وضع داكن
29-03-2024
Logo
الدرس : 7 - سورة الرعد - تفسير الآية 33 – للأخير - المراقبة
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

 الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

 أيها الإخوة المؤمنون، وصلنا في سورة الرعد إلى قوله تعالى:

﴿  أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33) ﴾


أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ


الشكل الحسي لمعنى الآية :

﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ هذا المعنى كان من الممكن أن يكون بشكلٍ تجريدي، لكن الله -سبحانه وتعالى- عرضه علينا بشكلٍ حسي، كيف إذا وقف إنسان فوق إنسان يتفحَّص عمله حركةً حركة، فأدنى حركة، أدنى إشارة، أدنى عبارة، أدنى كلمة، أدنى نَفَس مُسجَّلٌ عليه، وسوف يحاسبه عليه، الله -سبحانه وتعالى- قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبت.

﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ۖ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ(3) ﴾

[  سورة الأنعام  ]

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا ۖ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) ﴾

[ سورة الحديد  ]

﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) ﴾

[  سورة طه  ]

 كالأعمال والنيات والمطامح وما يخفيه الإنسان وما يعلنه ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ الجواب محذوف، لأن ما قبله يدلُّ عليه.


كلُّ مخلوق تحت مراقبة الله :


 ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ ويحاسبُها على عملها، قائم بمعنى يعلم ويجزيها على عملها، كمن ليس كذلك، هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله أَهُم هكذا؟ فما من إنسان على وجه الأرض وما من حيوان، وحتى النباتات، حتى كل المخلوقات إنما تُحاسَب حساباً دقيقاً، لا تُقتَل البهائم إلا بغفلة.


المراقبة تبعث على الاستقامة :


 ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ فهذا المعنى لو أن الإنسان تمثَّله لاستقام على أمر الله، آيةٌ واحدة تبين حكمة الحج:

﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ۚ ذَٰلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) ﴾

[  سورة المائدة ]

 أي أنك إذا علمت أن الله يعلم حُلَّت كل المشكلات، لأنك إذا علمت أنك مراقب تستقيم، فلو جاءك خبر أنك مُراقَب تنضبط انضباطاً عجيباً، هذا إذا كان الذي يراقبك إنساناً، فكيف لو تأكَّدت أن خالق السماوات والأرض يراقبك، وقائمٌ على نفسك، يراقبها، ويرقب مسعاها، تحركها، نياتها، مطامحها، أمانيها، رغباتها، ما تعلنه، ما تضمره، ما تسرُّه، ما تخفيه.


كيف يعصي الإنسان ربَّه و هو يعلم أنه يراقبه وسيحاسبه ؟!


 ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ والله الذي لا إله إلا هو شيءٌ واحد يدعو إلى العجب؛ أن ترى إنساناً يعصي الله، كيف لا يرى أن الله معه؟ أن ترى إنساناً يخدع إنساناً، يأكل ماله، و يعتدي عليه، يتجاوز حدوده معه ويظلمه، فكيف لا يرى أن الله يراقبه، وسوف ينتقم منه، وسوف يحاسبه حساباً عسيراً ؟

﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ أي إن ربنا -عزَّ وجل- كل شيء مكشوف أمامه، فليس الموضوع موضوع علم فقط بل، الموضوع أخطر من ذلك، موضوع علمٍ وموضوع جزاء، يعلم ويجازي إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ ويجزيها بما كسبت، كمن ليس كذلك، لذلك قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) ﴾

[  سورة النساء  ]

 وقوله تعالى :

﴿  إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ(14)  ﴾

 

[ سورة الفجر  ]

 وقوله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ وقوله تعالى :

﴿  أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(7)﴾

[  سورة المجادلة  ]

 هذه الآيات الكريمة التي توضح أن الله معنا، وهذه الآيات لو عقلنا معناها لاختلفت خطتنا في الحياة كلها، فانتهى الكذب، وانتهى الخداع، انتهى التدليس، انتهت الانحرافات، انتهت المعاصي، فالعبرة أن تعلم أن الله يعلم.

﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾ أحياناً الإنسان يكسِبُ عملاً، فيخطط له، يختاره، يدفع ثمنه ﴿بِمَا كَسَبَتْ﴾ فالإنسان يكسب الخير أو الشر، أما الذي لا دخل لك به، لم تكتسب به إرادةً فهذا له موضوعٌ آخر.


وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ


الشركاء أسماء لا حقيقة لمسمياتتها :

 ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ أي هم بتفاهتهم، طبعاً الشركاء لها أسماء، اللات والعزى ومناة، لكن المقصود من هذه الآية أن هؤلاء الشركاء لتفاهتهم، لضعفهم، لجمودهم، إنهم لا يسمعون، لا ينطقون، لا يجيرون، ولا يعلمون، لا يتحركون، ولتفاهتهم لا يستحقون الأسماء، فإذا قال الله تعالى: ﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ أي ما صفاتهم؟ هل لهم صفات تؤهِّلُهم أن يعبدوا من دون الله؟ إن كانت كذلك فما هي؟ وهل لهم تصرف في الكون؟ هل يسمعون؟ هل يجيبون؟ هل يَرَوْن؟ هل يعلمون؟ هل يتحركون؟ هل ينطقون؟ هل ينجدون أتباعهم؟ هل يحفظونهم؟ هل يدافعون عنهم؟ هل ينقذوهم؟ هل يميتوهم؟ هل يحيوهم؟

﴿قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ ما أسماؤهم؟ إنهم لتفاهتهم أتفه من أن يوضَع لهم اسم، لأن كلمة اسم تعنى أن تصفه بصفةٍ أساسيةٍ فيه، فحينما تسمَّى الطيارة طيارة لأنها تطير، فإذا قلت لهذا الجسم الكبير الجاثم على أرض المطار سمّها، تقول له: طيارة ،لأنها تطير، وقد تسمى بعض الأشياء المهمة بأسماء، لكن هذه الآلهة الأحجار التي نُحِتت وعُبدت من دون الله أتفه من أن تُسمَّى.

﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ﴾ أي هم أتفه من أن يُسمَّوا، وإن كنتم تعتقدون أنكم تعبدونهم لأهليةٍ فما هي هذه الأهلية؟


أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ


علمُ الله وسِع كل شيء في الأرض والسماء :

﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ﴾ الذي يعلم السر وأخفى، وما تسقط من ورقةٍ إلا هو يعلمها، إذا كانت ورقة الزيتون قد سقطت يعلمها الله -سبحانه وتعالى-.

﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ﴾ لمجرد أن الله لا يعلمهم إذاً هم غير موجودين، أكبر دليلٍ على عدم وجودهم أن الله الذي يعلم كل شيء لا يعلمهم، إذاً غير موجودين، معنى موجود أي له تصرُّف.

 أحياناً يكون في دائرة شخص موجود، لكنه غير موجود، لأنه لا يفعل شيئاً لا يقدِّم، ولا يؤخِّر، لا يمنع، ولا يعطي، لا يوافق، ولا يرفض، فالوجود وجود تحرُّك، وهذه الآلهة التي يعبدونها من دون الله لا تستطيع أن تفعل شيئاً، إذاً غير موجودة.

﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ﴾ فإذا وحَّدت استراح قلبك. 

﴿ فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ(213)  ﴾

[  سورة الشعراء  ]

 في أي زمانٍ، وفي أي مكان، لمجرد أن ترى أن في الأرض إنساناً يستطيع أن يفعل شيئاً ما، فهذا شرك، والشرك من لوازمه العذاب ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنْ الْمُعَذَّبِينَ﴾ .


أَمْ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ


 ﴿أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ﴾ هذه آيةٌ رائعة، فمعنى:

الأسماء الكاذبة لا تغير من حقيقة مسمياتها :

 ﴿بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ﴾ أي اسمٌ على غير مُسَمَّى، ما قولك لو كتبت على قطعة خشب: سفينةٌ عابرةٌ للقارات مثلاً، هذه الكلمة الضخمة الفخمة هل تغيّر من حقيقة هذه القطعة من الخشب؟ تبقى القطعة من الخشب قطعة من الخشب ولو كتبت عليها سفينة عابرة للقارات، ﴿بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ﴾ أي قول ليس له أساسٌ من الواقع، لو أن واحداً من عامة الناس ممن لا يحمل أية شهادة ذهب إلى المطبعة، وطلب من صاحب المطبعة أن يطبع له بطاقةً وعليها: دكتور في جراحة القلب من جامعة كذا في أمريكا مثلاً، فهذه العبارة هل تجعله طبيباً؟ هل تغيِّر من حقيقته شيئاً، فهذا هو ظاهر القول، كلامٌ ليس له رصيد، كلام لا ينطبق على الواقع، كلام لا تدعمه الحقيقة، فإذا قلت هذا الإله إله المطر، وهذا الإله إله الرياح، هذا كلام ظاهر القول، هو قطعة حجرٍ منحوتة ليس إلا، لا تستطيع أن تفعل شيئاً، وعلى هذا فقس.

 قل: فلان يستطيع أن ينفعني، ظاهرٌ من القول، هو عبدٌ ضعيف، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه الضر، ولا أن يجلب لها الخير، لو أن الخلايا نمت نمواً عشوائياً ماذا يفعل هذا الذي تعبده من دون الله؟ يُصاب بالذعر، لو أن مجموعة كريات حمراء تجمَّدت في بعض الشرايين فاختل توازنه، أو اختل سمعه، أو اختل بصره، أو اختلت محاكمته، أو اختل تفكيره، أو أصيب بالشلل، ماذا يفعل؟ هذا الذي تعبده من دون الله، أو تخافه، أو ترجوه، أو ترى أن بيده شيئاً ما، هذا لا يستطيع أن يحرِّكَ ساكناً، ولا أن يدفع عن نفسه الضر، ولا أن يجلب لها النفع، كيف تعبده من دون الله؟


بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ


الكافر زُيِّن له عملُه فأعرض عن الله :

 ﴿بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ هذا الذي كفر، معنى كفر أي أعرض عن الله -سبحانه وتعالى-، التفت إلى الدنيا، وأدار ظهره للدين، أعرض عن الله، أعرض عن وعده، أعرض عن وعيده، أعرض عن جنَّته، أعرض عن رضاه، رغب في الدنيا فقط، فحالة الإعراض عن الله سبحانه وتعالى هي حالة الكفر، إذا أعرض الإنسان عن الله -سبحانه وتعالى- تصبح الشهوات محركاً له ليس غير، فالشهوات يتمنى أن يرويها بالحق أو بالباطل، وبالخير أو بالشر، بالأسلوب الصحيح أو بالعدوان.

 إذاً: هذا الكافر حينما أعرض عن الله -عزَّ وجل- زُيِّنَ له سوء عمله، فنفسه تنطوي على شهوات، المؤمن ضبط شهواته وفق الشرع، أما الكافر فحركته شهواته فقط، فأصبحت شهواته محركاً لأفعاله، إذاً بدافعٍ من شهوته، وبسبب عمى قلبه، وإعراضه عن الله -عزَّ وجل-، رأى أن يروي هذه الشهوات من أي طريقٍ كان، وقع في الزنا، وقع في الكسب الحرام، وقع في النِفاق، وقع في الكذب، وقع في الخيانة.


كلّ حركة الإنسان وراءها رؤية :


  إذاً: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ﴾ إعراضهم عن الله، وجهلهم به، وبعدهم عنه، وإقبالهم على الدنيا، وجعل الشهوات هدفاً لحياتهم، جُعِلَ مكرهم يبدو لهم مُزيَّناً، والحقيقة أنّ وراء أي سلوك رؤية.

 سيدنا يوسف حينما دعته امرأة العزيز قال: معاذ الله، تحليل علمي، لماذا قال: معاذ الله، رأى أن الشقاء كله في الزنا، و رأى في الزنا بعداً عن الله -عزَّ وجل-، رأى خيانة الزنا، رأى انحراف الزاني،  رأى دناءة الزاني، فقال: معاذ الله، ولو ملك الناس رؤيةً كرؤية هذا النبي الكريم لأعرضوا عن الزنا، هذا الذي يسرق لماذا يسرق؟ رأى أن هذه السرقة خير له، رأى فيها خيراً، فقد رأى أن المال الوفير يأخذه بلا مسؤولية، وغاب عنه أنه سوف يُكْشَف، وسوف يُحاسَب، وسوف يغضب الله -عزَّ وجل-، وسوف يَعتدي، وسوف يُعتدى عليه، هذا لم يره.

 إذاً: ما من تحركٍ للإنسان إلا وراءه رؤية، فطوبى لمن كانت رؤيته مطابقةٌ للحق: (اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه) .

 هذا الذي يعتدي على أعراض الناس يرى في ذلك متعةً، ومكسباً وغنيمةً، لكنه لو رأى الحق لرآها مغرماً، فالبطولة أن تمتلك الرؤية الصحيحة، هذه بطولة في زمانٍ عَمِيَت فيه البصائر، وغلبت الشهوات، وصار هم الرجل بطنه، وفرجه، وخميصته، والدرهم والدينار في زمن العمى، في زمن البعد عن الله -عزَّ وجل-.

((  إِذَا رَأَيْتَ شُحًّا مُطَاعًا، وَهَوًى مُتَّبَعًا، وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ  ))

[  الترمذي عن أبي ثغلبة الخشني وهو ضعيف ]


 في هذا الزمن إذا امتلكت الرؤية الصحيحة فأنت بطل:


ليس من يقطع طرقاً بطلاً   إنما من يتقي الله البطل

[ لامية ابن الوردي ]

 يجب أن ترى أن المال الحرام لا خير فيه، ولا نفع فيه، ولا يسعد، بل يشقي، يذهب ويُذهَب معه صاحبه، نهاية المال الحرام هو الدمار، فيجب أن ترى هذه الرؤية، ويجب أن ترضى بألف ليرة، وأن تعرض عن مئة ألف ليرة بالحرام، يجب أن ترى أن ألف ليرة تكسبها بالحلال يبارك الله لك فيها، ويسعدك، ويوفِّر عليك نفقاتٍ أنت في غنى عنها، يحفظ صحتك، وصحة زوجتك، وصحة أولادك، ويبارك لك فيها، خيرٌ لك من مئة ألف ليرةٍ تذهب، ويذهب صاحبها معها. 


الاتصال بالله تصحيح للرؤية :


 الرؤية أيها الإخوة المؤمنون تحتاج إلى اتصالٍ بالله -عزَّ وجل-، فإذا اتصلت بالله، قال عليه الصلاة والسلام :

((  وَالصَّلَاةُ نُورٌ  ))

[  مسلم عن ابي مالك الأشعري  ]

 فأنت موجودٌ على وجه الأرض، مزوَّدٌ بشهواتٍ كثيرة، والشهوات قِوى تدفعك نحو جهةٍ ما، تجوع فتنطلق لتأكل، تجوع جوعاً من نوع آخر فتنطلق لإرواء هذا المَيْل، فالشهوات تحرِّك، فإذا كان مع هذه الحركة نورٌ كشَّاف وهي التقوى، كان هذا التحرُّك سليماً، تنطلق السيارة بسرعةٍ فائقة وقوةٍ شديدة، فإذا كان وراء المقود سائقٌ ذو عينين نفَّاذتين، وأذنين مرهفتين، وحكمةٍ في القيادة، ينطلق بهذه السيارة من مكانه إلى هدفٍ آخر، وتحقق له نفعاً، فإذا أغمض عينيه، وسد أذنيه، وثَمِلَ في قيادته كانت نهايته الدمار، فالشهوات حركة، والتقوى نور، إذا اجتمعت الحركة والنور أدتا إلى السلامة، فإذا انعدم النور مع الحركة لابدَّ من حادث.

 فلذلك هؤلاء الذين كفروا بإعراضهم عن الله -عزَّ وجل- انقطعوا عنه، وبانقطاعهم عنه أصبحوا في عمى، بقيت الشهوة وحدها تحركهم، والشهوة عمياء.

 إنّ الهرة إنْ وضعت لها قطعة لحمٍ تنقضُّ عليها لا تملك الهرة بصيرةً، ولا شرعاً، ولا فقهاً، ولا شيء من هذا القبيل، تنقض على اللحم ولو لأي سبب، لكن الإنسان قد يجوع، ولا يأكل إلا حلال، هناك شرع ورؤية ونور وبصيرة . 


زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ


﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ﴾ أي صدوا أنفسهم عن السبيل.

﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ ۖ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(5) ﴾

[  سورة الصف  ]

المعنى الأول :

 الآية من قبيل أنك إذا سرت في أول الدرب بلغت آخره، لمجرد أن تمشي في هذا الطريق سوف تصل إلى نهايته، هذا المعنى الأول.

المعنى الثاني :

 أن الله -سبحانه وتعالى- يعزى إليه أمر الصد فعلاً، ويُعزى إلى الإنسان كسباً، كأن تقول: المعلم قرر أن يُرَسِّب الطالب فلاناً، فالمعلم يُعزَى إليه الرسوب فعلاً، تنفيذاً، ويُعزَى إلى الطالب كسباً.


من كان على طريق الحق فليفرح :


﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنْ السَّبِيلِ﴾ أي من كان على طريق الحق فليفرح، فيجب أن نهنِّئ بعضنا بعضاً إذا كنا على طريق الحق، فنعمة الهدى تمتد إلى الأبد، ولكن أية نعمةٍ في الأرض تنتهي بالموت، ولو أن إنساناً عاش مائة عامٍ في صحةٍ تامة كالحصان فهذه النعمة التي يلهج بها الناس تنتهي بالموت، ولو كان غنياً فنعمة الغنى تنتهي بالموت، ولو كان ذا شأنٍ فنعمة الشأن العالي تنتهي بالموت، ولكن نعمة الهدى تمتد معكم إلى الأبد، لذلك قيل: تمام النعمة الهدى، قال بعض العلماء في قوله تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ۚ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا ۚ وَإِن كُنتُم مَّرْضَىٰ أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ ۚ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(6) ﴾

[  سورة المائدة ]

 تمام النعمة الهدى، لو أنك اهتديت إلى الله -عزَّ وجل- لهانت عليك الدنيا، فمن عرف الله زهد فيما سواه، ولا شيء يعدل الهدى، فإذا اهتديت لا تثريب عليك، فلا تندم على شيءٍ فاتك من الدنيا، الدنيا عاريةٌ مُستردَّة. 

﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) ﴾

[  سورة يونس ]

﴿ لِمِثْلِ هَٰذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61) ﴾

[ سورة الصافات  ]

﴿ خِتَامُهُ مِسْكٌ ۚ وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) ﴾

[ سورة المطففين  ]


وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ


الإضلال جزاء للضلال :

 ﴿وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ أي استغنى عن الله -سبحانه وتعالى- فاستغنى الله عنه، سلك سبيل الضلال فوصل إلى آخره، أضل نفسه عن الله -عزَّ وجل- وحرمها الخير، حرمها المعرفة، إذا اخترت طريق الضلال لا أحد في الأرض يستطيع أن يهديك لأنك مخيَّر، وأنت اخترت هذا الطريق، وأيُّ إنسان ينصحك تستهزئ به.

﴿وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ﴾ أي من أضل الله بسبب أنه سلك طريق الضلال، فلن تجد له ولياً مرشداً.

﴿  فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33) لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ(34) ﴾

[ سورة الرعد ]


لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ


الدنيا فيها من أنواع العذاب ما لا يُحتمَل :

 في الحياة الدنيا عذاب لا يحتمل، وهناك آلام لا تُحتَمل، وأحياناً يصاب الإنسان بمرضين متضادين، أدوية هذا المرض تزيد هذا المرض سوءاً، وأدوية هذا المرض تزيد هذا المرض سوءاً، ولذلك يقف الأطباء حائرين، ويرفعون أيديهم، ويقولون: لا حيلة للطب في هذين المرضين

﴿ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ۗ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا ۚ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۖ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۚ أَنتَ مَوْلَانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (258) ﴾

[ سورة البقرة ]

هناك في الدنيا أمراضٌ لا تحتمل، وآلامٌ لا تحتمل، ومشكلاتٌ لا تحتمل، وهناك فقرٌ مدقع كاد أن يكون كفراً، وهناك حاجةٌ إلى لئيم، وهناك ذُل، في الأرض عذابات لا يعلمها إلا الله، فالجسم وحده مسرح لملايين الأنواع من العذاب، آلام الرأس، آلام الضغط في المعدة، آلام الأورام الخبيثة، آلام الظهر، آلام الأعصاب، فكل مريض يظن أن مرضه من أشد الأمراض، لأن جميع الأمراض صعبة.

﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قد يُعذَّب الإنسان بالفقر، وقد يُعذّب بالإهانة، وقد يُعذّب بالوحشة، قد يعذب بالهم، وقد يُعذّب بالقلق، وقد يُعذّب بالجفاف، وقد يُعذّب بنقصٍ في الأموال والأولاد، وقد يُعذّب بموت أحد أقربائه، وقد يُبتلى الإنسان بنفسه وبولده وزوجته وبماله ومكانته وسمعته.


عذاب الآخرة أعظم وأشقّ :


 ﴿لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ﴾ أشق بكثير، لو أن امرأً اطَّلع على النار، يصيح صيحةً لو سمعها من في الأرض لصعقوا لشدة الهول. ﴿وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ﴾ .


مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ


أسلوب الترغيب والترهيب في القرآن :

﴿  مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ(35)﴾

[ سورة الرعد ]

ربنا -عزَّ وجل- إذا ذكر صورةً مُنتزَعة من عذاب النار يُتْبِعُها بصورةٍ من أحوال أهل الجنة حتى نعبد الله خوفاً وطمعاً، رغباً ورهباً .


المؤمن موعودٌ بالجنة :


 ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ﴾ وإن شاء الله -سبحانه وتعالى- المؤمن موعودٌ بالجنة.

﴿ أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ(61) ﴾

[  سورة القصص  ]

﴿ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ۗ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) ﴾

[  سورة النساء  ]

﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) ﴾

[ سورة التوبة ]

 إذا انطبقت على المؤمن صفات المؤمنين انطبقت عليه أيضاً الوعود التي وعده الله بها، فإذا وُعِدَ المؤمن بجنةٍ عرضها السماوات والأرض، لا ينبغي أن يبالي في الدنيا، من بلغ الأربعين دخل في أسواق الآخرة، لا ينبغي أن يهتم للدنيا، ومن جعل الدنيا أكبر همه خسرها، ومن جعل الآخرة أكبر همه ربح الدنيا والآخرة، والأول خسر الدنيا والآخرة، فلذلك:


تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ


 ﴿مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ الأوصاف التي جاءت بكتاب الله عن الجنة هي الأوصاف التي مسموح لنا الحديث عنها، لأن الغيب لا نعرفه إلا بالخبر الصادق، فربنا سبحانه وتعالى يقول :

أنهار الجنة كثيرة ومتنوعة :

 ﴿تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ فإذا أردنا أن نُكَنِّي بالأنهار الخيرات، إذا كان هناك أنهارٌ من لبن لم يتغيَّر طعمه، واللبن إذا تغير طعمه تشمئز النفس منه، وأنهارٌ من عسلٍ مصفى، وأنهار من خمر لا غول فيها لذة للشاربين، إذا كانت الجنة تجري من تحتها الأنهار، الخيرات، أي شيءٍ، أي فاكهةٍ، أي طعامٍ، أي متعةٍ.

طعام الجنة دائمٌ غير مقطوع :

﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ﴾ فاكهة الجنة لا مقطوعة ولا ممنوعة، لا تأتي نوبات نوبات، بل مستمرة، ولا يوجد شيء ممنوع دخوله للجنة، لا مقطوعةٌ ولا ممنوعة.


عاقبة مؤمن الجنة وعاقبة الكافر النار :


 ﴿أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ﴾ أي هذه العاقبة كهذه العاقبة؟

﴿ أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا ۚ لَّا يَسْتَوُونَ (18) ﴾

[  سورة السجدة  ]

﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9) ﴾

[  سورة الزمر  ]

 هل يستوي أهل الجنة وأهل النار؟ 

﴿  أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ(21)  ﴾

[  سورة الجاثية  ]


وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ


فرحُ المؤمنين بنزول القرآن :

﴿ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ۚ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ ۚ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) ﴾

[ سورة الرعد ]

هذا الفرح فرح تطابق الرؤية مع النفس، أحياناً ترى رؤيةً بسبب اتصالك بالله -عزَّ وجل-، فإذا جاء النص القرآني، وأكَّدها، وصَدَّقها تفرح فرحاً لا يعرفه إلا من فرح ذلك الفرح.

﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ والأصحاب الكرام في آيةٍ أخرى وصِفوا بأنهم يفرحون بما أنزل إليهم، سمت نفوسهم، حتى إذا نزل قوله تعالى:

﴿ قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(30)﴾

[ سورة النور ]

 هم يغضون أبصارهم قبل نزول الآية، سمو نفوسهم حَمَلَهُم على هذه الطاعة، فلما جاءت في نص الكتاب فرحوا، فالمؤمن إذا اتصل بالله -عزَّ وجل-، وهذه ثقتي لو لم يقرأ كتاب الله لكان في مستواه، لطبّقه من دون أن يدري، من دون أن يشعر، لأنه ارتفع إلى مستواه، وهذا الذي يتلوه صباح مساء، إن لم يتصل بالله -عزَّ وجل- فهو في واد وكتاب الله في وادٍ آخر، يتلو كتاب الله ويستمع إلى الغناء ويَطْرَبُ له، فما هذا؟ أبغير كتاب الله تتغنَّى؟ أتستطيع أن تستمع إلى غير كتاب الله؟ أيطربك صوتٌ غير صوت القارئ للقرآن أو المادح بالمديح، وكيف تتفاعل مع هذه المعاني، كيف تطرب لها؟

 فلذلك: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ﴾ فلو أن إنساناً استقام على أمر الله، وتقرَّب إليه، واتصل به اتصالاً عميقاً، تراه يفعل شيئاً مطابقاً لما في كتاب الله من دون أن يدري، سمو نفسه حمله على هذا، لذلك كانت موافقات عمر -رضي الله عنه- إذ كان الوحي ينزل موافقاً لآراء عمر -رضي الله عنه-. 


غيرُ المؤمن ينكر القرآن أو ينكر بعضه :


 ﴿وَمِنَ الْأَحْزَابِ﴾ فسرها بعضهم باليهود والنصارى، أو بأهل الكتاب عامةً.


قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ


تطبيق تعليمات الصانع رقيُّ بمستوى الإنسان :


 ﴿مَنْ يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ﴾ فمركز الثقل في هذه الآية أنك إذا سموت إلى الله -عزَّ وجل-، وارتفعت إلى مستوى كتاب الله تطبقه وأنت لا تدري، فلذلك قال ربنا -عزَّ وجل-:

﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(48) ﴾

[  سورة المائدة ]

 الشرعة هي هذا الشرع الحنيف الشريف وهذا المستوى الراقي، فإذا سلكت المنهاج ترتفع نفسك إلى مستوى الشرع، وهناك من يُعرِض عن سماع الغناء خوفاً من الله -عزَّ وجل-، وهناك من يعرض عن سماع الغناء اشمئزازاً، هذا الذي يعرض عنه اشمئزازاً سمت نفسه، وهناك من يكظم غيظه خوفاً، وهناك من يتصرف بحلمٍ شديد، والحلم الشديد دليل رقي النفس، افحص نفسك من حين لآخر، فهل أنت في مستوى الشرع؟ أم أنت في واد والشرع في وادٍ آخر؟

﴿  وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ(37)﴾

[ سورة الرعد ]


وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا


المعنى الأول :

 ولا واق يقيك، ولا وليٍ يتولى أمرك إن اتبعت أهواءهم، كأن هذه الآية موجهةٌ إلى المؤمنين، إن اتبعت أهواءهم، وأحياناً يسلك الإنسان مسلكاً بدافع الهوى، فيعرف أن هذا حرام، وأن هذا لا يرضي الله، ولكن نفسه تغلبه وهذا الذي يفعل هذا بعيدٌ عن الإيمان الصحيح بعداً كبيراً.

المعنى الثاني :

 ﴿وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ﴾ المعنى الآخر لهذه الآية: أن النبي -عليه الصلاة والسلام- حينما ارتفع إلى هذه المنزلة العلية بورعه واستقامته، ولو فعل خلاف ذلك لهبط مقامه.

﴿  وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ(44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ(45)  ﴾

[  سورة الحاقة  ]

 فلو أن النبي -عليه الصلاة والسلام- داس نملة بغير حق لحاسبه الله عليها، " يا رسول الله مَثِّل بهم لقد اضطهدوك، وأخرجوك، وقتلوا أصحابك " ، قال :

((  لا أمثل بهم فيمثل الله بي، ولو كنت نبياً  ))

[ ابن إسحاق في السيرة بسند صعيف ]

 فكمال الله -سبحانه وتعالى- يقتضي أنه لن يستطيع أحد أن يتقرَّب إليه إلا بالكمال، لكن ليس هناك علاقات أخرى، فالله لا يحابي أحداً، ولا يرتقي الإنسان عند الله إلا باستقامته، ولو أن سيد الأنبياء مَثَّل بأعدائه لمَثَّلَ الله به، أما أهل الدنيا فقد يقربون إنساناً مبطلاً لمصلحةٍ ما، وقد يقربون منحرفاً، وقد يقربون معتدياً، وقد يقربون ظالماً، ولكن الله -سبحانه وتعالى- لا يقرِّب إليه إلا من كان مستقيماً .

﴿ مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)﴾

[ سورة الكهف ]

 لا أتخذهم عضداً.

﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)﴾

[ سورة الرعد ]


وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً


الأنبياء بَشَر :


 الأنبياء بشر ..

محمدٌ بشرٌ وليس كالبشر  لأنه جوهرةٌ والناس كالحجر

[ محمد نعسان الحموي الفراواتي ]

 هل الجوهرة حجر؟ لا، ليس حجراً، حجر كريم، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- بشر، فيجوع ويشعر بالحر، ويشعر بالبرد، ويغضب.

(( إِنَّما أنا بشرٌ مثلُكم ، أَنسَى كما تنسونَ ، فإذا نسيتُ فذكِّرونِي ))

[ الألباني عن عبد الله بن مسعود ]

﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَىٰ إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) ﴾

[  سورة الكهف ]

(( عَنْ أَنَسٍ، أنَّ نَفَرًا مِن أَصْحَابِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ عن عَمَلِهِ في السِّرِّ؟ فَقالَ بَعْضُهُمْ: لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقالَ بَعْضُهُمْ: لا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقالَ بَعْضُهُمْ: لا أَنَامُ علَى فِرَاشٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عليه. فَقالَ: ما بَالُ أَقْوَامٍ قالوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي. ))

[ صحيح مسلم ]

 النبي بشر، ولئلا يُظَن أنه إله يتزوج، وينجب ذرية، ويأكل الطعام، بحاجةٍ إلى أكل الطعام، ووجود النبي ليس ذاتياً، بل مفتقرٌ إلى فضل الله، ويمشي في الأسواق، ومشيه في الأسواق له معنى دقيق، أي محتاج إلى الكسب، محتاجٌ إلى الطعام ومحتاج إلى كسب الطعام.

هو بشرٌ وليس كالبشر  لأنه جوهرةٌ والناس كالحجر

***

 فالنبي -عليه الصلاة والسلام-سيد الخلق وحبيب الحق، لكنك إذا غلوت ورفعته إلى منزلةٍ فوق ما وصفه الله بها فقد حدت عن الطريق، وأشهد أنا سيدنا محمداً عبده ورسوله .

﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِن قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)﴾

[  سورة المائدة ]


من بشرية النبي عليه الصلاة والسلام :


((  الشمس كُسِفَت، ووافق كسوفها موت سيدنا إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام، فظن أصحاب النبي أن الشمس كُسِفَت له، وبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فعَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ النَّاسُ : كَسَفَتْ الشَّمْسُ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ  ))

[  البخاري ومسلم  ]

 ليس هناك علاقةٌ أبدا بين كسوف الشمس وموت إبراهيم، وهذا هو الموقف العلمي، ليس فيه دجل، ولا تزوير، ولا إيهام، ولا تدليس، ولا رغبة في أن يرتفع الإنسان إلى مستوى فوق المستوى الذي أهَّله الله به، وكل إنسان له حجم، وإذا أراد أن يصور الناس أنه بحجمٍ أكبر من حجمه فهذا هو الضلال 

 عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ :

((  أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ فَكَلَّمَهُ، فَجَعَلَ تُرْعَدُ فَرَائِصُهُ، فَقَالَ لَهُ: هَوِّنْ عَلَيْكَ، فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ  ))

[  ابن ماجه  ]

 ودَّعه سيدنا عمر قبيل ذهابه إلى العمرة فعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : اسْتَأْذَنْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعُمْرَةِ فَأَذِنَ لِي وَقَالَ:

((  لَا تَنْسَنَا يَا أُخَيَّ مِنْ دُعَائِكَ  ))

[  أبو داود وهو ضعيف ]

 هكذا النبي، متواضع، مفتقر إلى الله -عزَّ وجل-، وحينما فتح مكة ما استطاع أحدٌ أن يرى وجهه لشدة إطراقه، والدموع تبلل خده ولحيته الشريفة، دخلها مُطأطئَ الرأس تواضعاً لله عزَّ وجل، هكذا النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا الذي يتكبر على ماذا؟ هذا الذي يقول لك: أنا وأنا، فعلت كذا وفعلت كذا، هو الحُمق بعينه وهو الغباء بعينه.


وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ


مطالبة قريش النبي بالمعجزات المادية :

 ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ ويبدو أن كفار قريش طالبوا النبي -عليه الصلاة والسلام- بمعجزاتٍ كالتي جاء بها سيدنا موسى وسيدنا عيسى وسيدنا صالح، فربنا -عزَّ وجل- قال: زمن المعجزات المادية انقضى وقته، الآن زمن المعجزات العقلية، هذا الكتاب هو المعجزة.


الجواب الإلهي : لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ


﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أي لكل كتابٍ أجل، أي أن كل زمنٍ له صفاته، والنبي دائماً يأتي بلسان قومه، وليس بمعنى بلسان قومه أنه يخاطبهم بالعربية إن كانوا عرباً، وبالعبرية إن كانوا عبريين، لا، معنى بلسان قومه فضلاً عن هذا المعنى الذي يُفهم بديهةً؛ أنه جاءهم بما هو متعارفٌ عليه في عصره، ففي زمن السحر جاء سيدنا موسى بالسحر، وفي زمن الطِب أحيا سيدنا عيسى المَيِّت، وفي زمن البلاغة والبيان جاء القرآن الكريم ليكون معجزة النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى نهاية الدوران.

﴿وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ هذه الآيات ليست باختياره، وليست عائدة إليه إنما هي بإذن الله.

﴿لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ﴾ أي لكل كتابٍ أجل .


يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ


﴿   يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ(39)﴾

[ سورة الرعد ]

هذه الآية في السياق لها معنى، وإذا نُزِعَت من السياق لها معنى آخر.

المعنى السياقي للآية :

 معناها في السياق: أن الله -سبحانه وتعالى- جعل لكل عصرٍ معجزاته المتعلِّقة به، ففي عصورٍ سابقة كان أفضل شيءٍ أن يأتي النبي بالعصا، أصبحت ثعباناً مبيناً، وفي زمنٍ آخر كان إحياء الموتى أفضل شيءٍ يُقنع الناس بنبوة سيدنا عيسى، لكن هذا الزمان محا الله تلك المعجزات، وأثبت مكانها معجزاتٍ أخرى لحكمةٍ يراها الله -عزَّ وجل-، سياق هذه الآية: ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ .

المعنى العام للآية :

 لها معنى آخر، وبعض العلماء قالوا: أحياناً يتجه إنسان يتجه وجهةً معينة، وهذه الوجهة يستحق عليها العقاب التالي المناسب، فإذا عدَّل وجهته مُحي هذا العقاب، أي أن الأشياء كلها معلقة.

﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) ﴾

[ سورة الرعد  ]

﴿ إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) ﴾

[ سورة الأنفال ]

﴿  وَأَلَّوْ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا(16)  لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا(17)﴾

[  سورة الجن  ]

﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)﴾

[  سورة الأعراف ]

﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِم مِّن رَّبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ۚ مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ(66) ﴾

[  سورة المائدة  ]

 إذاً غَيِّر يُغَيِّر، عُد يعُد، استقم عندئذٍ لا تحصي الخيرات.


كتابة الأشياء أزلا في أم الكتاب :


 ﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ﴾ فأنا مكتوب علي بالأزل شقي؟ عُد إلى الله تعدْ لك الخيرات، استقم، كن لي كما أريد أكن لك كما تريد، فالآية بالسياق لها معنى، ولها معنى مستقل، لو نزعتها من السياق فلها معنى آخر.

﴿يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ أم الكتاب أي أن هذه الكتب مرجعها إلى الله -سبحانه وتعالى-، الذي محاه مرجعه إلى الله، والذي أثبته مرجعه إلى الله.


وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ


مهمة النبي البلاغ ، وعلى الله الحساب :

﴿ وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ(40)  ﴾

[ سورة الرعد ]

أنت أيها النبي ليس من مهمتك أن تنتظر ما سيحل بهؤلاء الكفار، هذه لله -عزَّ وجل-، يعذبهم عاجلاً أو آجلاً، يأخذهم الآن، أو يأخذهم بعد أمد، وهذا ليس من مهمتك، مهمتك أن تبلِّغهم الحق.

﴿وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾

﴿  إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ(25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ(26)  ﴾

[  سورة الغاشية  ]

 فهذا الذي ينحرف تقول عنه: لابدَّ من ضربةٍ قاصمة، قد تراها، وقد لا تراها، هناك آيتان.

﴿  قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ(69)  ﴾

[  سورة النمل  ]

 هذه الفاء للترتيب على التعقيب، فأحياناً يحلف الإنسان يميناً غموساً، ما إن يخطو خطوةً خارج المحكمة حتى يقع مشلولاً، هذه وفق الآية الأولى ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ﴾ أحيانا أخرى يحلف الإنسان يميناً غموساً يقتطع بها حق امرئ مسلم، وتمضي الشهور والسنوات، وبعد عشرين عاماً تأتيه الضربة القاصمة، هذه على الآية الثانية:

﴿  قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ َانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(11)  ﴾

[  سورة الأنعام  ]

 أحياناً يقول لك الإنسان: فلان لم يحدث معه شيء، لي رفيق في المدرسة يشرب الخمر مثلاً، وماله حرام، وينكر وجود الله -عزَّ وجل-، ومضى عليه عشرون سنة، ولم يحدث له شيء وهو مثل البغل. 

﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ َانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ هذه ثم، هذا ليس شغلك، تدخُّل بشؤون الله -عزَّ وجل- ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ عملك أن تبلِّغه الحق وانتهى.

﴿  قَالَ يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(144)﴾

[  سورة الأعراف  ]

﴿  بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنْ الشَّاكِرِينَ(66)  ﴾

[  سورة الزمر  ]

 لماذا لم يحاسب الله -سبحانه وتعالى- فلاناً؟ لماذا لم ينتقم من فلان؟ لماذا أمدّ لفلان؟ هذا تدخُّل في شؤون الله -عزَّ وجل-، رحم الله عبداً عرف حده فوقف عنده، ولم يتعدَّ طوره. هذا موقف سيدنا عيسى: 

﴿  إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(118)﴾

[  سورة المائدة  ]

 وأحدهم قال لعبد: بلغني أن سيدك سيبيعك، قال له: هو يعرف ما يريد، قال له: لعلي أشتريك، فقال: تعرف شغلك، قال له: اهرب، قال له: أنا أعرف شغلي، كل إنسان يعرف، فهذا من مهمة الله -سبحانه وتعالى-.

﴿ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ(40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(41) ﴾

[  سورة الرعد ]


أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا


 بقيت آياتٌ قليلة ننهيها في هذا الدرس :

المعنى الأول :

 ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ بعضهم فسَّر هذه الآية بأن المسلمين في فُتوحاتهم يتوسَّعون، وأرض الكفار تنقص شيئاً فشيئاً، وهذا دليل أن الله -سبحانه وتعالى- ينصر أنبياءهُ.

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ كيف نصرنا النبي -عليه الصلاة والسلام-؟

المعنى الثاني :

 ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا﴾ المعنى الثاني: أن لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ، فالعلماء يموتون، الأغنياء يموتون، وكلما امتد الزمان نقصت من أطرافها، فتجَّار هذا السوق رحلوا واحداً بعد واحد، والعلماء في عصرٍ ما رحلوا واحداً بعد واحد، المعنيان متقاربان.


وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ


لا أحد يستأنف أو يعقب على حكم الله :

 ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ القاضي يحكم، والخصم يستأنف، ويأتي قاضي الاستئناف فيعقِّب على حكمه، ويبطل حكمه، قاضي الاستئناف يحكم، وتأتي محكمة النقض، فتنقض هذا الحكم، ومحكمة النقض تُبْرِمُ هذا الحكم، ويقوم الخصم بإقامة دعوى على القضاء، لكن الله -سبحانه وتعالى- إذا حكم ليس في الكون جهةٌ تستطيع أن تعقِّب على حكمه لأن حكمه مُبْرَم.


الله سريع الحساب :


 ﴿وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ الحساب سريع، لا يتذوق هذه الآية إلا من دخل إلى قصر العدل، وبقي فيه تسع سنواتٍ من أجل قضيةٍ صغيرة.

﴿  وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا ۖ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ۗ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ(42) ﴾

[ سورة الرعد ]


مكرُ الكفار مكشوف لا يخفى على أحد :


 مكر الكفار مكشوف، والمكر قوَّته في عدم كشفه، فإذا انكشف انتهى. فالله :

﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) ﴾

[  سورة طه  ]


كل شيء بإذن الله :


 إذاً: ليس في الأرض مكرٌ ينجح إلا إذا أَذِنَ الله له، وليس في الأرض كلها مكرٌ ينجح إلا إذا سَمَحَ الله له، لأن الأمر جميعاً بيد الله.

﴿وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا﴾ المكر له، ينفذه أو يبطله.


يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ


العبرة من يضحك في الأخير :

 ﴿يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ السين للاستقبال، أي سوف نرى من هو الناجح؟ ومن هو الفالح؟ ومن هو الذكي؟ ومن هو العاقل؟ ومن هو المتفِّوق؟ ومن هو الذي عرف الحقيقة؟ سوف نرى.

﴿وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ﴾ كفاك نصراً على عدوِّكَ أنه في معصية الله.

﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا ۚ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) ﴾

[  سورة القصص ]

 الآية الكريمة :

﴿  فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ(34)  ﴾

[  سورة المطففين  ]

﴿ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) ﴾

[  سورة الصافات  ]

﴿  فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ(55)  ﴾

[  سورة الصافات  ]

 جاءت العنكبوت، ونحن في يوم الهجرة فنسجت:

﴿ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) ﴾

[  سورة العنكبوت ]

 نصره الله بأضعف خلقه، أما سُراقة فجعل الله قدمي خيله تغوصُ في الرمال، فالله -سبحانه وتعالى- كيف يشهد للنبي أنه نبي؟ بنصرته إيَّاه، بالخندق.

﴿  إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا(10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا(11)  ﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 بعدئذٍ جاء الله برياحٍ عاتية، أطفأت نارهم، وقلبت قدورهم، وقلعت خيامهم، ودبَّت الفرقة فيما بينهم. 

﴿ وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا ۚ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)﴾

[  سورة الأحزاب  ]

 فنصره الله في بدر وفي الخندق، في أحد ونشر هذه الدعوة وهذا الدليل، فإذا كان الله -عزَّ وجل- راضياً عن إنسان يدعمه، وينصره ويوفقه، فكأن الله -عزَّ وجل- يقول: أنا أشهد له أنه نبي .

﴿  وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ(43) ﴾

[ سورة الرعد ]


وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًاقُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ


 الآية لها معنيان :

المعنى التقريري :

 معنى تقريري: والذين هم من أهل الكتاب الصادقون يعلمون أني نبي، لأن ذكري موجودٌ عندهم في التوراة والإنجيل.

المعنى التعريفي :

 والمعنى الثاني:

وتعريفي لكم بهذا الكتاب، وبياني لهذا الكتاب شهادةٌ أخرى، الله يشهد لكم بتوفيقه ونصره ودعمه، وأنا بتبياني لهذا الكتاب أشهد لكم أني نبي.


وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ


 ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ هذه استفهامية.

 النبي -عليه الصلاة والسلام- بيَّن هذا الكتاب أوسع بيان، وأحاديثه الشريفة التي تزيد عن مائة ألف حديث فيما يقدِّر علماء الحديث تشهد للنبي الكريم أنه نبيٌ مُرسَل.

والحمد لله رب العالمين

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور