وضع داكن
28-03-2024
Logo
مكارم الأخلاق - الندوة : 05 - الفطرة
رابط إضافي لمشاهدة الفيديو اضغط هنا
×
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الأستاذ عدنان :

تقديم وترحيب :

أيها الإخوة والأخوات ، السلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته ، أحييكم في هذه الحلقة الجديدة من برنامج مكارم الأخلاق ، وباسمكم أرحب بفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي ، أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، أهلاً ومرحباً بكم .
الدكتور راتب :

أهلاً بكم أستاذ عدنان ، جزاك الله خيراً .
الأستاذ عدنان :

دكتور ، نسمع كثيراً كما قلت عن العقل ، ونسمع أيضاً عن الفطرة .

﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾

( سورة الروم الآية : 30 )

العقل فيما بين الناس يمكن أن يكون متفاوتاً ، يا ترى هل هو في هذا المقياس ما يتصل بالفطرة ؟ هل الفطرة واحدة عند الناس جميعاً ؟ أم تراها متفاوتة ؟ وهل الفطرة قد جبل عليها الناس جميعاً ، وهي متجهة إلى الله تعالى ؟ فإن أردنا معرفة شيء عن الفطرة فهل تراها في نطاق الخطأ والصواب ؟ إذا أرنا أن نتحدث عن الفطرة فالحديث طويل فأترك الكلام لكم للحديث عنها .
الدكتور راتب :
بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين . :

 

الفطرة :

أستاذ عدنان ، الفطرة شيء مهم جداً في حياة الإنسان

ذلك أن الإنسان عقل يدرك ، وجسم يتحرك ، ونفس تحب أو تكره ، فالجانب النفسي هو أهم جوانب الإنسان ، هذا الجانب النفسي يسعد أو يشقى ، يخاف أو يطمئن ، يتفاءل أو يتشاءم ، كل المشاعر النفسية محلها القلب ، فإذا كان في الإنسان عقل يدرك ، فيه قلب يحب ، وفيه جسم يتحرك ، وإذا كان الطعام والشراب غذاء الجسم ، فالعلم غذاء العقل ، والحب غذاء القلب .
إلا أن رحمة الله بنا أن هذا الجسم فيه قوانين بالغة التعقيد تحكم آليته ، هناك علم التشريح ، وعلم الفيزيولوجيا ، هناك قوانين دقيقة جداً لا تقل عن قوانين الجسم تحكم نفسه ، إنها مبادئ الفطرة .
الإنسان لماذا إذا فعل شيئاً شريراً يتألم من الداخل ؟ قد لا يحاسب ، أذكر أن إنساناً دهس طفلاً ، ولم يتابع من الجهات المسؤولة ، كان الدهس بعد منتصف الليل ، وسجل الحادث ضد مجهول ، لكن هذا الإنسان مع أنه لم يعاقب ، ولم يتابع ، لم يستطع أن ينام الليل أربعين ليلة ، واتصل بطبيب نفسي ، أقنعه أن يدفع الدية الشرعية لهذا الطفل حتى يستطيع أن ينام ، ما الذي عاتبه ؟ فطرته .
لولا أننا مصممون بالتعبير المعاصر مبرمجون ، مفطورون ، مجبولون على الكمال لما عذبنا النقص ، ولولا أن الإنسان له فطرة سليمة لما شعر أحد بخطئه .
الأستاذ عدنان :

دكتور ، أود أن أتوقف هنا ، قلت : لولا فطرة سليمة ، على حين أن الله تعالى قد فطر الناس جميعاً :

﴿ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ﴾

كيف تكون سليمة وغير سليمة ؟
الدكتور راتب :

 

كيف تكون الفطرة سليمة وغير سليمة ؟

الحقيقة أن أصل الفطرة سليم فإذا انحرف الإنسان ، وتاب عن انحرافه ، وأصر على انحرافه يصل إلى حالة اسمها انطماس الفطرة ، لذلك الإنسان في أصل فطرته وضعه سليم جداً ، لولا أن الله فطرنا على الكمال لما عذبا النقص ، هذا من نعم الله علينا ، الدليل : 

﴿ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ﴾

( سورة الحجرات الآية : 7 )

دليل آخر : 

﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾

( سورة الشمس )

والعياذ بالله ، ليس المعنى كما يتوهم بعض المنحرفين أن الله خلق فينا الفجور ، مستحيل ، وألف ألف مستحيل ، معنى الآية : أن الإنسان إذا فجر يعرف أنه فجر تلقائياً ، من دون لفت نظر ، من دون توجيه ، فطرته متوافقة تماماً مع منهج الله ، والدليل أن الله عز وجل حينما قال :

 

﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ﴾

( سورة الروم الآية : 30 )

طابق الفطرة مع منهج الله تطابق تام ورائع ، بمعنى أن الإنسان إذا خالق منهج ربه ، أو خالف مبادئ فطرته المؤدى واحد .
لو أن إنسانًا لم يصله تبليغ رسالة سماوية ، وجاء بطعام وأكله وحده ، وأمه جائعة يشعر أنه وقع في خطأ كبير .
لذلك في الإنسان ثوابت ، مبادئ فطرته من الثوابت ، والإنسان هو الإنسان في كل مكان وزمان ، فحينما يقترف خطأ يتناقض مع فطرته ، أو يقترف خطأ يتناقض مع منهج ربه يشعر بالضيق ، والمرض الآن المستشري في العالم كله مرض الكآبة ، لأن الإنسان تحرك حركة عشوائية من دون منهج يسير عليه ، فهذه الشهوات التي أودعها الله في الإنسان جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها ، لذلك قال تعالى : 

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

( سورة القصص الآية : 50 )

حينما يتبع الإنسان الشهوة وفق منهج الله يكون قد حقق مبادئ فطرته ، فالفطرة شيء أساسي جداً في الثواب والخطأ ، إنسان ينتحر أحياناً ، قد يكون غنيا جداً ، فلماذا ينتحر ؟ لولا أن هناك عذاب جال في نفسه حمله على إنهاء حياة لم يكن يحتملها .
إذاً الفطرة من أخطر مفردات الخصائص الإنسانية التي ينبغي أن يتعامل معها تعاملاً صحيحاً .
الأستاذ عدنان :

﴿ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

كيف يكون ذلك ؟
الدكتور راتب :

 

وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ

﴿ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

معنى ذلك أن الإنسان يستطيع أن يتحرك بدوافع من شهواته 180 درجة ، والشرع العظيم جعل للشهوة حيزاً صحيحاً مقبولاً ، إذا خرج عن هذا الحيز تعذبه فطرته ، والله عز وجل حبب للإنسان أشياء كثيرة ، وجعل لها قنوات نظيفة تسري خلالها ، فإذا استمتع الإنسان بما لا يحل له ، اعتدى على أعراض الآخرين ، اعتدى على أموالهم تعذبه نفسه ، إذاً :

﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾

الحقيقة نحن بحاجة إلى ما يسمى بعلم النفس الإسلامي .
الأستاذ عدنان :

 

بمعنىً آخر هل يتبع الإنسان هواه بهدى من الله ؟
الدكتور راتب :

هل يتبع الإنسان هَوَاهُ بِهُدًى مِنَ اللَّهِ ؟


نعم ، الإنسان اشتهى المرأة فتزوج ، لا شيء عليه

اشتهى المال فعمل بتجارة مشروعة ، اشتهى العلو في الأرض فتفوق في خدمة البشر ، أنجز إنجازا عظيما فأكبره الناس ، وعظموا عمله .
فالإنسان عنده ثلاث حاجات كبرى : يحتاج إلى الطعام والشراب حفاظاً على وجوده ، ويحتاج إلى الجنس حفاظاً على بقاء النوع ، ويحتاج إلى البطولات حفاظاً على الذكر ، هذه الحاجات الأساسية حيادية ، إما أن تلبى وفق منهج الله فيكون الاستقرار ، والطمأنينة والراحة ، والسعادة ، وإما أن تلبى بخلاف منهج الله .
الذي يتعلم العلم ، وينشر العلم يعلو عند الناس ، فدافعه إلى تأكيد الذات تحقق

والذي يتمنى أن يكون معه مال يكفي به نفسه وأهله ، فعمل عملا مشروعا ، وكسب كسباً مشروعاً ، الآن استمتع ببيت ، وزوجة ، وطعام ، وشراب ، ومركبة ، كل هذا من دخل مشروع ، إذاً لا شيء عليه .
أوضح مثل : قد يكسب إنسان المال الحلال فينفقه في ما سمح الله به ، إذاً : ما من شهوة أودعها الله في الإنسان إلا جعل لها قناة نظيفة تسري خلالها .
فالفطرة من أروع ما في هذا اللقاء الطيب أنها متوافقة توافقاً تاماً مع منهج الله ، وكل إنسان يعصي الله يشعر بآلام داخلية ، وهذا معنى قوله تعالى : 

﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾

( سورة طه )

هذه المعيشة الضنك بسبب البعد عن الله ، بل إن معظم أمراض الإنسان هي في الحقيقة أعراض لمرض واحد ، وهو البعد عن الله ، ولما يتصل الإنسان بالله يشعر بسعادة كبيرة جداً ، لأن نفسه هكذا قد فُطرت ، لولا أن الله فطرنا هذه الفطرة لما كانت هناك سعادة ولا شقاء .

 

بين الفطرة والصبغة :

فلذلك مبادئ الفطرة أن تحب الكمال ، ليس معنى الفطرة أن تكون كاملاً ، أن تحب الكمال ، أن تحب الكمال شيء ، وأن تكون كاملاً شيء آخر ، كل إنسان يحب العدل ، أما أن يعدل فهذا من نتائج الصبغة ، الفطرة شيء ، والصبغة شيء آخر .
حينما يتصل الإنسان بالله ، يحكم اتصاله به ، يقبل عليه ، يطبق منهجه ، و حينما تتصل بالرحيم تشتق الرحمة منه ، أنت تحب الرحمة بفطرتك ، لكنك بعد اتصالك بالله تصبح رحيماً ، فأن تحب الكمال شيء ، وأن تكون كاملاً شيء آخر ، أي إنسان على وجه الأرض يحب الكمال ، لكن الذي يكون كاملاً أحد ثمار اتصاله بالله ، فالمؤمن رحيم ، المؤمن عدل ، المؤمن لطيف ، المؤمن صادق ، المؤمن أمين ، كل هذه الكمالات اشتقها الإنسان حينما اتصاله بالله .
إذاً : الفطرة السليمة شيء ، والصبغة الإلهية شيء آخر ، الاتصال بالله ينشأ عندنا صبغة ، وفي أصل خلقنا عندنا فطرة ، فالفطرة أن تحب الشيء ، وأن تكره الشيء الذي لا تحبه ، ولولا هذه الفطرة لما كان هناك مسارعة إلى التوبة ، وما كان هناك عذاب نفسي .
أستاذ عدنان ، السيارة في أصل صنعها صنعت من أجل أن تسير ، وفيها مكابح بالنظر السطحي ، والمكابح تناقض مع أصل صنعها ، لكنها ضرورية جداً لسلامتنا .
فالله عز وجل فطرنا فطرة عالية ، وبشكل أو بآخر الإنسان عقب عمل بطولي ، عقب موقف في عدل ، عقب موقف في إنصاف ، عقب موقف فيه عطاء وبذل ، عقب موقف فيهه تواضع يشعر بسعادة لا توصف ، لأنها أولاً هذا العمل توافق مع فطرته ، وعندنا مصطلح اسمع اصطلاح الإنسان مع ذاته ، حينما يصطلح المرء مع ذاته يطيع ربه ، فيشعر بالسعادة ، وكل سعادات الإنسان في الدنيا أساسها الاتصال بالله عز وجل .

 

من خصائص النفس البشرية : الجزع والمنع والضعف :

لذلك من خصائص هذه النفس البشرية خصائص كثيرة ، وردت إشارات لها في كتاب الله .

 

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾

( سورة المعارج )

هو في الأصل جزوع ، ومنوع ، خلق الإنسان عجولا ، خلق الإنسان ضعيفا ، حبذا لو تتبعنا في القرآن الكريم صفات النفس البشرية قبل أن تعرف الله ، وبعد أن عرفته :

﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ ﴾

المصلي حينما يتصل بالله عز وجل يذهب عنه الخوف ، ويذهب عنه الجزع ويذهب عنه الحرص ، فلابد من وجود فارق أساسي كبير جداً بين من عرف الله واتصل به ، وبين من غفل عنه وتفلت من منهجه .
فالفطرة دقيقة جداً في أنها تعبر للإنسان عن صوابه أو عن خطأه ، سمها إن شئت الراحة النفسية ، سمها إن شئت السعادة ، سمها إن شئت السكينة ، كلها أسماء لمسمى واحد ، فحينما يلتزم الإنسان منهج الله يصطلح أصلاً مع فطرته ، فيسعد بهذا الصلح بينه وبين نفسه .
في قلب المؤمن الذي توافقت حركته في الحياة مع منهج ربه ، ومع مبادئ فطرته ، في قلبه أمنٌ لو وزع على أهل بلد لكفاهم ، بينما الطرف الآخر في نفسه قلق ولو كان قوياً ، ولو كان غنياً ، ولو كان مقتدراً ، في قلبه من القلق ما لو وزع على أهل بلد لكفاهم .
الأستاذ عدنان :

 

كيف ننمي الفطرة التي فطرة الناس عليها ؟ وكيف تنحدر الفطرة أيضاً ؟
الدكتور راتب :

كيف نمنع تدهورَ الفطرة ؟

الحقيقية الفطرة ثابتة ، الفطرة بمعنى أن كل إنسان له فطرة سليمة ، لكن قد تسأل سؤالاً آخر : كيف نمنع تدهور الفطرة ؟
بطاعة الله نحافظ على فطرتنا ، لكن باتصالنا بالله نقلبها إلى صبغة ، الصبغة شيء رائع جداً ، النبي الكريم أشار إلى هذا فقال :

(( نعم العبد صهيب ، لو لم يخاف الله لم يعصيه ))

[ كنز العمال ، وذكر ابن حجر أنه بغير إسناد ]

الإنسان في مستوى ، والشرع في مستوى ، لكن إذا ارتقى إلى الله ، واقترب مستواه من مستوى الشريعة ، هو لا يحتاج إلى بذل جهد كبير ، الإنسان يحب أن أن يكون صادقاً ، يحب أن يكون رحيماً ، يحب أن يكون منصفاً ، لكن شهواته أحياناً تغلبه ، أما إذا اتصل بالله عز وجل تصبح الأعمال الصالحة جزءاً من كيانه ومن حياته .
إذاً : الفطرة مركبة في أصل الإنسان ، والفطرة تسعده إذا طبق منهج الله ، وتشقيه إذا خرج عن منهج الله ، وهي أكبر باعث لدفع الإنسان إلى طاعة الله ، لأن المؤمن حينما يستقيم أمره مع الله يتلقى من السعادة لا توصف . 

﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾

( سور فصلت )

الله عز وجل حينما قال : 

﴿ فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾

( سورة طه )

لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه .

﴿ فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾

( سورة البقرة )

من يتبع هدى الله عز وجل لا يضل عقله ، ولا تشقى نفسه ، ولا يندم على ما فات ، ولا يخشى مما هو آت ، ماذا بقي من سعادة الدنيا ؟ الصلح مع الله هو صلح مع الفطرة .
الأستاذ عدنان : 

إذاً : الحديث عن الفطرة يعود بنا إلى أشياء جميلة في حياة الإنسان جعلها الله تعالى في ذاته ، حيث يكون منسجماً مع نفسه ، ويكون أيضاً فرحاً بما أودع الله تعالى عنده من فطرة ، فإن نماها بالخيارات ، وبالعمل الصالح انقلبت إلى صبغة ، وما أجمل الصبغة عند المؤمنين ، هذه أمور تبحث في عمق ذات الإنسان ، في نفسيته ، وفي وجوده ، وفي كل شيء ، والأشياء الإعجازية الموجودة في خلق الله تعالى لبني البشر في تكوينهم ، وتركيبهم وفي أنفسهم ، نريد أن نتابعها معكم لندرك عظيم صنع الله تعالى .
الدكتور راتب :

الموضوع العلمي : ظاهرة التمايز في خلايا الإنسان :

1 – نظام الخلايا مِن أعجب خَلق الله :

إن شاء الله ، كما ذكرت وأذكر دائماً ، إن أعظم آية أمام الإنسان نفسه التي بين جنبيه ، وكيف أن هذا الإنسان كان من نطفة ، ثم نمت ، لو أن هذه النطفة تكاثرت من دون تمايز لكان قطعة من اللحم ، أو قطعة من العظم

لكن الآن أمام آية من آيات الله التي لا تصدق ، إنها التمايز ، يعيش في علمنا الذي هو كوكب مليء بالحياة أنواع لا تحصى من الكائنات ، لكن تبدأ الحياة بخلية واحدة ، تتكاثر هذه الخلية بنسخ نفسها ، ولولا تدخل تنظيم خاص للزم جراء انقسام الخلايا ظهور كتلة لحم مؤلفة من خلايا متشابهة ، إنسان له سمع وبصر ، وعظم ، ولحم ، وجلد ، وشعر ، ودماغ ، للزم أن تكون هذه الخلية المتنامية كتلة واحدة من لحم مؤلفة من خلايا متشابهة ، وليس إنساناً ، لكنه لا يحصل شيء كهذا ، لأن الخلايا ليست عاطلة ، كأنها عاقلة ، وهي في الأصل مادة غير عاقلة .

 

2 – متى يبدأ التمايز ؟

شيء دقيق جداً ؛ أنه بعد التقاء البويضة بالحوين بأسابيع يبدأ التمايز ، والتمايز تتمايز الخلايا عن بعضها ، بأمر خفي أعطي لكل منها ، والآن نشاهد هذا التغير الذي يعد معجزة لدى العلماء ، فالخلايا التي لا وعي لها شرعت في إنشاء الأعضاء الداخلية ، والهيكل والدماغ .

3 – خلايا الدماغ :

ها هنا بدأ تكون خلايا الدماغ داخل الفراغين ، هذا المشهد الذي نراه ملتقطًا بمجهر إلكتروني يبين بداية تشكل الدماغ ، وفي نهاية هذا الإنشاء سيصبح الجنين ذا عشرة مليارات من خلايا الدماغ .
الآن نشاهد تكون خلايا الدماغ ، يضاف لمجموع تكون هذه الخلايا في كل دقيقة مئة ألف خلية جديدة ، كل خلية تعلم مسبقاً كيف تتصرف ، وإلى أين ترجع ، ومع أي الخلايا يجب أن ترتبط .

في الدماغ مئة تريليون وصلة ، هذه الوصلات من أجل صنع الدماغ ، ولصنع هذه الوصلات بالشكل الصحيح يجب أن تملك هذه المادة عقلاً يفوق عقل الإنسان بكثير ، غير أنه ليس لها لهذه الخلايا أي عقل ، ليس فقط خلايا الدماغ ، بل كل واحدة من الخلايا المتكاثرة بانقسامها داخل الجنين تقوم برحلة من أول مكان تقوم منه نحو النقطة التي يجب أن تتواجد فيها ، وكل واحدة توجد في المكان الذي خصص أن تكون فيها ، وهنا تقوم بالارتباط بالخلايا التي يجب أن ترتبط معها .
شيء لا يصدق ، هذه الخلايا ليس لها أي وعي ، فمن يلهمها هذه الخطط الذكية ؟ يجيب أحد كبار العلماء فيقول : " ستقوم جميع هذه الخلايا المتشابهة مع بعضها برحلة فجأة ، وكأنها تلقت أمراً من مكان واحد ، وتذهب كلها إلى أماكن مختلفة ، تعمل على تكوين أعضاء مختلفة " ، وهذا يبين بشكل واضح أن هذه الخلايا المتماثلة خلايا لا تعرف ما ستفعله ، الخلايا المتماثلة ( الدي إن إي ) الوراثية كلها يشكل بعضها الدماغ ، وبعضها القلب ، وبعضها يشكل الأعضاء الأخرى ، هذه العضلة المتحركة هي القلب ، يدوم التكوين في رحم الأم ، وتبدأ بعض الخلايا المتغيرة بالانقباض كما ترون والانبساط ، وبعد ذلك مئات آلاف الخلايا في مكان واحد لتكون القلب ، وهذا القلب سيستمر بالخفقان طوال العمر .

 

4 – خلايا العروق :

ونشاهد الآن بعد قليل معجزة كبير جداً هذه الخلايا المستقلة عن بعضها في الأصل ، هي خلايا العروق ، ثم فجأة تبدأ هذه الخلايا بالتمسك ببعضها ، وتقيم ارتباطات فيما بينها ، وتشكل خلايا العروق

لنتابع هذا المنظر الرائع مرة أخرى ، ترى من أين تعلمت هذه الخلايا أجوبة تكوين العروق ، وكيفية القيام بها ؟ هذه من الأسئلة التي لم تجد جواباً لها في الأوساط العلمية ، في النهاية تصنع خلايا العروق نظام أنبوب رائعا ليس عليه أي ثقب ، أو شق ، السطح الداخلي للعروق أملس ، وكأنه صنع بيد صانع ماهر ، نظام العروق هذا سيبدأ بعد مدة بنقل الدم إلى جميع أنحاء جسم الجنين ، ويبلغ طول شبكة العروق كلها أربعين ألف كم ، وهذه المسافة تساوي الطول الكامل لمحيط الأرض . 

5 – خلايا الأطراف :

يستمر النمو في بطن الأم دون توقف ، وتصل أطراف الجنين في نهاية الأسبوع الخامس إلى مرحلة يمكن فيها رؤيتها ، أطراف الجنين هذه التي نراها على الشاشة يمكن أن نراها بعد حين يدين ، هذا النتوء سيصبح يداً

بعد مدة تبدأ بعض الخلايا بصنع الأيدي ، إلا أنه يقوم قسم من الخلايا بعمل محيِّر جداً ، يقوم آلاف من هذه الخلايا بتضحية جماعية ، هذه الخلايا تنتحر ، كيف ؟ نرى لماذا تقدم هذه الخلايا أنفسها ، هذه التضحية تخدم هدفاً مهماً جداً ، أجسام الخلايا الميتة على خط معين ضروري لتكوين الأصابع ، اليد كرة ، أما حينما تنتحر هذه الخلايا بين الأصابع فمن أجل تكوين الأصابع ، لماذا تقوم الخلايا بتطبيق كهذا ؟ كيف تقوم الخلية بالتضحية بنفسها ؟ ليصبح الطفل المولود ذا أصابع بالمستقبل ، من أين عرفت الخلية أنها بهذه التضحية تخدم هدفاً كبيراً ؟ كل هذا يوضح مرة أخرى أن جميع الخلايا المكونة للإنسان موجهة من قِبل الله تعالى .
وفي هذه الأثناء تبدأ بعض الخلايا بصنع الساق ، ولا تعرف الخلايا أن هذا الجنين سيحتاج إلى المشي ، وعلى الرغم من كل ذلك تتكون الساق ، والأرجل في هذه المرحلة .
الآن لو نظرنا إلى الساق كيف تتكون للجنين ، هو لا يعلم أنه يحتاج إلى المشي ، بعد قليل سننظر إلى رأس هذا الجنين. 

6 – خلايا العينين :

الحقيقة آيات الله في رحم المرأة شيء لا يصدق ، وجه الإنسان في الأسابيع الأربعة الأولى له منظر لا يحتمل ، الله عز وجل جميل ، تجلى على الإنسان بخلق جميل ، لكن في بداية تكون عند الجنين هذا منظر الوجه ، هناك حفرتان في جانبي رأس الجنين ، شيء تصديقه صعب ، لكن في هاتين الحفرتين تنشأ العينان .
ويبدأ تشكل الأعين في الأسبوع السادس حتى تعمل الخلايا طوال الأشهر ضمن خطة لا يستوعبها العقل .
تتكون أقسام العين المختلفة في تتابع رتيب ، تصنع بعض الخلايا القرنية ، وبعضها الحدبة ، و بعضها العدسة ، تقف كل خلية عند وصولها إلى حد انتهاء القسم الذي يتوجب عليها صنعه ، وتنشأ العين المكونة من أربعين طبقة مختلفة بشكل كامل ، 130 مليون عصي ومخروط في شبكية العين .

﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴾

( سورة البلد )

وهكذا تعد العينين أفضل آلة تصوير في العالم ، تخلق في بطن الأم من العدم ، فقد حسب بأن الإنسان الذي سيولد سيفتح عينيه ، وسيواجه عالماً ملوناً ، لذا خُلقت له عينان متناسبتان ، وبعض الحيوانات لا ترى الألوان ، ترى الأبيض والأسود فقط .
وقد حُسب أيضاً أن هذا الإنسان الذي سيولد يحتاج إلى أن يسمع الأصوات والأنغام ، والأذن التي ستسمع هذه الأصوات كذلك تنشأ في بطن الأم ، حيث يشكل أفضل جهاز للصوت على وجه الأرض ، هذه المشاهد تذكرنا مرة أخرى أن السمع ، والبصر من النعم الكبيرة التي منحها الله تعالى للإنسان ، وإلى ذلك يشير الله عز وجل : 

﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾

( سورة النحل )

إذاً : موضوع التمايز في خلق الإنسان في رحم الأم شيء لا يصدق .
الأستاذ عدنان : 

خاتمة وتوديع :

هنا أستطيع أن أقول : إنها المعجزات المتوالية في خلق الإنسان ، في الآفاق ، في خلق الإنسان ، في كل شيء في حياة الإنسان ، في نفسية الإنسان ، من خلال الفطرة التي تحدثتم عنها ، وهذا ما يجعل الإنسان المؤمن في وضعية يحسد عليها ، في خلقه ، في كل أطوار وجوده .
في ختام هذا اللقاء كل الشكر لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في الكتاب والسنة في كليات الشريعة وأصول الدين ، وكل الشكر أيضاً للإخوة المشاهدين .
والسلام عليم ورحمة الله وبركاته

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور