وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 16 - سورة يونس - تفسير الآيات 83 – 93 من كمال الإيمان التوكل على الله – الحوت الأزرق آية من آيات الله الكونية
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 


القواعد الثابتة التي سنّها الله سبحانه وتعالى راسخة ثابتة وسوف تتحقق :


أيها الإخوة المؤمنون ؛ وصلنا في قصة سيدنا موسى في سورة يونس إلى قوله تعالى : ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ ﴾ .

قبل هذه الآية : ﴿ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ أي هذه الكلمات التي بين أيدينا وكأن المقصود بها القواعد الثابتة التي سنّها الله سبحانه وتعالى ، هذه الكلمات ثابتة ، راسخة ، سوف تتحقق ﴿ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ أي المجرمون أأعجبهم أم لم يعجبهم كلمات الله ثابتة ، وعده حق ، وعيده حق .. ﴿ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ﴾ أي قد يستقيم الرجل على أمر الله فيناله وعد الله بالحياة الطيبة أأعجب الكفار أم لم يعجبهم ، أرضوا بهذا أم لم يرضوا ، ما دام قد طبق أمر الله عزَّ وجل نالته هذه الآية ، فالآيات التي تأخذ شكل القواعد الثابتة أو شكل العلاقات الثابتة ، هذه الآيات الله سبحانه وتعالى يسميها كلمات ﴿ وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ﴾ أي أحياناً يتوهم الكافر أنه هو الأذكى ، وهو الأقوى ، وبيده الأمر كله ، لكن الحقيقة غير ذلك ، الأمر بيد الله ، وأن الله سبحانه وتعالى وعد المؤمنين بالعطاء الجزيل ، وأن العاقبة للمؤمنين ، وأن الويل والدمار للكفار المشركين ، هذه كلمات الله . 

 

بعض تفاسير قوله تعالى : فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ :


﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ﴾ بعض المفسرين يقول : إن الذين عاصروا سيدنا موسى لم يؤمنوا ، والدليل أنهم بعد أن اجتاز بهم البحر ، وبعد أن رأوا عصاه أصبحت ثعباناً مبيناً ، وبعد أن رأوا فرعون يغرقُ في اليَم قالوا : 

﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)  ﴾

[ سورة الأعراف ]

إذاً هؤلاء عَطَّلوا تفكيرهم ، أو أساؤوا استعماله فلم يهتدوا إلى الحقيقة ، لذلك هذا الجيل الذي نشأ على المعصية ، وعاصر سيدنا موسى لم يؤمن ، إنما أبناؤهم الذين أنجبوهم هم الذين آمنوا بسيدنا موسى من بعدهم ، هذا بعض معاني قوله تعالى : ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ﴾ ..

وبعض المفسرين على أن هذه الذرية تعود إلى فرعون ، من قوم فرعون ، ﴿ مِنْ قَوْمِهِ ﴾ اشتملت على هاء الغائب ، وهذه الهاء إما أن تعود على سيدنا موسى ، أو تعود على فرعون ..﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ ﴾ المقصود بهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وبعضٌ من حواشي فرعون ، كانوا قد آمنوا بسيدنا موسى . 

وتفسير ثالث هو أن هذه الذرية التي آمنت من قومه هم بعض الأقباط الذين تزوَّجوا من بني إسرائيل ، على كل المؤمنون قلة ..

 

طلب الجنة بغير عملٍ ذنبٌ من الذنوب :


﴿ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ﴾ .. أي الإيمان أحياناً يكون ثمنه باهظاً ، وهذا الثمن الباهظ قد يكون متاعب ، قد يكون قلقاً ، لكن الإنسان أحياناً من أجل الدنيا فقط يفتح محلاً تجارياً ، وتكون بضاعته ليست نظاميةً مئة بالمئة ، وهو متحمِّل الأخطار ، خطر المصادرة ، وخطر السجن ، وخطر الغرامات ، من أجل الدنيا يتحمَّل كل هذه المخاطر ، من أجل حياةٍ أبديةٍ ألا تستدعي هذه الحياة الأبدية أن يتحمل الإنسان من أجلها بعض المتاعب ؟ بعض المخاوف ؟ من قال لك : إن طريق الإيمان مفروشٌ بالورود ؟ لكن هذا الذي يأتي إلى الدنيا ، ويؤمن بالله عزَّ وجل ، ويتحمَّل من أجل إيمانه المتاعب والمخاوف ، ويجاهد نفسه وهواه ، هذا له عند الله أجرٌ لا يعلمه إلا الله ..

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من خاف أدلجَ ، ومَن أدلج بلغ المنزلَ ، ألا إن سلعةَ اللهِ غاليةٌ ، ألا إن سلعةَ اللهِ الجنةُ . ))

[ صحيح الترمذي ]

﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) ﴾

[ سورة آل عمران ]

﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ(2) ﴾

[  سورة العنكبوت  ]

﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) ﴾

[ سورة آل عمران ]

طلب الجنة بغير عملٍ ذنبٌ من الذنوب . 

 

الخوف الذي يقوده الله للإنسان من أجل أن يتعاظم أجره ويكشف على حقيقته :


إذاً كلمة : ﴿ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ ﴾ أي الخوف الله سبحانه وتعالى يقدره ، وهو الذي يسمح به ليتعاظم الأجر ، أي كما أن هناك أعمالاً أجرها بسيط ، أما إذا كان هناك مخاطر فأجرها كبير ، أي سائق السيارة يأخذ راتباً أقل بكثير من رُبَّان السفينة ، وربان السفينة راتبه أقل من راتب قائد الطائرة ، كلما كانت هناك مسؤولياتٌ جسام ، وكلما كانت هناك مخاطر فالأجر يرتفع ، فإذا ساق الله عزَّ وجل للإنسان بعض المخاوف ، بعض المخاطر ، بعض المُقلقات ، هذه من أجل أن يتعاظم أجره ، ومن أجل أن يكشف على حقيقته ، ومن أجل أن يظهر صبره وثباته على المبدأ .

لو أن طريق الإيمان كما يشتهي بعضهم مفروشٌ بالورود ، أين أجر الصحابة الكرام في نشر هذا الدين ؟ هاجروا مرةً إلى الحبشة ، ومرةً إلى المدينة ، وضيَّقت عليهم قريش ، وحاربتهم ، وقاطعتهم ، ونكَّلَتْ بهم ، وعذبتهم ، وأخرجتهم ، وائتمرت على قتلهم ، لكن هؤلاء الصحابة بلغوا عند الله منزلةً لا يعلمها إلا الله بفضل ثباتهم على المبدأ .. 

﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

هكذا ، والله سبحانه وتعالى هو هُو في كل زمانٍ ومكان .. 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)﴾

[ سورة الحديد  ]

﴿ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) ﴾

[ سورة الأنبياء ]

هذه الآية مستمرةٌ إلى آخر الزمان ، إذاً هذا كله على كلمة : ﴿ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ﴾ ، أي الإنسان من أجل المال يتحمل المخاوف ، هذا الذي يأتي بالبضاعة ، ويبيعها ، وليست وفق الأصول ، ألا يتحمل مخاطر كبيرة جداً ؟ من أجل المال فقط ، من أجل المال يتحمَّل المخاوف والمتاعب والمقلقات ، وقد يتعرَّض للسجن ، من أجل كسب المال فقط ، فكيف إذا كان الهدف نبيلاً والعطاء جزيلاً والآخرة أبديةً ؟ ألا تستأهل الآخرة أن يتحمل الإنسان بعض المخاوف ؟! ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ﴾ أي مع هذه المخاوف يتضاعف الأجر عشرات المرَّات ، ليسوا سواءً من آمن من قبل الفتح ، هذا الذي آمن قبل الفتح تحمل المتاعب والمخاوف ، أما الذي دخل بعد فتح مكة ، الأمر استتب للمسلمين ، وكلمتهم هي العُليا ، وبيدهم مقاليد كل شيء ، فالدخول في الإسلام بعد فتح مكة يسمى نوعاً من أنواع التغطية ، أو يسمى نوعاً من أنواع الانتهاز ، الدخول في الإسلام بعد فتح مكة حالةٌ ضعيفة ، خاف على حياته ، خاف على مصالحه ، خاف على مستقبله ، خاف على ماله ، فأسلم مع من أسلم ، ولكن البطولة أن تُسْلِمَ في الوقت العصيب ، في الوقت الذي إذا أسلم الإنسان يخاف على حياته ، أو على ماله ، أو على مكانته ، أو على عمله . 

 

من يعبد الله في الأعماق لن يهتز ولن يتأثر بشيء :


﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ ﴾ .. بعضهم تساءل : لمَ لمْ يقل الله عزَّ وجل : على خوفٍ من فرعون وملئه ؟ ﴿ وَمَلَئِهِمْ ﴾ أي  فرعون ليس وحده ، يعتمد على رجال أشدَّاء ، وعلى رهط ، وعلى أتباع ، وعلى مؤيِّدين ، هؤلاء كلهم فراعنة أيضاً .. ﴿ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ﴾ أي خافوا أن يفتنهم عن دينهم ، خافوا أن يضيِّقُ عليهم فيتركوا دينهم حفاظاً على حياتهم ، وهذه هي الفتنة ، لكن: 

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11)  ﴾

[ سورة الحج ]

الإنسان عليه أن يعبد الله في الأعماق ، إذا عبده على حرف تأتي موجةٌ صغيرةٌ فتسقطه في اليَمِّ ، أما إذا كان يعبده في الأعماق فلن يهتز ، ولن يتأثر ، ولن ينصرف عن هدفه مهما احلوْلَكَ الليل . 

 

صفات فرعون كما وصفه الله عز وجل :


﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ ﴾. .أي متكبر ، ومسرف ، مسرف في كل شيء ، والإسراف يقتضي أحياناً الخروج عن الحق ، مثلاً ربنا عزَّ وجل قال : 

﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)﴾

[ سورة الإسراء ]

فهذا الذي قُتِل أخوه ، أو أبوه ، أو ابنه ، هو ولي القتيل .. ﴿ فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ﴾ فَسَّر العلماء الإسراف في القتل أن يقتل اثنين بواحد ، وفسره بعضهم أن يقتل غير القاتل ، هذا هو الإسراف ، فالإسراف مجاوزة الحد المعقول ، مجاوزة الحد الصحيح إلى العدوان ، ﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الْمُسْرِفِينَ ﴾ .. أوصاف ربنا عزَّ وجل دقيقة ، نفسيته متكبرة وأعماله مسرفة ، الإنسان له حال وله عمل ، نفسيته علوٌ في الأرض واستكبارٌ واستعلاءٌ ، وعمله فيه إسراف في كل شيء ، في عطائه إسراف ، وفي منعه إسراف ، وفي عقابه إسراف ، وفي قمعه إسراف ،

 

من كمال الإيمان التوكل على الله :


﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ ﴾ .. العلماء قالوا : من كمال الإيمان التوكل على الله ، أي هناك إيمانٌ بدرجة غير كافية لإسعاد صاحبه من هنا كان قوله تعالى : 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136) ﴾

[ سورة النساء ]

من هنا كان قوله تعالى : 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) ﴾

[ سورة آل عمران ]

من هنا كان قوله تعالى : 

﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)﴾

[ سورة الحج ]

فليس كل إنسان آمن بوجود الله عزَّ وجل ، وآمن بالآخرة يملك درجة من الإيمان كافية كي تُنَجِّيِهِ من عذاب النار ، لا ، الإيمان له درجات دنيا لا تكفي ، وله درجات تكفي ، وله درجات عُليا ، على كل الإيمان ما وقر في القلب ، وأقر به اللسان ، وصدَّقه العمل .

(( عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار . ))

[ متفق عليه ]

(( عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ. ))

[  صحيح مسلم ]

الإيمان أن تَكُفَّ جوارحك عن المعاصي .. هذا هو الإيمان .

 

علامات الإيمان الصحيح :


لذلك : ﴿ وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ﴾ .. عندنا قضية محرجة ، إذا كنت مؤمناً أن الأمر كله بيد الله ، إذا كنت مؤمناً أن الله سميعٌ بصير ، إذا كنت مؤمناً أنه ما من حركةٍ ولا سكنةٍ إلا بأمر الله تعالى ، وإن كنت مؤمناً أنه بيده الأمر كله ، وأنه بيده ملكوت السماوات والأرض ، وأن عدوك بيده ، فإن لم تتوكل ففي الإيمان ضعف ، في الإيمان خلل ، من علامة الإيمان الصحيح التوكل على الله ، والتفويض لله ، والتسليم لأمر الله ، والرضا بقضاء الله ، هذه من علامات الإيمان الصحيح ، التوكل على الله ، والتفويض لله ، والتسليم لأمر الله ، والرضا بقضاء الله ﴿ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا ﴾ ألست مؤمناً بأن بيده كل شيء ؟ نعم ، توكل عليه إذاً ، لذلك قيل إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله .

أي المؤمن أقوى مخلوق على وجه الأرض ، بمعنى أنه مع الخالق ، ما دام هذا المؤمن مع خالقه ، والخالق بيده كل شيء فهو أقوى من كل شيء ، إذا أردت أن تكون أقوى الناس فتوكل على الله ، وإذا أردت أن تكون أكرم الناس فاتَّق الله ، وإذا أردت أن تكون أغنى الناس فكن بما في يدي الله أوثق منك بما في يديك .

 

معاني قوله تعالى : رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ :


﴿ فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ هذا دعاء مهم جداً ، هذا الدعاء يعني أشياء كثيرة ، يعني أول ما يعني أن المؤمن إذا قَصَّرَ في علاقته مع ربه سَلَّطَ عليه من لا يعرفه ليعيده إلى جادة الصواب ، إذا عصاني من يعرفني سلطت عليه من لا يعرفني .

أنا ملك الملوك ومالك الملوك قلوب الملوك بيدي ، فإن العباد أطاعوني حوَّلت قلوب ملوكهم عليهم بالرأفة والرحمة ، وإن العباد عصوني حولت قلوب ملوكهم عليهم بالسخْطَةِ والنقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسبّ الملوك وادعُوا لهم بالصلاح فإن صلاحهم بصلاحكم  ، فإذا قصر المؤمن سلط الله عليه من لا يخافه ، هذا أحد معاني هذه الآية ..﴿ لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ القوم الظالمون إذا رأوا مؤمناً ، وكان فيما بينه وبين ربِّه مقصراً أصابوه بالأذى ليشفوا غليلهم ، هذا المعنى الأول . 

المعنى الثاني : يا رب لا تجعل الكافرين فوقنا في الدنيا فيظنوا أنفسهم أنهم على حق ، ونحن على باطل ، الكافر إذا قوي ، وتَغَلَّبَ على المؤمن بماذا يُفَسر هذا التغلب ؟ بأنه على حق ، وأن المؤمن على باطل ، ولو كان على الحق لما انهزم أمامه ، أيضاً هذه فتنة ، فتنة للظالمين وللمظلومين ، للظالمين يتوهَّمون أنهم على حق ، وللمظلومين يكاد المظلوم أن ييئسَ من روح الله ، ﴿ لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ .. هذه الآية يجب أن يدعو بها الإنسان فيما بينه وبين ربه لئلا يكون عبرةً لمن يعتبر ، أحياناً يصبح الإنسان المقصر وسيلة إيضاحٍ للناس ، لذلك بعضهم إذا دعا يقول : اللهم لا تجعلني عبرةً لأحد من خلقك ، لا أكون أنا الدرس ، لا أكون أنا القصة ، أنا الأحدوثة ، لا أكون أنا طريقة من طرق توضيح الحقائق ﴿ لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ .. لا تجعلني عبرةً لأحدٍ من خلقك ، عندما يقصّر الإنسان ثم يبتليه الله عزَّ وجل بعقابٍ بَئيس تصبح قصته متداولةً بين الناس ، وكأن هذه القصة أصبحت وسيلة إيضاحٍ للحق .

 

المخاوف وسيلة من وسائل تقوية ارتباط الإنسان بالله عزَّ وجل :


﴿ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(85)وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴾ .. أي هذه المخاوف في الدنيا من أجل أن تزيد التجاء المؤمن إلى ربه ، أحياناً يكون الطفل في الطريق شارداً عن أمه ، بعيداً عنها ، مُتَلَهِّياً بحاجاتٍ لا تنفعه ، فيلمح جرواً مخيفاً فيركض إلى أمه ملتجئاً إليها ، ما الذي دفعه إلى أمه ؟ خوفه من هذا الجرو ، إذاً هذا الجرو ساقه الله إليه لحكمةٍ بالغة ، أحياناً تكون المخاوف مُلْجِئَةً إلى الله عزَّ وجل ، هذه المخاوف وسيلة من وسائل تقوية ارتباط الإنسان بالله عزَّ وجل ، ولله في خلقه شؤون ، أحياناً شُحُّ المطر يُلْجئ الفلاح إلى الدعاء ، وكساد البضاعة يلجئ التاجر إلى الدعاء ، ومرض الابن يلجئ الأب للدعاء ، وغياب الزوج يلجئ الزوجة إلى الدعاء ، والمرض يلجئ إلى الدعاء ، لله في خلقه شؤون ، إذاً هذه المخاوف تحثُّ الإنسان على الاتصال بالله اتصالاً صحيحاً . 

 

النهي عن جعل البيوت قبوراً :


﴿ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ(86)وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ ..لهذه الآية أيضاً تفسيراتٌ عديدة ، أوجه هذه التفسيرات أن الله سبحانه وتعالى أوحى لسيدنا موسى أن يتخذ قومه من بيوتهم مساجد ، ولتكن هذه البيوت متجهةً إلى بيت المقدس ، واتضح من هذه الآية أن التوجُّه في الصلاة إلى قبلةٍ ما شيءٌ ثابتٌ في الأديان كلها ، وقالوا : إن اليهود على عهد سيدنا موسى توجَّهوا إلى الكعبة ، وقيل توجَّهوا إلى بيت المقدس .

والحقيقة أن النبي عليه الصلاة والسلام نهانا أن نجعل بيوتنا قبوراً ، متى يكون البيت قبراً ؟ إن لم يُصَلَّ فيه ، فالنافلة يزيد أجرها إن أدِّيَتْ في البيت ، لأن في النوافل رياءً ، فمن تمام الإخلاص أن تؤدي النافلة في البيت ، السنة القبلية يصح أن تصلى في البيت ، والسنة البعدية يصح أن تصلى في البيت ، أما المكتوبة فتصلى في المسجد ، طبعاً إن لم يكن هناك عذرٌ قاهر ، إذاً النبي عليه الصلاة والسلام مما اختصه بأنه جعل له الأرض طهوراً ومسجداً ، جعل الله لأمة سيدنا محمد الأرض طهوراً ومسجداً ، بنو إسرائيل على خوفهم من فرعون أن يفتنهم جاءهم الأمر أن يصلوا في بيوتهم ، وليتجهوا نحو القبلة ، وقد اختلف فيها وفي أرجح الأقوال إلى بيت المقدس .

 

العطاء الثمين هو العلم والحكمة أما الدنيا ومالها فلا شأن لها عند الله :


﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ(87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ .. عطاء الإنسان في الدنيا ليس دليل المحبة ، هذه قاعدة ، لأن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب ، فالعطاء في الدنيا لا يُعَدُّ أبداً دليل المحبة ، لكن الآخرة لا ينالها إلا المحب . 

شيءٌ آخر .. العطاء الثمين العلم والحكمة ..

﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(22) ﴾

[ سورة يوسف  ]

﴿ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) ﴾

[ سورة الجمعة  ]

فالعطاء الثمين هو العلم والحكمة ، أما الدنيا ومالها فلا شأن لها عند الله .

(( عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لو كانت الدُّنيا تعدِلُ عند اللهِ جناحَ بعوضةٍ ما سقَى كافرًا منها شرْبةَ ماءٍ. ))

[ المنذري : الترغيب والترهيب : إسناده صحيح أو حسن ]

﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا ﴾ هذا الغنى الفاحش ، وهذه الزينات ، وهذا الترف ، وهذا الانغماس في الملذَّات ، وهذه الأموال الطائلة التي قد تنال الكافر ليس للمؤمن أن يغترَّ بها..

﴿ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)  ﴾

[ سورة القصص ]

إذاً إذا رأيت الدنيا على إنسان بأبهى زينة وتمنَّيْتها لنفسك فهذا خللٌ في إيمانك ، والنبي عليه الصلاة والسلام كلما وقعت عينه على مظاهر الدنيا وعلى زينة الدنيا كان يقول :

(( عن سهل اللَّهُمَّ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ قالَ شُعْبَةُ: أو قالَ: اللَّهُمَّ لا عَيْشَ إلَّا عَيْشُ الآخِرَهْ... فأكْرِمِ الأنْصارَ والْمُهاجِرَهْ ))

[ صحيح مسلم ]

﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا ﴾ ، لذلك ربنا عزَّ وجل قال : 

﴿ لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)﴾

[ سورة آل عمران ]

الله سبحانه وتعالى يقول في بعض الآيات : 

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) ﴾

[ سورة التوبة ]

في آيةٍ أخرى : 

﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾

[ سورة النساء ]

﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)﴾

[ سورة النساء ]

 

استخدام فرعون المال والقوة ليضل عن سبيل الله :


﴿ رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ﴾ هذه الآية دقيقة جداً ، أن تفهم الآية أن الله سبحانه وتعالى آتى فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدنيا ليضلوا عن سبيله ، هذا المعنى مستحيل ، وهذا المعنى فاسد ، الله سبحانه وتعالى إذا أعطى إنساناً مالاً أو زينةً أو جاهاً لا ليضل عن سبيله بل ليهتدي إليه ، أما هذه اللام أعربها علماء التفسير لام المآل ، أو لام الصيرورة ، مثلاً: 

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ – سيدنا موسى - لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) 

[ سورة القصص ]

حينما التقطه آل فرعون لماذا التقطوه ؟ ليسعدوا به ، ما الذي حصل في النهاية ؟ أن ملك فرعون تقوَّض على يد هذا الغلام ، فكانت نهاية ملك فرعون أنه تقوَّض على يد سيدنا موسى ، فهذه اللام ليست لام التعليل إنما هي لام المآل والصيرورة ، وهذه اللام أيضاً على هذه الشاكلة ، أي الله سبحانه وتعالى إذا أعطانا صحةً من أجل أن نتعرف بها إلى الله ، إن أعطانا مالاً من أجل أن نشكره ، إن أعطانا عقلاً من أجل أن نستخدمه في التعرف إليه ، إن أعطانا أولاداً من أن أجل أن نربيهم تربيةً صالحة ، إن وهبنا زوجةً صالحة من أجل أن نأخذ بيدها إلى الجنة ، هذا هو الهدف النبيل ، ولكن الكافر يأخذ هذه النعَم ويحوِّلها إلى نِقَم ، يأخذ هذه النعم ويتقوَّى بها على معصية الله ، فيكون في النهاية هالكاً عن طريق هذه النعم ، فالذي حصل أن فرعون استخدم هذا المال ، وهذه القوة ، وتلك الزينة ليضل عن سبيل الله ، يوجد آية أخرى مطمئنة يقول تعالى : 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)﴾

[ سورة الأنفال ]

وبعضهم فَسَّرَ هذه الآية : ﴿ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ﴾ هل يعقل هذا أن يفعلوه ؟ إما أنه استفهامٌ إنكاري من دون أداة استفهام كما ورد هذا في بعض آيات القرآن الكريم ، وإما أن هذه اللام لام المآل والصيرورة وليست لام التعليل . 

﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ﴾ أي بدد أموالهم ، أَهْلِك أموالهم ، ﴿ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ ضيِّق عليهم قلوبهم .. 

﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)﴾

[ سورة التوبة ]

العوام يقولون : ضاق قلبي ، هذا عقاب من الله ، إذا قصر العبد بالعمل ابتلاه الله بالهم والحزن ، أحياناً جميع وسائل السرور متوافرة والقلب في ضيق ، حتى إن بعض المفسرين حينما فسر قوله تعالى : 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124) ﴾

[ سورة طه ]

كيف نفسر هذه المعيشة الضنك بالنسبة إلى رجلٍ غني جداً يسكن في أجمل بيت ، ويأكل ألذ أنواع الطعام ، ويرتدي أجمل الثياب ، ويركب أفخر السيارات ، ويسيح في كل صيف في أنحاء أوروبا ، ويذهب في الشتاء إلى إفريقيا ، ويفعل ما يفعل ، فكيف نفسر هذه الآية بحق هذا الغني ؟ قال علماء التفسير : ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ﴾ أي ضيق القلب ، في قلبه ضيق ، واكتئاب ، وسوداوية ، وقلق ، وخوف ، وذعر ، ورعب ، ما لو وزِّع على أهل بلد لكفاهم ، لأتعسهم ، هذه هي المعيشة الضنك بالنسبة للأغنياء أو الأقوياء . 

﴿ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ﴾ إما أنه ينكر عليهم ذلك ، هل يُعقل أن يكون هذا المال لإضلال الناس عن الحق أو أن الذي حصل أن هذا المال صار قوةً لهم فضلوا بها عن سبيلك ؟

 

من تمام العقل أن تصل إلى نتائج الأشياء قبل أن تصل إليها :


﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ لماذا ؟ لأن هؤلاء من نوع لا يخافون إلا بأعينهم ، الآن من علامات الغباء ، من علامات تعطيل الفكر الإنسان لا يتحرَّك إلا عند الإحساس بالألم ، مثلاً يقوم بزيارة دورية للطبيب ؟ لا ، حتى يحس بألم شديد يذهب ، ينصحونه بعدم التدخين مثلاً أن الدخان يضيِّق الشرايين ،أكثر أمراض القلب والأوعية الآن مبعثها التدخين ، يدخن ويدخن إلى أن يأخذوه إلى غرفة العناية المشددة ، الآن أقلع عن التدخين ، لا ، هذا علامة الجهل ، علامة الغباء ، أن الإنسان عند الألم الشديد يعرف خطورة أعماله ، أحياناً يكون البيت خَطِر ، ينصحونه ، يبلغونه ، يحذرونه ، ينذرونه ، حتى يسقط البيت فوق أولاده ، يقول : والله معهم الحق ، العوام يقولون : يخاف من عَيْنِهِ فقط ، إلى أن يرى الخَطَر يخاف ، أما المؤمن أذكى من ذلك ، المؤمن يُعِدُّ لكل شيءٍ عدته قبل أن يقع ، من تمام العقل أن تصل إلى نتائج الأشياء قبل أن تصل إليها ، أن تصل إلى النتائج بفكرك قبل أن تصل إليها بجسمك ، ﴿ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ ، ينحرف حتى يصاب بمرض ليس له حل ، مرض عضال ، عندئذٍ يؤمن أن هذا المرض كان عقاباً على هذا الانحراف ، يأكل الربا ، ويظن أنه لا يوجد أي شيء ، حتى يأتي يوم يتبدد فيه ماله ، ويهلك ماله ، عندئذٍ يؤمن ، يتساهل في علاقته مع النساء حتى يقع في الزنا ، يتساهل مع زوجته حتى تخونه ، يتساهل بعمله حتى يُفْصَل منه ، لا يخاف إلا بعينه ، أما العاقل فيخاف بعقله قبل عينه . 

﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ هؤلاء من هذا النوع ، إذا رأى العذاب يقول : آمنت ، أما أن يأخذ موقفاً منطقياً منصفاً قبل فوات الأوان فلا يفعل ذلك .. 

 

لكل شيءٍ أوان فمن تَعَجَّلَ الشيء قبل أوانه عوقِبَ بحرمانه :


﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ قال الله عزَّ وجل : ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ﴾ من الداعي ؟ الداعي سيدنا موسى . ﴿ وَقَالَ مُوسَى ﴾ ، لماذا قال الله عزَّ وجل : ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا ﴾ ؟ لأن سيدنا هارون كان معه ، فلما دعا سيدنا موسى عليه السلام قال : آمين ، والتأمين دعاء ، التأمين على الداعي دُعاء ..﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ قال العلماء : بين الدعاء والإجابة أربعون عاماً ، الزمن عند الله هو من خلق الله ، لكن عند الله صدر الأمر باستجابة هذا الدعاء ، ولكن لكل شيءٍ أوان ، فمن تَعَجَّلَ الشيء قبل أوانه عوقِبَ بحرمانه ، اطلب من الله واستسلم ..﴿ فَاسْتَقِيمَا ﴾ .. بعضهم حمل هذه الآية على الثبات على الاستقامة ، هما مستقيمان ، ما معنى قولك لطالب مجتهد : اجتهد ؟ أي داوم على اجتهادك ، استمر على اجتهادك ، اثبت على اجتهادك .

﴿ فَاسْتَقِيمَا ﴾ يوجد معنى آخر تابِعا نُصْحَ فرعون ، المعنى الأول : اثبتا على تلك الاستقامة ، المعنى الثاني : تابعا نصح فرعون ﴿ وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ هؤلاء الذين لا يعلمون يستعجلون قضاء الله وقدره ، والإيمان بالقدر يُذهب الهمَّ والحزن ، ولكل شيءٍ أوان ، لكل شيءٍ قَدَر ، الأمور بمواقيتها ، فالإنسان لا يتجاوز حدوده في تعيين وقت الإجابة ، ادع الله.. ﴿ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ(89)وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا ﴾ .. البغيُ صفةٌ نفسيةٌ هدفها الكِبْر ، والعَدْو : العدوان ، أي كان مستعلياً عليهم بنفسه ، معتدياً عليهم بيده..

 

العاقل من يعرف الحقيقة قبل فوات الأوان :


﴿ حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الغَرَقُ ﴾ يقولون : إن سيدنا موسى دخل في البحر هو وقومه ، وتردد فرعون في دخول البحر ، هكذا يقال : تردد ، كأنه شعر أن في هذا النزول فَخًّا ، تردد ، ثم تراءى هامان أمامه ينطلق في البحر فتبعه ، قال بعضهم : إن الله أرسل بعض الملائكة على شكل هامان وهو يمتطي فرسه ، ويُغْري فرعون بالنزول في البحر ، فنزل فرعون وجنوده ، فلما خرج آخر من كان مع سيدنا موسى عاد البحر بحراً فأدركه الغرق ، حينما أدركه الغرق قال : ﴿ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ﴾ .. بعد فوات الأوان ، هذا سوف يحصل لكل إنسان ، كل إنسانٍ سوف يعرف الحقيقة ، ويؤمن ، ولكن في وقتٍ لا ينفعه إيمانه . 

﴿ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)﴾

[ سورة الأنعام ]

﴿ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ﴾ وأنا متأكِّد أن كل إنسانٍ منحرفٍ ، كل إنسانٍ عاصٍ إذا جاءته مصيبة خلال ثوانٍ يعرف أن هذه المصيبة عقابٌ من الله عزَّ وجل . 

﴿ أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ ﴾ بعضهم قال : هذا كلام فرعون نفسه ، نفسه حدَّثته : الآن تؤمن ؟! دُعِيتَ قبل أربعين عاماً إلى الإيمان ولو أنك آمنت لمكَّنك الله في الأرض ولرفع شأنك ، الآن تؤمن ؟ ﴿ أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ ﴾ خاطب نفسه هذا الخطاب . 

 وقيل : إن الله سبحانه وتعالى قال هذا الكلام : ﴿ أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ ﴾ .

وقيل : إن الملائكة ، إما أنه قول الله عزَّ وجل ، أو أنه قول الملائكة ، أو أنه قول فرعون نفسه . 

 

فرعون موسى نجَّاه الله ببدنه ليكون لمن خلفه آية :


﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ ﴾ أي لشدة رهبته في قلوب الناس ، وشدة استعلائه في الأرض ، ولشدة اعتقاد الناس أنه ربُّهم الأعلى ، ولشدة ما بثَّهُ في قلوب الناس من ذُعر ، لم يصدق أحد أنه غرق ، فأخرجه ربنا من البحر وألقاه على شاطئ اليَمِّ ليراه القاصي والداني ، أن هذا هو فرعون بقضه و قضيضه ، فرعون نفسه مُلْقَىً على شاطئ البحر ميتاً غرقاً ..﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ﴾ وأغلب الظن إن لم يكن مئة بالمئة أن فرعون موسى مُحَنطٌ في الأهرامات ، والذي يصوَّر في الصحف هو فرعون موسى نفسه الذي نجَّاه الله ببدنه ليكون لمن خلفه آية ، وقد بلغني أن علماء كباراً وصلوا إلى مصر ، وفحصوا الجثة المحنطة ، واستنبطوا منها أنها ماتت غرقاً ، وقد نُقِلَ فرعون إلى فرنسا لينال بعض الترميم لجثمانه ، وأعيد إلى مصر ، وأغلب الظن أن هذا هو نفسه فرعون موسى ، ولأن كلام الله حق ﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ﴾ ..الناس يؤخذون بالباطل ، يؤخذون بالوهم ، يؤخذون بالظن ، يؤخذون بما يقال لهم ، وهذه الحقيقة ، الإنسان ضعيف لا يقوى على النجاة بنفسه ، الإنسان إذا عرف الله تضاءلت نفسه ، فإذا جهل تعاظمت نفسه .

 

بنو إسرائيل هم أول الناس إيماناً بالنبي عليه الصلاة والسلام قبل أن يأتي :


﴿ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ(92)وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ﴾ أي هم أول الناس إيماناً بالنبي عليه الصلاة والسلام ، قبل أن يأتي ، قبل أن يأتي كانوا يقولون : سيبعث نبيٌ في العرب  واسمه كذا ، وهذا مكتوبٌ عندنا في التوراة ، والله سبحانه وتعالى قال :

﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) ﴾

[ سورة البقرة ]

فلما جاءهم الحق من عند الله كفروا به .. ﴿ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمْ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(93) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلْ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ المُمْتَرِينَ(94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنْ الْخَاسِرِينَ(95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ(96)وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ﴾ ..

هذه الآيات نتابع تفسيرها إن شاء الله في درس الجمعة القادم ، التعليق الطفيف على هذه القصة أن هذه القصة ليست روايةً لأحداثٍ مضت ، لكنها مناطٌ للعبرة ، كل إنسان لابدَّ من أن يموت ، ولابدَّ من أن تُكْشَفُ له الحقائق عند الموت ، فإذا عرفت الحقيقة قبل الموت فأنت من السعداء ، وإذا عرفتها أثناء الموت فهذا من الشقاء الأبدي ﴿ أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾ على مستوى حياتنا الدنيا ، بعد ما دُمِّر المال آمنت أن الربا حرام ، الآن آمنت ؟ بعد ما الزوجة خانت آمنت أن الاختلاط حرام ؟ بعد ما المصيبة وقعت آمنت أن هذا السلوك منحرف ؟ أما العاقل فيتعظ بغيره . 

*     *     *


 الحوت الأزرق آية من آيات الله الكونية :


من آيات الله الكونية قوله تعالى : 

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)﴾

[ سورة البقرة ]

في البحر العلماء قالوا : إن في البحر ما يزيد عن مليون نوع من السمك ، أما أضخم هذه الأسماك قاطبة ، بل هي أضخم حيوان على سطح الأرض هو الحوت الأزرق الذي يعادل وزنه وزن ألف وستمئة رجل ، أو يعادل وزنه وزن خمسة وعشرين فيلاً ، أي وزنه يزيد عن مئة وثلاثين طناً ، وطوله يزيد عن خمسة وثلاثين متراً ، هذه الحيتان تنتقل من شمال الكرة إلى خط الاستواء ، من القطبين إلى خط الاستواء ، فإذا وصلت إلى القطب تزداد كمية الدهن الذي تحت جلدها إلى سماكة متر ، وإذا انتقلت إلى خط الاستواء تقل هذه الكمية ، والغريب أن هذه الحيتان تتنفس مثلنا من الهواء مباشرة ، وبين النفسين ثلاثون دقيقة ، كيف تستطيع أن تبقى كل هذه المدة تحت الماء ؟ قال : لأن الهواء يتخلخل يخزن في عضلاتها ودمها وأنسجتها ورئتيها .

وهذا الحيوان الكبير يتكاثر ولادة لا بيضاً ، فالجنين في رحمه لا يزيد طوله عن سنتمتر واحد ، ويكبر ويكبر إلى أن يصير سبعة أمتار ويزن طنين ، حينما يولد المولود من أنثى الحوت يكون وزنه طنين وطوله سبعة أمتار ، أما رضعته الواحدة فتزيد عن ثلاثمئة كيلو ، باليوم يحتاج إلى طن حليب ، أما وجبة الحوت الأزرق المعتدلة – أي إذا أراد ألا يكثر – أربعة أطنان .

العلماء قدروا أن في البحار في وقت ما ليس الآن  مئة وخمسين ألف حوت ،  فلو كان وزن الحوت مئة وثلاثين طناً ضربنا مئة وثلاثين ألف كيلو بمئة وخمسين ألف طن ينتج رقم لو قسم على ستة آلاف مليون إنسان نصيب كل واحد أربعة كيلو من لحم الحوت ، كل إنسان على وجه الأرض الآن يناله أربعة كيلوغرام من هذه الحيتان ، والعجيب أن هذا الحوت يستفاد منه حتى آخر قطرة وحتى آخر شيء فيه .

ينتج من الحوت تسعون برميل زيت كبد الحوت ، يوجد فيه خمسون طناً من الدهن ، وخمسون طناً من اللحم ، أي العاج ، المسك ، العنبر ، كله من الحوت ، شيء عجيب الحوت عندما يأكل السمك يوجد بالسمك حسك ، والحسك له رؤوس مؤنفة كالإبر ، هذه لو ابتلعها لابد من أن تثقب أمعاءه ، الله سبحانه وتعالى جهزه بطريقة تحميه من الحسك ، تفرز المعدة عنده مادة سمراء سوداء تأتي على رؤوس الحسك المؤنفة تجعلها كرة ، هذه المادة السوداء هي العنبر ، يمكن قطعة عنبر بقدر العدسة ثمنها مئة ريال سعودي ، أي أربعمئة ليرة سوري ، هذه توضع في الشاي ، يقولون لك : شاي عنبر ، أي ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ .

مرة حوت جرّ سفينة ثمان وأربعين ساعة وهي تدير محركاتها بعكس اتجاهه على أقصى سرعة وجرها مع محركاتها ثمان وأربعين ساعة .

هذه الحقائق عن الحوت ، مخلوق :

﴿ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ﴾

[ سورة الملك  ]

أي كمال مطلق في خلق الحوت .

الحمد لله رب العالمين  ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم اجز محمداً صلى الله عليه وسلم ما هو أهله ، واجز عنا صحابته الكرام ما هم أهله ، واجز لنا مشايخنا ومن علمنا ومن له حق علينا ، اللهم اجعل جمعنا هذا جمعاً مباركاً مرحوماً ، واجعل تفرقنا من بعده تفرقا معصوماً ، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً ، اللهم كما هديتنا للإسلام فثبتنا عليه ، اللهم ألزمنا سبيل الاستقامة لا نحيد عنها أبداً ، واهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين ، اللهم يسر لنا أمورنا ، مع الراحة في قلوبنا وأبداننا ، والعفو والعافية في دنيانا وديننا ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم. 

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور