وضع داكن
25-04-2024
Logo
دروس حوارية - الدرس : 13 - الصحابي الجليل سهيل بن عمرو
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين ، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا ، إنك أنت العليم الحكيم ، اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين ، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم ، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

قصة مؤثّرة وعبرة بالغة :

 أيها الإخوة الكرام ، موضوع الدرس اليوم طارئ على سياق الموضوعات ، السبب أنني تأثرت بهذه القصة تأثراً شديداً ، ورأيت منها ملمحاً واضحاً جداً في دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ، ولو أن المسلمين حينما يدعون إلى الله اتبعوا توجيهات النبي وأسلوبه في الدعوة لكنا في حال غير هذا الحال ، ولكان موقف الطرف الآخر منا موقفاً آخر .
 هذا الخطيب البليغ سهيل بن عمرو الذي كان مندوب قريش في مفاوضة النبي عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية ، هذا الإنسان الذي رفض أن يكون في نص الاتفاقية : " هذا ما اتفق عليه محمد رسول الله " ، قال : امحُ رسول الله ، ولا أقبل أن تكتب " محمد رسول الله ، ولو آمنا بك رسولاً لما قاتلناك ، فقال لعلي : امحُ " رسول الله " ، واكتب : هذا ما اتفق عليه محمد بن عبد الله ، النتيجة أن هذا الموقف القاسي المزعج من سهيل بن عمرو ترك في نفس المسلمين جرحاً بليغاً ، في معركة بدر وقع سهيل بن عمرو أسيراً بأيدي المسلمين ، آن أوان الانتقام ، هذا شأن الإنسان ، لقد تحدى سيد الخلق ، وحبيب الحق ، فاقترب سيدنا عمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله ، دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو ، حتى لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم ، كان خطيباً مفوّهاً ، وكان متألقاً ، ولامعاً في قريش ، وعين رئيس وفد قريش في صلح الحديبية ، ورفض أن يكون في الاتفاقية كلمة " رسول الله " ، والنبي استجاب له ، وقال : يا علي ، امحُ " رسول الله " ، واكتب : " هذا ما اتفق عليه محمد بن عبد الله " .
 أما حينما وقع أسيراً كما قال الله عز وجل :

 

﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴾

[ سورة التوبة ]

 وقال عمر : يا رسول الله ، دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو حتى لا يقوم عليك خطيباً بعد اليوم ، فأجابه النبي عليه الصلاة والسلام : كلا يا عمر ، لا أمثل بأحد فيمثل الله بي ، ولو كنت نبياً .

العفو عند المقدرة :

 أرأيت إلى هذا الأدب مع الله ؟ أرأيت إلى هذا التواضع ؟ أرأيت إلى هذا العفو ؟ وأنت قوي وهذا بين يديك ، وبإمكانك أن تعذبه ، وأن تمثل به ، وأن تنزع ثنيتيه حتى لا يقوم بعد ذلك خطيباً عليك ، قال : كلا يا عمر ، لا أمثل بأحد فيمثل الله بي ولو كنت نبياً ، ثم أدنى عمر منه ، قال : تعال يا عمر ، وقال عليه الصلاة والسلام : يا عمر ، لعل سهيلاً غداً يقف موقفاً يسرك .

استنباطات من القصة :

 استنباطاً من هذا النص ، ما مِن إنسان إلا وفيه جانب خير .

 

البطولة في كشف النواحي الإيجابية وتنميتها :

 بطولتك ـ أيها المؤمن ـ لا في أن تكشف النواحي السلبية في الإنسان ، بل العكس أن تكشف النواحي الإيجابية وأن تنميها ، هذا الكلام للمعلم للأب ابنك في عنده سلبيات وفي إيجابيات ، انظر إلى الإيجابيات ، وأثنِ عليه بها ، ثم عالج السلبيات ، لكن معظم الآباء ، بل معظم المعلمين ، بل معظم الموجهين كل إيجابيات الإنسان يعتمون عليها ، فإذا زلت قدمه ، وإذا ارتكب خطيئة قامت الدنيا عليه ، ولم تقعد ، أرأيت إلى هذا الذي جاء ليصلي خلف النبي عليه الصلاة والسلام متأخراً ، وأحدث جلبة في المسجد ، وشوش على الصحابة صلاتهم ، لما انتهى النبي من صلاته قال لهذا الإنسان :

 

(( زادك الله حرصاً ولا تعد ))

[ البخاري عن أبي بكرة ]

 أثنى على اهتمامه بأن يدرك مع رسول الله ركعة ، أثنى على اهتمامه ونبهه .
 لو طبقنا هذه القاعدة في حياتنا : مدير مؤسسة ، صاحب محل تجاري ، مدير معمل ، رب أسرة ، معلم مربٍّ ، مدرس ، موجه ، داعية ، دائماً ابحث عن الإيجابيات في الإنسان ، وحاول أن تنميها ، وابدأ بمعالجة السلبيات بتؤدة ، وبنفس طويل .
 وقال عليه الصلاة والسلام : يا عمر ، لعل سهيلاً غداً يقف موقفاً يسرك ، ودارت الأيام وتحول أعظم خطباء قريش سهيل بن عمرو إلى خطيب باهر من خطباء الإسلام .

مع عمير بن وهب :

 هذا يذكرني أن عمير بن وهب الذي التقى بصفوان بن أمية ، وقال عمير لصفوان : لولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها ، ولولا أولاد صغار أخشى عليهم العنت من بعدي لذهبت ، وقتلت محمداً ، وأرحتكم منه ، صفوان غني ، وحاقد ، فقال له : أما أولادك فهم أولادي ما امتد بهم العمر ، وأما ديونك فهي علي أداءها بلغت ما بلغت ، فامضِ لما أردت ، اذهب ، واقتل محمدًا ، سقى سيفه سماً ، وانطلق إلى المدينة المنورة ، ورآه عمر ، وقد وضع سيفه على ظهره ، فقال : هذا عدو الله عمير جاء يريد شراً ، وقيده بحمالة سيفه ، وقاده إلى النبي ، طبعاًُ هو وصل إلى المدينة تحت غطاء ليفتدي ابنه من الأسر ، هذا مسموح ، فدخل على النبي ، وقال عمر : يا رسول الله ، هذا عدو الله عمير جاء يريد شراً ، انظر إلى النبوة ، قال : يا عمر أطلقه ، فأطلقه ، قال : يا عمر ابتعد عنه ، فابتعد عنه ، قال : يا عمير ، ادنُ مني ، فدنا منه ، قال : سلم علي ، قال : عمت صباحاً ، قال له : قل السلام عليكم ، قال له بغلظة : هذا سلامنا ، قال : يا عمير ، ما الذي أتى بك إلينا ؟ قال : جئت أفك ابني من الأسر ، قال له : وهذه السيف على عاتقك ؟ قال : قاتلها الله من سيوف ، وهل نفعتنا يوم بدر ؟ قال له : ألم تقل لصفوان : لولا أطفال صغار أخشى عليهم العنت من بعدي ، ولولا ديون لزمتني ما أطيق سدادها لذهبت ، وقتلت محمداً ، وأرحتكم منه ، جاءه الوحي ، فوقف ، وقال : أشهد أنك رسول الله ، لأن الذي قلته لصفوان لا يعلمه أحد إلا الله ، وأنت رسوله ، وأسلم .
 الشاهد ليس هنا ، الشاهد أن سيدنا عمر قال دخل عمير على رسول الله والخنزير أحب إلي منه وخرج من عنده وهو أحب إلي من بعض أولادي . هذا الإيمان عداوات دائمة ما في تكره عمله فإن عاد إلى الله فهو منا ونحن منه وله ما لنا وعليه ما علينا .
 يا عمر ، لعل سهيلاً غداً يقف موقفاً يسرك ، وتحول أعظم خطباء قريش سهيل بن عمرو إلى خطيب ماهر من خطباء الإسلام ، وتحول المشرك اللدود إلى مؤمن أواب ، لا تكف عيناه من البكاء من خشية الله ، وتحول واحد من كبار زعماء قريش وقادة جيوشها إلى مقاتل صلب في سبيل الإسلام .
 مقاتل عاهد نفسه أن يظل في رباط وجهاد حتى يدركه الموت على ذلك ، عسى أن يغفر الله ما تقدم من ذنبه ، هذا المشرك العنيد الذي أصبح مؤمناً تقياً شهيداً ، هو سهيل بن عمرو ، لا تيئس من الناس ، لا تصدر عليهم حكماً في المستقبل ، قد يتوب ، وقد يسبقك ، إن رأيت عاصياً فقل : هذا الآن عاصٍ ، لكن متاح له أن يتوب ، وأن يسبقك ، لذلك قال تعالى :

 

﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾

[ سورة الزمر ]

ملمح مستنبَط من سورة البروج :

 هناك ملمح أيها الإخوة الكرام ، في سورة البروج ، هذا الملك الذي فتن المؤمنين والمؤمنات ، أحرقهم ، حفر الأخدود ، وجعل فيه ناراً متقدة ، وأحرق كل المؤمنين ، قال تعالى :

 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ﴾

[ سورة البروج : 10 ]

 ماذا يفهم ؟ كان من الممكن أن يتوبوا بعد أن فتنوا المؤمنين ، بعد أن حرقوهم ، باب التوبة مفتوح على مصراعيه مهما يكن الذنب كبيراً ، هناك من يقول أحياناً : هؤلاء الطغاة الذين سفكوا الدماء ، وانتهكوا الحرمات ألهم توبة ؟ أنا إيماني أن لهم توبة ، والذي يحاورك لا يصدق ، لو أنهم تابوا لتاب الله عليهم ، باب رحمة الله مفتوح على مصراعيه من أجل ألا تيأس ، من أجل ألا تحكم على أحد حكماً مستقبلياً ، هذا تأل على الله ، تقييم العباد من شأن الله وحده .

مع نعيم بن مسعود :

 يذكرون أيها الإخوة الكرام أن زعيم غطفان جاء ليحارب النبي العدنان ، وخيم جيشه في ظاهر المدينة ، وهو مستلق على ظهره في خيمته ، اسمه نعيم بن مسعود ، قال : يا نعيم ، هذا اسمه حوار ذاتي داخلي ، قال : يا نعيم ، ما الذي جاء بك إلى هذا المكان لتقاتل ؟ من هذا الذي جئت كي تقاتله ؟ هل سفك دماً حراماً ؟ هل انتهك عرضاً ؟ هل سلب مالاً ؟ إنه رجل صالح ، كيف تقاتله ؟ أين عقلك يا نعيم ؟
 والله أيها الأخوة الكرام ، لحظة حوار ذاتي صادق ينقلك من الظلمات إلى النور ، من شقاء الدنيا إلى نعيمها ، لحظة زعيم المشركين جاء ليحارب النبي الكريم ، فكر هذا الإنسان ماذا فعل ؟ لم يسلب مالاً ، ولم ينتهك عرضاً ، ولم يقتل ، ما الذي فعل ؟ أين عقلك يا نعيم ؟ فاتخذ قراراً بالإيمان ، وقام ، وانطلق إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، ودخل إلى معسكر رسول الله ، ودخل عليه خيمته ، قال له النبي : نعيم ؟ قال نعيم ، قال له : ما الذي جاء بك إلينا ؟  قال : جئت مسلماً ، وأشهد أنك رسول الله ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، فقال : مرني ماذا أفعل ؟ قال : أنت واحد ، قال : ماذا أفعل ، قال : خذل عنا .
 هل تصدقون أن معركة الخندق كادت تنهي الإسلام قال تعالى :

 

﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾

[ سورة الأحزاب ]

 الآن من فوقنا ، ومن تحت أرجلنا ، الشرق والغرب ، و مؤامرات وتهديدات ، ومقاطعة ، كيفما فعلنا فنحن عندهم مجرمون .
 قيل : اجتمع ذئب وحمل بحمام بلاط وماء ، قال له : أنت تغبر علي ، قال : أين الغبار ؟ تعال كلنِي .
 غير معقول ، استطاع نعيم بن مسعود زعيم غطفان المشرك بلحظة تفكير سليمة أن ينتقل من صف المشركين إلى صف المؤمنين ، بل إن هذه المعركة التي كادت تقضي على المسلمين انقلبت على نصر .
 هل تصدقون أن بعض الصحابة ممن ضعف إيمانه قال : أيعدنا صاحبكم ، ولم يقل : رسول الله ، أيعدنا صاحبكم أن تفتح علينا بلاد قيصر وكسرى ، وأحدنا لا يأمن أن يقضي حاجته ، وكأنه خرج من الإسلام ، قال تعالى :

 

﴿ إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً ﴾

[ سورة الأحزاب ]

 نعيم بن مسعود بذكاء منقطع النظير ، وبسياسة حكيمة جداً استطاع أن يشق صفوف الأعداء ، فقال لليهود كلامًا مقنعًا ، وقال لقريش كلامًا ، وحصل الشرخ بينهما ، وجاء الله بالرياح العاتية فقلبت قدورهم ، واقتلعت خيامهم ، وأطفأت نيرانهم ، ورحلت قريش عن المدينة ، وكفى الله المؤمنين القتال ، ولعل سبعين بالمئة من هذا النصر في صحيفة نعيم بن مسعود الذي كان مشركاً ، والذي جاء ليقاتل النبي عليه الصلاة والسلام ، لا تيئسوا ، لا تيئسوا ، لا تحكموا على الناس مستقبلاً ، هو عاصٍ الآن ، وقد يتوب ، والله إنّ قصص التائبين شيء لا يصدق .
 النبي عليه الصلاة والسلام حينما فتحت مكة قال :

(( لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها ))

[ السيرة النبوية ]

 ترى إنساناً سلك طريق الإيمان ، فانسحب من المجتمع ، احتقره ، كفره ، هو مؤمن كفار ، هكذا فعل النبي ؟ قريش حاربته عشرين عاماً ، نكلت بأصحابه ، تفننت في تعذيبهم ، تفننت في إذلالهم ، فلما فتحت مكة ، هو أساساً بالطائف قال :

(( اللهم اهدِ قومي إنهم لا يعلمون))

 أنا متألم ألماً شديداً من هذا الذي ينسلخ من أمته ، يقول : هم كفار إلى جهنم ، من قال : هلك الناس فهو الذي أهلكهم ، هم ليسوا كذلك .
 والله بهذه الصور التي نشرت في الدانمارك ظهر من المسلمين في أنحاء العالم مواقف والله لا تصدق .
 أنا كنت في العمرة ، وحدثني إنسان قال لي : محل كبير جداً من أكبر محلات جدة وضع على الرصيف بضاعة بمئة وثلاثين مليون ريال ، لأنها من عند الدانمارك ، وجدت غيرة على هذا النبي الكريم ، واندفاعًا .

(( أمتي كالمطر لا يدرى أولها خير أم آخرها ))

[الترمذي عن أنس ]

 الخير في و في أمتي إلى يوم القيامة .
 لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألونني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها .
 لذلك لما دخل النبي فاتحاً يقول أبو سفيان : << ما أوصلك ، وما أحكمك ، وما أرحمك >> .

عودة إلى سهيل بن عمرو :

 الآن يقول سهيل بن عمرو : << يا معشر قريش ، دققوا في كلامه ، إني قد جئت كسرى في ملكه ، يبدو له بطولات كبيرة جداً ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه قومه كما يعظم أصحاب محمد محمداً .
 هذا الإيمان أيها الإخوة الكرام ، أريد أن أبين لكم بيانًا دقيقًا أن الطرف الآخر أحد أكبر خططه تحطيم الرموز ما يترك للأمة إنسانًا يوثق به ، أمة بلا رموز ، بلا قادة نهائياً ، أحياناً محطات فضائية تظن أن فيها الرأي الحر ، لكن لها مهمة قد لا تنتبه إليها ، مهمتها تحطيم كل إنسان يمكن أن يؤثر في الناس ، موقع فضائحي ، أمة بلا قادة لا تقوم على قدميها أبداً .
 إني قد جئت كسرى في ملكه يبدو له بطولات كبيرة جداً ، وقيصر في ملكه ، والنجاشي في ملكه ، وإني والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه قومه كما يعظم أصحاب محمد محمداً ، لقد رأيت حوله قوماً لن يسلموه لسوء أبداً ، التشابك ، هذه العلاقات المتينة .
 لي كلمة دقيقة : المؤمنون إذا تعاونوا جعلوا مجتمعهم سداً منيعاً لا يمكن أن يخرق ، والنبي عليه الصلاة والسلام قال :

(( إنما تنصرون بضعفائكم ))

[ الترمذي عن أبي الدرداء ]

 أي أن هؤلاء الضعفاء حينما تطعمونهم ، وتكسونهم ، وتنصفونهم ، وتؤونهم في بيوت ، وتعالجونهم ، وتعلمونهم يصبح المجتمع متماسكاً .
 أنا أقول لكم كلمة دقيقة تنبع من إيماني : والله إن الأمة إذا نصرت ضعيفها ، وأطعمت فقيرها ، واعتنت بأفرادها ، وتماسكت مهما كان العدو قوياً فلن يستطيع خرقها أبداً ، أما إذا كان فيها شرخ داخلي كان اقتحامها سهلا جداً .
لقد رأيت حوله قوماً لن يسلموه لسوء أبداً .
 لما فتح النبي مكة المكرمة وحوله عشرة آلاف مقاتل ، ومعهم سيوف متوهجة ، وبإشارة منه ينهي وجودهم جميعاً ، فقال :

(( ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا : أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : فاذهبوا فأنتم الطلقاء ))

[ السيرة النبوية ]

 وسموا الذين عفا عنهم النبي من وقتها الطلقاء .

أخلاق الدعوة وأخلاق القتال :

 أنا أتمنى على الدعاة ، وعلى شباب الدعاة ألا يكفروا أحداً الموقف العنيف ، في عندنا أخلاق الدعوة وفي عندنا أخلاق القتال ، أخلاق القتال قال تعالى :

 

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾

[ سورة التوبة : 73]

 هذه أخلاق القتال ، أما أخلاق الدعوة فقال تعالى :

﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾

[ سورة فصلت]

 لا نستطيع أن نصل لقلوب الناس إلا بالإحسان ، إلا بحسن الظن أحياناً ، إلا بالتواضع ، إلا بأن تثق أن الله إذا تجلى عليه أصبح إنساناً تحبه ، هؤلاء الطلقاء جاوزوا أحياناً بإخلاصهم الوثيق ، وسموا إلى آفاق بعيدة من العبادة والتضحية ، والطهر ، وضعتهم في الصفوف الأولى بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام .
 أيها الإخوة الكرام ، كان سهيل بن عمرو موضوع هذا الدرس ، اسمه السمح الجواد ، وكان كثير الصلاة والصوم والصدقة ، وقراءة القرآن والبكاء من خشية الله ، وكان يقول : أي موقف وقفته في الجاهلية يناهض هذه الدعوة ، سأقف موقفاً آخر في نصرة هذه الدعوة .
 وفي قومه في مكة يوم وفاة النبي عليه الصلاة والسلام ارتجت مكة ، والذي فعله سهيل يشبه الذي فعله أبو بكر تماماً ، كيف أن أبا بكر قال :
 << من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت >>
 ثم تلا عليهم ، قوله تعالى :

 

﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً ﴾

[ سورة آل عمران : 144]

موقف صدق بعد عداوة :

 سهيل بن عمرو وقف الموقف نفسه في مكة ، جمع المسلمين كلهم هناك ، وأبهرهم بكلماته الناجعة ، وأخبرهم أن محمداً كان رسول الله حقاً ، وأنه لم يمت حتى أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ، وأنه واجب المؤمنين أن يحرصوا من بعده السير على منهجه .
 الآن طبعاً سهيل بن عمرو أسلم يوم فتح مكة ، وذاق حلاوة الإيمان ، وأخذ على نفسه عهداً لخصه في هذه الكلمات :
 << لعل الله يريك منه ما يسرك يا عمر >> .
 أرأيت إلى فهم النبي العميق لطبيعة النفس الإنسانية ؟ قال سيدنا سهيل بن عمرو :
 << والله لا أدع موقفاً من المشركين إلا وقفت مع المسلمين مثله ، ولا نفقة أنفقتها مع المشركين إلا أنفقت مع المسلمين مثلها ، لعل أمري أن يتلو بعضه بعضاً >> .
 وقف سهيل مع المشركين طويلاً أمام أصنامهم فليقف الآن طويلاً مع المؤمنين بين يدي الله الواحد الديان ، راح يصلي ويصلي ، ويصوم ، ويصوم ، ولا يدع عبادة تجلو روحه ، وتقربه من ربه الأعلى إلا أخذ منها حظاً وافراً .
 سهيل بن عمرو صار مجاهداً كبيراً ، وخرج إلى الشام مع جنود المسلمين مشاركاً في حروبها ، ويوم اليرموك حيث خاض المسلمين موقعة تناهت في الضراوة والعنف والمخاطر سهيل بن عمرو يكاد يطير من الفرح إذا وجد هذه الفرصة الدسمة لكي يبذل من ذات نفسه في هذا اليوم العصيب ما يمحق به خطايا جاهليته وشركه ، لذلك آثر أن يبقى مجاهداً حتى الرمق الأخير ، وقال : << سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

(( مقام أحدكم في سبيل الله ساعة أفضل من صلاته في بيته سبعين عاما))

[ الترمذي عن أبي هريرة ]

 وإني لمرابط في سبيل الله حتى أموت ، ولن أرجع إلى منكر .
 وفى سهيل عهده ، وظل بقية حياته مرابطاً حتى جاء موعد رحيله ، فصارت روحه مسرعة إلى رحمة من الله ورضوان .

استنباطا من قصة سهيل بن عمرو :

 أنا أريد الاستنباط ، يستنبط من هذه القصة أن كل إنسان فيه جانب خير ، وأنت كداعية شاب ينبغي أن تنظر إلى إيجابيات الإنسان ، وأن تنميها ، وألا تحكم عليه حكماً قطعياً مستقبلياً ، بل ينبغي أن تظن أن كل إنسان قد يصحو ، وإذا صحا أرضى من حوله بأعماله الطيبة .
 الموقف العنيف ، وتكفير الناس ، وتشريكهم ، واتهامهم بالبدع ، واتهامهم بالضعف هذا الذي يكفر الناس هو أكفرهم ، أو هو أكفرهم ، إما أنه أشدهم كفراً ، أو أن كلامه باطل هو كفرهم ، وهم ليسوا كذلك ، فأنا لست مع إعطاء الأحكام القطعية ، وشرخ يحصل في المجتمع ، هذا الذي أتعبنا كثيراً ، وجعلنا أمة نحارب من كل بقاع الأرض .
 أيها الإخوة الكرام ، أردت من هذا الدرس فقط أن نتعلم من النبي عليه الصلاة والسلام كيف دعا إلى الله ، قال تعالى :

 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ ﴾

[ سورة آل عمران : 159]

قانون المحبة والعداوة :

vبسبب رحمة استقرت بقلبك يا محمد كنت ليناً معهم ، معنى ذلك أن الإنسان باتصاله بالله يشتق من الله الرحمة يصير قلبه رحيماً ، والقلب الرحيم ينعكس ليناً في المعاملة :

 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ﴾

[ سورة آل عمران : 159]

 قوانين القرآن قوانين تتصل بالله ، تشتق منه الرحمة ، فتكون ليناً ، قال تعالى :

 

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

[ سورة آل عمران : 159]

 ولو كنت منقطعاً عن الله لامتلأ القلب قسوة ، والقسوة انعكست غلظة ، القاسي غليظ والرحيم لين والرحمة مشتقة من الله والغلظة تأتي من البعد عن الله ، قال تعالى :

 

﴿ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾

[ سورة الزمر : 22]

﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

[ سورة آل عمران : 159]

 معادلة رياضية ، اتصال ، رحمة ، لين ، التفاف ، انقطاع ، قسوة ، غلظة ، انفضاض ، أربع كلمات بأربع كلمات ، اتصال ، رحمة ، لين ، التفاف ، انقطاع ، قسوة ، غلظة ، انفضاض ، قال تعالى :

 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾

[ سورة آل عمران : 159]

 من هذا الذي لو كان فظاً غليظ القلب لانفض الناس من حوله ؟ هو رسول الله ، معه وحي ، معه معجزات ، معه بيان ، معه نسب ، معه حسب ، معه كمال ، كأن الله يقول له : أنت يا محمد مع كل هذه الخصائص :

 

﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾

[ سورة آل عمران : 159]

 أنا ذكرت هذا الدرس لأنني أرى قسوة وغلظة من بعض الدعاة الشباب ، وتكفيراً وتبديعاً وسحقاً لمن حولهم ، هم على حق وحدهم ، من قال لك هذا الذي تزدريه لعله أرقى منك عند الله ، هذا الذي تأخذ عليه بعض المآخذ لعله أقرب منك إلى الله .

ينبغي أن تعبد الله فيما أقامك :

 أنا ذكرت مثلاً مئات المرات ، أن امرأة تصلي قيام الليل ساعات ، وتبكي في الصلاة ، هذا شيء والله رائع جداً ، لكن عندها خمسة أولاد يحتاجون إلى غرفة دافئة في الشتاء ، إلى طعام ، إلى متابعة وظائفهم ، إلى متابعة ثيابهم وهندامهم ، متابعة وقتهم ، هي بعد أن صلت هذه الصلاة الطويلة تعبت كثيراً ، وتركت الأمر عشوائياً ، حينما ترعى أولادها رعاية تامة ، وتقيم لهم ما يحتاجونه تماماً هي أقرب إلى الله مئات المرات من الأولى .
 أنا أقول : ينبغي أن تعبد الله فيما أقامك ، النبي عليه الصلاة والسلام علمنا الحكمة ، وعلمنا الرفق واللين ، عمير بن وهب أسلم برقة النبي ، أطلقه يا عمر ، ابتعد عنه ، ادنُ مني يا عمير ، هكذا النبوة .

مع حاطب بن أبي بلتعة :

 حاطب بن بلتعة يا أيها الإخوة الكرام ، شيء لا يصدق ، ارتكب خيانة عظمى ، كتب كتاباً إلى زعماء قريش ، <<إن محمداً سيغزوكم ، فخذوا حذركم >> ، هذا العمل بكل أنظمة الأمم والشعوب من أول ما بدأت الدول إلى نهاية الدوران خيانة عظمى ، وتستوجب الإعدام ، النبي عليه الصلاة والسلام جاءه الوحي ، وأرسل من يأخذ الخطاب من هذه المرأة ، وقرأه أمام صحابته ، وحاطب موجود ، قال : ما هذا يا حاطب ؟ وقف حاطب فقال : والله يا رسول الله أنا مؤمن ، ما كفرت ، ولا ارتددت ، وأنا موقن أن الله سينصرك ، ولكنني لصيق بقريش ، أردت بهذا العمل أن تكون لي عندهم يد بيضاء أحفظ بها أموالي وأقاربي وأولادي ، النبي عليه الصلاة والسلام قال : إني صدقته فصدقوه ، ولا تقولوا فيه إلا خيراً ، سيدنا عمر قال له : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، قال : لا يا عمر ، إنه شهد بدراً .
 والله نحن يا أيها الإخوة الكرام لو أخطأ رجل معك خطأ تهدر له كل عمله السابق ، تكبه ، تنسى كل فضائله ، وتحقد عليه ، قال : لا يا عمر ، إنه شهد بدراً ، لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم ، فإنه مغفور لكم .

نصيحة إلى الدعاة إلى الله :

 هذه القصة تأخذ مني مأخذاً كبيراً ، الله عز وجل لم يهدر لهذا الإنسان عمله السابق ، هذه الموضوعية ، فأنا أتمنى أن نستنبط من سلوك النبي ، ومن مواقف النبي أساليب دعوته إلى الله ، الدعاة الآن بعيدون جداً عن هذه الروح العالية ، عن هذا التسامح ، عن هذا الحلم ، عن هذه الحكمة ، قال له مبارك : قال : يبرك عليك جمل ، هذه لم ترد في السنة ، قال له : وهل ورد في السنة قلة الذوق ، الآن تقبل الله لم ترد ، خذه بالرفق فإنه مسلم .

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور