وضع داكن
18-04-2024
Logo
الدرس : 01 - سورة يوسف - تفسير الآيات 1 – 3 ، بين يدي سورة يوسف
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين . 

 

سورة يوسف ترسيخ لعقيدة التوحيد :


 أيها الإخوة الأكارم ؛ سورة اليوم سورة سيدنا يوسف عليه السلام ، هذه السورة سميت بهذا الاسم لاشتمالها على قصة سيدنا يوسف ، وقصة سيدنا يوسف أطول قصة في القرآن الكريم .

إنّ هذه القصة بموضوعها وحوادثها ، وشخصياتها وحبكتها ، وحوارها وبيئتها ، وكل خصائصها الفنية مطوعة ومسخرة لتأكيد وترسيخ عقيدة أساسية في الأديان ، ألا وهي عقيدة التوحيد ، فالله سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم  :

﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) ﴾

[ سورة محمد  ]

وهذه القصة بأكملها تؤكد أنه لا إله إلا الله ، لأن الناس حتى ولو وُصِفوا بأنهم مؤمنون أكثرهم عند الله مشركون ، قال تعالى  :

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)  ﴾

[  سورة يوسف  ]

فلعل الإنسان إذا قرأ هذه القصة ، ووقف على دقائقها ، واستنبط من آياتها بعض الحقائق يهتدي إلى التوحيد ، ليس في فكره بل في سلوكه ، لأن التوحيد كفكرة واضح جداً ، ومعقول جداً ، و لكن كسلوك وكممارسة يومية التوحيد بعيد عن معظم الناس .

 

لغة كتاب الله هي اللغة العربية لخصائصها التي تجعلها من أرقى اللغات الإنسانية :


شيء آخر ؛ في هذه القصة مقدمة فيها بعض الموضوعات ، وخاتمة فيها بعض التعقيبات .

من موضوعات المقدمة قال تعالى : ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ صرحت هذه الآية أن لغة كتاب الله هي اللغة العربية ، ولماذا اللغة العربية بالذات ؟ وما خصائص هذه اللغة حتى تكون أداةً وقالباً لكلام الله سبحانه وتعالى ؟ قال عليه الصلاة والسلام  : 

(( عن عبد الله بن عباس : أحبوا العربية لثلاث ، لأني عربي ، والقرآن عربي ، ولسان أهل الجنة عربي . ))

[ الطبراني ضعيف  ]

ربنا سبحانه وتعالى يقول  : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ ..لابد من أن تكون اللغة العربية لها خصائص موضوعية تجعلها من أرقى اللغات الإنسانية ، وإذا قلّ شأنها في العصور الحديثة فلضعف شأن أصحابها ، وإذا قيل : إنّ هذه اللغة تعد أوسع لغة في العالم لأن أصحابها اعتنوا بها ، ورفعوا من شأنها ، لكنّ اللغة العربية باعتراف فقهاء اللغة الأجانب من أوسع اللغات الإنسانية تصرفاً ومن أرقاها .

 

خصائص اللغة العربية :  


1 ـ اللغة العربية لغة تحليلية متصرفة:

سوف أبين لكم بعض خصائص هذه اللغة ، سيدنا عمر يقول : 

(( تعلموا العربية فإنها من الدين . ))

[ البيهقي في شعب الايمان ، الاسناد ضعيف، فيه حيان بن جبلة ضعفه أبو حاتم بقوله شيخ وليث بن أبي سليم ضعيف، وفيه راويان مجهولان ]

وتعلم اللغة العربية وتعلم الدين شيء واحد ، بل إنّ اللغة العربية والدين صنوان لا يفترقان .

بعض العلماء قسم اللغات الإنسانية إلى أقسام ثلاث : اللغات المنعزلة ، واللغات الإلصاقية ، واللغات التحليلية .

معنى المنعزلة : هذه اللغة تشبه لغة أهل الصين ، أي الكلمة لا تتبدل ، ولا تتغير ، ولا يضاف عليها ، ولا تُصرّف ، وليس منها فعل ، ولا فاعل ، ولا اسم فاعل ، ولا فعل مضارع ، ولا فعل أمر ، ولا مصدر ، ولا صفة مشبهة ، ولا اسم مكان ، ولا اسم زمان ، هذه الكلمة لا سواها ، هذه لغات الشعوب البدائية ، ويمكن أن تنطوي لغة الصين تحت هذا القسم.

 وهناك نوع آخر من اللغات ، إنها اللغات الإلصاقية ، منها اللغة اليابانية ، واللغة التركية ، أي تضيف حرفاً فتغير المعنى ، وكلكم يعلم ما معنى كلمة أدب سيس ، عقل يوك ، أي هذه لغة إلصاقية تضيف حرفاً أو حرفين فتعطي عكس المعنى .

لكنّ اللغة العربية وبعض اللغات التحليلية تعد من أرقى اللغات الإنسانية ، مثلاً : (عرف) فعل ماض ، (يعرف) فعل مضارع ، (اعرف) فعل أمر ، (عرّف) هذا فعل مزيد ، تقول : قطع وقطّع ، كسر وكسّر ، وغلّقتِ الأبواب ، غلّق الباب بمعنى أرتجه ، أما غلق الباب بمعنى ردّه ، إذاً هناك وزن فعل ووزن فعّل ، هناك وزن تفاعل ، فاعل ، كاتب ، راسل ، قاوم ، دافع ، يوجد مشاركة ، فعرف ، وعرّف ، وتعرّف ، وتعارف ، وعُرِف ، والعُرف ، والعَرْف ، والأعراف ، والعراف ، والتعريف ، والعرفان ، والمعرفة ، والعارف ، أي الكلمة الواحدة يوجد منها فعل ماض ، فعل مضارع ، فعل أمر ، مزيد على الثلاثي بحرف ، مثلاً فعّل ، بحرفين تفاعل ، بثلاثة استفعل ، هناك اسم فاعل عارف ، اسم مفعول معروف ، اسم آلة ، اسم تفضيل أعرَف ، اسم زمان ، اسم مكان ، صفة مشبهة باسم الفاعل ، هذه كلها مشتقة من مادة عرف ، وعلى هذا فقس ، علم ، يعلم ، اعلم ، عالم ، معلوم ، علّام ، عليم ، تعليم .

فاللغة العربية تمتاز بأنها لغة تحليلية متصرفة ، مثلاً باللغات الأجنبية الكتاب Book ، والطاولة Table ، وكتب Write ، أما في اللغة العربية كتب ، مكتب ، كتاب ، من أسرة واحدة . 

لا أريد من هذه التفصيلات أن يكون الدرس في اللغة العربية ، ولكن أريد أنّ الله سبحانه وتعالى حينما جعل القرآن الكريم عربياّ إنّ في اللغة العربية خصائص موضوعية تجعلها من أرقى اللغات الإنسانية . 

2 ـ ظاهرة الإعراب :

شيء آخر ، في اللغة العربية الإعراب ، الإعراب أي حركة واحدة تغير المعنى ، مثلاً قال تعالى :

﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)﴾

[ سورة فاطر ]

العلماءُ فاعل مؤخر ، ولفظ الجلالة منصوب على أنه مفعول به مقدم ، بالتأخير  بوضع الضمة على كلمة العلماء معناها هي الفاعل ، ووضع الفتحة على لفظ الجلالة معناها منصوب على التعظيم مفعول به ، إذاً : بحركة واحدة يتبدل المعنى ، مثلاً  :

﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)﴾

[ سورة التوبة  ]

بحسب التصور : وكلمة الله هي العليا ، لو قلنا : كلمةَ الله هي العليا يكون المعنى فاسدًا ، لأنه جعل كلمة الذين كفروا السفلى ، أي كانت عليا فجعلها سفلى ، وكلمة الله هي العليا أي كانت سفلى فجعلها عليا ، المعنى فاسد ، ﴿ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ﴾ دائماً ، فتحريك أواخر الكلمات بحركات هي حروف مد مخطوفة ، هذا شيء يضفي على اللغة العربية دقة بالغة ، لذلك ظاهرة الإعراب ظاهرة أساسية في اللغة العربية ، من هنا قالوا : إنّك تفهم النص فتقرأه صحيحاً ، لكنك في بعض اللغات الأخرى تقرأ فتفهم ، أما عندنا تفهم فتقرأ ، لابدّ من أن تكون عينك على كلمة لاحقة حتى تحسن قراءتها ، قالت له : يا أبت ما أجملُ السماءَ ؟ قال : نجومها ، قالت : لست أريد هذا ، أريد أنّ السماء جميلة ، قال : قولي : ما أجملَ السماءَ ! بينما أجملُ السماء لها معنى ، وما أجملَ السماء لها معنى آخر ، فظاهرة الإعراب ظاهرة راقية جداً في اللغة العربية ، مثلاً : إذا أردت أن تقول : إنّ زيداً ضرب عمراً ، من دون إعراب يجب أن تقول : إنَّ الذي ضرب عمراً هو زيدٌ ، إذا قلت : ضرب زيدٌ عمراً ، بهذه الضمة جعلته فاعلاً ، وبهذه الفتحة جعلته مفعولاً به ، إذاً : ظاهرة الإعراب ظاهرة دقيقة جداً .

الآن التحريك ؛ هناك البَر والبُر والبِر ، البَر أي اليابسة ، والبُر هو القمح ، والبِر  الإحسان ، بالبِر يستعبد الحُر ، قدَم وقدُم وقدِم ، قدَم بمعنى سبقه بقدمه ، وقدُم أصبح قديماً ، وقدِم بمعنى حضر ، خَلْق وخُلُق وخَلِق ، خَلِق بمعنى مهترئ ، خُلُق بمعنى الأخلاق ، الخلْق بمعنى البنية ، كان عليه الصلاة والسلام حَسَنَ الخَلْقِ والخُلُق ، أمثلة كثيرة يَثني لها معنى و يُثني لها معنى ، يَثني بمعنى يطوي ، أما يُثني فبمعنى يمدح ، الفرق حركة واحدة .

إذاً : هذه الحركات تضفي دقة بالغة على الكلمات ، هذه ظاهرة من ظواهر اللغة العربية  : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ .. 

3 ـ مناسبة الحروف لمعانيها :

شيء آخر ، قال بعض علماء فقه اللغة : إنّ هناك ظاهرة في اللغة العربية دقيقة جداً وهي مناسبة الحروف لمعانيها ، أي كل كلمة فيها حرف سين فيها شيء داخلي ، إحساس داخلي ، كأن تقول : نفس ، حس ، إنس ، لمس ، همس ، وسوسة ، سر ، أية كلمة فيها حرف السين فيها شيء داخلي يجول في النفس ، وأية كلمة فيها حرف غين مثلاً غائب ، في غيبوبة ، ليس أمامنا ، غيبة ؛ تتحدث عنه في غيبته ، غيب ؛ شيء لم يقع بعد ، غامض ؛ غير واضح ، غريب ؛ ليس من هذا البلد ، فتلاحظون أنّ أية كلمة فيها حرف الغين فيها معنى الغيبوبة والاستتار ، أية كلمة فيها حرف الراء فيها معنى التكرار جرّ ، مرّ ، كرّ ، فرّ ، والذي يغرق قال بعض العلماء : لِمَ نقول للذي يغرق غرق ؟ لأنّه غاب عن الأنظار وضعنا الغين ، تتالى سقوطه وضعنا الراء ، ارتطم بقاع البحر وضعنا القاف ، طرق ، لصِق ، عبِق ، هناك حركة عنيفة في القاف ، هذه الظاهرة اسمها : مناسبة الحروف لمعانيها ، واللغة العربية وحدها تنفرد بهذه الظاهرة ، أي وسوسة ، زقزقة ، كلمة زقزقة ، لو لم تعرف معناها أصوات هذه الكلمة تشعرك بمدلولها . 

4 ـ الاشتقاق الكبير والنحت :

هناك أيضاً الاشتقاق الكبير ، كما قلت قبل قليل : هناك اسم فاعل ، اسم مفعول ، هناك صيغ مبالغة لاسم الفاعل ، نقول : فعّال أي كذّاب ، أي كثير الكذب ، كذوب على وزن فعول ، رحيم على وزن فعيل ، فاروق على وزن فاعول ، عندنا على وزن فَعِل حذِر ، قلِق ، مرِن ، قذِر ، عندنا صيغَ مبالغة لاسم الفاعل ، عندنا اسم فاعل ، اسم مفعول ، اسم مكان ، اسم زمان ، اسم آلة ، قال تعالى  :

﴿ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80)﴾

[ سورة الإسراء ]

لم يقل الله عز وجل : مَدخل صدق ، المَدخل اسم مكان من دخل ، أما مُدخل اسم مكان من أدخل ، مادام يوجد إدخال إذاً هو مُدخل ، إخراج مُخرج ، إن كان الإخراج قسرياً هذا مُخرج ، إذا الخروج طوعي هذا مَخرج ، عندنا أيضاً اشتقاق كُبّار ، هو النحت ، مثلاً سبحل ، سبحان الله اختصرت بكلمة سبحل ، أدام الله عزك اختصرت بكلمة دمعز ، لا حول ولا قوة إلا بالله اختصرت بكلمة حوقل ، لا إله إلا الله اختصرت بكلمة هلل ، الله أكبر اختصرت بكلمة كبّر ، سبحل ، ودمعز ، وحوقل ، وهلل ، وكبّر ، وحمدل ، وحيعل ، أي قال : حي على الفلاح .

إذاً : في اللغة العربية اشتقاق صغير وكبير وكبّار وتصريف وتحليل وتركيب ، مثلاً : كل واحد منا يستطيع أن يصوغ مصدراً صناعياً ، الحركة الطلابيَّة ، أية كلمة أضف لها ياء مشددة وتاء مربوطة تصبح مصدراً صناعياً ، الجمهوريّة الشعبيّة ، الطلابيّة ، العنصريّة ، الوطنيّة ، القومية ، أية كلمة أضف لها ياء مشددة وتاء مربوطة تصبح مصدراً ، إذاً : هذا الذي أنقله لكم لا على سبيل الحصر بل على سبيل المثال . 

5 ـ أصواتها ثابتة :

شيء آخر ، أنّ أصوات هذه اللغة ثابتة ، أي يسمون لغتنا لغة الضاد ، لأنّ أوسع مدْرج صوتي في لغات العالم هي اللغة العربية ، ليس في لغات الأرض لغة واحدة فيها حرف الضاد : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ عندنا في اللغة العربية الضاد ، وعندنا الدال ، الطاء حرف مفخم ، والتاء حرف مرقق ، كل واحد حرف ، والصاد حرف مفخم ، والسين حرف مرقق ، عندنا صاد وسين ، عندنا ضاد ودال ، عندنا طاء وتاء ، عندنا سين وزاي ، هذه حروف منوّعة .

6 ـ الشعر الجاهلي دليل على ثبات اللغة العربية :

عندنا شيء آخر ، ليس في لغات الأرض كلها من دون استثناء أمة يقرأ طلابها شعراً قيل قبل ألف وخمسمئة عام إطلاقاً ، طلابنا في الصف العاشر يقرؤون شعر امرئ القيس ، وقد قيل قبل ألف وخمسمئة عام ، أما الإنكليز شكسبير شاعرهم الشهير توفي في القرن السادس عشر ، ولا يستطيع إنسان بريطاني واحد أن يقرأ شعر شكسبير كما كتبه ، شعر شكسبير مترجم من اللغة الإنكليزية القديمة إلى اللغة الإنكليزية الحديثة ، أما أن يقرأ طلابنا شعراً قيل قبل ألف وخمسمئة عام ثبات اللغة العربية ، ثبات أصواتها ، ثبات كلماتها ، ثبات قواعدها  : ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ﴾ .. 

7 ـ ظاهرة الترادف في اللغة العربية :

شيء آخر ، ترادف اللغة العربية ظاهرة فريدة ، مثلاً تقول : نظر ، نظر إلى الشيء معروف ، معلوم عندكم معنى هذا الفعل ، لكن عندنا فعل رأى ، رأى تشمل النظر بالعين ورؤية القلب ، عندنا فعل حدّج أي نظر مع المحبة ، قال عبد الله بن مسعود :

(( حدث القوم ما حدجوك بأبصارهم ، وأقبلت عليك قلوبهم ، فإذا انصرفت عنك قلوبهم، فلا تحدثهم ، قيل : وما علامة ذلك ؟ قال : إذا التفت بعضهم إلى بعض ، ورأيتهم يتثاءبون ، فلا تحدثهم . ))

[ البغوي: الحسين بن سعود ت(516) شرح السنة 1/313، تحقيق وتخريج: شعيب الأرناؤوط ]

حدّج أي نظر مع المحبة ، رنا نظر مع الاستمتاع ، نظرت إلى البحر تقول : رنوت إليه ، شخَص نظر مع الخوف ، قال تعالى :

﴿ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)﴾

[ سورة الأنبياء ]

نظر شزراً مع الاحتقار ، استشف : نظر مع اللمس ، استشرف : نظر مع التمطي ، حدّج : نظر مع المحبة ، بحلق : اتسعت حدقة العين ، حملق : ظهر حملاق عينه ، يوجد حملق ، وبحلق ، وحدّق ، وحدّج ، ونظر شزراً ، وشخَّص ، واستشف ، واستشرف ، ونظر ، ورأى ، ورنا ، كل فعل يعني حالة خاصة من حالات النظر ، قال تعالى : ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) ﴾ أي ينبغي أن نعتز بهذه اللغة ، أنا أتحدى طالباً جامعياً يحمل شهادة ليسانس أن يقرأ القرآن بلا غلط ، لغتنا الناس متهافتون على تعلم اللغات الأجنبية حباً بالمال ، حباً بالتجارة ، حباً بالاستيراد ، حباً بالتعامل ، حباً بالوظيفة ، ولكنّ المؤمن ينكب على تعلم اللغة العربية لأنها من الدين : تعلموا العربية فإنّها من الدين . 

(( وقف أمام النبي الكريم رجل يقرأ فلحن في قراءته فقال عليه الصلاة والسلام  : عن سعد بن عبد الله بن سعد عن أبيه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا قرأ فلحن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرشدوا أخاكم . فإنّه قد ضلْ . ))

[ رواه الحاكم وفي سنده ضعف غير قوى وهو جهالة من روى عن الصحابي أبي الدرداء رضي الله عنه ،وروي ابن وهب عن أبي الزناد بسند فيه ضعف والذي يظهر أن الحديث مقبول بشاهده ،وقد ضعفه الألباني ولكن لعله لم يطلع على شاهده . ]

كان عليه الصلاة والسلام أفصح العرب ، لذلك قال العلماء : إنّ أفصح كلام بعد القرآن الكريم كلام النبي عليه الصلاة والسلام :

(( أنا أفصح العرب ، بيد أنّي من قريش . ))

[ لا أصل له كما قال ابن كثير وغيره من الحافظ وأورده أصحاب الغريب ولا يعرف له إسناد الحديث لايصح ومعناه صحيح  ]

قريش أفصح القبائل ، وهذا أسلوب اسمه : أسلوب تأكيد المدح بما يشبه الذم ((أنا أفصح العرب ، بيد أنّي من قريش )) .

عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : 

(( إنَّ من البيانِ سحرًا ، و إنَّ من الشِّعرِ حِكمةً . ))

[ صحيح الأدب المفرد ]

هكذا قيل .

 

الظواهر الغريبة في اللغة العربية :

 

1 ـ ظاهرة المشترك اللفظي :

﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا (2) ﴾ ، في اللغة العربية ظواهر غريبة جداً ، مثلاً : عندنا ظاهرة اسمها : المشترك اللفظي ، فكلمة يشري لها معنيان متعاكسان ، يبيع ويشتري ، قال تعالى  :

﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) ﴾

[ سورة البقرة  ]

أي اشتراها ؟ لا ، باعها ، بمعنى يبيع ، كلمة المولى مثلاً تأتي بمعنى السيد والعبد ، مولاي يا سيدي ، ومولاي عبدي ، كلمة ظنّ بمعنى تأكد أو حسب ، قال تعالى  :

﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)  ﴾

[ سورة البقرة  ]

متأكدون ...

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) ﴾

[ سورة الحجرات  ]

لها معنيان ..

الجون أي الأبيض أو الأسود ، هذا اسمه : المشترك اللفظي . 

2 ـ ظاهرة التضاد والترادف في اللغة العربية :

عندنا ظاهرة في اللغة اسمها التضاد ، أي سميت الصحراء المخيفة مفازة ، الإنسان لا يفوز فيها ، يردى فيها ، سميت مفازة على عكس واقعها تفاؤلاً لمن كان فيها بالفوز ، وسمي الملدوغ من أفعى أو عقرب سليماً تفاؤلاً له بالسلامة ، هذا التضاد .

وفيها ترادف ، وقد عدّ العلماء أكثر من ستة آلاف اسم للجمل ، اتساع العربية في التعبير ، هذا غيض من فيض ، أي هناك كتب تزيد على أربعمئة صحيفة كلها في خصائص اللغة العربية ، البحث متعلق بعلم اسمه : علم فقه اللغة ، هذا العلم يؤكد أنّ الله سبحانه وتعالى اختص هذه اللغة لكلامه ، فشَرُفت بكلام الله ، وشَرُفنا بانتسابنا لهذه اللغة ، وانتسابنا لهذه الأمة ، فإذا خصص الإنسان جزءاً من وقته لتعلم العربية فسوف يجد أحكاماً دقيقة جداً ، أي فهم كتاب الله يحتاج إلى تعلم اللغة العربية ، لتعرف الكلام ، أنواع الكلام ، ماذا تعني هذه الكلمة ، ماذا تعني هذه العبارة ، لمَ هذه الكلمة منصوبة ؟ لمَ هي مفتوحة ؟ لمَ هي مجرورة ؟ 


اللغة العربية من أوسع اللغات الإنسانية في التعبير ومن أشدها مرونة واستيعاباً :


على كل ؛ أردت من هذه المقدمة اللغوية أن أؤكد لكم أنّ كلام الله سبحانه وتعالى اختاره الله ، اختار اللغة العربية قالباً له ، لأنّ اللغة العربية من أرقى اللغات الإنسانية باعتراف كبار علماء اللغة الأجانب ، هذا شيء درسناه في الجامعة ، باعتراف كبار علماء اللغة الأجانب ، يرون أن اللغة العربية من أوسع اللغات الإنسانية في التعبير ، ومن أشدها مرونة وقدرة على استيعاب كل الأشياء الغريبة عنها ، أي اللغة العربية الآن استوعبت كل منجزات العصر الحديث ، ومع ذلك ترى من الناس من يستعلي باستخدام الكلمات الأجنبية ، وهذه نزعة شعوبية نعوذ بالله منها.

 

بعض الحقائق بين يدي سورة يوسف : 


1 ـ العنصر الإنساني عنصر بارز في هذه القصة :

شيء آخر في قصة هذا النبي الكريم ؛ سماه النبي عليه الصلاة والسلام الكريم  ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ، يوسف بن يعقوب عليه السلام بن إسماعيل بن إبراهيم ، الكريم ابنِ الكريم ابنِ الكريم ابن الكريم ، لن أبدأ بتفسيرها في هذا اللقاء ، ولكن سوف أضع بعض الحقائق بين يدي هذه السورة الكريمة .

هذه السورة فيها مقدمة تتحدث عن أنّ القرآن عربي ، وقد شرحت لكم قبل قليل شيئاً من ذلك ، ثم فيها إشارة إلى أنّ أسلوب القصة يعد من أرفع أساليب التوجيه ، لذلك الذي يملك قدرة على رواية قصة يملك القدرة على الأخذ بالقلوب ، ربنا عزّ وجل يقول : ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ﴾ أي في القصة خصائص تجعل الإنسان يهفو إليها .

أولاً : العنصر الإنساني عنصر بارز في القصة ، فالقصة تتعلق بالإنسان ، بعواطفه ، بمشاعره ، بمواقفه ، بارتفاعه ، بانحطاطه ، بقوته ، بضعفه ، بأحزانه ، بأفراحه ، بمآسيه ، بنكباته ، بمنجزاته ، أبرز ما في القصة العنصر الإنساني ، لذلك ما الذي سوف نجده في هذه القصة ؟ نجد الحب الأبوي  : ﴿ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ ﴾ ...

لا يعرف الحزن إلا من يكابده            ولا الصبابة إلا من يعانيها

***

لو قرأ هذه القصة أبٌ كريم لذابت نفسه تفاعلاً معها ، لأنها تتحدث عن عواطفه تجاه ابنه ، في هذه القصة الحب الأبوي في أسمى صوره : ﴿ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ ﴾ قلق الأب ، شوق الأب ، فرح الأب ، ﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) ﴾ حينما ألقوا عليه قميص يوسف ارتد بصيراً ، هذا هو الأب ، هذه الرحمة التي أودعها الله في قلب كل أب ، ولكنها تزيد عن مثيلاتها في المؤمن ، وتزيد عن مثيلاتها في الأنبياء . 

2 ـ الغيرة والحسد أوسع أمراض البشر انتشاراً :

الغيرة والحسد أوسع أمراض البشر انتشاراً ، لو أردت أن تحلل معظم المشكلات بين الناس ، الخصومات ، العداوات، أنواع الطلاق ، ﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ سوف نكيد له .

3 ـ التفاوت في التصرف :

التفاوت في التصرف : ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ(9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ ﴾ التفاوت في المواقف ، الإنسان مخيّر ، هذا وقف موقفاً إجرامياً ، وهذا وقف موقفاً معتدلاً ، وهذا وقف موقفاً مستنكراً ، تفاوت في ردود الفعل في بني البشر . 

4 ـ المكر والخداع :

يتضح في هذه القصة أيضاً المكر والخداع  : 

﴿ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) ﴾

[ سورة يوسف  ]

وفي آية أخرى  :

﴿ الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) ﴾

[ سورة النساء ]

الشيطان وطغيانه وصف الله كيده بأنه كان ضعيفاً ، وأما النساء فوصف الله كيدهن بأنّ كيدهن عظيم ، أي امرأة تستطيع أن توقع الفساد بين مئة أسرة ، توقع الشقاق بين الإخوة ، بين الآباء والأبناء ، بين الآباء والأمهات ، بين الإخوة ، بين الشركاء ، وكم من قصة أفسدت العلائق سببها امرأة ، والذين يتابعون جرائم الناس ، ويعملون في تقصي المجرمين عندهم قاعدة ، كل جريمة وراءها امرأة ، يقولون : فتش عن المرأة ، المكر والخداع ، حينما واجه العزيز امرأته وهي تراود فتاها عن نفسه ، قالت :

﴿ وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) ﴾  

[ سورة يوسف  ]

هي التي راودته ، وأوهمت زوجها أنه هو الذي راودها ، وكيف أدخلته السجن ، المكر والخداع والشهوة ، كيف أنّ الإنسان إذا بعُد عن الله عز وجل صار عبداً لشهوته ، كيف أنّ الشهوة تَطغى وتُطغي وتردي صاحبها . 

5 ـ آلاف العِبر والدروس والاستنباطات في الحياة :

كيف أنّ مشاعر الندم قد تغمر الإنسان ، وهذا أيضاً مضمون من مضامين هذه القصة الكريمة ، وكيف أنّ الإنسان يرتفع حتى يعفو عن خصومه الذين كادوا له وهو في أشد حالات القوة ، وهو في أقدر ما يكون على أن ينتقم منهم :

﴿ قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)﴾

[ سورة يوسف  ]

أي هناك آلاف العِبر ، وآلاف الدروس ، وآلاف الاستنباطات ، في الحياة الاجتماعية والحياة الأسرية والحياة الشخصية وعلاقة الإنسان مع غيره ، ومع مجتمعه ، ومع أقربائه ، ومع خالقه ، كل هذا يتضح من قصة هذا النبي الكريم .

6 ـ سورة يوسف تصوير لبيئة معينة :

وهناك تصوير في هذه القصة للبيئة ، لبيئة المجتمع المتحضر ، وما فيه من علاقات متفسخة أحياناً ، وكيف القوي والضعيف ، وكيف المكر والكيد ، إنّ كل هذه المعاني من مضامين هذه القصة التي تعد أطول قصة في القرآن الكريم . 

7 ـ قصة يوسف لن تتكرر إطلاقاً :

يوجد لها ميزة أخرى أنّ قصص الأنبياء لحكمة أرادها الله سبحانه وتعالى جاءت في مواطن متعددة من كتاب الله ، وجاءت على شكل مختلف ، فقصة سيدنا موسى تكررت سبع عشرة مرة ، وفي كل مرة تُعجب بطريقة العرض والسرد ، في كل مرة لها طريقة تختلف عن طريقة قيلت فيها في موضع آخر ، لو وقفت عند هذه الطرائق في العرض والطرائق في الرواية لأخذك العجب العجاب ، ولكنّ قصة يوسف لن تتكرر إطلاقاً ، ولن يستطيع أحد تكرير هذه القصة لأنها كما يقولون : نسيج وحدها ، هذه قصة لم تتكرر ، وتلك قصص قد تكررت ، والإعجاز في التكرير وفي عدم التكرير . 

8 ـ قصة يوسف من دلائل نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام :

شيء آخر ، طائفة من اليهود حينما سمعوا هذه القصة أسلموا لمطابقتها لما ورد عندهم في التوراة ، لذلك تعد هذه القصة من دلائل نبوة المصطفى عليه الصلاة والسلام ، والدليل : ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ ﴾ وفي نهاية القصة : 

﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102)﴾

[ سورة يوسف  ]

من أعلمك بهذا ؟ أنت رسول الله ، ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ﴾ من أعلمك بهذا ؟ لاشك أنّك رسول الله .  

إذاً في هذه القصة دلائل على نبوة ورسالة المصطفى عليه الصلاة والسلام ورسالته .

 

قصة يوسف فيها كل مقومات القصة :


الشيء الذي يلفت النظر أنّ القصة كفن أدبي بلغت أعلى مستواها في هذه العصور ، أي تعد القصة الآن أكبر فنون الأدب ، وأوسع الفنون انتشاراً ، ولها مقومات فنية دقيقة دقة بالغة ، هناك مجلدات تدرس فنّ القصة ، بحث الشخصيات ، تصوير الشخصيات ، الشخصيات التحليلية ، الشخصيات التمثيلية ، بحث عن الحوار ، وأنواع الحوار والسرد والوصف والحوار التمثيلي ، والحوار التحليلي ، وعرض خبايا النفس من خلال الحوار ، وبحث عن البيئة وتفاعلها مع الشخصيات والحوادث ، وبحث عن حبكة القصة ، وعن تقديم هذا الحدث ،  وعن تأخيره .

إنّ قصة سيدنا يوسف فيها كل المقومات الفنية للقصة الحديثة من دون إخلال بالغرض الديني ، بالعكس إنّ الخصائص الفنية لهذه القصة تعد في خدمة الغرض الديني لها ، هذا درس لنا ، إذا أردت أن تدعو إلى الله عز وجل ليكن كلامك بليغاً ، ليكن كلامك رائعاً ، ليكن مسبوكاً سبكاً حسناً ، فإذا سخّرت خصائص الفن التعبيري لمضمون بليغ فقد حققت هدفاً نبيلاً ، ماذا تجد ؟ تجد شاعراً كبيراً سخّر طاقاته اللغوية والأدبية لأهداف خسيسة ، لوصف نزواته الشخصية ، لوصف مشاعره تجاه امرأة ، لوصف امرأة ، هذه القدرات البلاغية واللغوية والأدبية سخّرت لأغراض دنيئة ، وقد تجد إنساناً يؤمن بالله عز وجل ، وينطوي على أفكار وعقائد في غاية الأهمية ، إذا أراد أن يعرضها لا يقوى على عرضها عرضاً بيانياً رائعاً ، لذلك يُنَفِّرُ الناس منها ، فإذا سخرت القدرات اللغوية والأدبية والفنية لعرض الحق عرضاً واضحاً دقيقاً جذاباً مؤثراً سحرياً فقد حققت الكمال في المضمون والشكل ، لذلك : تعلّموا العربية فإنّها من الدين .

أنا أغريكم ؛ ولو تقدمت بكم السن ، ولو تجاوزتم سني الدراسة أن يكون لكم في الأسبوع جلسة مع هذه اللغة التي تقرؤون القرآن بها ، لغتكم لغة آبائكم وأجدادكم .

 

مضمون قصة يوسف هو التوحيد :


شيء آخر في هذه القصة أنّ مضمونها كله حول التوحيد ، وقد جاء مغزاها في آية واحدة :

﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) ﴾

[ سورة يوسف  ]

(( عبدي خلقت لك السماوات والأرض ولم أعيَ بخلقهن أفيعييني رغيف أسوقه لك كل حين ؟ وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك فلأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي ، أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد . ))

[ قد صرح شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى أن هذا الحديث من الإسرائيليات  ليس بحديث، وهو من الإسرائيليات ]

يجب أن تؤمن إيماناً راسخاً أنّه إذا أردت ما أراده الله سعدت في الدنيا ، وإن لم ترد ما أراده الله أتعبك الله في الدنيا ، ثم لا يكون إلا ما أريد .

ماذا أراد أخوة يوسف ؟ أن يقتلوه ، ماذا أرادوا ؟ أن يضعوه في الجب ، أن يعزلوه عن أبيه ، أرادوا به كيداً ، أراد الله له أن يكون نبياً ، أن يكون عزيز مصر ، خرج مرة في موكبه فرأته جارية تعرفه يوم كان عبداً في هذا القصر فقالت قولتها الشهيرة : سبحان الذي جعل العبيد ملوكاً بطاعته ، وجعل الملوك عبيداً بمعصيته ، أي هذا الموقف :

﴿ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)﴾

[ سورة الحشر ]

﴿ وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)﴾

[ سورة يوسف  ]

هذا الموقف رفعه إلى أعلى عليين ، جعله نبياً ، جعله عزيز مصر ، جعله في قمة المجتمع ، ودخل عليه إخوته وهم صاغرون :

﴿ قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90)﴾

[ سورة يوسف  ]

فقالوا له : يا أخانا اغفر لنا ، اغفر لنا ذنبنا ، فأجابهم : ﴿ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ ماذا أراد الله له ؟ أرادوا أن يقتلوه ، وضعوه في غيابت الجب ليكون عبداً طوال حياته ، أراد الله له أن يكون نبياً وعزيزاً وحاكماً ، إذاً  : 

كن مع الله تر الله معك            واتــــرك الكل وحاذر طمعـك 

وإذا أعطاك من يمنعـــــه            ثـم من يعطي إذا ما منعك

***

 

الله سبحانه وتعالى أمره هو النافذ فقط :


﴿ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ الله سبحانه وتعالى أمره هو النافذ ، من أدعية النبي عليه الصلاة والسلام  :

(( عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما أصاب أحدًا قطُّ همٌّ ولا حَزَنٌ فقال : اللهمَّ إني عبدُك ابنُ عبدِك ابنُ أمَتِك ، ناصيَتي بيدِك ، ماضٍ فيَّ حُكمُك ، عَدْلٌ فيَّ قضاؤُك ، أسألُك بكلِّ اسمٍ هو لك سميتَ به نفسَك ، أوْ علَّمْتَه أحدًا مِنْ خلقِك ، أو أنزلته في كتابِك ، أو استأثرتَ به في علمِ الغيبِ عندَك ، أنْ تجعلَ القرآنَ ربيعَ قلبي ، ونورَ صدري ، وجلاءَ حُزني ، وذهابَ هَمِّي إلا أذهب اللهُ همَّه وحُزْنَه ، وأبدله مكانه فَرَجًا ، قال : فقيل : يا رسولَ اللهِ ألا نتعلمُها ؟ فقال : بلى ينبغي لِمَنْ سمِعها أنْ يتعلمَها . ))

[ تخريج المسند لشاكر إسناده صحيح : أخرجه أحمد واللفظ له، وابن حبان (972)، والطبراني  ]

أحياناً أخ كبير يغتصب ثروة أخيه الصغير ، يموت الأب يترك ميراثاً واسعاً ، كبير وصغير ، يأتي الكبير فيغتصب مال الصغير ، هكذا أراد ، ولكنّ الله له إرادة أخرى ، هذا الصغير يوفقه الله ويوفقه الله فيشتري من الكبير ، حتى يصبح الكبير فقيراً وهو أجير عند الصغير ، ﴿ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾ قد تُطلق هذه المرأة ظلماً ، تريد أن تحطمها ، أن تسحقها ، أن تجعلها في أسفل سافلين ، يأتي إنسان آخر فيتزوجها ، ويرفع شأنها ، ويكرمها ، وقد تكون أنت أجيراً عنده ، وقد يستخدمك لنقل حاجاته إلى البيت ، تفتح لك الباب ، تقول لك : ضع الأغراض هنا ، أنت ماذا أردت حينما طلقتها ؟ أن تحطمها ، ماذا أراد الله ؟ أن يرفعها ، (( أنت تريد وأنا أريد فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد )) ﴿ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ ..هذا من معاني هذه القصة .

 

إشارات مهمة في قصة سيدنا يوسف عليه السلام :


شيء آخر ؛ في القصة إشارة إلى حتمية نصر الله سبحانه وتعالى  :

﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) ﴾

[  سورة يوسف ]

أي إذا قرأت هذه القصة يمتلئ قلبك ثقة بنصر الله ، يمتلئ قلبك ثقة بأنّ الله سبحانه وتعالى لابد من أن يفرِّج عن عباده ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ ﴾ أي حتى أنّ اليأس وصل إلى الرسل ، كانوا آخر الناس يأساً : ﴿ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ ، وهذا مما تشتمل عليه هذه القصة الكريمة .

شيء آخر ؛ هناك إشارات في هذه القصة إلى موضوعات عدة منها لفت نظر إلى الكون :

﴿ وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105)  ﴾

[ سورة يوسف ]

دعوة إلى التفكر في آيات الله التي بثها الله في السماوات والأرض .

شيء آخر ، في القصة تقريع لهؤلاء المؤمنين الذين هم في تصرفاتهم مشركون ، في عقيدتهم مؤمنون ، في تصرفاتهم مشركون ، هذا الذي يعصي ربه خوفاً من إنسان هو مشرك ، هذا الذي يتقاعس عن مجلس علم خوفاً من إنسان أو إرضاءً لإنسان عند الله مشرك:

﴿ وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103)  ﴾

[ سورة يوسف ]

﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ﴾ .

شيء آخر ، هناك إشارة إلى التاريخ  :

﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) ﴾

[ سورة يوسف ]

دعوة إلى الاتعاظ بأحداث التاريخ السابقة .

وفي القصة إشارة إلى أنّ كل أمة لا تستقيم على أمر الله ، وتكذب بآيات الله لابد من أن يهلكها الله سبحانه وتعالى : 

﴿ أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107) ﴾

[ سورة يوسف ]

وفي نهاية المطاف إشارة إلى علامة صادقة من علامات الدعاة الصادقين  :

﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾

[ سورة يوسف ]

علامة الداعية الصادق أنه يدعوك على بصيرة لا على عمى .

في القصة مقدمة فيها إشارة إلى قيمة اللغة العربية ، وإلى قيمة أسلوب القصة في التوجيه ، والقصة لها مغزى كبير ، وهو وحدانية الله سبحانه وتعالى ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ ، وفي القصة تعقيبات وإشارات كثيرة أتيت على ذكرها ، وسوف نبدأ بشرح هذه القصة في الدرس القادم إن شاء الله تعالى .

والحمد لله رب العالمين 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور