وضع داكن
19-04-2024
Logo
الصحابة الكرام : 36 - سيدنا عقبة بن عامر الجهني
   
 
 
 بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم  
 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين, اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا ما ينفعنا, وانفعنا بما علمتنا, وزدنا علماً, وأرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً, وارزقنا اجتنابه, واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين, أخرجنا من ظلمات الجهل والوهم إلى أنوار المعرفة والعلم، ومن وحول الشهوات إلى جنات القربات .

الحد البياني في سلم الإيمان :

أيها الأخوة المؤمنون, مع الدرس السادس والثلاثين من دروس سيرة أصحاب رسول الله رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وصحابي اليوم سيدنا عقبة بن عامر الجهني .
هذا الصحابي الجليل يمثِّل نموذجاً إنسانياً فذًّا، أراد الحدَّ الأدنى في سلّم الإيمان، ثم عدل عنه إلى الحدَّ الأقصى، وسوف ترون كم هي المسافة كبيرةٌ بين الحد الأدنى والحد الأقصى؟ وفي سورة الواقعة إشارةٌ في آخرها إلى هذا المعنى, قال تعالى:

﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ﴾

( سورة الواقعة الآية: 8-11)

يوجد عندنا سابق مقرَّب، وهناك أصحاب اليمين، فالمؤمن مِن بيته إلى دكانه، من بيته إلى وظيفته، صائم مصَلٍّ مستقيم، يدفع زكاة ماله، نفسيته طيبة، فهنيئًا له، أنعم وأكرم بهذا المؤمن، لكن هناك مستويات أعلى، هذا الذي يجنِّد كل إمكاناته، وطاقاته، وعلمه، وحجَّته، ووقته، وعضلاته في سبيل الحق، هذا من السابقين السابقين، هذا يرفعه الله سبحانه وتعالى إلى أعلى عليِّين .
والإنسان أيها الأخوة, مطلوبٌ منه أن يكون طموحاً، فبإمكانك أن تأخذ الحد الأدنى فلا تؤذي أحداً، وتبتعد عن أن تعتدي على أحد، من بيتك إلى عملك، تؤدِّي صلاتك، وتدفع زكاة مالك ، تغض بصرك، تحسن إلى جيرانك، هذا مستوى, لكن هناك مستوى أعلى وأرقى؛ أن تساهم في نشر هذا الدين، أن تسخِّر كل إمكاناتك، في الدعوة إلى الله، أن تجعل من شخصك مثلاً أعلى للناس، أن تنفق المال في سبيل الله، لا أن تنفقه في المباحات، أن تجعل من وقتك كلِّه وقتاً مستغلاًّ في سبيل الله, وقتًا مكرَّسًا للدعوة في سبيل الله .

إليكم قصة عامر بن عقبة الجهني وهو يبايع النبي بيعة الهجرة :

سيدنا عقبة بن عامر الجُهني، صحابيٌ جليل، له غنيمات، يحرص عليها حرصاً بالغاً، كان يرعاها خارج المدينة، ثم خطر في باله، أن يلتحق برسول الله صلى الله عليه وسلَّم, فالنبي عليه الصلاة والسلام، يبلغ مشارف المدينة، في الهجرة، ونحن في ذكرى الهجرة هذه الأيام ، وها هم أولاء أهل المدينة الطيبة يتزاحمون على الدروب، وفوق السطوح، مهلِّلين مكبِّرين فرحاً بلقاء النبي صلى الله عليه وسلَّم، نبي الرحمة، وصاحبُه الصدِّيقُ، وها هن الفتيات الصغيرات، ينشدن:

طلَعَ الْبَدرُ عَلَيـن َا منْ ثَنِياتِ الوَداع
وَجَبَ الشُكُرُ عَلَيِن َا مَا دَعَـا للّهِ دَاع

وهذا موكب النبي الكريم، يتهادى بين الصفوف، تحفُّه المهج المشتاقة، وتحيطه الأفئدة التوَّاقة، وتنثر حواليه دموع الفرح، وبسمات السرور .
لكن عقبة بن عامر الجهني لم يشهد موكب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، ولم يسعد باستقبالِهِ مع المستقبلين، ذلك أنه كان قد خرج إلى البوادي بغنيماتٍ له ليرعاها هناك، بعد أن اشتد عليها السغب، وخاف عليها الهلاك، وهي كل ما يملك من حطام الدنيا .
فلو أردنا، أن نسقط هذا الكلام على حياتنا اليومية، إنسان مشغول بدكانه، يقول لك: نحن هذه الأيام عندنا موسم، فهو إنسان مشغول بتجارته، وآخر مشغول بمعمله، وثالث اشترى أرضًا، وهو يزرعها، أين أنت؟ فيجيب: واللهِ في المزرعة، فمَن شغلته الدنيا فهذا مباح، والمباح مِن الحلال، ولا يعنينا هنا الحرام إطلاقاً .
لكنَّ الفرحة التي غمرت المدينة المنورة، ما لبثت أن عمَّت بواديها القريبة والبعيدة، وأشرقت في كل بقعةٍ من بقاعها الطيبة، وبلغت تباشيرها عقبة بن عامر الجهني، وهو مع غنيماته بعيداً في الفلوات، أخبار مجيء النبي وصلت إلى البوادي، كما أنّ أخبار استقباله وصلت إلى البوادي والحواضر .
لاحظْ الآن شعور سيدنا عقبة، فقد كان بعيدًا عن رسول الله، بعيدًا عن استقباله، مشغولاً بغنيماته، لكن لا تنسَ أيها الأخ الحديث القدسي,

((مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ, وَفَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ))

[أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري في سننه]

شيء كبير بالتعبير العامي، لمَّا تطلب العلم، ولمَّا تنتزع من وقتك الثمين وقتًا لحضور مجالس العلم، ولمَّا تنتزع من وقتك وقتًا لمعرفة الله، ولمَّا تنتزع وقتًا من وقتك الثمين لإصلاح ذات البين ، فهذا عمل عظيم، كله مسجل .
يقول أصحاب السِّيَر: فلنترك الكلام لعقبة بن عامر ليروي لنا قصته مع رسول الله صلى الله علية وسلَّم، قال عقبة: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم المدينة، وأنا في غنيمات لي أرعاها فما إن تناهى إليَّ خبر قدومه صلّى الله عليه وسلّم، حتى تركتُها، ومضيت إليه، لا ألوي على شيء، إيمان جيد، فلّما لقيته, قلّت:

((يا رسول الله, تبايعني؟ فقال عليه الصلاة والسلام: فمن أنت؟ قلتُ: أنا عقبة بن عامر الجهني .))

-انظرْ إلى الأدب، أخ يداوم معه منذ ثماني سنوات، لا يعرف اسمه، ولا عمله، ولا كم مرة التقيت معه؟ ألا يجب أن يكون بينكم تعارف؟ أحياناً هذه المعرفة تثمر خيراً كبيراً، من ثمراتها التواصل، والتوادد والتعاون، يرقى عند الله عزَّ وجل، أحياناً يُعاوَن معاونة طيبة، يرقى عند الله عزَّ وجل، والتعارف من سنة رسول الله، أمّا الفوضى، ليس لي علاقةٌ مع أحد، هناك جامعات فيها نظام الاستماع، وأيّ إنسان يتمكن أنْ يدخل هذه الجامعة حاليًّا، يحضر ويدخل في شعبة الطب، ويأخذ شهادة, أما إذا كان اسمه موجودًا في السجلات، يُعدُّ طالبًا نظاميًا، ويصبح دكتورًا بعد ذلك .
الأخ المتفوق الذي له أعمال طيبة يحفظ اسمه مباشرةً، أمّا الذي ليس له أي سيئة، ولا حسنة، وهو على الحياد، فهذا قلما يذكره الأخوة الكرام إذا غاب، أما بعضُ الأخوة إذا غاب درسًا واحدًا أحدث فراغًا، فكنْ من هذا النوع، فلان لم يأتِ اليوم، فنحن أسرة متآخية، فلِمَ؟ اسألوا عنه-
قال عليه الصلاة والسلام:

(( أيُّما أحبُّ إليك، تبايعني بيعةً أعرابيةً، أو بيعة هجرةٍ؟ قلت: بل بيعة هجرةٍ، -وهذه أعلى رتبةً ومنزلة وقربًا- فبايعني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما بايع عليه المهاجرين))

ماذا فعل عقبة بعد بيعة الهجرة ؟

قال:

((أقمتُ معه ليلةً، ثم مضيت إلى غنمي، ليلة واحدة، وكنا اثنا عشر رجلاً مِمَّن أسلموا، نقيم بعيداً عن المدينة، لنرعى أغنامها في بوادينا، فقال بعضنا لبعض: والله لا خير فينا، إذا نحن لم نقدُم على رسول الله صلّى الله عليه وسلًم، يوماً بعد يوم، ليفقِّهنا في ديننا، وليسمعنا ما ينزل عليه من وحي السماء، فليمض كلَّ يومٍ واحدٌ منا إلى يثرب، وليترك غنمه لنا، فنرعاها له, هذا اتِّفاقٌ جميل، فقلت لهم: اذهبوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم واحداً بعد آخر، وليترك لي الذاهب غنمه، لأني كنت شديد الإشفاق على غنيماتي مِن أن أتركها لأحد.))

-حينما أخبر النّبيُّ عليه الصلاة والسلام سيدَنا الصديق أنه مهاجر، سمح له أن يكون رفيقه، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا, قَالَتْ:

(( لَقَلَّ يَوْمٌ كَانَ يَأْتِي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا يَأْتِي فِيهِ بَيْتَ أَبِي بَكْرٍ أَحَدَ طَرَفَيْ النَّهَارِ فَلَمَّا أُذِنَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينـَةِ لَمْ يَرُعْنَا إِلَّا وَقَدْ أَتَانَا ظُهْرًا فَخُبِّرَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ, فَقَالَ: مَا جَاءَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ إِلَّا لِأَمْرٍ حَدَثَ فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ, قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْـدَكَ, قـَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّمـَا هُمـَا ابْنَتَايَ يَعْنِي عَائِشَةَ وَأَسْمَاءَ, قَالَ: أَشَعَرْتَ أَنَّهُ قَدْ أُذِنَ لِي فِي الْخُرُوجِ, قَالَ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ, قَالَ: الصُّحْبَةَ, قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ, إِنَّ عِنْدِي نَاقَتَيْنِ أَعْدَدْتُهُمَا لِلْخُرُوجِ فَخُذْ إِحْدَاهُمَا, قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ*))

[أخرجه البخاري في صحيحه عن عائشة]

فالإنسان في بعض أطوار إيمانه لا يستطيع أن يدع أخوانه المؤمنين أبداً، حياته معهم، المسجد بيته، فهو في المسجد كالسمك في الماء، فإذا خرج منه شعر بالضياع- ثم طفق أصحابي يغدون الواحد تلوَّ الآخر إلى النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ويترك لي غنمه أرعاها له، فإذا جاء أخذت منه ما سمع، وتلقيِّت عنه ما فقه، لكنني ما لبثت أن رجعت إلى نفسي، وقلت: ويحك، أمن أجلُّ غنيماتٍ لا تسمن ولا تغني، تفوِّت على نفسك صحبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, والأخذ عنه مشافهةً، من غير واسطة, ثم تخلّيت عن غنيماتي، ومضيت إلى المدينة، لأقيم في المسجد، بجوار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم)) 

فالملازمة جزء أساسي من دين الإنسان، والمتابعة، والثبات، والدوام، أن تكون دوماً مع المؤمنين، دوماً معهم في مهماتهم، في دروسهم، في أعيادهم، في مسراتهم، في مناشطهم، أنت معهم دائماً، أما أن يغيب الإنسان لمصالحه الشخصية، ويؤثرها على الله ورسوله، فهذا لا يغني ولا يشفي .

 

المراتب العلمية التي حصل عليها عقبة بفضل الإسلام :

سيدنا عقبة بن عامر الجهني إنسان يرعى غنيمات في البادية، ما مرتبته الاجتماعية؟ راعي غنم، وأعتقد أن أقل وظيفة في الأرض أن تكون راعي غنم، اذهب إلى أطراف البادية فستجد راعي الغنم إنسانًا لا يملكُّ شيئاً من الدنيا، لا ثقافة، ولا علّم، ولا إمكانيات، لكن سيدنا عقبة بن عامر الجهني، لما لازم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولعلكم لا تصدقون، لم يكن يخطر على بال عقبة بن عامر الجهني حين اتخذ هذا القرار الحاسم الحازم، الذي آثر غنيماته في البادية على مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أنه سيغدو بعد عقدٍ من الزمان, والعَقْد عشرُ سنوات عالماً:
1ـ عالماً من أكابر علماء الصحابة .
2ـ قارئاً من شيوخ القرَّاء .
3ـ قائداً من قوَّاد الفتح .
4ـ والياً من ولاة الإسلام المعدودين .
ولم يخطر على باله مجرَّد التخيُّل وهو يتخلّى عن غنيماته، ويمضي إلى الله ورسوله، أنه سيكون في طليعة الجيش الذي يفتح دمشق، هو الذي ساهم مع قيادة الجيش في فتح دمشق، ويتخذ لنفسه داراً بين رياضها النضرة عند باب توما، ولم يكن يتصور أنه سيكون أحد القادة الذين سيفتحون مصر، وأنه سيغدو والياً عليها، ويتخذ لنفسه داراً في سفح جبلها المقطم، كلُّ هذا كان بعد أن تخلّى عن غنيماته .
لذلك هذا الحديث القدسي يجب أن يبقى في أذهانكم:

((مَنْ شَغَلَهُ الْقُرْآنُ وَذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ, وَفَضْلُ كَلامِ اللَّهِ عَلَى سَائِرِ الْكَلامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ))

[أخرجه الترمذي عن أبي سعيد الخدري في سننه]

الله عزَّ وجل أكرم الأكرمين، إذا شغلك شيءٌ عن طلب العلم فدعْه، ولا تقبلْ عملاً يحرمك من طلب العلم، شرطوا عليك دوامًا إلى الساعة العاشرة ليلاً كلَّ يوم، إذًا: فلن تحضر أي درس، يقولون لك: أما أعجبك هذا الدوام؟ لا، إذًا: مع السلامة، الله الرازق، ومَن بيده الخير، لا أحد يقبل عملاً يحرمه من كل دروس العلم، فليس معقولاً ذلك .
لا تسمح لزوجة، أو لأيّ عمل مهما كان نوعه؛ دكان، معمل صغير، مزرعة، مدجنة، أن يستهلكك نهائيًّا، فالعمر قصير مهما طال، والأجل قريب، وملّك الموت بالمرصاد، فماذا قدَّمت ؟ واللهِ لا شيء، هذه قاصمة الظهر .
أيها الأخوة, موقف لا أنساه أبداً، أخ كان يحضر بعض الأحيان، بلَّغني ابنه أنه توفي، رحمه الله، فحضرتُ جنازته، وقام أحد الدعاة فأبَّنه، قال: أخوكم أبو فلان، كان مؤذنًا، ترحموا عليه، كلمة واحدة، لم يتمكن أن يتكلمَّ كلمة ثانية، ولا كلمة ثالثة، فلعله لم يجد إيجابيات أخرى لتأبينه، فالإنسان يعمل عملاً في الدنيا ويتكلمون عند تأبينه عشر دقائق فقط، أو عشرين دقيقة، أو نصف ساعة، فأنت حجمك عند الله بحجم عملك الصالح، فماذا فعلت أنت؟ حينما يوقفك ربنا عزَّ وجل بين يديه، يقول لك: يا عبدي, ماذا فعلت؟ أين عملك؟ أين جهادك؟ أين طاعتك؟ أين بذلُك؟ أين تضحيتك؟ فتجد ما قدَّمت .

انظر إلى ملازمته لرسول الله وما هي السورتان اللتان لازمتا عقبة طوال عمره ؟

لزم عقبةُ بن عامر الجهني رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم لزوم الظل لصاحبه، فكان يأخذ له بزمام بغلته أينما سار, فأنا قصدي أن هناك أعمالاً صالحة كثيرة، فالزمْ عملاً صالحًا لوجه الله، خدمة مسجد، تأمين حاجة مؤمنين، دعوة إلى الله، رعاية أيتام، رعاية فقراء، تأسيس جمعيات خيرية، تأليف كتب، أن ترفع الإسلام على كتفيك، أن تُسهم في نشر هذا الدين، أن توقظ إنسانًا غافلاً عن الله، إذا أردت أن تسعد فَأسعِد الآخرين .
قال لي صديق: شاهد امرأة تحمل طفلاً صغيراً، وإلى جانبها رجل، وكأن هذه المرأة مضطربة، فوقف، وقال: ما المشكلة؟ طفل صغير حرارته 41 درجة، على مشارف الموت، وهي امرأةٌ غريبة، جاءت من لبنان مع زوجها، لا تدري ماذا تفعل؟ قال لي: واللهِ أركبتها هي وزوجها في السيارة، وأخذتها إلى الطبيب، ثم إلى المستشفى للحقن، ثم إلى صيدليات مناوبة، وعدتُ بها إلى المكان الذي أخذتُها منه الساعة الرابعة فجراً، أقسمَ لي بالله أنه بقي عشرة أيام مغموساً في سعادةٍ لا توصف، فالمسلم يحتاج إلى عمل لوجه الله، انطلِقْ ساعةً من نهار لله عزَّ وجل، لا تبتغي بها إلا وجه الله عزَّ وجل، وانظر كيف أن الله سبحانه وتعالى يتجلَّى على قلبك؟ أحياناً يتعب الإنسانُ كثيراً، فينام ساعة من الزمن فيرتاح، لكن عندما يؤدّي عملاً لوجه الله، يشعر أن الله راضٍ عنه، أن الله يحبه، فيرتاح راحةً نفسيةً تعوِّضه ما بذل من جهدٍ جسدي .
بعض أخواننا الذين يعملون في خدمة الفقراء، يخرج من بيت ويدخل بيتًا في رأس الجبل، حتى يتفقد أحوال أسرة، ليس له مصلحة شخصية، بيته فخم، وسيارته حديثة، لكنه يتقصى أحوال الناس حتى يصل إلى رضاء الله عزَّ وجل، الخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إلى الله، أنفعهم لعياله .
أين أنتَ موظف؟ توظَّفتُ عند الله، الوظائف عند الله عزَّ وجل كثيرة، ليس له مِن ورائها مصلحة خاصة، إما في الدعوة إلى الله، أو في خدمة الخلق .
دُعيتُ منذ فترة لإلقاء محاضرات على طلاب جيء بهم من أطراف الدنيا، من الدول الإسلامية التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، من بلاد داغستان، ومن يوغوسلافيا، خطباء مساجد، يحتاجون لمعارف كثيرة، لإلقاء محاضرات، شعرتُ بسعادةٍ لا توصف، كانت لوجه الله، ولم أبتغِ درهماً ولا دينارًا، اسأل نفسك هذا السؤال مساءً: ما عملك؟ ما العمل الذي تلقى الله به؟ خدمة، دعوة، تعليم، معاونة، تمريض مريض، تأمين دواء لمريض، زيارة فقير، عيادة مريض، رعاية أرملة، رعاية يتيم، إنقاذ حيوان .
فهذا سيدنا عقبة، لزم النبي عليه الصلاة والسلام، فكان كظله، يمضي بين يديه, وكثيراً ما أردفه النبي وراء ظهره، حتى دُعي برَدِيفِ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وربما نزل له النبي الكريم عن بغلته، ليكون هو الذي يركب، والنبي عليه الصلاة والسلام هو الذي يمشي .
تحدَّث عقبة, فقال:

((كنت آخذًا بزمام بغلة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض طرق المدينة، فقال لي النبي: اركب، وهو يمسك بزمام البغلة، فهممتُ أن أقول: لا، لكني أشفقت أن يكون في هذا معصيةٌ لرسول الله, ثم ما لبثت أن نزلتُ عنها، وركب النبي عليه الصلاة والسلام، ثم قال لي: يا عقبة، ألا أعلِّمك سورتين لم يُرَ مثلهما قط؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأقرأني, قال تعالى:

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾

( سورة الفلق الآية: 1)

قال تعالى: 

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾

( سورة الناس الآية: 1)

ثم أُقيمت الصلاة، وتقدَّم وصلّى بهما، وقال: اقرأْهما كلّما نِمْتَ، وكلّما قمتَ، -هذا توجيه النبي- قال عقبة: فما زلت أقرأهما ما امتدت بي الحياة))

قال تعالى:

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾

( سورة الناس الآية: 1-6)

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ * وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ * وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ * وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ ﴾

( سورة الفلق الآية: 1-5)

ما هما الأمران اللذان تشربهما عقبة من الإسلام ؟

1- العلم :

فهذا الصحابي الجليل، جعل همه في أمرين اثنين: العلم، والجهاد، وانصرف إليهما بروحه وجسده، وبذل لهما من ذاته أسخى البذل وأكرمه, أما في مجال العلم فقد جعل يعبُّ من مناهل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثرَّة العذبة، حتى غدا مقرئًا .
فكلّ أخ يحضر مجلس علم، فلا بد أنْ يتعلم، فاكتسِبْ لقب طالب علم، عندنا وهْمٌ مؤلم جداً، أنّ فلانًا ليس معه شهادة، مَن قال لك ذلك؟ هذا الذي حضر أكثر مِن عشر سنوات، كل أسبوع أربعة دروس أو خمسة، درس تفسير، ودرس فقه، درس حديث، ودرس سيرة، هذا صار عالم، لأنه يتعلم، ثم هذه المعلومات، تتراكم، ثم تتراكم، ثم تتراكم، والدليل سلوكه، أديب، أخلاقي ، وفيّ، صادق، مستقيم، عنده حياء، منصف، هذه الأخلاق كلُّها من هذا العلم, وعَنْ مَسْرُوقٍ, قَالَ:

((كَفَى بِالْمَرْءِ عِلْمًا أَنْ يَخْشَى اللَّهَ, وَكَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلًا أَنْ يُعْجَبَ بِعِلْمِهِ))

[أخرجه الدارمي في سننه]

يجب ألاّ تقللوا من قيمة حضور الدروس في المساجد، هذه المساجد جامعات، لكن من نوع آخر، لا تحتاج لرسم دخول، ولا في نهايتها امتحانات كتابية، الامتحان في المسجد التطبيق، إذا طبَّقت نجحت، وإذا لم تطبق لم تنجح، ما هي الجامعة؟ مقعد، وأستاذ، وسبورة، وحديث، وكتاب، هذه هي الجامعة، والجامع يؤدِّي الدورَ نفسه، دينٌ، وعلمٌ، لكن المسجد يرقى بنفسه ويهذبها .
حينما يطلب مني أخٌ أن يتعلّم التجويد، صدقوني يكبر في عيني كثيرًا، لأنك أنت مسلم إنْ قدموك إلى الصلاة، فأسقطتَ حكمين أو ثلاثة، أسقطْتَ إدغامًا أو غنة، ينتقدك المصلون، فتعلّم ، وكلما كان السن أصغر كان أثرَ العلم أكبر، وكلما كبر الإنسان فتعلُّمه كالكتابة على الماء، لأنّ إمكانية التلقِّي والتعلم تتناقض مع تقدُّم السنّ، ماذا يشغلك؟ احفظ من كتاب الله بعض السور، وقمْ بعدد من المذاكرات مع أخوانك في القرآن الكريم، قراءة، وتجويدًا، وحفظًا، هذا تجده في ساعاتٍ عصيبة، ويصبح القرآن مؤنسًا لك .
ترك الغنيمات, وتبع النبي عليه الصلاة والسلام، فصار مقرئًا، محدثاً، فقيهاً، فرضياً، ومعنى فرضي، أي عالماً بالفرائض، أي علْم المواريث، أديباً، فصيحاً، شاعراً، وكان من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الكريم، وكان إذا ما سجى الليل، وهدأ الكون، انصرف إلى كتاب الله تعالى ، يقرأ من آياته البيِّنات، فتصغي إلى ترتيله أفئدةُ الصحابة الكرام، وتخشع له قلوبهم، وتفيض عيونهم بالدمع من خشية الله .
سيدنا عمر دعاه يوماً، وقال له:

((اعرضْ عليَّ شيئاً من كتاب الله يا عقبة، فقال: سمعاً وطاعة يا أمير المؤمنين، وجعل يقرأ له ما تيسر، وعمر يبكي، حتى بللت دموعُه لحيتَه، وقد ترك عقبة مصحفاً، مكتوباً بخط يده))

كان كاتبًا، لكن إياكم أن تدعوا أعمالكم، لا، لا أقول هذا، لكن أنا أخاف أن يستهلك العملُ صاحبَه، لكن لا تسمح لعملك أنْ يستهلك كل وقتك، أنت إنسان، أنت مخلوق لعبادة الله عزَّ وجل، لمعرفة الله، لا تفهم مني مرةً ثالثة، أن تدع العمل، ولكن افهمْ مني ألاّ تسمح لمهنتك أنْ تقضيَ عليك، ألاّ تسمح لبيتك أن يلهيك، البيت له وقت، والعمل له وقت، وهناك وقت لله عزَّ وجل ، وهذا الوقت مقدَّس، لا أعتدي عليه أبداً، وحينما تمضي وقتاً في طلب العلْم فقد أدَّيت زكاة الوقت، لأن الله عزَّ وجل قادر أنْ يتلف لك عشر ساعات بأتفه الأسباب، إذا ضَنَنْتَ بساعة عن مجلس علم، أتلف لك الله عزَّ وجل عشرَ ساعات بشيء تافه جدا, لكن حينما تبذل وقتك في سبيل الله يبارك لك ربنا عزَّ وجل في وقتك، ويطرح فيه البركة .
سيدنا عقبة، ترك مصحفاً مكتوباً بخط يده، وبقي مصحفه هذا، إلى عهدٍ غير بعيدٍ، موجوداً في مصر، في الجامع المعروف بجامع عقبة بن عامر، وقد جاء في آخره، كتبه عقبة بن عامر الجهني، ومصحف عقبة هذا، من أقدم المصاحف التي وجدت على ظهر الأرض، لكنه فُقد من جملة ما فقد من تراثنا الثمين، ونحن عنه غافلون .

 

2- الجهاد :

أما في مجال الجهاد، فحسبنا أن نعلَم أنّ عقبة بن عامر الجهني شهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلم أُحُداً، وما بعدها من المغازي، وأنه كان أحد الكماة الأشاوس المغاوير، الذين أبلوا يوم فتح دمشق، أعزَّ البلاء وأعظمه، فكافأه أبو عبيدة بن الجراح على حسن بلائه، بأن بعثه بشيراً إلى عمر بن الخطاب في المدينة، ليبشِّره بالفتح، فظلَّ ثمانية أيامٍ بلياليها، من الجمعة إلى الجمعة، يغِذّ السير دون انقطاعٍ حتى بشَّر الفاروق بالفتح العظيم

ثم إنه كان أحد قادة جيوش المسلمين التي فتحت مصر، فكافأه أمير المؤمنين، معاوية بن أبي سفيان، بأن جعله والياً عليها ثلاثة سنين, ثم وجَّهَهُ سيدنا معاوية بن أبي سفيان لغزو جزيرة رودس، تصوَّروا هذه المهمة، أعرابيٌّ لم يعرف البحر، ولكنّ الله يسدِّده ويساعده, أخيرًا صار قائدًا بحريًّا .
وقد بلغ مِن ولعِ عقبة بن عامر الجهني بالجهاد أنه وعى أحاديث الجهاد في صدره، واختَّص بروايتها للمسلمين، وأنه دأب على حذق الرماية، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ, يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى المنبر يقول:

((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ, أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ, أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ, أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ))

[أخرجه مسلم في الصحيح]

هذا الحديث من دلائل نبوة النبي صلّى الله عليه وسلم، الآن أحدث سلاح، قيمته في دقة الإصابة، من البحر الأحمر، إلى بناء معين، في مدينة معيّنة .

ما هي الوصية التي تركها عقبة أمانة في عنق أولاده وأين دفن ؟

مرِض سيدنا عقبة بن عامر الجهني مرضَ الموت

وهو في مصر، فجمع بنيه وأوصاهم, فقال: يا بني، أنهاكم عن ثلاث، فاحتفظوا بهن، لا تقبلوا الحديث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلا من ثقةٍ، ولا تستدينوا، ولو لبستُم العباءة، ولا تكتبوا شعراً، فتشغلوا به قلوبكم عن القرآن, ولما أدركته الوفاة دفنوه في سفح المقطم، ثم انقلبوا إلى تركته يفتشونها, ماذا ترك؟ فإذا هو قد خلَّف بضعًا وسبعينً قوساً، مع كلِّ قوسٍ قرنٌ ونبال، وقد أوصى بهن أن يُجعلن في سبيل الله .

نضَّر الله وجه القارئ العالم، الغازي، عقبة بن عامر الجهني، وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً، فهذا سيدنا عقبة بن عامر الجهني، بفضل مؤاثرته رسول الله، على دنياه المحدودة، وصل إلى هذه المراتب، وأختم بقول الله تعالى:

﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾

(سورة ق الآية: 37)

الاستماع للدرس

00:00/00:00

تحميل النص

إخفاء الصور