وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 02 - سورة يوسف - تفسير الآيات 4 – 10 ، لماذا هي أحسن القصص؟
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، و انفعنا بما علمتنا ، وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .

 

سورة يوسف من أحسن القصص :


أيها الإخوة المؤمنون ، ربنا سبحانه وتعالى قال في سورة هود :

﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)﴾

[  سورة هود  ]

في سورة هود قصّ ربنا سبحانه وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم قصص الأنبياء ، وما عانوه من أقوامهم ، وفي هذه السورة قصة سيدنا يوسف يقص عليه هذه القصة ليثبت به فؤاده ، لأنّ هذا النبي الكريم لم يعان من قومه ، بل هو عانى من إخوته ، فإذا كانت المعاناة من الأقوام فالنبي صلى الله عليه وسلم له بالأنبياء الصادقين أسوة حسنة ، وإن كانت المعاناة من الأقربين فله في سيدنا يوسف أسوة حسنة ، ونحن إن جاءتك المتاعب من الأباعد فهذا درس يوضع أمامك ، وإن جاءتك المتاعب من الأقارب ، من الأهل ، من الإخوة فلك في هذا النبي الكريم أسوة حسنة . 

بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ ﴾ ..

لماذا سمّى ربنا سبحانه وتعالى هذه القصة أحسن القَصص ؟ قال بعضهم : لأنّ مغزاها يقوم على العفو والتسامح والرأفة والرحمة ، موقف سيدنا يوسف في نهاية القصة من إخوته الذين كادوا له ، وائتمروا على قتله ، ثم وضعوه في غيابة الجب ، كان موقفه موقفاً إنسانياً رقيقاً رحيماً .

وقال بعضهم : لأن فيها ذكرى الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين والعلماء والتجار ، فيها ذكر الحبّ الأبوي ، والغيرة ، والمكر ، والخداع  ، والعفو ، والفرح ، وفيها ذكر البيئات بيوت الملوك ، وقصور الملوك ، والأسواق ، والسجن ، أي فيها أشياء منوعة جداً ، مواقف إنسانية ، وبيئات بشرية ، وما إلى ذلك .

﴿ وَإِنْ كُنتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الْغَافِلِينَ ﴾ تحدثت في الدرس الماضي عن هذه الآية ، وكيف أنّ النبي عليه الصلاة والسلام مما نثبت به نبوته جاء بقصص لا يعلمها أحد ، وقد جاءت في الكتب السابقة . 

 

الرؤيا حق ولولا أنّها حق لما جعلها الله من لوازم ابن آدم :


الآن المشهد الأول إن صحّ أنّ لهذه القصة مشاهد : ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ .. سيدنا يعقوب عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام له ولدان من زوجة ، وأحد عشر ولداً من زوجة أخرى ، سيدنا يوسف وأخوه من زوجة كانا صغيرين ، وكانا أثيرين على قلبه ، كان يحبهما حباً جماً لأسباب كثيرة ، الأم سئلت : أيّ أولادك أَحبُ إليك ؟ قالت : الصغير حتى يكبر ، والغائب حتى يرجع ، والمريض حتى يشفى ، على كل كان هذا الابن وما حباه الله من وسامة وجمال ، ورقة ونعومة ، وتحبب إلى قلبه ، كان سيدنا يوسف آثَرَ الأولاد إلى قلب أبيه ، رأى رؤيا ، والرؤيا لها بحث يطول ، ما منا واحد إلا ويرى في المنام رؤى ، هل هذه الرؤى باطلة ؟ وما فائدتها ؟ ولماذا يرى الإنسان ؟ 

بادئ ذي بدء ، حينما يرى الإنسان في المنام رؤيا لا شك أنّ نفسه تنفصل عن جسده ، مما يثبت الحياة النفسية أنّك قد تكون نائماً فتنتقل من مكان إلى مكان تفرح أو تحزن ، تسعد أو تشقى ، تتألم أو تُسر ، كله وأنت في الفراش ، إذاً لك حياة نفسية ثابتة ، والله سبحانه وتعالى حينما جعل الرؤيا من لوازم بني آدم ، من لوازم النفس الناطقة ، الرؤيا من لوازم النفس الناطقة ، حينما جعل الرؤيا من لوازم النفس الناطقة جعل لها هدفاً كبيراً .

العلماء قالوا : الرؤيا من الله عز وجل ، أو من المَلك ، أو من الشيطان ، بعضهم قسمها تقسيماً آخر : رؤيا من الشياطين ، هي أضغاث أحلام ، أي لا معنى لها ، تناقض ، تضارب ، يصعب تفسيرها ، أغلب الظن أنّها تأتي بعد عشاء دسم ، أو إنّ الرؤيا تعبير عن رغبات جامحة تعسر على صاحبها أن يحققها في النهار ، رغبات مكبوتة يراها الإنسان في منامه ، الرغبات المكبوتة هي أضغاث الأحلام ، أو الرؤى ، أو المنامات التي يراها الإنسان من قِبَل الشياطين هذه خارج موضوعنا اليوم ، ولكنّ الله سبحانه وتعالى قد يتفضل على إنسان فيريه رؤيا من عنده ، قالوا : هذه الرؤيا التي من عند الله سبحانه وتعالى لا تحتاج إلى تفسير لشدة وضوحها ، والرؤيا التي تكون من قِبَل المَلَك تحتاج إلى تأويل ، من هنا كان تأويل الرؤيا . 

وفي الحديث عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( لَنْ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الْمُبَشِّرَاتُ ، فَقَالُوا : وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ ، أَوْ تُرَى لَهُ ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ . ))

[ موطأ مالك ]

النبي عليه الصلاة والسلام والأنبياء جميعهم عليهم الصلاة والسلام يأتيهم الوحي ، أي إذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يبشر عبده المؤمن ، أو أن يحذره ، أن يعلمه بمقامه ، أن يشجعه ، أن يخيفه ، أن يبعده عن معصية ، ما الطريقة لنقل هذه البشارة أو هذا الإنذار ؟ هذا التخويف ؟ هذا الوعد ؟ هذا الوعيد ؟ هذا التعريف ؟ هذا الإعلام ؟ ما الطريقة ؟ ((.... الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ ، أَوْ تُرَى لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ )) .

قال عليه الصلاة والسلام : لَنْ يَبْقَى بَعْدِي مِنَ النُّبُوَّةِ إِلاَّ الْمُبَشِّرَاتُ ، فَقَالُوا : وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ ، أَوْ تُرَى لَهُ ، جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ .

 أي أحياناً يراك أخوك في المنام بحالة راقية ، وأنت تدعو إلى الله ، وأنت تفعل الصالحات ، وأنت في الحج ، وأنت في العمرة ، هذه الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرى له .

على كلٍّ ؛ الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه رأى في المنام مَلَك الموت فقال : يا مَلَك الموت كم بقي لي في الحياة ؟ فأشار مَلك الموت بكفه هكذا يعني بها خمسة ، فلما أفاق وقع الإمام مالك في حيرة شديدة ، أترى بقي له خمس سنوات أم خمسة أشهر أم خمسة أيام أم خمس ساعات أم خمس دقائق أو خمس ثوان ؟ فتوجه إلى ابن سيرين ، وكان عالماً بالتأويل ، فقال : يا بن سيرين ، رأيت كذا وكذا ، فقال : يا إمام ، يقول لك مَلَك الموت : إنّ هذا السؤال من خمسة أشياء لا يعلمها إلا الله .

فالرؤيا حق ، ولولا أنّها حق لما جعلها الله سبحانه وتعالى من لوازم ابن آدم ، والشيء الثابت أنّ الرؤيا تؤكد الحياة النفسية ، الإنسان قد ينام نوماً مُسعداً ، قد يستيقظ على رؤيا صالحة يتمنى ألا يفيق ، يتمنى أن تبقى حاله أياماً طويلة ، يزعجه أن يرى نفسه في الفراش ، أن يرى نفسه في البيت ، وقد يرى رؤيا مخيفة تبث في قلبه الرعب ، وترتعد فرائصه ، على كل بعض العلماء قالوا : الرؤيا على أربعة أقسام ، إن كنت مستقيماً على أمر الله ورأيت رؤيا سعدت بها فهذه بشارة من الله سبحانه وتعالى ، وإن كنت مستقيماً على أمر الله ورأيت رؤيا فزعت منها ، فهذا تخويف من الشيطان لا تلتفت إليها ، من رأى رؤيا حسنة فليقصها على من يحب ، ومن رأى رؤيا غير حسنة فلا يقصها على أحد ، وليستعذ بالله منها ، لا تقصها على أحد . 

 

الرؤيا أربع حالات :


شيء آخر ، كان عليه الصلاة والسلام يأمرنا أننا إذا رأينا رؤيا أفزعتنا فلنقم ولنصلّ ، بشكل مختصر الرؤيا وسيلة من وسائل الاتصال بين المؤمن وبين الله سبحانه وتعالى ، وبشكل أوسع بين العبد وبين ربه ، لأن العبد الضال الشارد قد يرى رؤيا تتحقق ، على كلّ إذا رأى رؤيا أفزعته وكان غير مستقيم على أمر الله فهذه الرؤيا من الرحمن ، فإذا كان منحرفاً ورأى أنّه يلبس ثياباً بيضاء وفي بستان جميل فهذه الرؤيا من الشيطان ، إنّها توريط له .

 أحياناً يأتي الشيطان لبعض الأقارب وقد توفي قريبهم فيراه في المنام بشكل حسن ، فيقول : فلان في هيئة طيبة ، وقد أكرمه الله ودخل الجنة ، ويكون قد أكل المال الحرام ، وفعل الموبقات ، فهذه الرؤيا من الشيطان ، الأصل أن تنظر إلى سلوك هذا الإنسان وعمله ، فإن كان مستقيماً ورأى رؤيا أفرحته فهي من الله بشرى ، وإن رأى رؤيا أفزعته فهي من الشيطان تخويف ، وإن كان منحرفاً ورأى رؤيا أفزعته فهذه من الرحمن تحذير ، وإن رأى رؤيا أفرحته فهذه من الشيطان تغرير ، أربع حالات .

 

رؤيا الأنبياء حق :


لكنّ هناك ملاحظة ينبغي أن تعرفوها هي أنّك إذا رأيت رؤيا لا سمح الله أفزعتك فاعلم علم اليقين أنها من الشيطان ، ولكن عليك أن تؤمن بالرؤيا لأنّ الله سبحانه وتعالى ذكرها في القرآن الكريم في أماكن عدة .

هذا النبي الكريم ، هذا الطفل الوديع ، هذا الغلام الوسيم ، قال : ﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ .. أما كلمة( رأيتهم ) لو أنّ الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر هي على حقيقتها أحد عشر كوكباً وشمساً وقمراً يجب أن يقول : رأيتها ، هذه جمع مَن لا يعقل ، أما حينما قال : رأيتهم ، فقد حمل الشمس والقمر والأحد عشر كوكباً على محمل العقلاء ، إذاً فَهِمَ سيدنا يعقوب من هذه الرؤيا أنّ لهذا الغلام الوسيم مستقبلاً كبيراً وشأناً عظيماً في ميدان الدين ، وميدان القرب من الله عز وجل ، وبعضهم قال : إنّ تفسير هذه الرؤيا أنّ إخوته الأحد عشر وأمه التي هي الشمس ، وقيل : خالته زوجة أبيه ، لأنّ الخالة بمقام الأم ، وقد توفيت أمه ، والقمر أبوه ﴿ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ .. أي خاضعين . 

وبعضهم قال : إنّ الشمس جزؤها الأعلى انحنى نحو الأسفل ، وهذا معنى السجود ، والقمر كذلك جزؤه الأعلى انحنى نحو الأسفل ، أي هذه الرؤيا تعبِّر عن أنّ هذا الغلام الوسيم سيكون له مستقبل في ميدان القرب من الله عز وجل يفوق أباه وأمه وإخوته أجمعين ، هذه هي الرؤيا . 

﴿ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ ﴾ هناك تكرار ، إنّي رأيت رأيتهم ، رؤيا الأنبياء حق ، قال تعالى :

﴿ فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) ﴾

[ سورة الصافات  ]

رؤيا الأنبياء حق .

 

على المرء ألا يظهر ما عنده تجنباً للحسد :


﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ ﴾ .. عرف هذا الأب الشفوق ، وهذا الأب الرحيم أنّ إخوة يوسف قد تقع في قلبهم الغيرة ، وقد يقع في قلبهم الحسد ، والشيء الثابت أنّ الأب والأم فقط لا يحسدان ابنيهما ، ولا يغاران منه ، أما الإخوة فقد تأكل قلبها الغيرة ، وقد يدب الحسد فيما بين الإخوة : ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ ﴾ من هنا استنبط العلماء أنّ على المرء ألا يظهر ما عنده ، وألا يظهر فضله ، وألا يبالغ في إظهار علمه ، وإظهار المقدرات التي وهبه الله إياها ، فلعل أحداً يحسده ، ولعل أحداً يتمنى زوال النعمة عليه ، وأن تتحول إليه ﴿ قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ ﴾ .

على كل عن سهل بن عبد الرحمن الجرجاني عن محمد بن مطرف عن محمد بن المنكدر عن عروة بن الزبير عن أبي هريرة مرفوعا. قال عليه الصلاة والسلام :

(( استعينُوا على إنْجَاحِ الحَوَائِجِ بالكتمَانِ ، فإنَّ كلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ . ))

[ السلسلة الصحيحة (3/436)، حديث رقم (1453)، وفي صحيح الجامع برقم (943) ]

 وقال بعض الشعراء :

ليس الغبي سيداً في قومه                   لكنّ سيد قومه المتغابي

***

أي من الذكاء أحياناً أن تبدو وكأنك غبي ، لأنك لو بدوت للناس ألمعياً لمكروا بك مكراً شديداً ، إذاً : ليس من المستحب أن تظهر كل ما عندك ، أن تزهو على الناس بما وهبك الله عز وجل ﴿ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ الشيطان يحب أن يوقع العداوة والبغضاء فيما بين الناس ، وفيما بين الأقارب ، وفيما بين الزوجين ، وفيما بين الأخوين ، وفيما بين الشريكين . 

 

النبوة هبة من الله لكنها من دون كسب :


﴿ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ معنى يجتبيك أي يختارك ويصطفيك ، وبعضهم فهم أنّ النبوة هبة من الله سبحانه وتعالى ، وهي كذلك ، لكنها من دون كسب ، قوله تعالى :

﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)﴾

[ سورة آل عمران  ]

معنى اصطفى أي اختار من بين خلقه المتفوقين ، اختار من بين خلقه الصادقين ، اختار منهم أنبياء ، إذا نظر المعلم في الصف ، وتفرس وجوه التلاميذ واحداً واحداً فاختار منهم أشدهم أخلاقاً ، أرقاهم أخلاقاً ، وأعمقهم وعياً ، وأشدهم إدراكاً ، وأكثرهم تحصيلاً ، اختاره ، وجعله عريفاً على زملائه ، هل نقول : إنّ هذا الاختيار محض صدفة ؟ لا ، إنّه اصطفاء ، هل نقول : إنّ العَرَافة هبة ؟ نعم ولا ، هو اختاره ، ولكن لماذا اختاره بالذات ؟ لأنّه متفوق﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ﴾ وفي آية اخرى :

﴿ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26)لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) ﴾

[ سورة الأنبياء  ]

﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ ﴾ أي يجب أن تعلم علم اليقين أنّ الخلق كلهم عند الله سواسية  ليس بين الله وبينهم قرابة إلا طاعتهم له :

كُن ابن من شئت واكتسب أدباً                     يغنيك محموده عن النسب

***

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :

(( اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ . ))

[ صحيح البخاري  ]

حينما كان بلال رضي الله عنه يقدم إلى المدينة كان سيدنا عمر الخليفة الراشد يخرج لاستقباله ، سيدنا أبو بكر رضي الله عنه أعتقه ، اشتراه من سيده وأعتقه ، قال سيده : لو دفعت به درهماً واحداً لبعتكه ، لقلّة شأنه ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : والله لو طلبت ثمنه مئة ألف درهم لأعطيتكها ، وضع سيدنا الصديق يده على كتفه تعبيراً عن الأخوة ، وقال: هذا أخي حقاً .

 سيدنا عمر كان بلال وصهيب يدخلان عليه بلا استئذان ، جاء أبو سفيان زعيم قريش فوقف في بابه ساعات فلم يؤذن له ، فلما دخل عليه عاتبه ، قال : بلال وصهيب يدخلان بلا استئذان وأبو سفيان يقف أمام بابك الساعات الطوال ؟! فقال : يا أبا سفيان أنت مثلهما ! أنت مثلهما أين الثرى من الثريا ؟ أين كنت حينما كانا يعذبان في الله ؟ أين كنت حين كانا يجاهدان في سبيل الله ؟ أين كنت حين كانا يخدمان رسول الله ؟ أين كنت ؟ ليس بين الله وبين عباده أية قرابة إلا الطاعة ، لو أنّك أطعت الله عز وجل لسبقت مئة ألفِ ألف إنسان ، كلكم من آدم وآدم من تراب . 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾

[ سورة الحجرات  ]

هذه الآية تكفي : ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ .

بدرت كلمة من سيدنا أبي ذر في ساعة غضب ، فقال لبلال : يا بن السوداء ، فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن غضب غضباً شديداً وأعرض عنه ، وقال :

(( لَقِيتُ أبَا ذَرٍّ بالرَّبَذَةِ ، وعليه حُلَّةٌ ، وعلَى غُلَامِهِ حُلَّةٌ ، فَسَأَلْتُهُ عن ذلكَ ، فَقالَ : إنِّي سَابَبْتُ رَجُلًا فَعَيَّرْتُهُ بأُمِّهِ ، فَقالَ لي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ : يا أبَا ذَرٍّ أعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ ، إخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ ، جَعَلَهُمُ اللَّهُ تَحْتَ أيْدِيكُمْ ، فمَن كانَ أخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ ، فَلْيُطْعِمْهُ ممَّا يَأْكُلُ ، ولْيُلْبِسْهُ ممَّا يَلْبَسُ ، ولَا تُكَلِّفُوهُمْ ما يَغْلِبُهُمْ ، فإنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فأعِينُوهُمْ . ))

[  صحيح البخاري ]

فلم يرضَ أبو ذر إلا أن يضع رأسه على الأرض ليطأ رأسه بلال بقدمه حتى كفّر عن سيئته .  عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ : حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ :

(( حَكيتُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رجلًا فقال ما يسرُّني أني حكيتُ رجلًا وإنَّ لي كذا وكذا . قالت : فقلتُ : يا رسولَ اللهِ ، إنَّ صفيَّةَ امرأةٌ وقالت بيدِها هكذا ! كأنها تعني : قصيرةٌ ، فقال : لقد مُزِجَتْ بكلمةٍ لو مُزِجَ بها ماءُ البحرِ لَمُزِجَ . ))

[ سنن الترمذي ، حسن صحيح  ، أخرجه أبو داود  ]

فما بال الناس اليوم يسهرون وينهشون بأعراض بعضهم بعضاً !!

﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ ﴾ اختارك على علمك  ، اختارك لصدقك  ، اختارك لما تنطوي عليه من محبة له  ، من إخلاص  ، من طهر  ، من عفاف .

 

الهدى من تمام النعمة :


﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ ويبدو أنّ تأويل الأحاديث شيء عظيم ، الله سبحانه وتعالى يتفضل به على بعض خلقه ، تأويل الأحاديث أن تعرف ما الذي يعني هذا الحديث ، ما القصد البعيد من هذا الحديث ، هذا شيء عظيم ، مما اختص به هذا النبي الكريم تأويل الأحاديث .

ومعنى أوّل مأخوذ من فعل أَوَلَ ، وأَوَلَ أي إرجاع الحديث إلى أصله ، إلى مقصد قائله ، ماذا أراد الله بهذا الكلام ؟ ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ العلماء قالوا : تمام النعمة الهدى ، لو أنّك تملك نعم الأرض كلها ولم تكن مهتدياً فهذه كلها ليست نعماً ، ربنا سبحانه وتعالى يقول :

﴿ وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) ﴾

[  سورة الدخان  ]

ليست نعمة ، يمكن أن تمثل الهدى بواحد ، والمال بصفر أمامه ، المال والهدى نعمتان متكاملتان ، يمكن أن تمثل الزوجة الصالحة بصفر آخر ، صاروا مئة ، يمكن أن تمثل الأولاد الأبرار بصفر ثالث ، صاروا ألفاً ، يمكن أن تمثل البيت الواسع بصفر رابع ، صاروا عشرة آلاف ، يمكن أن تمثل المركب الوطيء بصفر سادس ، صاروا مليوناً ، يمكن أن تمثل أن يكون رزقك في بلدك بصفر سابع ، فإذا حذفت الواحد فكل شيء أصبح أصفاراً ، تمام النعمة الهدى : 

﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)﴾

[ سورة الفجر ]

هذه مقولته ، وليس قوله صحيحاً ، ليس هذا إكراماً ، يُعد المال إكراماً إذا كنت مهتدياً ، لأنك إذا كنت مهتدياً أنفقته في طاعة الله فكان زاداً لك إلى الأبد ، صح ، صار المال نعمة ، يمكن أن تكون الزوجة الصالحة نعمة إذا عرفت ربها ، وكانت محجبة ، وكانت مصلية ، وكانت طائعة لزوجها ، إذاً هذه نعمة ، وكان هذا على يدك إذاً تسعد بها إلى الأبد ، فإن لم تكن كذلك تشقى بها إلى الأبد ، قد يكون الابن نعمة إذا تولى الأب تربيته ، وأفلح في ذلك ، أما إذا أهمله جاء يوم القيامة يقول : يا رب ، لا أدخل النار حتى أُدخل أبي قبلي .

النبي عليه الصلاة والسلام – في بعض الأحاديث التي أحفظها – يقول :

(( عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أربع من السعادة : المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والجار الصالح ، والمركب الهنيء ، وأربع من الشقاوة : الجار السوء ، والمرأة السوء ، والمسكن الضيق ، والمركب السوء . ))

[ روى ابن حبان في صحيحه وأحمد في مسنده وصححه الألباني في "الصحيحة ]

 من تمام النعمة في الدنيا أن تكون زوجته صالحة ، وأولاده أبراراً ، ومنزله واسعاً ، ومركبه وطيئاً ، ورزقه في بلده ، لكنّ هذه النعم المتعلقة بالدنيا إن لم يكن معها الهدى لا قيمة لها ، إنّ الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب .

 

الله تعالى عليم باصطفاء أنبيائه :


﴿ وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ عليم باصطفاء أنبيائه ، أي هذا النبي الكريم العلامات الدالة على نبوته كثيرة ، وإذا سألت عنها فإليك هذه الآية: ﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ .. إخوة يوسف اجتمعوا ، يبدو أنّ هذه الرؤيا وصلت إليهم ، نقلت إليهم بشكل أو بآخر ، أو أنّ حبّ أبيهم له ، وتعلقه به ، وإيثاره عليهم ، هو الذي فعل في نفسهم هذا الحسد والضغينة ، على كل : ﴿إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ﴾ .. نحن عصبة أي نحن رجال أشداء ، نحن عون لأبينا ، يجب أن يلتفت إلينا ، يجب أن يحبنا نحن مكان يوسف ، نحن الذين نعينه ، نحن الذين نعاونه ، نحن الذين ندافع عنه ، نحن الذين نلبي حاجاته ، فما باله يُعنى بأخينا الصغير ؟ فاتهم أنّ هذا الصغير بشّره الله سبحانه وتعالى بمستقبل عظيم ، وكانت علامات الوسامة والنجابة والوداعة والرقة والنعومة بادية عليه .

 

إجماع إخوة يوسف على قتله :


﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ ﴾ جاء الرأي أن يقتلوه  ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

(( لَنْ يَزَالَ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا . ))

[ البخاري ]

﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)﴾

[ سورة المائدة  ]

إن قتلها لعل هذه النفس المقتولة تكون شخصية خطيرة في المجتمع ، لعل هذه النفس المقتولة تكون مصلحاً اجتماعياً ، عالماً كبيراً ربانياً ، فإذا قتلتها قتلت الناس جميعاً ، وإذا أحييت نفساً بالهدى فكأنك أحييت الناس جميعاً ، قد يهتدي الإنسان على يديك ، ويهتدي بهداه مئة ألف أو يزيدون ، إنّك الذي هديت كل هؤلاء حينما هديت هذا الإنسان ، لذلك :

(( عن سهل بن سعد الساعدي أنَّ رَسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ يَومَ خَيْبَرَ: لَأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ علَى يَدَيْهِ ، يُحِبُّ اللَّهَ ورَسولَه ، ويُحِبُّهُ اللَّهُ ورَسولُهُ ، قالَ : فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ : أيُّهُمْ يُعْطَاهَا ؟ فَلَمَّا أصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا علَى رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُلُّهُمْ يَرْجُو أنْ يُعْطَاهَا ، فَقالَ : أيْنَ عَلِيُّ بنُ أبِي طَالِبٍ ؟ فقِيلَ : هو -يا رَسولَ اللَّهِ- يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ ، قالَ : فأرْسَلُوا إلَيْهِ . فَأُتِيَ به فَبَصَقَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في عَيْنَيْهِ ودَعَا له ، فَبَرَأَ حتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ به وجَعٌ ، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ ، فَقالَ عَلِيٌّ : يا رَسولَ اللَّهِ ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا ؟ فَقالَ : انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا ، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ . ))

[ صحيح البخاري ]

ما بال الناس يزهدون بهذا العطاء المغري ؟! هذا عرض مغر : خير لك من الدنيا وما فيها ، خير لك مما طلعت عليه الشمس ، لو أنك تملك بيوت الشام كلها ، كل بيت بمليونين وسطياً ، كم تملك ؟ لو أنك تملك الأسواق التجارية كلها ، كل متر بمئتين وخمسين ألفاً بالحمراء ، كم تملك ؟ لو أنك تملك المدن كلها ، المعامل الضخمة كلها ، كم تملك ؟ هذه المعامل الضخمة التي يوزع إنتاجها في أنحاء العالم ، لو أنك تملك بيوت الأرض ، والأراضي في كل أنحاء القارات ، والمدن بأسواقها ومحلاتها وحدائقها وجسورها ومتنزهاتها ، لو أنك تملك المعامل كلها : (( لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس ، خير لك من حُمَر النعم ، خير لك من الدنيا وما فيها)) .

 عَنْ ابْنَ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ)) ، هذا العرض المغري لماذا يبتعد الناس عنه؟ لذلك إذا تعلمت فعلِّم ، إذا فهمت آية فعلِّمها : عَنْ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:

(( خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ . ))

[ صحيح البخاري ]

(( عن أنس بن مالك :  من جمع القرآنَ متَّعَه اللهُ بعقلِه حتى يموتَ . ))

[  محمد جار الله الصعدي : النوافح العطرة :  خلاصة حكم المحدث : ضعيف  ]

العلم خير من المال ، لأنّ العلم يحرسك وأنت تحرس المال ، والمال تُنقصه النفقة ، والعلم يزكو على الإنفاق ،  يا كُمَيل مات خُزّان المال وهم أحياء - في أوج حياتهم ميتون ، في أوج شبابهم ميتون- والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم في القلوب موجودة. 


عدم قبول التوبة إلا إذا ارتكب الذنب عفواً عن غير قصد :


لذلك : ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ(7)إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ(8)اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ﴾ .. أرضاً هذه نكرة ، اطرحوه أرضاً أي أرضاً مجهولة لا يعرفها أحد لئلا يعود إلى أبيه ﴿ يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ في هذه الآية شيء دقيق جداً ، مثلاً : أحدهم يقول : أنا أفعل هذه المعصية وبعدها أتوب إلى الله عز وجل ، ويقبل توبتي ، وأكون من الصالحين ، هذا مستحيل ، لا تقبل التوبة إلا إذا ارتكب الذنب عفواً عن غير قصد ، إذا ارتكب عن قصد وتصميم فهيهات أن يتوب صاحب هذا الذنب ، هذا تخطيط ، بعد أن نقتل أخانا يخلُو لنا وجه أبينا ، بعدها نتوب إلى الله ، يقبلنا الله عز وجل ، نكون قوماً صالحين ، شيء مضحك ، لا تقبل التوبة إلا إذا كان ارتكاب الذنب عن غير قصد وتصميم ، أما إذا كان هناك تخطيط فهذا استهزاء بالله عز وجل ، التوبة مرفوضة ، قال تعالى :

﴿ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) ﴾

[ سورة الأنعام  ]

يجب أن يكون عمل السوء بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح ، أما أفعل هذه المعصية وبعدها أتوب ، يقبل توبتي ، أكن من الصالحين ، قال لي ذات مرة رجل : إذا فعلت هذا العمل هل هو حرام أم حلال ؟ قلت له : حرام ، قال : أفعله وأتوب ، قلت : هيهات أن تتوب ، لن تتوب ، فهؤلاء إخوة يوسف قالوا : ﴿ اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوْ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ .. يبدو أنّه أعقلهم ، قال قائل منهم وقيل أكبرهم ، وهذا يؤكد تفاوت المواقف ، الإنسان مخير ، بعضهم رأى أنّ القتل أولى ، بعضهم رأى أنّ شيئاً آخر بين القتل وبين التغييب عن الأب : ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ﴾ .. أي بئر على طريق القوافل ، ضعوه في البئر بحيث لا يستطيع الصعود ، ولابدّ من أن تمر قافلة ، إن أدلت بدلوها يتعلق بهذا الدلو ، وتأخذه على أنّه بضاعة ، فتبيعه في سوق العبيد ، وعندئذ لن يرجع إلى أبيه : ﴿ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ﴾ السيارة هنا القافلة التي تسير ﴿ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ ﴾ أي كأنّه يقول : إن صرفتم النظر عن هذا كله فهو أولى ، أما إذا كنتم مصرين على فعلتكم فهذا العمل أفضل من أن تقتلوه ، والله سبحانه وتعالى كما قلنا في درس سابق : 

﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21)﴾

[ سورة يوسف  ]

أي إذا كان الله معك فمن عليك ؟

ومما جاء في الآثار القدسية في الكتب السماوية السابقة :

(( خلقت لك ما في الكون من أجلك فلا تتعب ، وخلقت من أجلي فلا تلعب ، فبحقي عليك لا تتشاغل بما ضمنته لك عما افترضته عليك ، لي عليك فريضة ، ولك عليّ رزق ، فإذا خالفتني في فريضتي لم أخالفك في رزقك ، وعزتي وجلالي إن لم ترضَ بما قسمته لك لأسلطن عليك الدنيا ، تركض فيها ركض الوحش في البرية ، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي وكنت عندي مذموماً ، أنت تريد وأنا أريد ، فإذا سلمت لي فيما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لي فيما أريد أتعبتك فيما تريد ، ثم لا يكون إلا ما أريد ، ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته ، إلا جعلت الأرض هوياً تحت قدميه ، وقطعت أسباب السماء بين يديه ، وما من مخلوق يعتصم بي من دون خلقي ، أعرف ذلك من نيته فتكيده أهل السماوات والأرض إلا جعلت له من بين ذلك مخرجا ))

 

قصة يوسف تبين أن من كان مع الله كان الله معه :


أرجو الله عز وجل ألا تكون قراءتنا لهذه القصة كقراءتنا لأية قصة ، هذه قصة يتلوها علينا ربنا ، وليست العبرة أن نعرف أحداثها ، ولا أن نكشف شخصياتها ، ولا أن نعرف عقدتها ولا مغزاها ، الأولى أن نتخذ منها درساً بليغاً ، كن مع الله تر الله معك ، سيدنا يوسف غلام صغير لا حول له ولا قوة ، ولا شأن ، ولا يملك حيلة ، ضعيف ، ألقي في غيابة الجب ، في البرية ، في الفلاة ، حيث لا إنسان ، جاءت سيارة أرسلوا واردهم أدلى دلوه ، قال : يا بشرى هذا غلام ، أسروه بضاعة ، اشتراه عزيز مصر ، دخل القصر ، مكّن الله له في الأرض ، رأى الملك رؤيا فسّرها له ، رفعه الله إلى مرتبة عزيز مصر ، وأين إخوته ؟ يقفون على بابه من أجل أن يأخذوا نصيبهم من القمح ، للقصة تفصيلات طويلة نأخذها في درس قادم إن شاء الله تعالى ، والذي أظنه أنّ هناك استنباطات عديدة لم أتمكن من نقلها لكم في هذا الدرس ، أرجو من الله عز وجل أن أنقلها لكم في درس قادم .

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور