وضع داكن
16-04-2024
Logo
الصحابة الكرام : 30 - سيدنا عمير بن وهب
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

ما هي الرسالة الخاصة التي يهديها الله لبعض الأشخاص وما مصيرهم إن لم يستجيبوا لها

أيها الأخوة الأكارم، مع بداية الدرس الثلاثين من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابيُّ اليوم سيدنا عمير بن وهب, ولهذا الصحابي قصة فريدة، وقبل أن نخوض في الحديث عن تفاصيل رحلته في طريق الإيمان لا بد من توضيح بعض الأفكار .
أيها الأخوة, ربنا جل جلاله خبير بخلقه، وأخصُّ الإنسان بحديثي الآن من بين الخلق جميعًا، في بعض الأحيان ربنا سبحانه وتعالى يريه الكثيرَ من آياته الدالة على وجوده، وعلى علمه، وعلى وحدانيته، وعلى كماله، وبعض الأشخاص تتدخل العناية الإلهية لحكمة مطلقة متعلقة بعلم الله بهؤلاء الأشخاص تدخلاً مباشرًا، فهذا الشخص عمير بن وهب أراه الله من آياته، ولأن الله سبحانه تعالى عليم به تتضح له الحقائق، وينطلق في طريق الإيمان .
فهؤلاء سحرة فرعون حينما رأوا عصا سيدنا موسى انقلبت ثعباناً مبيناً، وتلقَّفت كل ما صنعوا من السحر خروا لله ساجدين، لذلك قال بعضهم: إما أن تطيعه فيكرمك، فهذا طريق، وأحياناً يكشف لك عن جوانب عظمته أو عن آياته، وهو يعلم أنك تستجيب فيكون الكشف سابقًا للطاعة, وإما أن يكون الكشفُ بعيدًا الطاعة .
هذه القصة فريدة من نوعها، فأحياناً الإنسان يرى منامًا يأتي مثل فلق الصبح, وأحياناً ينقذه الله عز وجل من ورطة محققة بحكمة ما بعدها حكمة، وبقدرة ما بعدها قدرة، فالإنسان إذا وضعه الله عز وجل أمام آية من آياته الدالة على وجوده، والدالة على كماله، والدالة على علمه، والدالة على وحدانيته، ولم يستجِب فالويل له .
يمكنك أن تتفكر في الكون، وأن تتيقن من خلاله وجود الله عز وجل، وذلك من كماله، من وحدانيته، ومن ألوهيته، ومن ربوبيته، وتمشي في طريق طاعته إلى أن تنكشف لك الحقيقة، لكن أحياناً وهذه حالات قليلة، وأنت متلبس بالمعصية، وأنت غارق في اتباع الشهوات يكشف الله لك بعض الحقائق، لعلمه بأنك تستجيب، فهذا الذي لا يستجيب إنسان خاسر، وكل واحد منا ضمن عمله، وفي أثناء سفره، وضمن إقامته، ومن خلال علاقاته قد ينشأ معه شيء على خلاف المألوف ، وعلى خلاف العادة، إنها عناية إلهية، والقصص في هذا كثيرة جداً، فإذا كشف اللهُ لك جانباً من آياته التي تدل على وجوده، وعلى وحدانيته، وعلى ربوبيته، وعلى ألوهيته، وعلى علمه, فعليك أن تسرع الخطى، لأنها فرصة نادرة لا تتكرر، وإذا كان التسعة والتسعون بالمئة من الناس مكلفون أن يهتدوا إلى الله بعقولهم، وأن يستجيبوا له، وبعدئذ يكشف لهم عن جوانب آياته الباهرة فإن بعض الأشخاص، وهم قلة قليلة، ولحكمة بالغة يكشف لهم عن وجوده، وعن علمه، وعن آياته قبل أن يطيعوا، فإذا لم يطيعوا كان هذا الكشف حجة عليهم .

ما هو الحديث الذي جرى بين عمير بن وهب وبين صفوان بن أمية ؟

سيدنا عمير بن وهب، هذا اسمه الدقيق عمير بن وهب الجمحي عاد من موقعة بدر ناجياً بنفسه، لكن ابنه وهبًا خلَّفه أسيراً عند النبي عليه الصلاة والسلام, أب و ابنه كانا في معركة بدر، وهذه المعركة حُسِمت لصالح المسلمين، والقتلى كثير، وأسرى كثيرون وقعوا في قبضة النبي عليه الصلاة والسلام، أمّا الأب فنجا ووقع الابن أسيرًا .
أيها الأخوة، نحن أحياناً بأساليب معوجة، وبأساليب لا ذكاءَ فيها، نخسر أصدقاءنا، لكن النبي عليه الصلاة والسلام للكمال الذي أكرمه الله به يستقطب أعداءه، إنه شيء غريب، عمير بن وهب من ألَدِّ أعداء النبي عليه الصلاة والسلام، كان كافراً مشركاً عنيداً مناهضاً ضالاً مضلاً فاسقاً فاجراً أراد أن يطفئ نور الله، فحارب أصحاب رسول الله، ونكل بهم، بل لم يدَّخر وسعاً في إيقاع الأذى بهم، فكان هذا الرجل من ألدِّ أعداء النبي، وبعد أن وقع ابنه أسيراً عند رسول الله، خاف أن يؤخذ الابنُ بجريرة أبيه، وأن يسوموه سوء العذاب، جزاءَ ما كان ينزل برسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى، ولقاء ما كان يلحق بأصحابه من النكال .
في أحد الأيام توجَّه عمير إلى البيت الحرام للطواف بالكعبة، لأن الحج كما تعلمون عبادة قديمة، قال تعالى:

﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾

(سورة آل عمران الآية: 96)

فالعرب كانوا يطوفون حول الكعبة, فرأى صفوان بن أمية جالساً إلى جانب الحِجْر، والحِجْر ذلك القوس المبني إلى جانب الكعبة، وهو قديم، فأقبل عليه، وقال:

((عِمْ صباحاً يا سيد قريش، فقال صفوان: عِمْ صباحاً يا أبا وهب، اجلس نتحدث ساعةً، فجلس عمير، إنهما رجلان موتوران، رجلان حاقدان، رجلان يغليان حقداً على رسول الله، جلس عمير بإزاء صفوان بن أمية، وطفق الرجلان يتذاكران بدراً، ومصابهما العظيم، ويعدِّدان الأسرى الذين وقعوا في قبضة النبي عليه الصلاة والسلام، ويتفجعان على عظماء قريش ممّن قتلتهم صناديدُ المسلمين، وغيَّبهم القليبُ في أعماقه، فتنَهَّد صفوان بن أمية، وقال: واللهِ ليس في العيش خير بعدهم، ما هذه الحياة؟ فقال عمير : صدقت واللهِ، ثم سكت عمير قليلاً، وقال: وربِّ الكعبة لولا ديون عليّ ليس عندي ما أقضيها، ولولا عيال أخشى عليهم الضياع من بعدي، لمضيتُ إلى محمد وقتلتُه، وحسمت أمره، وكففتُ شرَّه، وأرحتُكم منه، ثم أَتْبَعَ يقول بصوت خافت: وإن وجود ابني وهب لديهم ما يجعل ذهابي إلى يثرب أمراً لا يثير الشبهات، قال تعالى:

﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾

(سورة الزمر الآية: 36)

اغتنم صفوان بن أمية كلام عمير بن وهب، -ولم يشأ أن يفوِّت هذه الفرصة، فالكافر أحيانًا يكون ذكيًّا، وليس الذكاء قيمة مطلقة، الذكاء نعمة إذا وظفته في الحق، وبلاء كبير إذا وظفته في الباطل، الذكاء شأنه كشأن أيٍّ مِن حظوظ الدنيا، سُلَّمٌ ترقى به إلى أعلى عليين، أو دركات تهوي بها إلى أسفل سافلين، هؤلاء الذين اخترعوا هذه الأسلحة الفتاكة، مرة يقولون لك: القنبلة الذكية، ومرة يقولون: قنبلة عنقودية، صواريخ موجّهة بأشعة الليزر، هذا الصاروخ ركب على أشعة الليزر، ودخل في مدخنة المصنع، والقنبلة تُسَيَّر من قبل الطيّار على شاشة أمامه، هؤلاء الذين اخترعوا هذه الأسلحة الفتاكة أهم جهلاء؟ لا والله، إنهم أذكياء، هذا الذي أمر بإلقاء قنبلة على هيروشيما فأفنت ثمانمئة ألف في ثلاث ثوانٍ أهو إنسان غبيّ؟

لا واللهِ، ذكي، فهل للذكاء حينئذٍ قيمة مطلقة؟ لا والله، قيمة متعلقة بتوظيفه، فإذا وظفت الذكاء في معرفة الله، وفي الدعوة إليه، وفي العمل الصالح فهذا الذكاء نعمة من الله، أما إذا وظفته في شيء آخر فهو نقمة، ولحكمة أرادها الله لا ندري أبعادَها أكثرُ الحيوانات التي تشمئزون منها، والتي إذا ذكر اسمُها، أو رآها الإنسان يكاد يخرج من جلده، هذه الحيوانات تتمتع بأعلى قدر من الذكاء من بين الحيوانات ، ومع ذلك لا يحمَّل الإنسان رؤيتها، لماذا فعل الله ذلك؟ لبيان أنّ الذكاء وحده لا يكفي، قال الشاعر:

جمال الوجه مع قبح النفوس كقنديل على قبر المجوسِ

لذلك كلّ المجرمين في العالم الغربي يتمتعون بأعلى درجة من الذكاء، ويستخدمون الذكاء لسلب أموال الناس، ولقتلهم، وابتزاز ما عندهم، لذلك إذا آتى اللَّهُ عبدًا ذكاء فلا ينبغي أن يعدّه نعمة إلا إذا وظفه في الحق، أما إذا وظّفه في الباطل فهو نقمة ما بعدها نقمة، ويزداد وقوعًا في النار بسبب ذكائه، قال تعالى:

 

﴿إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ﴾

(سورة المدثر الآية: 18-30)

كان صفوان ذكيًّا، ووجدها فرصة لا تعوض، ومناسبة لا تفوت- فقال له:

((يا عمير اجعل دَيْنَك كلَّه عليَّ، بالغاً ما بلغ، فأنا أقضيه عنك، هذه أول مشكلة حللناها، وسأضمُّ عيالك إلى عيالي ما امتدت بي الحياة، أولادك أولادي، وإنّ في مالي من الكثرة ما يسعهم جميعاً، ويكفل لهم العيش الرغيد، ثم قال لعمير: فامضِ لما أردتَ، وأنا معك، اذهب واقتله، وأرِحْنا منه، فقال عمير: إذاً: اكتمْ حديثنا هذا، ولا تطلع عليه أحداً, قال صفوان: لك ذلك, إنّه حديث تمَّ بين اثنين، ولا يعلم أحد فحواه))

إذا أرادوا أن يعقدوا اجتماعًا، ولا يتسرب خبرُه أبداً يقعدون في الصحراء تحت خيمة , فالمفروض أنّ هذا الاجتماع لا يتسرب منه شيء أبداً .

إليكم قصة إسلام عمير بن وهب :

أيها الأخوة, قام عمير من المسجد، ونيران الحقد تتأجّج في فؤاده على محمد صلى الله عليه وسلم، وطفِق يعُدُّ العدة لإنفاذ ما عزم عليه، فما كان يخشى ارتيابَ أحد في سفره فابنُه أسيرٌ لدى المسلمين بالمدينة, وهو ذاهب ليفكَّ أسْرَه، أَمَرَ عميرُ بن وهب بسيفه فشحذ، وسقي سمًّا، ودعا براحلته فأعدت، وقدمت له فامتطى متنها، ويمّم وجهه شطر المدينة و ملء ردائه الضغينةُ والشرُّ .
بلغ عمير المدينة، ومضى نحو المسجد يريد النبي عليه الصلاة والسلام، فلما غدا قريباً من بابه أناخ راحلته، ونزل عنها, وبدأت العقدة, وصل عمير إلى المدينة ليفُكَّ أسر ابنه، فالأمر مُغطًّى بحُجة واضحة .
كان سيدنا عمر بن الخطاب عملاقُ الإسلام، وأحد أركان هذا الدين جالساً مع بعض الصحابة قريباً من باب المسجد، يتذاكرون بدراً، وما خلفته وراءها من أسرى قريش وقتلاهم، و يستعيدون صور البطولة التي قدّمها المسلمون من المهاجرين والأنصار، ويذكرون ما أكرمهم الله به من النصر، وما أراهم في عدوهم من النكاية والخذلان, فحانت منه الْتِفاتَةٌ فرأى عمير بن وهب ألدَّ أعداء رسول الله ينزل عن راحلته، ويمضي نحو المسجد متوشحاً سيفه، فَهَبَّ عمر مذعوراً، وقال: هذا الكلب عدو الله عمير بن وهب, واللهِ ما جاء إلا لشر, فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ ثُمَّ قَرَأَ ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ))

[أخرجه الترمذي في سننه عن أبي سعيد الخدري]

إنّ المؤمنَ مسدَّدٌ رشيد, ولقد أَلَّبَ المشركين علينا في مكة، وكان عينًا علينا قبيل بدر، ثم قال لجلسائه: امضوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وكونوا حوله، واحذروا أن يغدر به هذا الخبيث الماكر .
وفي رواية أخرى أنه انطلق إليه، وقال له: ما الذي جاء بك إلينا؟ ولِمَ هذا السيف على عاتقك؟ ثم قيّده في حمالته، وساقه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، دخل سيدنا عمر وعمير بن وهب على سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، وقال عمر: يا رسول الله, هذا عدو الله عمير بن وهب، قد جاء متوشحاً سيفه، وما أظنه إلا يريد شراً، فقال عليه الصلاة والسلام: أدخِلْه عليّ، فأقبل الفاروق على عمير، وأخذ بتلابيبه، وطوّق عنقه بحمّالة سيفه، ومضى به نحو النبي عليه الصلاة والسلام، والنبي رقيق، نور يشعّ، إنه نفس إنسانية تفيض رحمة، والإنسان يمتحن، 

فأن ترحم مَن تحب هذا أمرٌ طبيعي جداً، وأهل الدنيا الكفار يرحمون مَن حولهم، مَن يلوذ بهم، ولكن عظمة الإيمان أن المؤمن يحب الناس جميعاً

فيرحم أعداءه قبل خصومه, فقال عليه الصلاة والسلام: يا عمر, أطلقه وفكَّ عنه هذا القيد، فأطْلَقه, ثم قال: يا عمر استأخر عنه, فتأخر عنه, ثم توجّه النبي عليه الصلاة و السلام إلى عمير بن وهب، وقال: ادنُ يا عمير, فدنا، وقال: أَنْعِمْ صباحاً يا محمد, وهذه تحية العرب في الجاهلية, فقال عليه الصلاة و السلام: يا عمير, لقد أكرمنا الله بتحية خير من تحيتك هذه, لقد أكرمنا الله بالسلام، وهي تحية أهل الجنة, فقال عمير بفظاظة ما بعدها فظاظة وغلظة ما بعدها غلظة: واللهِ ما أنت ببعيد عن تحيتنا، وإنك بها لحديث عهد .
أيها الأخوة, قد تتحمل إنسانًا مؤمنًا، وهناك شخص صدره واسع, ونَفَسُه طويل, حليم, يتلقى فظاظة خصومه بصدر رحب, ويمتصُّ مواقفهم الفجّة, وهناك شخص لا يتحمل, إذا أردت أن تكون داعية إلى الله عز وجل فلا بد من حلم كثير, ولا بد من سعة صدر, ولا بد من تجاوز, ولا بد أن تكون في أعلى مستويات الرحمة والحب .
فقال يا عمير: ما الذي جاء بك إلينا؟ فقال: جئت أرجو فكاكَ هذا الأسير الذي في أيديكم, قال النبي: فما بالُ هذا السيف الذي في عنقك, قال له : قبّحها الله من سيوف, وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر؟ إنّه يخادع، قال: أَصْدِقْني يا عمير, ما الذي جئت له يا عمير؟ قال: ما جئتُ إلا لذلك, قال له: يا عمير, بل قعدتَ أنت وصفوان بن أمية عند الحِجر، فتذاكرتما أصحابَ القليب من صرعى قريش، ثم قلت لصفوان: لولا دَيْن علَيَّ وعيال عندي لخرجتُ حتى أقتل محمداً, فتحمّل لك صفوان بن أمية دَيْنَك وعيالك على أن تقتلني، أليس كذلك يا عمير؟ هذه الآية التي أعطاها الله لعُمير, فذهل عمير لحظة، ثم ما لبث أن قال: أشهد أنك رسول الله, انتهى الأمر .
إنّ الله عز وجل يُرِي الإنسان وهو في المعصية وهو في الضلال يريه آية من آياته، فإنْ لم يستجب فقد ضيّع فرصة لا تتكرر، ثم قال مرة ثانية: لقد كنا يا رسول الله نكذِّبك بما كنت تأتينا به من خبر السماء، بعض الناس يكون محدودًا في نظرته، فيقول لك: هذه سحبة فلا تصدق ، كلهم دجالون, هؤلاء الكفار كلماتهم قاسية جداً- وما ينزل عليك من الوحي، لكن يا رسول الله خبري مع صفوان بن أمية لم يعلم به أحد إلا أنا وهو, وواللهِ لقد أيقنتُ يا رسول الله أنه ما أتاك به إلا الله, الآن أنت رسول الله حقًّ وصدقًا، فالحمد لله الذي ساقني إليك يا رسول الله سوقاً -وفي الحديث عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:

((عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ))

[أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة]

وفي رواية أبي داود وأحمد:

((عَجِبَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ))

[أخرجه البخاري في الصحيح عن أبي هريرة]

ما هو الأمر الذي وجهه رسول الله إلى أصحابه وماذا نستفيد منه ؟

فقال عليه الصلاة والسلام:

((فقِّهوا أخاكم, -صار الآن أخاكم, ليس هناك عداوة دائمة أبداً في الإسلام، أنت تعادي سلوكه, وتعادي كفره, وتعادي فسقه, وتعادي فجوره, فإذا عاد إليك فهو أخوك حقاً، وانتهى الأمر- قال: فقِّهوا أخاكم، وعلِّموه القرآن، وأطلقوا أسيره، إكراماً له, وفرح المسلمون بإسلام عمير بن وهب أشدّ الفرح، حتى إن عمر بن الخطاب قال: واللهِ لَلْخنزير كان أحبَّ إلي من عمير بن وهب حين قدم على رسول الله، وهو اليوم واللهِ أحبُّ إليَّ من بعض أبنائي ،-فهذا هو الدين, لمجرد أن يؤمن المرء, لمجرد أن يصطلح مع الله, لمجرد أن يتوب إلى الله, لمجرد أن يعود إلى الطريق الصحيح, فهو أخوك حقاً، وما لم تكن هذه المودة، وهذه المحبة، وهذا التناصح، وهذا البذل، وذاك العطاء بين المؤمنين, فو اللهِ لا خير فينا, ولا ينظر الله إلينا, وواللهِ ما من وقت مَرَّ على المسلمين في تاريخهم هم في أَمَسِّ الحاجة إلى أن يتعاونوا، ويتكاتفوا ويعذر بعضهم بعضا، ويسامح بعضهم بعضاً، ويعين بعضهم بعضاً، وما مِن وقت مرَّ على المسلمين في تاريخهم كهذا الوقت الذي هم في أمسِّ الحاجة إلى التعاون، وما من وقت مرّ على المسلمين في تاريخهم أصعب من هذا الوقت، حيثُ أعداؤهم يهجمون عليهم هجمة شرسة وحشية في كل أنحاء العالم، والأخبار بين أيديكم، وقد قال الله عز وجل:

﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾

(سورة المائدة الآية: 2)

الحقيقة المؤشر الصحيح للمؤمنين أنه يجب أنْ يكونوا كالصف الواحد, كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً, كالجسد الواحد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ, قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْـهُ عُضـْوٌ تَدَاعَى لـَهُ سَائِـرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى))

[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير في الصحيح]

سوف أعطيك مقياسًا واضحًا أيها الأخ الكريم, لك أخ مؤمن ألَمَّتْ به ملمّة، فهل تتألم؟ إن تألمت وربِّ الكعبة إنك لمؤمن، وإن لم تتألم فقد وضعتَ نفسك شئت أم أبيْتَ في صفّ المنافقين، قال عز وجل:

﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾

(سورة آل عمران الآية: 120)

لمجرد أن تفرح بملمّة ألمّت بمؤمن, بنازلة نزلت به, بمصيبة حلّت به, لمجرد أن تفرح فلست مؤمناً، لقد وضعت بذلك نفسَك مع المنافقين، أمّا إذا رأيت أخاك المؤمن قد أكرمه الله بشيء من الدنيا, بمرتبة, بوظيفة, بزواج, ببيت, بدعوة, ففرحت به، واغتبطت له، وأعنته فأنت مؤمن وربّ الكعبة، أمَّا إذا حسدتَه، وأردتَ أن تبحث عن عيوبه، وأردتَ أن تطعن فيه، وأردتَ أن تُزَهِّد الناس فيه لحسد يغلي في قلبك فأنت واللهِ مع المنافقين، والدليل قول الخبير العليم:

﴿إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾

(سورة آل عمران الآية: 120)

المنافق يتألم أشد الألم إذا أصاب المؤمنَ خيرٌ- .
صار عميرٌ يزكِّي نفسَه بتعاليم الإسلام، ويشرق فؤاده بنور القرآن، ويحيا أروع أيام حياته وأغناه)) 

أيها الأخوة، إنّ أحدكم بعد ما تاب إلى الله، واصطلح معه، وسار على طريق الإيمان، إذا لم يقل: أنا أسعد إنسان في الأرض يكون في توبته خلل، لأن ربنا عز وجل يكرم التائب بسعادة لا توصف, براحة لا سبيل إلى وصفها، ويشعر المؤمن التائب أنه ملك, وأنه أسعد الناس.
ذات مرة قال لي أخ كلمة، وكان في الحج: واللهِ يا أستاذ, ليس في الأرض مَن هو أسعد مني إلا أن يكون أتقى مني, فأنت سعادتك بإيمانك, سعادتك بطاعتك, سعادتك بعملك الصالح, سعادتك بأخوانك, سعادتك بمجلس العلم, سعادتك بمسجدك, إذا كان لك هذا الانتماء فأنت مع المؤمنين، أمّا الذي يتبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّهِ ما تولى، أنت مع المجموع, أنت عضو في جماعة, أنت خلية في جسد, أنت غصن في شجرة، تتألم لألم أخوانك، وتفرح لفرحهم، تسخِّر إمكاناتك في خدمتهم، أنت إذًا: مؤمن، وهكذا يكون الإيمان .

 

ما هو الخبر الذي كان ينتظره صفوان وما هو الخبر الذي صدم به ولماذا عاد عمير إلى مكة ؟

لماذا كان صفوان في أروع أيام حياته؟ لأنه يتوقع بعد أيام أن يأتي الخبر المفرح بأن محمَّداً قد قتل, كان صفوان صامتًا لا يتكلم، لقد اتفق صفوان وعمير ألا يتكلما، ولكن كان يقول: يا معشر قريش, أبْشِروا بنبأ عظيم يأتيكم قريباً، ثم إنه لمَّا طال الانتظار على صفوان بن أمية قالوا: أين هذا الخبر السار؟ فكان يخرج كل يوم إلى ظاهر مكة يسأل القوافل عن أخبار المدينة، فلا يسمع شيئًا، ولا يصله شيء, ولمَّا طال الانتظار أخذ القلق يتسرب إلى نفسه شيئاً فشيئاً

حتى غدا يتقلب على أحرّ من الجمر، لقد كفل له أولاده، وكفل له دَيْنَه، فماذا ينتظر؟ و طفق يسأل الركبان والقوافل عن عمير بن وهب, فلا يجد عندهم جواباً يشفيه، إلا أنه مرة جاءه راكب فقال : إنّ عميراً قد أسلم يا سيدي, صاحبك أسلم, فنزل عليه الخبرُ نزولَ الصاعقة، إذْ كان يظن أن عمير بن وهب لا يسلم ولو أسلم جميعُ مَن في الأرض, لكنَّ الآية الباهرة التي جاءته من الله، والتي أكدّت له صدق النبي، وأنه رسول استفاد منها، فإذا أرَى الله عز وجل عبدًا آية فلا يركب رأسه .
أما عمير بن وهب فإنه ما كاد يتفقه في دينه، ويحفظ ما تيسّر له من كلام ربه، حتى جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله, لقد غبَرَ عليّ زمان، أي مضى علي زمان، وأنا دائب على إطفاء نور الله, شديد الأذى لمَن كان على دين الإسلام, وأنا أحب أنْ تأذن لي أن أقدم على مكة لأدعو قريشاً إلى الله ورسوله فأُكفِّر عما سبق مني, فرجع إلى مكة داعية, لقد خرج منها قاتلاً، فعاد داعية، وهذه أنوار النبي صلى الله عليه وسلم, هذه عظمة الرسالة, وهذه عظمة النبوة, لذلك على الإنسان ألاّ يعد حياته التي عاشها قبل أن يسلم، والوقت الذي أمضاه قبل أن يتعرف إلى الله عز وجل، لا يعدّ هذا الوقت من حياته .
ذهب رجل إلى قرية، وزار مقبرتها، فلفت نظره شيء عجيب على الشواهد، هذا عاش ثلاث سنوات، وقد يكون طفلاً, وهذا أربع, وهذا خمس, وهذا ثماني سنوات, غير معقول، مقبرة بأكملها كلهم صغار، فسأل، فقيل له: هؤلاء أهل القرية لا يعدُّون من حياتهم السنوات التي سبقت إيمانهم، فالواحد منا متى تعرَّف إلى الله؟ في العشرين، والآن عمره أربعون سنة, كم مضى مِن عمرك يا أخي؟ أنا مضى مِن عمري أربعون سنة لا عشرون, الباقي لا دخل لها، الباقي كنتُ لا أعرف عن ديني خلاله شيئًا، فعمر الإنسان الحقيقي هو العمر الذي تعرّف إلى الله فيه .
أَذِنَ النبي عليه الصلاة و السلام لعمير، فوافى مكة، وأول بيت طرقه بيتُ شريكه بيت صفوان بن أمية, فدهش صفوان, قال: يا صفوان, إنك لسيد من سادات مكة، وعاقل من عقلاء قريش، أفَتَرَى أن هذا الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام، والذبح لها، أيصح في العقل أن يكون ديناً؟ أين عقلك؟ هل هذا دين؟ حجر تنحتونه أنتم وتعبدونه، وتقدمون له الهدي! فليس هذا معقولاً ، لقد صار عمير عاقلاً، انظر فالإسلام يفتح الذهن, وينوِّر النفس, ويوقظ الفكر, قال له: أمّا أنا فأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، -فالجماعة رحمة

وإذا كان الإنسان مع الجماعة، ويجد فلانًا و فلانًا و فلانًا، وصديقه، وجاره، كلهم يصلون، وعابدون الله عز وجل, ويحضرون مجالس العلم, ويتفقهون، حينئذٍ يأنس بهم، أمّا إذا انزوى الإنسانُ وحده، انفرد به الشيطان، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ, قَالَ:

((خَطَبَنَا عُمَرُ بِالْجَابِيَةِ, فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ, إِنِّي قُمْتُ فِيكُمْ كَمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا, فَقَالَ: أُوصِيكُمْ بِأَصْحَابِي, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ, ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهـُمْ, ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَحْلِفَ الرَّجُلُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ, وَيَشْهَدَ الشَّاهِدُ وَلَا يُسْتَشْهَدُ, أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجـُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلَّا كَانَ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ, عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ, وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الْوَاحِدِ وَهـُوَ مِنَ الِاثْنَيْنِ أَبْعَدُ, مَنْ أَرَادَ بُحْبُوحَةَ الْجَنَّةِ فَلْيَلْزَمِ الْجَمَاعَةَ, مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَذَلِكُمُ الْمُؤْمِنُ))

[أخرجه الترمذي في سننه عن ابن عمر]

عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمُرِيِّ, قَالَ: قَالَ لِي أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَيْنَ مَسْكَنُكَ؟ قُلْتُ: فِي قَرْيَةٍ دُوَيْنَ حِمْصَ, فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, يَقُولُ:

((مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي قَرْيَةٍ وَلَا بَدْوٍ لَا تُقَامُ فِيهِمُ الصَّلَاةُ إِلَّا قَدِ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فَعَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُـلُ الذِّئـْبُ الْقَاصِيَةَ))

قَالَ السَّائِبُ: يَعْنِي بِالْجَمَاعَةِ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ .

[أخرجه أبو داود في سننه]

فالذي يعيش وحده تأتيه الوساوس, ويفتي لنفسه, ويتكاسل في أداء عباداته, ويستبيح بعض المحرمات، يقول لك: لا شيء بها، أنت ترى أن ليس فيها شيء، فمَن أنت؟ قرأت مرة بيت شعر:

يقولون هذا عندنا غير جائز فمن أنتم حتى يكون لكم عند

ما هذه (عندنا)؟ ومن أنت؟ وشرع مَن هذا؟ الشرع كلام الله وسنة رسوله، هل أنت مصدر تشريعي؟ أنت عبد لله عز وجل، قال تعالى:

 

﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾

(سورة الأحزاب الآية: 36)

لذلك كم مِن صديق هدَى صديقه بالمنطق؟ أقول لكم: ما هو الواجب على المهتدي؟ أنْ يهديَ أصدقاءه الذين عاشوا معه، كل أخ من أخواننا له جيران، وله أصدقاء، وله زملاء عمل ادْعُهم إلى بيتك، فأنت تستفيد إذْ تصطلح مع الله، وتُقبِل عليه، وتسعد بقربه، وتشعر أنك تطير في السماء، ورفيقك الذي عشت معه ثلاثة عشر عامًا إنْ تركه في ضلالاته وبُعْده ومعاصيه فأنت لست مؤمناً، فعليك أن تدعو إلى الله مَن يلوذ بك .
إذا هداك اللهُ، وتعرفتَ إليه، وسعدتَ بقربه، انْظُر إلى مَن كان معك سابقاً، وأقرب الناس إليك زوجتك، أم أنك تمدحها على جودة طبخها، ولكنها لا تصلي، فهل هذا مؤمن؟ يهمّك منها طبخها فحسْب، أما المؤمن الصادق فأقرب الناس إليه زوجته، وأولاده، وأخواته البنات، وأولاد عمه، وأولاد خالته، وجيرانه، وزملاؤه، فإذا اهتديت وسعدتَ فأسْعِدْهُم، واجلسْ معهم جلسة، واسهرْ معهم سهرة، أعطِهم شريطًا ليسمعوه، وهذا هو السعي الطيب، الذي قال الله تعالى في حقِّه: 

﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾

(سورة الإنسان الآية: 22)

سعيك في الدنيا .
إذا ذهبت إلى صديقك في طرف المدينة الآخر، وركبتَ، وانتقلتَ من حافلة إلى حافلة، لكي تجلس معه جلسة، فتحتاج إلى جهد ووقت، لكن الله لا يضيعُ عنده شيء, قال تعالى: 

﴿إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً﴾

(سورة الإنسان الآية: 22)

قال عمير لصفوان: أمّا أنا فأشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ثم طفق عمير يدعو إلى الله في مكة، حتى أسلم على يديه خلقٌ كثير, فأنت حينما تدعو إلى الله فقد أَحْيَيْتَ مَن هديتَه حياةَ نفسٍ غالية، قال تعالى: 

﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ﴾

(سورة المائدة الآية: 32)

يصبح المؤمنُ أُمّةً، هو وزوجته، وجيرانه .
وذاتَ مرة أكرمني اللهُ بأخ زارني في البيت، يطلب مني ألاّ أسمح لأولاده أنْ يحضروا دروس العلم، هكذا طلب، فظللتُ أقنعه حتى صار يأتي هو وأولاده وشركاؤه وصهره، وما بقي أحد إلا وأحضره إلى المسجد بعد أن تألق .

 

الرواية الثانية التي تتعلق بخبر عمير وصفوان :

هناك رواية ثانية في كتاب آخر تذكر أنّ سيدنا عمير بن وهب جاء النبي بعد فتح مكة، وصفوان كما تعلمون ممّن أَهْدَر النبيّ دمَهم، اقتُلوهم، ولو تعلّقوا بأستار الكعبة، هو وعكرمة بن أبي جهل ونفر آخرون، وعمير صديق حميم وفيٌّ، ذهب إلى النبي، وقال:

((يا نبي الله، إنّ صفوان بن أمية سيد قومه، وقد خرج هارباً منك، ليقذف بنفسه في البحر لينتحر، وهو خائف، لأنه مهدور الدم، مقتول، فأمنْهُ يا رسول الله، فقال: هو آمِن، فقال: أعطني آية يَعرف بها أمانك، أريد علامة ، فأعطاه النبي عِمامته، قال له: خذ عمامتي، فقال عمير لصفوان: يا صفوان، هذه عمامة النبي، وقد أمّنك، قال تعالى: 

﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ 

(سورة التوبة الآية: 128)

ذهب إلى صفوان وقد ولى هارباً شطر البحر لينتحر، فقال له:

((إن رسول الله يا صفوان أفضل الناس، وأَبَرّ الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، عزّه عزّك، وشرفه شرفك، فقال له : إني أخاف على نفسي أن يقتلني، فقد هدر دمي، قال له: هو أحلم من ذلك، وأكرم، فجاء صفوان النبيَّ الكريمَ، والشاهد العمامة، والكلام صحيح، فقال للنبي الكريم: إنّ هذا يزعم أنك قد أمّنتني، فقال: صدق، قال له: اجعلني بالخيار، أن أستشير عقلي شهرين، قال له: أنت في الخيار أربعة أشهر، وعندما دخل رسول الله مكة, قال أبو سفيان: يا ابن أخي ما أحلمك، وما أكرمك، وما أوصلك، وما أحكمك))

هذا عمير بن وهب أراه الله عز جل أراه آية، وقد اهتدى وهدى، وكل واحد منا له نصيب يصيبه مما يُشْبِه هذه القصة، وهذا الذي أصابه حُجّة عليه، فعليه أن ينتبه، فهو يتعامل مع الله عز وجل . 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور