وضع داكن
20-04-2024
Logo
الخطبة : 1002 - من قصص السيرة النبوية - كلمة في مناسبة ذكرى المولد
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الخطبة الأولى
 الحمد لله نحمده، ونستعين به، و نسترشده، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بربوبيته، وإرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، سيد الخلق و البشر، ما اتصلت عين بنظر، أو سمعت أذن بخبر، اللهم صلِ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، وعلى ذريته ومن والاه ومن تبعه إلى يوم الدين، اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علمتنا و زدنا علماً، و أرنا الحق حقاً و ارزقنا اتباعه و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه، و اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه و أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات.

ومضاتٌ عطِرة مِن سيرة خير البريّة:

 أيها الإخوة الكرام، لازال العالم الإسلامي يحتفل بذكرى مولد النبي عليه الصلاة والسلام، وإليكم ومضات ولقطات من سيرته العطرة.

 

1 - مع وفدِ اليمن:

 قدِم على النبي عليه الصلاة والسلام وفدٌ من اليمن، وهم ثلاثة عشر رجلاً، ساقوا معهم صدقات أموالهم التي فرض الله عليهم ؛ فسُرّ النبيّ عليه الصلاة والسلام بهم، وأكرم منزلهم، وقالوا: يا رسول الله سقنا إليك حق الله في أموالنا، فقال عليه الصلاة والسلام ردوها على فقرائكم، فقالوا: يا رسول الله، ما قدمنا عليك إلا بما فضل عن فقرائنا، فقال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ما وفَدَ مِن العرب بمثل ما وفد به هذا الحي من اليمن، فقال عليه الصلاة والسلام: إن الهدى بيد الله عز وجل، فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان، وسألوا النبي عليه الصلاة والسلام أشياء كثيرة.

 

 

بين الإضلال الجزائي والضلال الاختياري:

 تعليق: إن الهدى بيد الله عز وجل، فمن أراد به خيراً شرح صدره للإيمان، وإذا عزي الإضلال إلى الله عز وجل فهو الإضلال الجزائي المبني على ضلال اختياري، والدليل: قال تعالى:

 

﴿ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾

[ سورة الصف: 5 ]

 من أجل أن تكون العبارة عميقة بالفهم هؤلاء الذين شرح الله قلوبهم للهدى، لأنهم طلبوا الهدى.

 

عودة إلى وفد اليمن:

 وسألوا النبي عليه الصلاة والسلام أشياء فكتب لهم بها، فجعلوا يسألونه عن القرآن والسنن، فازداد النبي عليه الصلاة والسلام بهم رغبة، وأمر بلالاً أن يحسن ضيافتهم، فأقاموا أياماً، ولم يطيلوا المكث، فقيل لهم: ما يعجلكم ؟ قالوا: نرجع إلى مَن وراءنا فنخبرهم برؤيتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلامنا إياه، وما رد علينا، ثم جاءوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام يودعونه، فأرسل إليهم بلالاً، فأجازهم بأرفع ما كان يجيز به الوفود، قال: هل بقي منكم أحد ؟ قالوا: نعم، غلام خلفناه على رحالنا، هو أحْدَثُنا سناً، فقال عليه الصلاة والسلام: أرسلوه إلي، فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقضِ حاجتك منه، فإنا قد قضينا حوائجنا منه وودعناه.
 إنّ النبي عليه الصلاة والسلام تفقد امرأة كانت تَقُمُّ المسجد، وما في السُّلّم الاجتماعي عمل أقلّ من هذا العمل، فعن أبي هريرة

 

 

(( أن امرأة سوداء كانت تقمُّ المسجد، أو شاب، فَفَقَدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسأل عنها أو عنه، فقالوا: مات، قال: أفلا كنتم آذنتموني ؟، قال: فكأنهم صغروا أمرها، أو أمره، فقال: دلوني على قبره، فدلوه فصلى عليها، قال: إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أهلها، وإن الله ينورها لهم بصلاتي عليهم ))

 

( متفق عليه)

 لا تفلت من قلبه الذكي شاردة ولا واردة، فقال عليه الصلاة والسلام: هل بقي منكم أحد، قالوا: نعم، غلام خلفناه على رحالنا هو أحدثنا سناً، فقال عليه الصلاة والسلام: أرسلوه إلي، فلما رجعوا إلى رحالهم قالوا للغلام: انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض حاجتك منه، فإنا قد قضينا حوائجنا وودّعناه، فأقبل الغلام حتى أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله، إني امرؤ من بني أبذى، يقول من الرهط الذين أتوا آنفاً، فقد قضيت حوائجنا، يعني أنا من الرهط الذين أتوا آنفاً فقضيت حوائجهم، فاقضَ حاجتي يا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: وما حاجتك ؟ قال: إن حاجتي ليست كحاجة أصحابي، وإن كانوا قد قدموا راغبين في الإسلام، وساقوا ما ساقوا من صدقاتهم، وإني والله يا رسول الله ما أقدمني من بلادي إلا أن تسأل الله عز وجل أن يغفر لي، ويرحمني، وأن يجعل غناي في قلبي، فقال عليه الصلاة والسلام، وقد أقبل على الغلام: اللهم اغفر له وارحمه، واجعل غناه في قلبه، ثم أمر بمثل ما أمر لرجل من أصحابه، فانطلقوا راجعين إلى أهلهم، ثم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم بمنى سنة عشر، فقالوا: نحن بنو أبذى يا رسول الله، قال: ما فعل الغلام الذي أتاني معكم ؟ قالوا: ما رأينا مثله قط، ولا سمعنا بأقنع منه فيما رزقه الله عز وجل، لو أن الناس اقتسموا الدنيا ما نظر نحوهم، وما التفت إليهم، فقال عليه الصلاة والسلام: إني لأرجو أن يموت جميعاً، ما فهموا عليه، فقال أحدهم: يا رسول الله، أو ليس يموت الرجل جميعاً ؟ قال عليه الصلاة والسلام: تتشعب أهواءه وهمومه في أودية الدنيا، فلعل أجله يدركه في بعض تلك الأودية، فلا يبالي الله عز وجل في أوديتها هلك، فقالوا: فعاش ذلك الغلام فينا على أفضل حال وأزهده في الدنيا، وأقنعه بما رزق، فلما توفي النبي عليه الصلاة والسلام، ورجع من رجع من أهل اليمن عن الإسلام قام في قومه فذكرهم بالله وبالإسلام، فلم يرجع منهم أحد، وجعل أبو بكر رضي الله عنه يذكره، ويسأل عنه حتى بلغه حاله، وما قام به، فكتب إلى زياد بن لبيب يوصيه به خيراً.
 أيها الإخوة الكرام، هذا الشاب الذي كان في مؤخرة القافلة والذي وضعه قومه ليحرس الإبل، لكن النبي تفقد كل من جاء من هذا الوفد فلعل هذا الشاب كان أفضلهم عند الله عز وجل.

 

إنه لعمل عظيم:

 أيها الإخوة الكرام، الذي تلوته عليكم من هذه القصة استدعى أن أقرأ عليكم رسالة وصلتني قبل أيام من بضع فتيات قلنا فيها: نحن مجموعة من الفتيات أعمارنا في بداية العشرينات جمعنا حب الله، و الرغبة في العمل الصالح لنكون بإذن الله من أولئك الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..
 تنوعت اختصاصاتنا الجامعية فمنا من يدرس في مجال الترجمة، ومنا من يدرس الحقوق والهندسة والمعلوماتية، وغيرها من الاختصاصات.. لا نتبع لأي جهة، وإنما جمعتنا المحبة في الله، والصداقة، والأخوّة فحسب، إننا وبعد أن شاهدنا ما حصل في الدانمارك... وما يحصل كل يوم من هجوم على المسلمين، ونبينا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لم نعد نطيق الصمت، وقررنا أن نقوم بعمل بسيط للتعريف بنبينا وسيدنا محمد صلى الله عليه و سلم بكل وسيلة تتاح لنا، ومن هنا كانت الفكرة مشروع كتابة سلسلة من المقالات للتعريف بنبينا، وترجمتها لعدة لغات، ونشرها عبر كل الوسائل بشكل تدريجي ( كل مقالة في موضوع جديد ).
 وأهم وسائل النشر من وجهة نظرنا: " المنتديات الأجنبية ".. و التي تجمع عدداً كبيراً من الشباب... من مختلف الجنسيات... وطرح التعريف عليهم ليس من باب دعوتهم للدخول في الدين الإسلامي، وإن كان هذا أحد الأهداف الضمنية... بل من باب التعريف برسولنا صلى الله عليه وسلم.
 إنهن فتيات في العشرينات، فإذا كان في الأمة أمثال هؤلاء الفتيات فنحن بخير، وريح الجنة في الشباب، وأمتي كالمطر لا يدرى أولها خير أم آخرها، الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة.

 

 

نداء إلى الشباب المسلم:

 أيها الشباب، إن الآمال معقودة عليكم، أن تقدموا لأمتكم شيئاً، أن تقدموا لأمتكم حقيقة ناصعة تنشر، أن تقدموا لأمتكم عملاً صالحاً يذكر، أن تقدموا لأمتكم إتقاناً لأعمالكم، وتفوقاً في دراستكم، أن تقدموا لأمتكم التي كبا بها الجواد، كانت قادة للأمم بعد أن كانت في الجاهلية راعية للغنم، ينبغي ألا يكون المسلمون وهم يعدون ثلث سكان الأرض، ويتربعون على أهم موقع استراتيجي، وتحتهم ثروات لا يعلمها إلا الله، يجب أن يكونوا ذا شأن في الأرض، وكلمتهم مسموعة، وأمرهم بيدهم، أما حينما هان أمر الله عليهم هانوا على الله.

 

 

2 - الأنس والتلطف والمداعبة مع جابر بن عبد الله:

 أيها الإخوة الكرام، لقطة ثانية وومضة ثانية من وضمات سيرة النبي عليه الصلاة والسلام: جابر بن عبد الله الصحابي الشاب، والحديث اليوم عن الشباب، كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى الغزوات قال جابر: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة ذات الرقاع مرتحلا على جمل لي ضعيف، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت الرفاق، أي أصحاب رسول الله تمضي، أي تسبقني، وجعلت أتخلف، لأن جملي ضعيف، حتى أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: مالَكَ يا جابر ؟ قلت: يا رسول الله، أبطأ بي جملي هذا، قال: أَنِخْهُ، وأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم جمله، ثم قال: أعطني هذه العصا مِن يدك ففعلت، فأخذها النبي عليه الصلاة والسلام فنخس بها الجمل نخسات، أي وخزه بها وخزات، ثم قال: اركب، فركبت فانطلق جملي، والذي بعثه بالحق صار جملي يجاري ناقة رسول الله، وتحدث معي النبي الكريم بأنس وتلطف وتواضع، فقال: يا جابر، أتبيعني جملك ؟ قلت: يا رسول الله، بل أهبه لك، قال: لا، ولكن بِعنِيهِ، قلت: فسُمْني به، يعني ادفع الثمن، قال: أخذته بدرهم، هكذا قال عليه الصلاة والسلام مداعباً له، قال: إذاً يغبنني رسول الله، قال: درهم قليل، قال: فبِدِرهمين، قلت: لا، فلم يزل يرفع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمن حتى بلغ الأوقية، فقلت: قد رضيت يا رسول الله، قال: يا جابر، هو لك، قلت: نعم، هو لك يا رسول الله، قال: قد أخذته، هذا الإيجاب والقبول، ثم قال لي: يا جابر، هل تزوجت ؟ قلت: نعم يا رسول، قال: ثيباً أم بكراً ؟ قلت: بل ثيباً، قال: أفلا تزوجت بكراً، قلت: يا رسول الله، إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعاً، فتزوجت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن، وتقوم عليهن، فقال: قد أصبت إن شاء الله تعالى.
 أخبر جابر امرأته بما حدث، وكيف أنه باع الجمل، طبعاً أيّة امرأة أخرى تقيم عليه الدنيا، ولا تقعد، أخبرتُ امرأتي بما حدث، أي أنني بعت الجمل لرسول الله، فقالت: سمعاً وطاعة، قال: فلما أصبحت أخذت برأس الجمل، لأنه باعه، فأقبلت به حتى أنخته على باب النبي عليه الصلاة والسلام، ثم جلست في المسجد قريباً منه، قال: وخرج النبي، فرأى الجمل، قال: ما هذا ؟ قال: هذا جمل جاء به جابر، قال: فأين جابر ؟ فدعيت له، قال: تعال يا ابن أخي، خذ برأس جملك، فهو لك، ودعا بلالاً، فقال: اذهب بجابر، وأعطه الأوقية، فذهبت معه، وأعطاني ثمن الجمل، وزادني شيئاً يسيراً، قال: فوالله مازال ينمو هذا المال عندنا، ونرى مكانه في بيتنا.
 هذه ملاطفة النبي للشباب، شاب فقير ترك له أبوه سبع أخوات، وكان مع النبي في غزوة، فتأخر بجمله الضعيف، فأناخ النبي جمله النبي وقال لجابر: أَنِخْ جملك النبي ووخزه وخزتين النبي فأصبح جمله يسبق ناقة رسول الله، وآنسه، وسأله عن زواجه، وعن بيع الجمل، وساومه على بيع الجمل، وكأنه صديق له.

 

 

3 - قصة عثمان بن مظعون مع زوجته:

 أيها الإخوة الكرام، قصة مع أصحابه الذين تقدمت بهم السن، كان بين أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام صحابي جليل هو عثمان بن مظعون، وكان عثمان متبتلاً غير مشفق على نفسه، حتى لقد هم ذات يوم أن يتخلص كلياً من نداء غريزته، وذات يوم دخلت زوجته على السيدة عائشة رضي الله عنها فوجدتها عائشة رثة الهيئة، مكتئبة المحَيّا، فسألتها عن أمرها، انظروا إلى الأدب، فقالت: إن زوجي عثمان صوّام قوّام، في النهار صائم، وفي الليل قائم، ولا شأن له بي، يصوم النهار ويقوم الليل، فأخبرت السيدة عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم بحال هذه المرأة، فالتقى النبي به، وقال: يا عثمان، أما لك بي أسوة ؟ قال عثمان: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، وماذا ؟ قال عليه الصلاة والسلام: تصوم النهار، وتقوم الليل ؟ قال عثمان: إني لأفعل هذا، قال عليه الصلاة: لا تفعل، إن لجسدك عليك حقاً، وإن لأهلك عليك حقاً، فأعطِ كل ذي حق حقه، اهتم بهذه الزوجة الشابة، التي كانت رثة الهيئة كئيبة، وفي صبيحة اليوم الثاني ذهبت زوجة عثمان إلى بيت النبوة ـ دققوا الآن ـ عطرة نضرة، كأنها عروس، واجتمع حولها النسوة اللاتي كانت تجلس بينهن بالأمس رثة بائسة، وأخذن يتعجبن من فرط ما طرأ عليها من بهاء وزينة، قلن لها: ما هذا يا زوج ابن مظعون ؟ قالت وهي مغتبطة: أصابنا ما أصاب الناس.
 هذه رحمة النبي عليه الصلاة والسلام بزوجة شابة بائسة انصرف عنها، ولازلنا مع الشباب ومضة رابعة.

 

 

4 – مع عمير بن سعد الصحابي الصغير الفقير اليتيم:

 إنه غلام صغير، اسمه عمير بن سعد الأنصاري، تجرّع كأس اليتم والفاقة منذ نعومة أظفاره، تزوجت أمّه من ثري من أثرياء الأوس، يدعى الجلاس بن سويد، أحب عمير عمه الجلاس حب الابن لأبيه، وأولع الجلاس بعمير ولع الوالد بولده، وكان عمير لا يتخلف عن صلاة خلف رسول الله، غلام صغير لا يتخلف عن صلاة مع رسول الله، في السنة التاسعة للهجرة أعلن النبي عليه الصلاة والسلام عن عزمه على غزو الروم في تبوك، وأمر المسلمين بأن يستعدوا، ورأى عمير كيف أن المسلمين يبذلون كل ما بوسعهم لتجهيز هذا الجيش الغازي، ورأى عثمان بن عفان يأتي بجراب فيه ألف دينار ذهباً، ويقدِّمه للنبي عليه صلوات الله وسلامه، وهذا عبد الرحمن بن عوف يحمل مئتي أوقية من الذهب، ويضعها بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، فقد رأى نساء الأنصار والمهاجرين يقبِلْن على رسول الله، وينزعن حليِّهنَّ، ويلقينه في يديه ليجهز بثمنه الجيش الغازي في سبيل الله، وهذا رجل يعرض فراشه للبيع، فراشه الوحيد الذي ينام عليه يعرضه للبيع ليشتري بثمنه سيفاً ليقاتل به مع رسول الله، وهؤلاء النفر الذين سألوا النبي عليه الصلاة والسلام أن يضمهم إلى الجيش فردهم، لأنه لم يجد ما يحملهم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، وعجب عمير الفتى الأنصاري من تباطؤ عمه الجلاس عن البذل والتضحية، وعرض عليه هذه الصور المشرقة من بذل الصحابة الأغنياء والفقراء على حد سواء، فما كان من الجلاس إلا أن قال: إن كان محمد صادقاً فيما يدعيه من النبوة فنحن شر من الحمر...
 صعق هذا الطفل، ورأى أن في السكوت عن الجلاس، وهو عمه وزوج أمه وسيد نعمته ويحبه، لكن محبة الغلام لله عز وجل أبلغ من محبته لعمه، رأى هذا الغلام أن التستر على عمه الجلاس خيانة لله ورسوله، وأن في إذاعة ما سمع عقوقاً للرجل، فقال لعمه: والله يا عم ما كان على ظهر الأرض أحد بعد محمد بن عبد الله أحب إلي منك، ولقد قلت مقالة إن ذكرتها فضحتك، وإن أخفيتها خنت أمانتي، وأهلكت نفسي، وقد عزمت على أن أمضي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قلت قبل أن ينزل وحي يشركني في إثمك، فكن على بينة من أمرك، ما فعل شيئًا وراء ظهره، كل شيء على الوضوح، مضى عمير إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما سمع من الجلاس، فاستدعى النبي الجلاس، وقال له: ما مقالة سمعها منك عمير ابن سعد ؟ فقال: كذب عليَّ يا رسول الله وافترى، فما تفوهت بشيء من ذلك، فقال بعض الحاضرين: فتى عاق أبى إلا أن يسيء لمن أحسن إليه، وقال آخرون: بل إنه غلام نشأ في طاعة الله، والتفت رسول الله إلى عمير فرأى وجهه قد احتقن بالدم، والدموع تنحدر من عينيه، وهو يقول: اللهم أنزل على نبيك بيان ما تكلمت به، قال الجلاس: إني أحلف بالله، إني ما قلتُ شيئاً مما نقله لك عمير، ثم غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم السكينة فعرف أصحابه أنه الوحي، فلزموا أماكنهم حتى سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سري عنه تلا الآية، وهنا ظهر الخوف على وجه الجلاس، ثم التفت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: بل أتوب يا رسول الله، صدق عمير، وكنت مع الكاذبين، اسأل الله أن يقبل توبتي، جعلت فداك يا رسول الله، ثم توجه النبي عليه الصلاة والسلام إلى عمير بن سعد، فإذا دموع الفرح تبلل وجهه المشرق، فمد يده الشريفة إلى أذنه فأمسكها برفق، وقال: وفّت أذنُك يا غلام ما سمعت، وصدقك ربك، وعاد الجلاس إلى حظيرة الإسلام.
 الشيء الغريب أن الصحابة عرفوا صلاح حاله مما كان يغدقه على عمير من بر، فقد كان يقول كلما ذكر عمير: جزاه الله عني كل خير، لقد أنقذني من الكفر، وأعتق رقبتي من النار، طفل صغير جاء وحي السماء ليصدق مقالته.

 

 

5 – حرصُه على مصالِح أصحابه الكرام:

 الآن مع مصالح أصحابه: قدم على النبي عليه الصلاة والسلام بعد فتح خيبر قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خيبر الحجاجُ بن علاط السلمي فأسلم، وكان غنياً كثير المال فقال: يا رسول الله، إن مالي عند امرأتي أم شيبة بمكة، ومتفرق في تجار مكة، فأْذَن لي يا رسول الله أن آتي مكة لأخذ مالي، قبل أن يعلموا بإسلامي، عندئذ لا أقدر على أخذ شيء منه، فأذن له النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال الحجاج: يا رسول الله، لابد من أن أقول، أي أتقول عليك بخلاف الواقع، فقال عليه الصلاة والسلام: قل ما شئت، فقال الحجاج: فخرجت حتى إذا قدمت مكة وجدت بثنية البيضاء رجالاً من قريش يستمعون الأخبار، ويسألون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر، وهي من أقوى قرى الحجاز، وهم يتجسسون الأخبار من الركبان، وكان بينهم تراهن عظيم على مئة بعير حول من سيغلب أهل خيبر، فلما رأوا الحجاج، ولم يكونوا قد علموا بإسلامه قالوا: الحجاج واللهِ عنده الخبر اليقين، يا حجاج، إنه قد بلغنا أن القاطع ـ يعنون به رسول الله، قال تعالى:

 

 

﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ﴾

[ سورة الحجر ]

 قديماً وحديثاً ـ قد سار إلى خيبر فقال الحجاج: عندي من الخبر ما يسركم، فاجتمعوا عليه يقولون: إيه يا حجاج ؟ فقال الحجاج: فقلت لهم: لم يلقَ محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قوماً يحسنون القتل مثلهم، فهزم هزيمةً لم يسمع بمثلها، وأسر محمد، وقالوا: لا نقتله حتى نبعث فيه إلى مكة، فنقتله بين أظهرهم بما كان أصاب من رجالهم، فانطلق هؤلاء الرجال فرحين أشد الفرح إلى أهل مكة، فقيل لهم قد جاءكم الخبر، هذا محمد، إنما تنتظرون أن يقدم به عليكم فيقتل بين أظهركم، ثم قال لهم الحجاج: أعينوني على غرمائي، أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى هناك، فاجمعوا إلي مالي على أحسن ما يكون، ففشا ذلك بمكة، وأظهر المشركون الفرح والسرور، وانكسر من كان بمكة من المسلمين وسمع بذلك العباس بن عبد المطلب، وكان مسلماً، فجعل لا يستطيع أن يقوم من شدة حزنه بهذا الخبر، ثم بعث العباس إلى الحجاج غلاماً يقول له: يا حجاج، الله أعلى وأجلّ من أن يكون الذي جئت به حقاً.
 أرأيتم إلى حسن الظن بالله ؟ فقال الحجاج للغلام: اقرأ على أبي الفضل السلام، وقل له ليخلِّ لي بعض بيوته لآتيه بالخبر على ما يسره، واكتم عني، فأقبل الغلام، وقال: أبشر يا أبا الفضل، فوثب العباس فرحاً، كأنه لم يمسه شيء، وأخبره بذلك، فأعتقه العباس رضي الله عنه لوجه الله فرحاً بهذا الخبر، وقال: لله علي عتق عشر رقاب على هذا الخبر السار، فلما كان الظهر جاءه الحجاج، وأخبره بالخبر الصحيح، وناشد العباس أن يكتم عليه ثلاثة أيام، فقال: إني أخشى الطلب، فإذا مضت ثلاث فأظهر أمرك، وطالت على العباس تلك الأيام الثلاثة، فعمد العباس رضي الله عنه إلى حلة فلبسها، وتخلق بخَلوق، أي تطيب بنوع من الطيب، وأخذ بيده قضيباً، ثم أقبل يخطر، حتى أتى مجالس قريش، وهم يقولون إذا مرّ بهم: لا يصيبك إلا الخير يا أبا الفضل، هذا والله من التجلد بحرّ المصيبة، قال: كلا والله، الذي حلفتم به لم يصبني إلا خير بحمد الله، أخبرني الحجاج أن خيبر فتحها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم، وجرت فيها سهام الله، وسهام رسوله، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم صفية بنت مَلِكهم،، وإنما قال لكم ذلك ليخلص ماله منكم، وإلا فهو ممن أسلم، ورد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين على المشركين، فقال المشركون: ألا يا عباد الله، انفلت عدو الله، يعنون حجاجاً، أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن، ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر الصحيح.
 كان عليه الصلاة والسلام حريصاً على مصالح أصحابه، وسمح له أن يقول ما يقول لينال ماله كله من أهل مكة.

 

6 – مع عمير بن وهب: صورة من الحكمة والرحمة والعفو:

 أيها الإخوة الكرام، النبي عليه الصلاة والسلام جاءه عمير بن وهب، وقد قتل ابنه في معركة بدر، فقال له صفوان في ظاهر مكة: لولا ديون عليّ ليس عندي ما أقضيها، ولولا عيال أخشى عليهم الضياع من بعدي، لمضيتُ إلى محمد وقتلتُه وأرحتكم منه، فقال صفوان: ديونك علي بلغت ما بلغت، وأولادك هم أولادي ما امتد بهم العمر، فاذهب، وافعل ما أردت، فسقى سيفه سماً، وركب ناقته، وتوجه إلى المدينة تحت غطاء فك ابنه من الأسر، فلقيه عمر بن الخطاب، قال: هذا عدو الله عمير جاء يريد شراً، فقيّده بحمالة سيفه، وانطلق به إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال عليه الصلاة والسلام: يا عمر أطلقه ؛ وفكَّ عنه هذا القيد، فأطْلَقه ؛ ثم قال: يا عمر، استأخر عنه ؛ فتأخر عنه، قال: ادنُ يا عمير ؛ فدنا، ما الذي جاء بك إلينا ؟ فقال: جئت أرجو فكاكَ هذا الأسير الذي في أيديكم ؛ قال النبي: فما بالُ هذا السيف الذي في عنقك ؛ أنت قادم لتفك الأسير، قال له: قبّحها الله من سيوف ؛ وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر ؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: ألم تقل لصفوان: لولا دَيْن علَيَّ، وعيال عندي لخرجتُ حتى أقتل محمداً ؛ فوقف عمير، وقال: أشهد أنك رسول الله، لأن الذي دار بيني وبين صفوان لا يعلمه أحد إلا الله، وأنت رسوله وحسن إسلامه.
 الشاهد أيها الإخوة الكرام، كان صفوان يقف في ظاهر مكة ينتظر أخبارًا سيئة عن رسول الله، وعن مقتله، فإذا بالخبر الذي صعق له، أنه أسلم، وأصبح من أصحاب رسول الله، كان عليه الصلاة والسلام خبيراً بتحويل أعدائه إلى أصدقاء، وهناك خبراء الآن يحولون الحيادي والصديق إلى عدو بحمقهم وتطاولهم وقسوتهم، ودعوتهم بشكل غير لائق.
 أيها الإخوة الكرام، شاهد آخر في القصة أن سيدنا عمر يقول دخل عمير على رسول الله والخنزير أحب إلي منه، وخرج من عنده وهو أحبُّ إليَّ من بعض أبنائي، أنت لا تكره الكافر، تكره كفره فقط، فإذا دخل في دين الله صار أخاك.
 أيها الأخوة الكرام، ثمة قصص كثيرة من قصص السيرة النبوية، وذكرت لكم بعضها، وسوف نتابع هذا في وقت آخر إن شاء الله.
 أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروا الله يغفر لكم، فيا فوز المستغفرين.

 

 

* * *

 الخطبة الثانية
 الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله صاحب الخلق العظيم، اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

كلمة حق في ذكرى المولد:

1 - لا للشكليات:

 أيها الإخوة الكرام، كلمة حق أسوقها في مناسبة ذكرى المولد: قد نحتفل بميلاد النبي، وهذا شيء والله جميل جداً، هذا يعبر عن مشاعرنا، يعبر عن انتمائنا، ولكن أن نكتفي بالتزيينات، ورفع اللافتات، ووضع الأعلام، وإقامة الحفلات، ومديح سيد الأنام دون أن نتبع سنته، هذا والله احتفال أنا أسميه في هذه المناسبة احتفالات فلكلورية، لكن الاحتفال الشرعي أن تعود إلى سنته القولية، وأن تعود إلى سنته العملية، لأن الله عز وجل يقول:

 

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

[ سورة الحشر: 7 ]

2 – وجوب معرفة سنة النبي القولية والعملية:

 وهذا أمر قرآني يقتضي الوجوب، وكل أمر في القرآن الكريم يقتضي الوجوب، ومن لوازم هذا الأمر كي يحقق أن تعرف ما الذي آتاك، وعن أي شيء نهاك، إذاً لا بد من معرفة سنة النبي عليه الصلاة والسلام القولية، وإذا قال الله عز وجل:

 

﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ﴾

[ سورة الأحزاب: 21 ]

 لا بد من معرفة سيرته العملية، فكأن معرفة سنة النبي القولية وسيرته العملية فرض عين على كل مسلم، لأنه ما لا يتم الفرض إلا به فهو فرض، فالصلاة فرض، ولا تتم إلا بالوضوء، فالوضوء فرض، وما لا تتم السنة إلا به فهو سنة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولا يتم تنفيذ أمر الله الذي يقتضي الوجوب، قال تعالى:

 

﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾

[ سورة الحشر: 7 ]

 إلا بمعرفة الذي آتانا، وعن أي شيء نهانا، إذاً معرفة سنة النبي القولية فرض عين، ولا يمكن أن يكون قدوة لنا في بيتنا، وفي معاملاتنا، وفي سلمنا وحربنا، وفي حلنا وترحالنا، وفي غضبنا وفي رضانا، وقبل زواجنا وبعد زواجنا، وفي أعمالنا وفي كسب أموالنا، إلا إذا عرفنا سيرته الخاصة، إذاً معرفة سيرة النبي عليه الصلاة والسلام فرض عين على كل مسلم، وإذا احتفلنا بعيد المولد هذا الاحتفال من أجل أن نتذكر سنته وسيرته، وأن نقتدي بسيرته، وأن نتبع سنته، فهذا الاحتفال الشرعي لعيد المولد.
 أنا لا أعترض على الأول، لكن أعترض على أن نكتفي بالأول، أعترض على أن نكتفي بالاحتفال الأول، ونجعل هذا الاحتفال مناسبة للكلام وللدعوة، وما إلى ذلك، أما إذا كنا صادقين بالاحتفال بعيد المولد فينبغي أن نطبق سنته القولية والعملية، والآية الدقيقة جداً:

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ﴾

[ سورة الأنفال: 33 ]

 فمادام سنته مطبقة في حياتنا نحن في مأمن من عذاب الله، وما دمنا نستغفر الله إذا قصرنا في متابعته فنحن أيضاً في مأمن من عذاب الله، والآية الكريمة:

 

﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾

[ سورة الأنفال ]

الدعاء:

 اللهم اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولنا فيمن توليت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنا شر ما قضيت، فإنك تقضي بالحق، ولا يقضى عليك، وإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، ولك الحمد على ما قضيت، نستغفرك و نتوب إليك، اللهم اهدنا لصالح الأعمال لا يهدي لصالحها إلا أنت، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها مردنا، واجعل الحياة زاداً لنا من كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، مولانا رب العالمين، اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك، اللهم بفضلك ورحمتك أعل كلمة الحق والدين، وانصر الإسلام وأعز المسلمين، وأذل الشرك والمشركين خذ بيد ولاة المسلمين لما تحب وترضى يا رب العالمين، إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور