ، أي يوجد عندنا عقد لمفاوية مركز تجمع للكريات البيضاء ، تلك الكريات التي تجول في الدم ، وهذه الكريات البيضاء بمثابة القوات المسلحة للدولة تماماً ، فما إن تحس هذه الكريات البيضاء أن في الدم جسماً غريباً ؛ فيروس ، جرثوم ، حتى ترسل بعضاً منها بمهمة خاصة ، هذه المهمة استطلاعية تقترب من هذا الجسم الغريب ، من هذا الفيروس ، من هذا الجرثوم لتتعرف على بنيته ، وعلى نقاط الضعف فيه ، ثم تعود لتخبر بعض المراكز بنقاط الضعف ، هذه المراكز تُصنّع في الحال مواد مضادة لهذا الجرثوم أو هذا الفيروس ، هذا التصنيع يتم بسرعة فائقة ، المرحلة الثالثة كريات بيضاء أخر تحمل هذا المصل المضاد وتنتقل به ، وتحيط هذا الجرثوم ، وتفرز عليه هذا المصل حتى تقتله .

جهاز المناعة الفضل لله أولاً ثم له بوقايتنا من الأمراض ، هذا الجهاز الآن بدأ ينحل في أوروبا ، انحلال المناعة في الإنسان مرض خطير خطير ، يأخذ كل المساحات الكبرى في الصحف ، إنه مرض الإيدز ، انحلال المناعة ، سلط الله سبحانه وتعالى على هذه الكريات البيض الاستطلاعية والمصنعة والمقاتلة سلط عليها فيروساً يميتها ، فإذا انحلت المناعة في الإنسان مات لأتفه سبب ، يميته الرشح ، الرشح يميته ، أي مرض يصيب هذا الإنسان يميته ، قال في عام واحد وثمانين ظهرت خمس إصابات في أمريكا ، ثم تفاقم الآمر بمعدل مئة إصابة كل أسبوع ، والشيء الغريب أن واحداً من هؤلاء لن يشفى ، والجهود الآن منصبة لا على شفاء المرضى. بل على إيقاف هذا المرض عند حد ، وبين الإصابة والموت من ثمانية عشر أسبوعاً إلى مئة وخمسة وعشرين أسبوعاً ، أما الشيء الغريب أن الله سبحانه وتعالى جعل هذا المرض عقاباً عاجلاً للانحراف ، هذا المرض أسبابه الشذوذ الأخلاقي ، والمخدرات ، والخمور ، أبداً .

ثلاثة أشياء مهلكة ؛ الشذوذ الأخلاقي ، وتناول المخدرات ، ثم ينتقل هذا المرض عن طريق الدم ، فلو أنه أشتري دم ملوث وانتقل من بلاد إلى بلاد ينتقل هذا المرض . والآن الذعر مخيم على أوروبا وأمريكا من جراء هذا المرض . 

ربنا عز وجل قال :

﴿ وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) ﴾

[ سورة الإسراء ]

هؤلاء ظنوا أن الحياة هي كل شيء ، وأن اللذة هي كل شيء ، وأن المال هو كل شيء . ولمَ الدين ? لمَ هذه الخرافات ? الدين يقي ، الدين يحقق لنا السلامة والسعادة ، هذا الجهاز الوقائي الدفاعي ينحل وإذا انحل انحلت معه حياة الإنسان . 

فالاستقامة صحة ، الاستقامة صحة ينالها المؤمن ، وهذه الآيات دالة على حيدان الغرب عن الحق ، وكيف أن العقل وحده لا يكفي ، لا بد من إيمان يصون العقل من الزلل ، العقل شيء ثمين لكن من دون إيمان قد يشتط :

﴿ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) ﴾

[ سورة المدثر ]

إذاً الإنسان كلما تمسك بقواعد الدين كلما ضمن سلامته في الدنيا والآخرة :

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) ﴾

[ سورة فصلت ]

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور