وضع داكن
28-03-2024
Logo
الندوة : 01 - القوة في عبادة الله عز وجل
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

مقدمة :

 الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد بن عبد الله, وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين, وأسعد الله أوقاتكم جميعاً بكل خير, ندعوكم في هذا الصباح من يوم الجمعة ـ الساعة الحادية عشرة والنصف ـ لمتابعة هذه الحلقة الجديدة والمتجددة من برنامجنا الأسبوعي: "فيه هدى للناس".
 كنا في الأسبوعين الماضيين، قد تحدثنا عن موضوع القوة في ديننا الإسلامي الحنيف، وصلنا إلى موضوع هام جداً نفتتح به حلقتنا: "عبادة الله عز وجل فيها كل القوة"؛ لأنها هي الملاذ التي تعطي المؤمن شحنة إيمانية كبيرة، لأن المصدر هو الله الخالق العظيم.
 بداية اسمحوا لنا أيها الأحبة أن نقول: أهلاً ومرحباً بصاحب الفضيلة، الدكتور محمد راتب النابلسي أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة .
المذيع:
 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركات، أستاذ جمال جزاك الله خيراً .
المذيع:
 من أين نبدأ حلقتنا؟ كما في المقدمة عبادة الله عز وجل هي القوة، والحصن للمؤمن في حياته، ليسعد في دنياه وآخرته، تفضل سيدي.

 

المنهج الإسلامي منهج تفصيلي شمولي :

الدكتور راتب :
 بسم الله الرحمن الرحيم, الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد, وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين, وعلى صحابته الغر الميامين, أمناء دعوته, وقادة ألويته، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين, اللهم أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم, ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .
أستاذ جمال جزاك الله خيراً .
 بادئ ذي بدء: لو أن طالباً ذهب إلى باريس، ليلتحق بجامعة السوربون, وينال الدكتوراه، فهذه المدينة الكبيرة المترامية؛ فيها المتاحف، فيها الجامعات, فيها الأسواق، فيها الأبنية، فيها المعامل، سبب وجوده في هذه المدينة شيء واحد هو نيل الدكتوراه، نقول بلغة أخرى: علة وجوده نيل هذه الشهادة، فإذا سألنا أنفسنا: هذا الإنسان، جاء الله به إلى الدنيا، ما علة وجوده في الدنيا؟ ما سبب وجوده في الدنيا؟ ما أثمن شيء يفعله في الدنيا؟ ما الذي يندم عليه إذا غادر الدنيا؟ إنها عبادة الله، لقوله تعالى:

﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾

[ سورة الذاريات الآية: 56]

 أستاذ جمال، لكن عامة المسلمين يفهمون العبادة فهماً ضيقاً جداً، يتوهمون أنهم إذا صلوا، وصاموا، وحجوا، فقد أدوا العبادات، المنهج الإسلامي منهج تفصيلي، شمولي، يدور مع الإنسان في كل مكان، وفي أي زمان، وفي أي حال وشأن.

 

عبادة الله وحده هي علّة وجود الإنسان :

 لذلك العبادة تدوم مع الإنسان في كسب ماله، في إنفاق ماله، في زواجه، في تربية أولاده، في علاقاته بمن حوله، بمن فوقه، بمن دونه، في أوقات لهوه، العبادة منهج تفصيلي، والله لا أبالغ لو قلت لك: العبادة خمسمئة ألف بند، تبدأ من فراش الزوجية، وتنتهي بالعلاقات الدولية, قال تعالى:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ﴾

[سورة البقرة الآية: 21 ]

 أي هناك منهج تفصيلي، كيف أتاجر؟ كيف أربح؟ كيف أكسب المال؟ كيف أصنع؟ كيف أقدم منتجاً غذائياً من مصنعي؟ هناك تفاصيل في الشريعة مذهلة، فلذلك العبادة في أدق تعاريفها: طاعة طوعية، ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية.
 في هذا التعريف؛ جانب معرفي، وجانب سلوكي، وجانب جمالي، المعرفي هو الأصل، والسلوكي هو الحاسم، والجمالي هو الثمرة، طبعاً مبادئ الإسلام من دون تطبيقات عملية قد لا تقنع، فلا بد من أن تجسد هذه المبادئ بقصص ووقائع.

 

قصة تجسد مبادئ الإسلام ووقائعه :

 رجل من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام ـ جليبيب ـ طبعاً القصة واقعية، لكنها نادرة، رجل فقير، معدوم، جائع البطن، حافي القدمين، مغمور النسب، لا جاه، ولا مال، ولا عشيرة، ليس له بيت يأوي إليه، ولا أثاث، ولا متاع، يشرب من الحياض العامة بكفيه مع الواردين، وينام في المسجد، وسادته ذراعه، فراشه الأرض، وكان في وجهه دمامة، لكنه صاحب ذكر لربه.
 أعطيتك -أستاذ جمال- حالات نادرة جداً، أي صفر في كل شيء، لكنه كان ذاكراً لربه، كان يتلو كتابه، لا يغيب عن الصف الأول في كل الصلوات، ولا في كل الغزوات ـ مجاهد ـ ويكثر من الجلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم, قال له النبي عليه الصلاة والسلام ذات يوم: "يا جليبيب، ألا تتزوج؟ فقال: يا رسول الله! ومن يزوجني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أنا أزوجك يا جليبيب".
 أستاذ جمال قبل أن أتابع هذه القصة التي تكاد لا تصدق، لكن أردت منها أن أري أخوتي المستمعين الإسلام، كيف أن هذه الأقنعة المزيفة حطمها الإسلام، إنسان بهذا الفقر، بهذه الدمامة، قال له: من يزوجني؟ لا بيت، ولا مال، ولا عمل، قال له: أنا أزوجك، فالتفت جليبيب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: إذاً: تجدني كاسداً يا رسول الله! فقال عليه الصلاة والسلام: "غير أنك عند الله لست بكاسد".
 أريد هنا أن أؤكد، قد يكون شأن الإنسان في الدنيا ضعيفاً، قد يكون في الدرجة السفلى من السلم الاجتماعي، قد يكون كاتباً، قد يكون مراسلاً، قد يكون ساعي بريد في الدرجة الدنيا الاجتماعية، وهو عند الله كبير.
المذيع:
 و هذا الأهم، لذلك ورد في الأحاديث:

(( ابتغوا الرفعة عند الله))

[ كنز العمال عن ابن عمر]

من أطاع الله وعبده حقّ العبادة رفع الله له شأنه :

الدكتور راتب :

 

 فقال له النبي الكريم: لكن يا جليبيب، أنت عند الله لست بكاسد، ثم لم يزل النبي يتحين الفرص حتى يزوج جليبيباً".

((جاء في يوم من الأيام رجل من الأنصار، قد توفي زوج ابنته، فجاء إلى النبي الكريم يعرض الفتاة عليه ليتزوجها، فقال له النبي الكريم: نعم، ولكن لا أتزوجها أنا، فسأله الأب: لمن يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أزوجها جليبيباً، فقال ذلك الرجل: يا رسول الله، تزوجها لجليبيب! انتظر حتى أستأمر أمها ـ أي هو في الحقيقة صقع، فتاته جميلة، هذا الفقير الذي يعاني ما يعاني ـ ثم مضى إلى أمها، وقال لها: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إليك ابنتك، قالت: نعم لرسول الله, ومن يرد النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لها: إنه ليس يريدها لنفسه، قالت: لمن؟ قال: يريدها لجليبيب، قالت: لجليبيب! لا لعمرو الله ـ أي مستحيل ـ لا أزوج جليبيباً، وقد منعناها فلاناً وفلاناً ـ من أصحاب الشأن والمال ـ فاغتم أبوها لذلك، ثم قام ليأت النبي صلى الله عليه وسلم ـ يا الله! ـ فصاحت الفتاة في خدرها ـ استمعت إلى الحديث ـ وقالت لأبويها: من خطبني إليكما؟ قال الأب: خطبك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أفتردان على النبي الكريم أمره!؟ ادفعاني إلى رسول الله، فإنه لن يضيعني، قال أبوها: نعم، ثم ذهب إلى النبي الكريم وقال: يا رسول الله! شأنك بها وافقت، فدعا النبي جليبيباً، ثم زوجه إياها، ورفع النبي صلى الله عليه وسلم كفيه الشريفتين إلى السماء وقال: ((اللهم صب عليهما الخير صبّاً، و لا تجعل عيشهما كدّاً)) ثم لم يمض على زواجهما أيام، حتى خرج النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في غزوة، وخرج معه جليبيب، فلما انتهى القتال، اجتمع الناس، وبدؤوا يتفقدون بعضهم بعضا، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نعم يا رسول الله! نفقد فلاناً، وفلاناً ـ ونسوا جليبيباً في غمرة الحديث؛ لأنه ليس لامعاً، و لا مشهوراً ـ فقال صلى الله عليه وسلم : ولكنني أفقد جليبيباً، فقوموا نلتمس خبره، ثم قاموا وبحثوا عنه في ساحة القتال، وطلبوه مع القتلى، ثم مشوا، فوجدوه في مكان قريب، وقد استشهد، فوقف النبي صلى الله عليه وسلم أمام جسده المقطع، ثم قال: أنت مني، وأنا منك، ثم تربع النبي صلى الله عليه وسلم جالساً بجانب هذا الجسد، ثم حمل هذا الجسد، ووضعه على ساعديه، وأمرهم أن يحفروا له قبرا، قال أنس: فمكثنا والله نحفر القبر، وجليبيب ماله فراش غير ساعدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال أنس: فعدنا إلى المدينة، وما كادت تنتهي عدة زوجة جليبيب، حتى تسابق إليها كبار الصحابة ليخطبوها))

[ أخرجه مسلم عن أبي برزة الأسلمي في الصحيح]

 أردت من هذه القصة النادرة: أن الإنسان إذا أطاع الله، وعبده حق العبادة، يرفع الله له شأنه .
 إن الفقر والخمول ما كان في يوم من الأيام عائقاً في طريق التفوق والوصول، وأنا أخاطب الأخوة المستمعين: إنسان قد يكون فقيراً، وقد يكون غير معروف في التعتيم، لكنه عند الله ليس بكاسد، لذلك البطولة أن نبتغي الرفعة عند الله، إن قيمتك أيها الإنسان في معانيك الجليلة، وصفاتك النبيلة، لا في درهمك ودينارك، ولا في بيتك ومتاعك، فالعبادة قوة.

 

الدعاء سلاح المؤمن :

 لذلك أنت بالدعاء أقوى إنسان، والدعاء سلاح المؤمن، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول:

﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ﴾

[سورة الفرقان الآية : 77]

 أنت بالدعاء معك أقوى الأقوياء، معك خالق الأرض والسماء، أنت بالدعاء أقوى من أعدائك كلهم، فلذلك لو أن الإنسان أحسن استخدام هذه العبادة ـ لأن الدعاء عبادة ـ لكان أقوى من كل الأقوياء.
المذيع:
 كيف يمكن أن نصل إلى حقيقة العبادة التي تتفضل وتتحدث عنها؟

 

حقيقة العبادة :

الدكتور راتب :
 أولاً: هي طاعة لله، فالذي يعصي الله، ليس في عبادته إطلاقاً، فالعبادة طاعة طوعية، وليست قسرية، تنطلق من محبة لله، ممزوجة بمحبة قلبية، فما عبد الله من أحبه ولم يطعه، كما أنه ما عبد الله من أطاعه ولم يحبه، هي طاعة ليست قسرية؛ لأن الأقوياء يطاعون قسراً، طاعة طوعية، الله عز وجل ما أراد أن نعبده خوفاً، ما أراد أن نعبده خضوعاً، أراد أن نعبده عن حب، ، بل إن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون علاقته بعباده علاقة حب، أن يأتوه طائعين، أن يأتوه محبين، أن يأتوه بمبادرة منهم، قال تعالى:

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ﴾

[سورة البقرة الآية : 256]

 أراد أن تكون المحبة أساس العلاقة بينه وبين عباده، قال: يحبهم ويحبونه، بل قال:

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ﴾

[سورة البقرة الآية:165]

 الإنسان لأنه جانب عقلي، وجانب قلبي، و جانب مادي، فالعقلي يحتاج إلى علم، أما القلبي فيحتاج إلى حب، فالحب جزء من الدين، لذلك العبادة طاعة طوعية، لكنها ممزوجة بمحبة قلبية، أساسها معرفة يقينية، تفضي إلى سعادة أبدية، العبادة كامل الخضوع لله، وكامل الحب له، أو غاية الخضوع، و غاية الحب.
المذيع:
 إذاً دكتور هل العبادة تعني فقط الصلاة والزكاة والحج؟

 

للعبادة منهج تفصيلي يشمل كل نواحي الحياة :

الدكتور راتب :
 هذا الوهم الخطير الذي توهمه معظم المسلمين، العبادة منهج تفصيلي، قد يقترب من خمسمئة ألف بند، في كل نواحي الحياة، في كل أطوار الحياة، في كل شؤون الحياة، في كل الأوقات، في الأمكنة، كيف تأكل؟ كيف تنام؟ كيف تتزوج؟ كيف تنجب؟ كيف تربي أولادك؟ كيف تكسب مالك؟ كيف تنفق مالك؟ علاقتك بأقربائك، بجيرانك، بأصحابك، كيف تخدم أمتك؟ كيف تسهم في المجهود العام؟ كيف تسهم في رفع راية هذه الأمة الإسلامية؟ كله من العبادة، ومن العبادات: أن تصوم، وأن تحج، وأن تزكي، أما حينما يقتصر الدين على العبادات الشعائرية نكون قد جهلنا حقيقة الدين، فالعبادة تحتاج إلى طاعة، الطاعة تمهد لك أن تصلي صلاة يقبلها الله عز وجل، أما العاصي فمعصيته حجاب بينه وبين ربه.
المذيع:
 تلاوة القرآن ماذا تحقق؟

 

القرآن الكريم نوع من العبادة و هو كلام الله عز وجل :

الدكتور راتب :
 نوع من العبادة:

﴿ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾

[سورة المزمل الآية:20]

 هو كلام الله، إذا كان الكون قراناً صامتاً، فالقرآن كون ناطق، والنبي عليه الصلاة والسلام قرآن يمشي، فالقرآن كلام الله، ويمكن أن تعرف الله من خلال خلقه الكون ـ آياته الكونية ـ ومن خلال أفعاله ـ آياته التكوينية ـ ومن خلال كلامه ـ آياته القرآنية ـ.
 الآيات الثلاثة: الكونية، والتكوينية، والقرآنية، طرق سالكة إلى الله عز وجل.
المذيع:
 إذاً كيف يمكن للبائع، أو التاجر، والذي يتعامل مع الناس بشكل آني، ولحظي، ويومي، كيف يمكن أن يعبد الله عز وجل؟

 

الدين أن ينفع الإنسان من حوله ويسهم فيما أوجب عليه :

الدكتور راتب :
 صدق أستاذ جمال ولا أبالغ، أن الدين ليس في المسجد، الدين في الدكان، في المكتب التجاري، في مكتب المحامي، في عيادة الطبيب، في قاعة الدرس، الدين أن تتقن عملك، الدين أن تنفع من حولك، الدين أن تسهم فيما أوجب عليك، الدين أن تكون عنصراً، خيراً، معطاءً، الدين أن تعطي لا أن تكتفي بالأخذ، بل إنه يقع على رأس قمم البشرية جمرتان: الأقوياء والأنبياء.
 الأقوياء أخذوا ولم يعطوا، الأنبياء أعطوا ولم يأخذوا، الأقوياء ملكوا الرقاب، الأنبياء ملكوا القلوب، الأقوياء عاش الناس لهم، الأنبياء عاشوا للناس، الأقوياء لا يقبلون النصيحة، الأنبياء يقبلونها، الأقوياء يمدحون في حضرتهم، أما الأنبياء فيمدحون في غيبتهم، لذلك أحب الناس الأنبياء، وخافوا من الأقوياء، و بطولة الأقوياء أن يتخلقوا بأخلاق الأنبياء.
المذيع:
 دكتور: أليس من مظاهر القوة التي نتحدث عنها قوة العبادة؟ وتتفضل بحديث شيق ورائع فيه حيثيات الأمور، أين نحن في أداء زكاة المال وقوة العبادة؟ ما هو الرابط بينهما؟

 

الرابط بين أداء زكاة المال وقوة العبادة :

الدكتور راتب :
 الحقيقة، نحن في الإسلام عندنا تكافل اجتماعي، هذا التكافل على أساسين: على أساس جغرافي (حقوق الجار)، وعلى أساس نسبي (حقوق النسب) .
 على أساس جغرافي (حقوق الجار) أربعون بيتاً شرقاً من الجيران، وأربعون غرباً من الجيران، وجنوباً، وشمالاً، وقد نضيف إليها فوق، وتحت، هؤلاء كلهم جيران وهناك أحاديث لا تعد ولا تحصى تتحدث عن حقوق الجار، فكأن التكافل الاجتماعي في منهج الله عز وجل، كان على أساسين: على أساس الجغرافيا، وعلى أساس النسب.
 أما زكاة المال، هذه الزكاة تؤخذ من أغنياء الأمة، وترد إلى فقرائها، وكأن هذه النسبة من وضع حكيم عليم.
المذيع:
 لو أن الزكاة دفعت من كل أغنياء المسلمين، لكانت هذه الزكاة كافية كي تحل مشكلات الأمة، لكنه مع الأسف الذين يدفعون الزكاة قلة، وليسوا كثرة، بل لو كانوا يدفعون الزكاة جميعاً لكنا في وضع آخر.
الدكتور راتب:
 نحن نتوهم أن الزكاة تعطى لفرد، الزكاة يمكن أن تقام بها مشاريع، توفر يداً عاملة، توفر فرص عمل، توفر طاقات كبيرة، الزكاة يمكن أن تحل بها مشكلات الأمة من دون استثناء، قال تعالى:

﴿ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً ﴾

[ سورة التوبة الآية : 103]

 تؤكد صدقهم، تؤكد حبهم لله، تؤكد طاعتهم له :

﴿ خذ من أموالهم صدقة ﴾

[ سورة التوبة الآية : 103]

الزكاة تحصن مال الإنسان و تنميه :

 سميت صدقة لأنها تؤكد صدقهم في طاعة الله، تزكيهم :

﴿ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ﴾

[ سورة التوبة الآية : 103]

 تطهر المال من تعلق حق الغير به، تطهر الغني من الشح، تطهر الفقير من الحقد، تطهر الغني من الشح ـ والشح مرض خطيرـ، تطهر الفقير من الحقد ـ والحقد مرض خطيرـ، تطهر المال من تعلق الغير به، قال تعالى:

﴿ وتزكيهم ﴾

[ سورة التوبة الآية : 103]

 المال ينمو بأداء الزكاة، ينمو نمواً عجيباً، ينمو وفق قوانين الأرض، لأن الغني إذا دفع زكاة ماله، جعل في يد الفقراء قوة شرائية، هناك القوة تعود عليه بالخير، هذا بحسب القوانين، وبحسب قوانين العناية الإلهية, ورد في الحديث:

(( ما نقص مال من صدقة ))

[ أخرجه مسلم والترمذي عن أبي هريرة ]

 والإنسان يحصن ماله بالزكاة, قال النبي الكريم:

(( ما تلف مال في بر أو بحر إلا بحبس الزكاة ))

[ أخرجه الطبراني في المعجم الأوسط عن أبي هريرة]

﴿ وتزكيهم ﴾

[ سورة التوبة الآية : 103]

 تزكي نفس الغني, تزكي نفس الفقير, تزكي المال.
المذيع:
 إذاً: من خلال كلام فضيلة الشيخ الدكتور محمد راتب النابلسي يتضح تماماً أن قوة عبادة المؤمن تتجلى وخاصة الغني في أداء زكاة ماله، الدعاء لله عز وجل، حيث هو القوة الكامنة العظيمة عند المؤمن للوصول إلى السعادتين الدنيوية، والأخروية.

((الدعاء مخ العبادة))

[ أخرجه الترمذي عن أنس بن مالك]

 كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقوة التي نتحدث عنها اليوم في حلقتنا لها علاقة بالدعاء كما تفضلت.

 

القوة الحقيقية هي قوة المال وقوة العلم وقوة المنصب :

الدكتور راتب :
 أي بشكل أو بآخر طفل صغير، لكن أباه غني كبير، نقول: هذا الطفل الصغير غني بغنى أبيه.
المذيع:
 وكذلك المؤمن غني بالله، فالله عز وجل هو الغني، هو القوي، هو المعطي، هو المانع، هو الرافع، هو الخافض، هو المعز، هو المذل، فالمؤمن إذا توجه إلى الله كان غنياً، فكان الدعاء قوة بكل معاني القوة.
الدكتور راتب :
 القوة الحقيقية هي قوة المال، وقوة العلم، وقوة المنصب، قوة المنصب بتوقيع تحق حقاً وتبطل باطلاً، تقر معروفاً وتزيل منكراً، بتوقيع واحد، والعلم :

﴿ هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ﴾

[سورة الزمر الآية:9]

 والمال قوة تحل به المشكلات، فلذلك: الدعاء قوة.

 

قصة قرآنية ذات دلالة كبيرة :

 لكن أضع بين أيدي أخوتي المستمعين قصة قرآنية لكنها ذات دلالة كبيرة جداً.
 أنا أقول: هل من وضع أضعف من أن يجد الإنسان نفسه في فم حوت أزرق!؟ الحوت الأزرق الذي يزن مئة وخمسين طناً، ويستخرج منه خمسين طناً لحماً، وخمسين طناً دهناً، وخمسين طناً عظماً، ويستخرج منه تسعون برميلاً من الزيت، وجبته المعتدلة بين الوجبتين أربعة طن، فالإنسان كله لقمة واحدة، الحوت رضعة صغيره ثلاثمئة كيلو, ثلاث رضعات في اليوم طن حليب، فإنسان يجد نفسه ببطن حوت في ظلمات ثلاثة: في ظلمة الليل، وفي ظلمة البحر، وفي ظلمة بطن الحوت .
 سيدنا يونس، نبي كريم، وجد نفسه فجأة في بطن الحوت، قال تعالى:

﴿ فنادى في الظلمات ﴾

[ سورة الأنبياء الآية : 87]

فسر العلماء الظلمات: بأنها ظلمة الليل أولاً، والإنسان إذا غاص في أعماق البحر، بعد مئتي متر ظلام دامس ولو كان في النهار، ينتهي ضوء الشمس بعد مئتي متر، هناك ظلمة الليل، و ظلمة البحر، و ظلمة بطن الحوت، قال تعالى:

﴿ فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك﴾

[ سورة الأنبياء الآية : 87]

 سيدنا يونس في بطن الحوت، وفي ظلمة الليل، وفي ظلمة بطن الحوت، وفي ظلمة البحر, قال تعالى:

﴿ فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك﴾

[ سورة الأنبياء الآية : 87]

﴿ فاستجبنا له ونجيناه من الغم﴾

[ سورة الأنبياء الآية : 88]

المؤمن بالدعاء أقوى من كل إنسان :

 أستاذ جمال، الشيء الرائع بالآية أن هناك تعقيباً جاء بعد الآية: أي أيها الإنسان، يا من تعاني فقراً! يا من تعاني مرضاً! هل من مصيبة أكبر من أن تجد نفسك في بطن حوت؟ ومع ذلك نادى في الظلمات:

﴿ أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين﴾

[ سورة الأنبياء الآية : 87]

﴿ فاستجبنا له ونجيناه من الغم﴾

[سورة الأنبياء الآية:88]

 والآن استمع إلى التعقيب:

﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾

[ سورة الأنبياء الآية: 88]

 في كل زمان, وفي كل مكان, وفي كل عصر, وفي كل مصر, وفي كل ظرف, وفي كل موقف, قال تعالى:

﴿وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ﴾

[سورة الأنبياء الآية: 88]

 فأنت أيها المؤمن بالدعاء أقوى من كل إنسان، تقوى على المرض، تقوى على الفقر، تقوى على القهر، تقوى على كل مشكلات الحياة، الدعاء سلاح المؤمن، بل إن الله عز وجل يقول:

﴿ قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً﴾

[سورة الفرقان الآية:77]

 المعنى المخالف لهذه الآية: أن الله يعبأ بنا إذا عرفنا قيمة الدعاء، أي يكفي الإنسان أن يدعو الله صادقاً .

 

الاستقامة أساس استجابة الدعاء :

(( إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلي السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من طالب حاجة فأقضيها له؟ حتى يطلع الفجر))

[ أخرجه أحمد عن أبي هريرة]

 والله أستاذ جمال ما شكا أحد إليّ مشكلة عويصة، وكبيرة، إلا نصحته أن يستيقظ قبل الفجر، وأن يطبق هذا التوجيه النبوي عن رب العزة:

(( إذا كان ثلث الليل الأخير نزل ربكم إلي السماء الدنيا فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من طالب حاجة فأقضيها له؟ حتى يطلع الفجر))

 إذاً: فالإنسان حينما يعرف الله، يعرف قوته، يعرف غناه، يعرف رحمته، يعرف حكمته، يعرف علمه، يستعين به، ويرجوه، لكن سبحان الله! قد يسأل سائل: لماذا ينصرف المسلمون عن الدعاء؟
 الحقيقة تقصيرهم مع الله، ووقوعهم في بعض المخالفات، يجعلهم في خجل من الله عز وجل، فالإنسان المستقيم يدعو، ويدعو، وهو واثق، ثقة الإنسان بربه، واستقامته على أمره, تجعله يدعو ربه، لكن التقصير في أداء العبادات، واقتراف بعض المعاصي، والآثام، هذه المعاصي والآثام تكون حاجباً بينه وبين ربه.
 لذلك أدعو أخوتي الكرام إلى الاستقامة قبل الدعاء، مع الاستقامة يستجاب الدعاء.

 

ليس بين المؤمن و ربه وسيط أو حجاب :

 لذلك :

﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب﴾

[ سورة البقرة الآية : 186]

 بالمناسبة: مثل هذه الآية، وردت في عشر مرات، في عشرة أماكن :

﴿ يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم﴾

[ سورة البقرة الآية : 219]

﴿ ماذا ينفقون قل العفو﴾

[ سورة البقرة الآية :219]

﴿ يسألونك عن المحيض قل هو أذى﴾

[ سورة البقرة الآية : 222]

 هناك عشر آيات بهذه الصياغة يوجد كلمة(قل) تتوسط بين السؤال والجواب، إلا في هذه الآية، لا يوجد قل، استنبط العلماء أنه: ليس بين العباد وبين ربهم أية عقبة، وأي حاجز بينهم وبينه" .

﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾

[ سورة البقرة الآية : 186]

 أي إذا دعاني من أعماق قلبه، إذا دعاني مخلصاً، إذا دعاني واثقاً, قال تعالى:

﴿فليستجيبوا لي﴾

[ سورة البقرة الآية : 186]

 ليستقيموا, قال تعالى:

﴿وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾

[ سورة البقرة الآية : 186]

المذيع:
 بكلمات موجزة سيدي هذا العبد الذي يتوجه إلى ربه عز وجل بدقيقتين هل لنا أن نختتم حديثنا؟ أما على هذا الإنسان قبل أن يدعو ربه أن يؤدي حقوق الآخرين حتى تستجاب هذه الدعوة؟

 

أداء حقوق الآخرين طريق الإنسان إلى ربه عز وجل :

الدكتور راتب :
 أنا أقول: إن لم يؤد حقوق الآخرين يخجل أن يدعو ربه، بل يحجم عن دعوة الله عز وجل، أنت حينما تؤدي ما عليك، أو حينما تستقيم على أمر الله، حينما تؤدي الحقوق، الطريق بينك وبين الله سالك، هناك خط مفتوح بينك وبينه، تماماً كالهاتف، أحياناً إن كان عندك هاتف باهظ الثمن ولا تملك خطاً فلا قيمة لهذا الهاتف إطلاقاً، وقد تملك هاتفاً قديماً لكن له خط.
 فأنت حينما تستقيم على أمر الله، يكون هناك خط بينك وبين الله، الخط مفتوح، لذلك الله عز وجل يحب أن ندعوه، بل يريدنا أن ندعوه دائماً، بل إن الله عز وجل ما أمرنا أن ندعوه إلا ليستجيب، هذه حقيقة دقيقة جداً، فالدعاء مخ العبادة، وفي بعض الروايات: الدعاء هو العبادة.

 

خاتمة و توديع :

المذيع:
 إذاً: قوة المؤمن في هذه الحياة تستمد من الله الخالق العظيم سبحانه وتعالى, قال تعالى:

﴿ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ﴾

[ سورة البقرة الآية : 186]

 أيها الأخوة والأحبة, كنا في هذه الحلقة قد تحدثنا عن القوة؛ قوة العبادة للإنسان المؤمن في حياته وفي أخراه.
 شكري الجزيل في ختام هذا اللقاء لصاحب الفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي، أستاذ الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
 دكتور: أسعدنا هذا اللقاء, السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
الدكتور راتب :
 وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

 

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور